قراءة في مسرحية كلكامش الذي رأى / اطياف رشيد
مجلة الفنون المسرحيةتحتل موضوعة التراث الحضاري والتاريخي في مسرح الطفل والفتيان اهمية كبيرة ومكانة مهمة من بين كل الموضوعات التي تناولها حيث انها تلعب دورا فعالا في التعريف به ورسم صورة متجددة عن هذا الارث محققا بذلك فائدتين هما الفائدة الجمالية للعرض المسرحي بصريا وسمعيا والفائدة المعرفية والتوجيهية والاخلاقية من خلال الصياغة الفنية المحكمة والقادرة على اغناء الذائقة وخيال الطفل والناشئ.وهو من الصعوبة بمكان ان اغلب العروض التي تتناول هذه الموضوعات تقع في فخ الرتابة والسردية.من هنا يعد عرض مسرحية كلكامش الذي رأى قد حقق امتيازا واستثناءا فارقا في التصدي لملحمة وطنية وعربية وعالمية مثل ملحمة كلكامش اذ حرص المخرج د.حسين علي هارف كما ذكر في كلمته على تقديم الحكاية (كما هي مع قليل من التصرف والتدوير الدرامي)فالمسرحية تحكي عن كلكامش الملك جسدها على الخشبة الفنان ناجد جباري والأداء الصوتي للدكتور جبار خماط، فتبين بعض من صفاته التي يغلب عليها الطغيان والظلم والذي تجسد في نقطة جوهرية واساسية ركز عليها العرض وهي شغفه بالنساء واستئثاره بالليلة الاولى لكل عروس مما اثار غضب ورفض الشعب تجاه هذه الافعال الشنيعة .ومن ثم تعرض المسرحية علاقته بانكيدو الذي جاءه محاربا اياه تلك العلاقة التي بدأت بعراك وعداوة وانتهت بصداقة .وهذه الصداقة هي نقطة التحول التي اسهمت في تغيير تفكير كلكامش.ومن ثم وفاة هذا الصديق العزيز لتاتي مرحلة التفكير الفلسفي في ماهية الموت والوجود والخلود ليكتشف كلكامش تاليا في مسعاه في البحث عن عشبة الخلود من ان الخلود الحقيقي هو بالعمل وبالعمل فقط يخلد الانسان وتعمر الاوطان وهي الثيمة الاساسية للعرض. قدم العرض بطريقة الراوي/الحكواتي الذي جسد دوره الفنان خالد احمد مصطفى (السومري)بأداء صوتي للفنان فاضل عباس حيث جاء منسجما مع الحركة التي كان لها الاثر الواضح على جمهور المتلقين من الاطفال واليافعين الذين حضروا العرض وبالاضافة الى الاضاءة التي عززت من أهمية الراوي كما حددت منطقة القيثارة السومرية في مقدمة يمين المسرح (من جهة الجمهور) على الرغم من قطعة الديكور هذه القيثارة السومرية لم يكن وجودها اكثر من قطعة تزيينية يتحرك من حولها الحكواتي ولم يكن وجودها ذا صلة باي من حديث وحوار الحكواتي اثناء عرضه للقصة..وطريقة تقديم العرض المسرحي بطريقة الحكواتي/الراوي وبخاصة عروض مسرح الطفل هي واحدة من العناصر الفعالة والتي تساهم في شد جمهور الاطفال لتسلسل الاحداث والتشويق والترقب لما سياتي بطريقة سلسة تسمح للخيال ان يتفتح في استنتاج وتوقع الاحداث.وهو ما برع فيه الفنان خالد احمد مصطفى.العرض جمع بين فنون ثلاثة مهمة تظافرت في صياغة المشاهد وابدأ باكثرها تماسا مع القصة/الحدث وهو فن العرائس والدمى .حيث كانت من تصميم وتنفيذ الفنان المبدع علي جواد الركابي .فدمى شخصيات الملحمة كلكامش وانكيدو وسيدوري و.... عكست مهارته واتقانه لهذا التخصص المهم في مسرح الطفل .بدأ من تصميم الرأس الذي لم يكن شكلا جامدا بل صاحبه تحريك لشفاه الدمى والمصاحبة بالتأكيد لحركة الممثلين اثناء اداءهم، وتصميم العقرب والثعبان او الحية التي التهمت عشبة الخلود. ان التصميم بالحجم الذي قدمت به وفر إمكانية حتى للمتلقي الطفل ان يميز بين الشخصيات بشكل جلي،وحركات الفنان علي جواد في العقرب بصوت عبد الرحمن مهدي والثعبان كان اداء مفعما بالحيوية والرشاقة وبالتأكيد لتجسيده شخصية انكيدو ايضا وباداء صوتي للفنان الرائد سامي قفطان وكذلك شخصية اورشنابي.ولكن اذا اردنا ان نؤشر نقطة على سبيل الافادة الجمالية برأي لو كانت رؤس الدمى غير محمولة باليد بل تلبس وبشكل ثابت على جسد الممثل كانت لتسهل حركة الممثلين الذين كانوا مقيدين بحملها اثناء التمثيل.العرائس او الدمى انسجمت مع حركة الممثلين المدروسة مع الاداء الصوتي الفخم مع حركة راقصي الكيروكراف وهو الفن الثاني الذي افاد منه المخرج حسين علي هارف ووظفه لخدمة الفكرة العامة وبطريقة سلسة للمتلقي.الكيروكراف والحركات التعبيرية التي صممها الفنان محمد مؤيد واداها مجموعة من الراقصين في تشكيلات تعبيرية لتجسد انتقالات الفعل وتصاعد الايقاع قدمت ايضا جوانب الحكاية سواء بتجسيد الصراع الداخلي للشخصيات او في الصراع مع خمبابا برفقة انكيدو .وكما هو معروف عن الفنان محمد مؤيد حرفيته ونشاطه في هذا الحقل الجمالي الذي قدم فيه اعملا رائعة منذ تأسيس فرقته في العام ٢٠١٠ وتقديم عرض (انا)عام ٢٠١١.وتوجهه واهتمامه بحياة الانسان في الحروب والكوارث البشرية فهو هنا كان يقترب في تشكيلاته التعبيرية وتصميم الرقصات المنسجمة مع روح الحكاية الملحمي التي ترفض سيطرة سلطة طاغية على حياة الشعوب .وعن ثالث الفنون الجميلة المساهمة في عرض كلكامش الذي رأى، هو فن خيال الظل وتداخله مع البناء الجمالي والتعبيري وبتصميم الدكتور احمد محمد عبد الامير الضليع في هذا الاختصاص والفن الصعب في صنع مشهد مسرحي معبر ودال وقادر على شد انتباه المتلقي مترافقا مع الموسيقى والرقص التعبيري والمشاهد المعروضة بالداتا شو اذ خلقت بمجملها لغة بصرية ساهمت بتكوين الجو العام ورؤيا المخرج .اما الاناشيد المصاحبة بكلمات بسيطة وعبارات واضحة قدمت المعنى والهدف والفكرة بدون حواجز لغوية ومتسقة مع حركة الممثلين والرقص التعبيري وخيال الظل في وحدة بصرية خلقت جوا معرفيا وهو غايتها الاساسية.
كلكامش الذي رائ عرض وظف فيه المخرج ومعد النص حسين علي هارف (وهيئة الإخراج كما يذكرها دليل العرض د.احمد محمد عبد الأمير ومحمد مؤيد وعلي جواد الركابي) عناصر مختلفة ليكون العرض بمكانة الملحمة واهميتها وهو نجح الى حد ما في ذلك فهناك بعض مفاصل العرض لم تكن بالمستوى المطلوب منها التحول والانتقال من العداوة الى الصداقة الحميمة بين كلكامش وانكيدو هذا التحول السريع وبطريقة غير مبررة دراميا فهي لم تاخذ مساحتها للكشف عن هذا التحول فمن حق المتلقي من الاطفال ان يفهم السبب والسر في ذلك.كما ان الايقاع كان بمشاهد معينة بخاصة مشهد كلكامش مع اوتونوبشتم وصل حدا من الرتابة حتى ان الصوت خفت ولم يفهم الحوار بصورة واضحة فضاعت تلك اللحظة المهمة التي دلته على الطريق في بحثه عن الخلود، بالإضافة الى الموسيقى التي صاحبت الرقصات التعبيرية كانت كما لو انها وصفة جاهزة نقلت من عروض سابقة . واخيرا كان من المفيد جدا لو قدمت في بداية المسرحية بعض من منجزات كلكامش في الوركاء ليتسنى التعرف على عظمة هذه الشخصية ،فالصورة الأولى ولدت انطباعا عنه كونه طاغية وهو ما يولد النفور لدى المتلقى. ولكن يبقى هذا العرض الذي قدم في مسرح كلية الفنون الجميلة /قسم المسرح، تجربة غنية ومهمة في مسرح الطفل والفتيان تحسب لكل كادرها وخطوة في المسار الصحيح لننهل من ارثنا الحضاري الزاخر تقدم لابناءنا ليتفكروا بحضارتهم وتاريخهم الأصيل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق