الخيال ونوع المخرج / د.جمال ياقوت
مجلة الفنون المسرحية
الخيال ونوع المخرج
هناك أنواع ثلاثة من المخرجين، يتباينون في طرق وقدر استخدامهم للخيال:
1 المخرج المترجم
هو مخرج يقوم بالنواحي الإجرائية فقط لا غير، إنه يختار النص والممثلين والفنيين وغيرهم من العناصر البشرية التي يحتاجها العرض المسرحي، ويرسم أيضًا خطوطًا للحركة، ونادرًا ما يناقش الممثل في تفسير الشخصية. ذلك لأنه هو شخصيًا ليس لديه أي تفسير لأية شخصية، وبالتالي فهو لا يملك تصورًا محددًا عن منهج الأداء التمثيلي، ولا الصورة التي ينبغي أن يكون عليها ديكور العرض، والإضاءة والموسيقى، وكافة العناصر الأخرى، هو تابع أمين لمجريات النص المسرحي في كل جوانبه بما فيها الأفكار، هذا المخرج غالبًا ما يكون طيب القلب، ضعيف الشخصية، عديم الخيال، من هنا يأتي العرض نقلاً حرفيًا لأفكار المؤلف، ذلك لأن هذا المخرج ينظر إلى النص على أنه شيء مقدس لا يجوز المساس به، إنه يتبنى عقيدة "المؤلف الإله" الذي لا يجوز المساس بما يكتبه، من واقع المقولة الشهيرة Take it, or leave it وهو ما يعني أن المخرج إما أن يقبل النص فيخرجه دون المساس به بالحذف أو بالإضافة، أو لا يقبله. كما أن هذا النوع من المخرجين غالبًا لا يكون له موقف من العالم والأحداث التي تجري من حوله، لذا فهو قادر على أن يضع يده على أي نص ويقرر إخراجه على الفور، بل يمكنه أن يحدد موعد افتتاح العرض قبل أن يشرع حتى في قراءة النص.
إن هذا النوع من المخرجين قلما يستخدم خياله، إنه نوع إجرائي بامتياز، لا يعير مسألة الجودة أي اهتمام، ولا يهتم كذلك بإثارة دهشة المتلقي، وهو ما لا يضمن تقديم نص يتسم بالروح، ونادرًا ما يتفاعل الجمهور مع عرض يتولى إخراجه مخرج من هذا النوع، إنه مخرج ميكانيكي لا تشاهد إبداعًا في أعماله بقدر ما تشاهد صورًا وأصواتًا آلية تتخلى عن الروح الحية التي يتميز بها فن العرض المسرحي... الخلاصة أن هذا النوع من المخرجين نادرًا ما يعمل خياله، إن وجد في الأصل هذا الخيال.
2 المخرج المفسِّر
هو مخرج صاحب رؤية، لا يُخرج إلا النص الذي يتفاعل معه، ولديه وجهة نظر محددة يريد أن يطرحها مع النص، إنه غالبًا ما يتفق مع أفكار النص بصورة كبيرة. من هنا، فهو يطرح هذه الأفكار بتفسيراته الخاصة التي تتفق وموقفه الأيديولوجي، وهو هنا يسخِّر جميع عناصر العرض لتأكيد هذه الأفكار، إنه يؤمن بمقولة إن "ما لا يؤخذ كله لا يترك كله"، فمن الممكن أن يتفق مع الكثير من أفكار النص، ولكنه في الوقت ذاته قد لا يتفق مع بعض هذه الأفكار، لذا فهو قادر على تأكيد الأفكار التي يتفق معها، وفي الوقت ذاته هو قادر على إعادة صياغة الأفكار التي تتعارض مع فلسفته، بحيث يطرح عرضه كلاً منسجماً من حيث الأفكار ومن حيث العناصر الفنية والمعادلات الموضوعية التي تعبر عن هذه الأفكار. وهو مخرج يحسن استخدام خياله، إن جوهر عمله ينصب على ابتكار وسائل تثير الدهشة من خلال استخدامه لعناصر العرض من أجل تأكيد تفسيراته للقيم الفكرية التي يحملها النص المسرحي، وهنا يحضرني مشهد من عرض "بيت الدمية" الذي أخرجته عام 2006.
بعد تهديد كروجشتاد لنورا بفضح أمر تزويرها عند زوجها، تنتابها حيرة شديدة وتتراوح حالتها المزاجية بين القلق المضطرب تارة ومحاولة طمأنة نفسها تارة أخرى فتقرر أن ترقص حتي تبعث بالطمأنينة في نفسها وتتحرك في رشاقة ومرح وتتجه صوب الشجرة لتزينها لكنها تتوقف فجأة عندما تستحضر في مخيلتها صورة بيتها ركامًا بعد بوح كروجشتاد بالسر لزوجها إن هو نفذ تهديده، ثم تطرد الفكرة من رأسها و تقرر أن ترقص وتغني من أجل تورفالد وتتراقص فرحًا كالفراشة، لكنها سرعان ما تتذكر الخراب الآتي علي يد كروجشتاد فتتوقف عن الرقص بقصور ذاتي متهدل يكشف حالة القلق المضطرم داخلها .... ثم تنتابها حالات من الهلاوس والتخيلات التي تتجسد من خلال الصور الذهنية الثابتة والمتحركة التي تصنعها الممثلة في رأسها، فيمثل أمامها كروجشتاد يأتي للمنزل لكي يقص على هيلمر قصة القرض والتزوير فتهرع نحو الباب في خطوات سريعة لكنها تتبين أن كروجشتاد لم يأت إلا في ذهنها فقط فتعود أدراجها إلى داخل المنزل لكنها سرعان ما تهاجمها صورته مقتحمًا المنزل فتهرع ليتبين لها أنه مجرد حلم يقظة وتعود مرة أخرى وفي المرة الثالثة تتحقق التخيلات ويمثل أمامها كروجشتاد.
يحضر كروجشتاد للمنزل كي يضع الخطاب في صندوق البريد ويخرج من الصالة أمامنا ونراه متجهًا إلى الصندوق ليودع الخطاب به. تسمع أصوات موسيقى باعثة على الهلع والاضطراب، الإضاءة تخفت وتحيط المكان بظلمة مكئبة، يضاء مصباح داخل صندوق البريد يعزله عن العالم المحيط به ويرفع درجة تباينه مع البيئة المحيطة فنرى الصندوق شفافًا جليًا ونرى الخطاب الذي يلقيه كروجشتاد والذي يحمل فضيحة نورا أمام زوجها وهو يتهاوى داخل الصندوق ونكاد نسمع صوت ارتطامه بباقي الخطابات، لحظات من التوتر الشديد تنتاب نورا بعد مشاهدتها لهذه التفاصيل تتحرك بحذر صوب الصندوق، تسيطر على رأسها فكرة واحدة وهي أن مشكلتها متعلقة بهذا الخطاب وستحل هذه المشكلة لو تمكنت من سحب الخطاب من الصندوق..في حركات تعبيرية راقصة تتردد وتدور حول نفسها حتى تصاب بالدوار فتقع على الكرسي الموجود بالصالة، ثم تحسم أمرها وترفع رأسها وتنهض وتنزع دبوسًا من شعرها وتتجه صوب الصندوق فتعبر باب الصالة إلى الردهة في رقصة سمتها الأساسية هي الخوف والتردد، وتستخدم دبوس الشعر وتتمكن من فتح الصندوق والحصول على الخطاب وتمزيقه وبذا تنتهي مشكلتها وكأن المشكلة ستنتهي لو اختفى هذا الخطاب وتلقي بالخطاب عاليًا وتهبط على رأسها آلاف الخطابات وكأن كل المشاكل التي تواجهها نورا في حياتها متعلقة بخطابات وقد استطاعت هي أن تحصل على هذه الخطابات وتمزقها وترقص فرحًا وتتبدل الإضاءة الخافتة إلى ألوان زاهية جميلة مفرحة وتملأ نورا المكان بالضحك والرقص على أنغام الموسيقى الصاخبة الراقصة فالخطابات الممزقة لازالت تتساقط من السماء مع الثلج الذي بدأ يتساقط على جدران البيت وتدخل نورا برقصتها إلى الصالة ومازالت السماء تمطر خطابات ممزقة مع الثلج ومازالت الموسيقى مبهجة جميلة حتى تصل نورا إلى نفس الكرسي وتقع عليه من شدة الفرح وإرهاق الرقص لترفع رأسها فتجد أن خطاب كروجشتاد مازال قابعًا في صندوق البريد يشع منه بريق يتحدى الاستقرار الذي تنعم به مع هيلمر وتدرك أن كل ما فات لم يكن سوى حلم لما تتمناه وهو بعيد كل البعد عن الواقع المر الذي تعيشه.
إن الخيال هنا مركب، ويمكن أن نطلق عليه الخيال داخل الخيال، فالخيال الأول هو خيال المخرج الذي قاده لتقديم فكرة حلم نورا، وفي سياق العرض فإن هذه الفكرة تولدت داخل ذهن الشخصية، فخيال الشخصية – الذي قاده المخرج – أدى بها إلى أن تقرر في لحظة الحلم أن تكسر قفل الصندوق وتستولي على الخطاب الذي تحول من مجرد خطاب إلى رمز يرادف كلمة مشكلة، وبالتالي فبمجرد أن مزقته نورا انهالت العشرات من الخطابات الأخرى الممزقة التي هبطت من السماء وكأن جميع مشاكل نورا اختزلت في خطابات بتمزيقها تحل المشاكل.
3 المخرج المفكك
قد يختلف هذا النوع من المخرجين مع غالبية الأفكار التي يطرحها النص، وبالرغم من ذلك تراه منفعلاً بهذه الأفكار إلى الحد الذي يجعله راغبًا في التعارض معها، إنه قادر على هدم الفكرة الرئيسة التي يطرحها النص ويعيد طرحها في ثوب جديد من بنات أفكاره، هذا المخرج له موقف واضح من الحياة، ومن العالم الذي يعيش فيه، وهذا الموقف لا يأتي من فراغ، لكنه يستند إلى فلسفة يؤمن بها، هذه الفلسفة هي التي تحدد مسار عمله الإخراجي، وبالتالي فهي التي تحدد الآلية التي يعد بها نص العرض، كما تحدد الطريقة التي يستخدم بها عناصر العرض لكي يعبر عن الأفكار التي يسعى لطرحها. إنه مخرج لا تنقصه الجرأة للقيام بأي عمل في سبيل التعبير عن فكرة ما، يمكنه أن يختلف مع بنية النص فيعيد تصوير حياة النص وبناء حواراته من جديد، ومن السهل جدًا أن يقوم هذا المخرج بحذف بعض الشخصيات الثانوية، أو بدمجها معًا في شخصية واحدة أو أكثر، كما أنه لا تنقصه الجرأة للقيام بحذف واحدة أو أكثر من الشخصيات الرئيسة.
وقد يكون المخرج المفكك هو أكثر أنواع المخرجين استخدامًا للخيال لأنه يخرج عادة عن الأطر التي يطرحها النص المسرحي ويتعارض معها، وهو ما يحتاج إلى خلق مجموعة من الصور والأصوات التي تعبر عن الأفكار الجديدة التي يريد أن يطرحها المخرج.
وقد يكون مشهد النهاية في عرض "القرد كثيف الشعر" من المشاهد التي قمت فيها بإعادة تصوير شخصية يانك تفكيكيًا من خلال تلك النهاية، فـ "يوجين أنيل" ينهي نصه الأصلي بموت “يانك” لمخالفته ناموس الطبيعة؛ أما العرض الذي أخرجته عام 2009، فقد أنهيته برقصة تؤكد سعادة “يانك” بالحفاظ على انتمائه لطبقته لتحقيق السلام الاجتماعي. وهو ما يتواءم مع رسالة العرض التي تؤكد أن “يانك” رغم مظهر اهتمامه بقوته البدنية فإنه رجل صاحب منظومة فكرية قادته في النهاية لهذا الحل غير المتوقع للحفاظ على انتمائه، ومن ثم الحفاظ على أمن المجتمع.
وفي النهاية لا يمكن أن نقوم بتصنيف جميع المخرجين بين الأنواع الثلاثة المذكورة بصورة فاصلة، فالعرض الواحد يمكن أن يحمل سمات المخرجين الثلاثة، لكن مع تكرار أعمال المخرج الواحد، يمكن أن نراه مترجمًا، أو مفسرًا، أو مفككًا في مجمل أعماله، وإذا كان من السهل أن نميز المخرج المترجم من العرض الأول، فإن التداخل بين المخرج المفسر والمفكك لا يسهل فصله من خلال عرض واحد، وأحيانًا لا يهم هذا الفصل، لأن كل المخرجين لديهم خيال كبير، ولديهم موقف واضح من العالم والأحداث، ولديهم عقل مبتكر قادر على توظيف عناصر العرض المسرحي على مستوى الصوت والصورة لخدمة الأفكار التي يبغون طرحها من خلال العرض
0 التعليقات:
إرسال تعليق