نافذة على النقد الجمالي في المسرح المغربي / *رشيد بلفقيه
مجلة الفنون المسرحيةنافذة على النقد الجمالي في المسرح المغربي
عرفت الممارسة المسرحية المغربية انعطافا غيّر مفاهيم عرضها وتلقيها، حين تحولت من الانشغال بالمضمون الفكري للعرض المسرحي وبُعده الأيديولوجي، إلى الاشتغال على جمالياته وفنياته. تبلور هذا الانعطاف نتيجة لتحولات متداخلة منها الانتقال إلى أسئلة تهتم بكيفية تقديم العرض المسرحي بدل الاقتصار على مضمونه، والاهتمام في الممارسة النقدية بالعناصر الداخلية للظاهرة المسرحية القائمة على التركيب، بالإضافة إلى أفكار ما عرف بحركة المخرجين التي ترى في الإخراج قراءة خاصة للنص المسرحي، وتطمح إلى إعطاء بعد جمالي لممارستها.
يعتبر الأكاديمي والمخرج المسرحي عبد المجيد شكير من الباحثين الذين انصرفوا إلى الاهتمام بالجماليات في المسرح تدريسا وكتابة، فأغنى الخزانة المغربي بالعديد من المؤلفات نذكر منها "الجماليات بحث في المفهوم ومقاربة التصورات والتمظهرات"، و"الجماليات المسرحية التطور التاريخي والتصورات النظرية" وغيرها. سنعرض في هذه الورقة تقديما لكتابه الموسوم بـ"الاهتمام الجمالي في المسرح المغربي، منعطف التحول من الإيديولوجي إلى الجمالي" حيث يرصد تفاصيل هذا الانعطاف، منطلقا من عرض حيثيات نشأة الظاهرة المسرحية مغربيا وتحولاتها، متناولا تجلياته في عروض مسرحية مغربية من خلال أربع مستويات في البناء المسرحي هي الفضاء المسرحي، وأدوات الاشتغال التقني، وعنصر التمثيل فالكتابة الدرامية.
1-المسرح المغربي بين المضمون الفكري والبعد الإيديولوجي
يعرض الفصل الأول من الكتاب المناخ التساؤلي الذي واكب نشأة المسرح عربيا ومغربيا في ظل هيمنة التساؤل الذي شغل الباحثين كلهم حول وجود مسرح عربي وملابسات نشأته، وعلاقة هذا المسرح بالأشكال ما قبل-مسرحية، وهو ما استوجب الحديث عن مرحلة العروض الأولى مع أعمال الرواد محمد القري، المهدي المنيعي، وعبد الواحد الشاوي، ومحمد بن الشيخ وغيرهم، حيث كان الاهتمام كبيرا بالمضمون الفكري والأيديولوجي لالتزام العروض بالتعبير عن مشاكل البلاد حينها، قبل أن تنتقل التجارب المسرحية في منتصف الخمسينيات إلى التأليف الجماعي والاقتباس مع الطيبين الصديقي والعلج.
يضعنا الكتاب أمام مسار الطيب الصديقي والمحطات المهمة في تجربته بدءا بالاقتباس ترجمةً ثم مغربةً، ومرورا بالتأليف الخاص باستغلال المادة التاريخية المتاحة، والأشكال الفرجوية التقليدية، قبل بلوغ مرحلة التجريب أو ما عرف بالتجربة الاحترافية سنوات 1962/1964، كما يعرض أبرز ملامح تجربة الطيب العلج حيث نرصد التحول من أسلوب المغربة إلى أسلوب 'الكتابة عن'، قبل الانتقال إلى استنطاق المادة التراثية وخصوصا الحكاية الشعبية، وصولا إلى تصعيد أفق الاشتغال على الواقع المحلي من خلال ما عُرف بـ'الأسلوب التلقائي'. تمخضت هذه المرحلة عن بروز مسرح شعبي قائم الذات، وواضح الملامح يمتح من الوجدان الشعبي، ويمتد في الجمهور الواسع ذو الشرائح المختلفة وكان المتلقي في هذه الفترة يتلقى الظاهرة المسرحية بوصفها خطابا مباشرا يحمل أفكارا ومواضيع بالدرجة الأولى، لكن المسرح التجاري الذي ازدهر بعدها لم يستثمر مكتسبات المرحلة استثمارا جيدا، بل ميّع القضايا الأساسية بأعمال مسرحية وصفت بالمبتذلة، ومع ذلك أسست هذه الانتكاسة لفترة مزدهرة لاحقا عاد معها مسرح الهواة للتألق بوصفه انتفاضة على الابتذال أعادت الاعتبار للمتلقي.
سيتشبع هذا المسرح بالهاجس الإيديولوجي، مما سيجعله يتبنى التجارب الطليعية في المسرح الغربي بوصفها أطروحات فكرية وأيديولوجية دونما اعتبار لأبعادها الجمالية. ويمكن رصد حضور المضمون الفكري في مسرح الهواة في مستويين، مستوى ظهور حركات التأسيس حيث المسرح التسجيلي والملحمي والعبثي، ومستوى آخر يحضر فيه البعد التنظيري للمسرح المغربي.
إن اعتبار هذه التيارات تأسيسية نابع من كونها قدمت أعمالا نُسجت على منوال أصول التيارات الغربية، مع مراعاة الخصوصية المحلية المغربية، فهي بهذا لم تستنسخ تلك التجارب، ولكنها اعتمدتها بوصفها إطارات عامة. ستمهد هذه الحركات التأسيسية لمرحلة ثانية تميزت بظهور الأوراق والبيانات. حيث انخرطت التيارات المسرحية في التنظير لمسرحها الخاص، مما وسم المرحلة بالتنظيرية في المسرح المغربي، وفي هذا السياق برزت الكثير من التيارات، منها الاحتفالية بوصفها تيارا مسرحيا يسعى إلى تأسيس خطاب درامي في المسرح الهاوي المغربي، بمشروع يطمح إلى مسرح ذي هوية مغربية إبداعا فنقدا ثم تنظيرا. تأسست القاعدة الفكرية لهذا التيار على استلهام التراث كما جاء على لسان رائدها عبد الكريم برشيد حين اعتبر أن البحث عن المسرح الاحتفالي يمر عبر بداية بالحفر في الثقافة العربية بحثا عن المواد الخام التي يمكن توظيفها وتصنيفها مسرحيا، كما يقوم على الدعوة إلى المشاركة والتلقائية. قدم هذا التيار تصوراته الخاصة للعديد من المفاهيم المسرحية، فالنص المسرحي مثلا في هذا التيار يتجاوز المتعارف عليه عند أرسطو، ليغدو نصا مفتوحا، لا نهائيا لا وجود للمؤلف فيه، بل إن ما يكتبه المؤلف هو مشروع قبل للتطوير في الحفل المسرحي، من خلال التحاور والجدل والمناقشة والسؤال، إلا أن هذه المرحلة حسب حسن المنيعي لم تتخل عن الصلة بالممارسة المسرحية في الغرب، بل عملت على توظيفها وامتلاكها. برزت تيارات أخرى منها تيار المسرح الثالث، الذي انبثق عقب بيان جماعة المسرح الاحتفالي سنة 1980 بتطوان، وقام على ثلاثة أسس هي أولا المكان الذي اتخذ صورة الفضاء المفتوح، لجعله ينطلق من المحلي إلى فضاءات عالمية أرحب، وثانيا الزمان ثم ثالثا التاريخ بوصفه ذاكرة الحدث الدرامي، وهو أيضا حسب المؤلف تاريخ التستر، والمسكوت عنه الكفيل بفضح التناقض والصراع، خدمة للحدث الدرامي في العرض المسرحي. ظهر أيضا تيار آخر هو مسرح النفي والشهادة مع محمد مسكين، الذي سلّم بضرورة وجود النظرية أو التصور المسرحي، إلا أنه ظل يرفض تحول هاجس التنظير إلى مجرد هوس نظري لا غير. قام على ثلاثة محاور متكاملة تنطلق من اعتبار مشروعية كل كتابة مسرحية لا تتأتى إلا من قدرتها على الإخلاص للحظة التاريخية، واعتبار الكتابة إنتاج معرفي ونتاج معرفي في الآن ذاته، وصولا إلى اعتبار الصياغة الأكثر فنية هي تلك التي تصوغ الواقع بطريقة تنأى عن الاجترار والتكرار. ثم تيار مسرح المرحلة مع الحسين حوري الذي قام على قاعدة تساؤلية استنطقت سؤال ماذا نريد من المسرح، وماذا يريد المسرح منا؟ سعى هذا التيار إلى إعادة اكتشاف الواقع الاجتماعي بإعادة إنتاج الواقع في إطار الكتابة الدرامية، ثم إعادة تركيبه من خلال الكتابة السينوغرافيا، ثم تمثيله على الخشبة بإبراز المجهود الخفي لخلق الحياة على الخشبة.
اتسمت العلاقة بين المنظرين خلال هذه المرحلة بالرفض المتبادل والقطيعة، كما أفرزت هذه المرحلة أوراقا تنظيرية عديدة عكست جدالات فكرية بين أصحابها. يضاف إلى هذه التيارات تيار آخر سمي بالمسرح السياسي، وهو مسرح مارس وجوده بفعالية دون أن ينخرط في المحاولات التأسيسية وأوراق التنظير، ارتبط هذا المسرح بمضامين الأرض-الوطن وطرق تحريرها عبر التضحية والاستشهاد، وتعد مسرحية "نار تحت الجلد" لأحمد بنميمون نموذجا لهذا التيار.
2-تمظهرات الاشتغال الجمالي في المسرح المغربي
في الفصل الثاني من الكتاب نرصد تمظهرات الاشتغال الجمالي كما تجلت في مجموعة من عروض مسرح الهواة، من خلال مستويات مركزية في استجلاء البعد الجمالي في كل إنجاز مسرحي، هي مستوى الفضاء المسرحي، ومستوى الأدوات التقنية التي تساهم في تشكيل الأنظمة السينوغرافيا، ومستوى التمثيل، وأخيرا مستوى الكتابة الدرامية.
انتقاء هذه الأدوات لدراسة العروض المسرحية له ما يبرره، بما أن التلقي الأول للإنجاز المسرحي، يضع المشاهد مباشرة أمام فضاء مسرحي يتكون من مجموعة من العناصر السينوغرافية التي تؤثثه من ديكور وإضاءة، يَعبُره ممثلون يؤدون أدوارهم وهم يتلفظون بحوارات التي هي نص مسرحي أو كتابة درامية، أي أن العرض المسرحي يتكون من مجموعة من العلامات غير المتجانسة، التي يمكن أن تتوجه إلى كل حواس المتلقي، علامات يمكن تقطيعها إلى نصوص جزئية: الفضاء، الأشياء، والتمثيل ... إلخ.
تبرز جماليات التأثيث الفضائي في المسرح المغربي من خلال الاشتغال على مكونات من قبيل الفراغ الذي يعد بحثا عن لغة بصرية جديدة تتجاوز تقريرية الخطاب، وتنتج دلالتها من مخيلة المتلقي، كما تبرز من خلال التجريد بوصفه تمثلا إبداعيا يعيد صياغة الأصل الواقعي والطبيعي وفق رؤية فنية، وصوغ جمالي مفارقة له من حيث الصورة التعبيرية دون ان ينفصل عنهما. وتبرز جماليات الاشتغال الفني أيضا من خلال الاشتغال على الإضاءة، والديكور والموسيقى والملابس من خلال توظيفها توظيفا يتجاوز دورها العملي ليجعلها أداة لتحقيق متعة جمالية، كما تبرز جماليات التمثيل أو اللعب الدرامي من خلال جعل الممثل حاملا أساسيا لكل العلامات المسرحية، عوض أن يظل حاملا للحوار فقط كما كان خلال المرحلة التي هيمن فيها المضمون الفكري والبعد الأيديولوجي.
وتبرز أخيرا جمالية الكتابة الدرامية في ابتداع مسرح تركيبي يجمع بين الكلمة والحركة، والإنارة والموسيقى، ويقوم على الحدث المسرحي ضمن منظومات جمالية تأخذ شكل لوحات وتركيبات إيحائية، وهذا ما يجعل النص يفيض بالرموز وينحو إلى التجديد المطلق، ومن الأشكال الجمالية في كتابة النص المسرحي يحضر التركيب( synthèse) بتجاوز الكتابة الخطية بممارسة الهدم والتركيب لخطية الحكاية التي تبدو ظاهريا مفككة لكنها تلتقي في التركيب النهائي، كما يبرز الإعداد (adaptation ) من خلال الاشتغال على نص مكتوب سلفا سواء بالإعداد عن نص مسرحي عالمي أم عربي أم مغربي أم مسرحة نصوص أدبية.
3- ختاما
إن التحول من الاهتمام بالمضمون الفكري وطغيان التلقي الأيديولوجي، إلى الاهتمام بالبعد الجمالي في الظاهرة المسرحية المغربية لم يكن تحولا فجائيا نابعا من فراغ، بل كان سيرورة أنتجتها مؤثرات عميقة تضافرت لتؤثر بأساليب متعددة، وبدرجات مختلفة إما من خارج الظاهرة المسرحية أو من داخلها.
*(طالب باحث بسلك الدكتوراه بجامعة ابن طفيل بالمغرب)
0 التعليقات:
إرسال تعليق