أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2022

في مئويات موليير الواحد المتعدّدتساؤل ومُساءلات / د.محمد المديوني

مجلة الفنون المسرحية 
في مئويات موليير الواحد المتعدّد تساؤل ومُساءلات

مدخل:
 يبدو لي أنّه من المفيد أن أشير، في البداية، إلى تأخّرنا في الاحتفاء بمئـويّة "موليير" الرّابعة فالرجل مولود في 15 جانفي 1622، والاحتفالات بمئويّته في فرنسا وفي الفضاءات الفرنكوفونِيّة وغيرها قد انطلقت في وقتها وامتدّت على الثلاثيّة الأولى من هذه السنة وتعدّدت مظاهِرُها وتجلِّيّاتها وعاد المثقّفون ورجالُ المسرح الفرنسيّون وغيرُ الفرنسيّين، بعْدها، إلى أشغالهم أو مرّوا إلى مسائل أخرى، بعد ما أنجزوا ما أنجزوا من البحوث ومن الأعمال الإبداعية المتعلّقة بالمُحتفى به وخلقوا الحدث، لافتين انتباه مواطنيهم وغير مواطنيهم، من جديد، لمُنجز "موليير" ولما يُمثّله في الثقافة الفرنسيّة مؤكّدين السّعي إلى ضمان امتداد إشعاعه في فرنسا وفي مختلف أصقاع العالَم. 

وليست غايتي من الإشارة إلى التّأخّر في الاحتفاء بموليير إلقاءَ اللوم على جمعيّة النقد المسرحيّ التونسيّة  وأعضائها الذين نظّموا هذه الندوة - وهي مبادرة لا يُمكِن إلّا أن تُحسَبُ لهم - بقدر ما هي تساؤلٌ عن دلالات هذا التأخّر أليس في ذلك بعضٌ من المؤشّرات الدّالّة، بصورة ما،على الموقع الذي أضحى يحتلّه "موليير" ومسرحُه وامتداداتُه، اليومَ، من شواغِل المثقّفين عامّة والمسرحِيين منهم، على وجه الخصوص، في تونس وفي  بقيّة البلدان العربيّة التي لم أرَ أيّ واحد فيها، على حدِّ علمي، ، يُعير اهتمامًا لِهذا الحدث، فضلًا عن الاحتفاء به أو الدعوة إلى ذلك، والحال أنّ لموليير قيمة رمزيّة في هذه البلدان العربيّة تتجلّى في إطلاق اسمه على هذا الفنان أو ذاك اسمَ "موليير" " تيمُّنًا بـه " وتمثُّلًا به. 

ومن هنا بدا لي من المُفيد التساؤل حول الموقع الذي احتلّه "الحدث المولييري" في المسرح العربيّ– وهو أمرٌ لا سبيل لإنكاره- من الذاكرة المسرحية العربية ومن واقع حالها الآن؛ وإلى السعي، من خلال ذلك، إلى تبيّن كيفيّات تمثّل المسرحيين العرب لهذا الحدث ولِامتدادات إرْثِه، إن كانت. 

ولا يُمكن أن يستقيم هذا الأمرُ دون وَضع ذلك في إطار الوقوف على ما ميّز هذا الرجل ومُنجزَه وعلى الموقع الذي احتلّه ويحتلّه في الثقافة الفرنسيّة عامّة والمسرح الفرنسِيّ خاصة، ولا يمكن أن تتحقّق الغاية، كذلك، دون الوقوف على الآليّات القائمة وراء هذا الحضور المستمرّ والمتجدِّد الذي حظيَ به ويحظى، دون غيرِه من معاصريه واللاحقين به. 

ورأيت، في هذا الإطار، أن أُسْهِم بنصّي هذا في مساءلة مثل هذه الاحتفاءات ودلالاتها، عامّة، والنّظر في حظّ " موليير" منها وأُسائل، انطلاقًا من ذلك، واقع التعامل العربيّ مع المسرح ونتاجاته ومع مبدعيه، مقارنَةً بتعامُل المؤسّسات الفرنسيّة ومُثقّفيها مع "موليير" ومسارِه وكيفيّة ضمان حضوره في المسرح والثقافة الفرنسيّتيْن وتجديد ذلك الحضور بصورة مستمِرّة.   

1- في الاحتفاء بموليير:

1-1 في الأرقام وسحرها
لبعض الأرقام، دلالاتٌ تتعدّى، في أذهان النّاس – وذلك على مرّ العصور وفي مختلف الحضارات- العددَ والمعدودَ، ولا تقف عند المُعادلات التجريديّة التي خاض في معالجتها الفلاسفة والريّاضيّون واعتمد العُلماء تطبيقاتِها، من بعدهم، في مختلف مجالات المعارف والحياة فأسهمت في كشفهم للغامِض من مظاهر الكون؛ووفّرت ما وفّرت للبشر من الحلول والحِيل التي أصبحوا لا قدرة لهم على الاستغناء عنها في حياتهم اليوميّة.
ومن الأرقام ما اكتسب عند النّاس سمة قدسيّة،في مختلف الأديان السماوية وغير السماويّة، تُذْكَرُ فيُتبرّك بها؛ وتصبح، أحيانًا، علامةَ انتماءٍ لهذا الدين أو ذاك أو طقسًا من طقوسِ العبادة لا غنى عنها فيه؛ وتتحوّل، أحيانًا كثيرة، إلى ما يُشبه النّذور والتمائم بها يَتحصّن البشرُ ضدّ غيرِ المرئِيِّ من الشّرور والأشرار. بل ولا يتردّد بعض النّاس، في مختلَفِ البلدان والثقافات، في التعويل على من نصّب نفسه مُفسِّرًا للغامض وكاشفًا للأسرار ومستكشِفًا للمستقبل، اعتمادًا على معالجة للأرقام لا يجيدها غيرُه، إليه يلتجئون وبما يُنطِق الأرقامَ بِه يهتدون. 
ومن الأرقام ما هو مصدر للتطيّر يُجْتَنَبُ ذكرُه ورسمُه على خلاف بقيّة الأرقام، وتراهم يتفنّنون في التواطؤ في محوه أو إيهام النفس بذلك، بالرغم من حضورِ هذا الرقم أو ذاك حضورًا عنيدًا في واقع معاملاتهم اليوميّة.
ومن الأرقام ما ينتُؤُ، عند النّاس، نتوءًا خاصًّا تتحوّلُ معه الأرقامُ الأخرى إلى مُجَرّدِ درجات سُلّمٍ يَقْتصِر دورُها على الوصول إليه ليكتمل ذاك الرّقم اكتمالًا؛ويتحقّق تحقُّقًا يُعلِنُ عمّا هو شبيهٌ به سواءً كان سابِقًا له أو لاحِقًا به. ذاك هو شأن "العشرة" و "العشرات" وشأن "المائة" و"المئات" وشأن "الألف" و"الآلاف" التي سرعان ما تتحوّل إلى "عشريّة وعشريّات" وإلى "مئويّة ومئوِيّات" وإلى "ألفِيّة وألفِيّات" فاكتسبت هذه الأرقام، وقد ارتبطت بالزّمن وسَيَلانه وبمسارات النّاس والأفعال والآثار، سماتِ ما هو استثنائيٌّ مُسلَّمٌ باستثنائِيَّتِه، تمامًا كما يُسَلَّم بما هو سِحْرِيٌّ يتوجّب التعامل معه باعتبار سمته السِّحرِيّة تلك، لا سبيل إلى التعامل معه كما يُتعامَل مع أرقام العدّ الأخرى التي يستدعي الواحِد منها ما بعْده لتستمرّ وتكون. إنّها لا تُشير إلى محطّات يُمكن الوقوفُ عندها والمرور لغيرها، فحسب، وإنّما تعلِن عن صور من اكتمال حيّزٍ من الزّمن يستقلّ بذاته ويدعو إلى الوقوف عنده، دون سواه. فطبيعيّ، من ثمّة، أن تُسوِّغ هذه الأرقام، وقد شُحِنت بطاقتها السحريّة هذه، تحويلَ الاحتفاءِ بهذا الحدث أوهذا الأثر أو هذا الشخص إلى ضرورة وحاجة؛ بل يُصبح هذا الاحتفاء، أحيانًا، طقسًا من الطقوس تمامًا كما هي الطقوس في مختَلَف الأديان أيْ واجبٌ من الواجبات التي لا حقَّ لأحدٍ من المجموعة إهمالُه. غير أنّ اتصالَ أداء الطقوس واستمرارَه يتطلّب من المجموعة المؤمنة به ومِنْ مَنْ هو وراءَ تلك الطقوس التعهُّدَ المُستَمِرَّ لما هو موضوعٌ لتلك الطقوس. وقد يتحوّل ذاك الطقس،من دون ذلك، إلى واجب إجرائيّ حتى لا أقول إلى واجِبٍ ثقيلٍ تزول، معه، عن تلك الأرقام سِمتُها السِّحْرِيَّةُ وتفقد الاحتفالات والاحتفاءت، بالتالي، معناها وجدواها. فأيُّ موقع يمكن أن نُنزّل فيه مئويّةَ موليير الرّابعة من هذا كلّه؟
2 موليير ومئويّاته:

2-1 موليير و"لغة موليير"
لقد حَظِي "جان باتيست بوكلين" المشهور باسم "موليير" عند الفرنسيّين وعند القيّمين على الثقافة الفرنسيّة بموقع خاصّ لم يحْظَ به غيرُه من الفرنسيّين من جيله، أبناء القرن السابع عشر العتيد، ولا اللاحقون به مِمّن أسْهموا في بناء لُغة الفرنسيّين وأدبهم ومسرحهم وفنّهم وفكرهم؛ وحققوا للثقافة الفرنسيّة انتشارًا منقطع النّظير. ألَمْ يتواتر تعبير la langue de Molière "لغة موليير" بين النّاس من الفرنسيّين ومن غيرِ الفرنسيين، كنايةً عن اللغة الفرنسيّة وتأكيدًا لما أنجزه فيها إلى حدٍّ أصبحت تُعرَف به ويُعرف بها. حصل موليير على هذا الموقع وهذه المكانة متقدّما عن غيره من معاصريه وهو المُعاصر لـكلّ من "كورناي" Corneille (1606-1684) و"راسين"Racine  (1636-1694) و" بوالو"Boileau (1636-1711) و"بوسوي" Bossuet(1704-1627) و"ديكارت" Descartes (1596-1650) وغيرِهم من كبار الشعراء والفلاسفة والمنظّرين. إنّه موليير هذا الآتي من طبقة الحِرفيّين الذين لم ينقطع عنهم أبدًا حتى وإن صرفته، إلى حين، عن حِرفة الفراشين Tapissier التي وَرِثَها عن أبيه ، حِرفةٌ أخرى هي حرفة التمثيل. لقد اختار أن يكون ممثّلاً مسرَحِيًّا وصانِعًا للفرجة مرتبطًا بالركح لا يرى لحياته معنى خارِجه. وذلك على الرّغم من صُور الترذيل الشديد، ومن العُنف الرمزي والملموس الذي فرضته الكنيسة على هذه الحِرفةِ. ولقد كان على موليير أن يواجِهها حيّا وميّتًا.
لقد اقترنت اللغةُ الفرنسيّة باسم موليير، بعد أن رحل عن الدنيا، وكادت تُختزلُ فيه، كان ذلك بفضل المسرح ولا شيء غير المسرح، وهو أمر يرفع من شأن المسرح ويُعلي من مكانته، لا شكّ؛ و يشهد للمسرح بموقع أساسيّ في بناء اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية بأسْرها باعتبار أنّ اللغة هي أحد الأعمدة التي تقوم عليها الثقافات كل الثقافات. ولكن ما يسترعي الانتباه أكثر هو نوعية المسرح الذي فيه برز موليير وطبيعة اللغة التي يقوم عليها ذلك المسرح. فمعلوم أنّ المسرح الكوميديّ - والأغلبيّة المُطلقة من أعماله المسرحية تنتمي إلى الكوميديا - هو مسرح يسعى إلى إضحاك الناس كل الناس وإضحاكهم يتطلّب الكلام بلغتهم، ولغتُهم لا تتطابق دائمًا مع ما سعت المؤسّسة الثقافية إلى إرسائه في القرن السابع عشر، قرن التنظير والتقنين ورسم سنن "الجميل" و"الجليل" لما سيُسمى "الكلاسيكيةُ الفرنسيّة". وما قيام مؤسّسة الأكاديمية الفرنسيّة سنة 1635 إلّا تتويج لهذا المنحى وترسيخ لأدوات الفعل في اللغة الفرنسيّة وآدابها وفنونها. يبدو مولييير - من خلال الموقع الذي أُقِرّ له به مقارنة بما سعت إليه المؤسسة الثقافية الفرنسية الرسمية - تعبيرًا عن مفارقة شقّت الثقافة الفرنسيّة ووضعت موضع السؤال المنحى القائم وفتحت آفاقًا للغة الفرنسيّة ما كانت في حسبان الأكاديمية الفرنسيّة أن تُفتح. وإنّ لنا ما يشهد بشيء مما ذهبنا إليه في ما كَتَبه آندري شوفريون (1864- 1957) أحدُ المنتمين إلى هذه المؤسّسة، مؤسّسة "الأكاديمية الفرنسيّة" مُعلّقًا على لغة موليير مبرزًا حيويّتها وارتباطها بكلام الشعب في سخرية مبطّنة من "بوفون" (1707- 1788) Georges-Louis Leclerc de Buffon أحد زملائه السابقين في الأكاديمية الفرنسية. فلقد كتب "شوفريون": 
Aiguilles, fil, dé, rôt, pot, potage ; est-il parler plus direct et concret, plus opposé au principe classique de Buffon, que le discours ne se doit composer que d’expressions générales ?
هذا الموقع  الذي احتلّته أعمال موليير المسرحية من اللغة الفرنسيّة وجه من وجوه موليير، سيظلّ حاضِرًا، حتى وإن لم يكن موليير قد سعى إلى هذا الموقع. ولا أظنه كان يسعى إلى ذلك عندما كان يكتب مسرحيّاته ويُقدّمها أمام الجمهور في المسارح الملكيّة أو في مسارح القرى والمُدن الفرنسيّة التي كانت فرقتُه تتجوّل بينها. 
2-2  موليير الواحد المتعدّد :
لعل أهمّ ما ميّز موليير في مجاله وجلب التقدير والإعجاب لدى اللاحقين في بلده وخارِجها، وخاصة منهم مَن انشغل بهذا الفنّ على صعيد الممارسة الميدانيّة سواء كانوا ممثلين أو مخرجين أو مؤلفين أو كانوا نقّادًا ومنظرين وثيقي الصّلة بممارسة هذا الفنّ هو صفة المسرحِيّ الشامل فهو الممثّل وهو المؤلّف وهو المُخرِج وهو مدير الفرقة المعنِيّ بمن يشتغل معه من الممثلين والممثلات ومن الموسيقيين والرّاقصات والراقصين والتقنيين المتحمّلُ لمسؤولياته إزاءهم. وهو كذلك المُنظّر الذي لا يتردّد، إن لَزِم الأمرُ، في الدخول في مساجلات يدافِع فيها عن آرائه وعن اختياراته الفكريّة والجماليّة سواء من خلال الفعل المسرحِيّ ذاته ( شأن "ارتجاليّة فرساي   L'impromptu de Versailles المسرحيّة أنجزها ردًّا على مسرحية "إيدم بورسو"  Edme Boursault   انتقد فيها مسرحيته "مدرسة النساء"  أو من خلال المقدّمات والتعقيبات على بعض مما كان يُقدّم من أعمال شأن ما قام به في تقديمه لنص مسرحيّة طرطوف ( انظر: Molière, Le Tartuffe, ou m’imposteur, Comédie par J. B. P. De Molière, Paris , Jean Ribou, 1669 )   . 
        لقد كان "موليير"، كما يُقال في اللغة الفرنسيّة،L’homme orchestre  . كان التختَ وقائدَ التخت وجزءًا منه وأكثر. ولعلّ هذا التعدّد متأتّ مما اكتسبه من عقليّة الحِرفِيّين في مختلف الصناعات اليدويّة التي تفرض على الصنّاع فيها - حتى يضمن بقاءَه واستِمْرارَه - أن يُلِمّ بكل ما يتعلّق بنتاج صناعته ويضمن رواجها متفاعِلا مع السوق ومقتضياته. وكأني بموليير قد نقل هذا المدى الحرَفِيّ إلى المسرح ورسّخه فيه على مُختَلف الأصعدة بما في ذلك نتاجاته الفنّية ومسارات تحقيقها. ولقد تجلّى ذلك في مساره الفنّيّ الحِرفِيّ وفي كيفيّة تعامُله مع السّلط القائمة وقتها، سواء منها السياسيّة أو الدينية أو الاقتصاديّة حتى يستفيد منها ويجتنب ضرّها، دون أن يتخلّى عن فنّه وعن خطابه، ويكفي أن نذكر مثالا عن ذلك يتمثّل في مسرحيّة "البرجوازي النبيل" التي أنجزها بطلب من الملك ردًّا عن سلوك ممثل السلطان العثماني الذي لم يأبه بما سعى الملك إلى إبرازه من ثروة ورفعة ذوق وعن تعالي هذا القنصل على ذلك وتفضيله لسلطانه. لم يرفض موليير طلب الملك (وهل كان بإمكانه ذلك؟) أنجز المسرحيّة استجابة لطلب الملك الذي كان راضِيًا على ما قدّمه موليير، ولكنّ الناظر في المسرحية التي أنجزها موليير لا يجد لطلب الملك أيّ أثر؛ وهذا بيّن في مصداقيّة شخصيّة Monsieur Jourdain التي قامت عليها المسرحية والرواج الذي عرفنه في فرنسا وفي خارجها زمن موليير وبعده. تصوّر أنها كانت بطلب من الملك ولغاية بذاتها. 
ولقد كان لذلك كلِّه أثرُه الفعّال في نوعيّة ما أنجز من أعمال وترك من آثار، ولعلّ أهمّها على الإطلاق هو الشخصيّات التي ابتدعها في مسرحيّاته والتي استلهمها من أولئك النّاس الذين كان يعيش بينهم أو اقتبسها من أعمال أدبية سابقة أو مُعاصرة وصبغها بصبغة أولئك النّاس الذين كانوا يُحيطون به وأنطقهم لغتهم فأضحت "شخصيّات مرجعيّة" تختزل أبعادًا إنسانية وتكشف أنواعًا من سلوك البشر وطبيعته وتلفت الانتباه إلى عيوب قد لا تخفى عن الناس.  وموليير هذا يُظاهي، بما ابتدع، كبار الكتاب في المسرح وفي فنون السّرد؛ فليس من اليسير بناء شخصية جديدة تختزل فيها حالات إنسانية وتصبح دالة عليها؛ فيكفي أن نذكر ترتوف Tartuffe حتى نرى المنافق المحتال باسم الدين ومن ورائه أورغون Orgon الواقع في أحابيل هذا المحتال والمسؤول، من حيث رؤيته للعالم، على وجود مثل هؤلاء المحتالين. Harpagon "آرباغون" لترى البخل بمختلف ألوانه  و Monsieur Jourdain    حتى ترى صورًا من الانتهازية ومن الزيف في إطار مجتمع متحوّل. "سكابين" Scapin وSganarelle ، حتى نرى خفّة الظل والفهلوة وحضور البديهة، ناهيك أن أحد النقّاد شبّه "سقاناريل" بشخصيّة شارلو لشارلي شابلين، وهو على صواب ولنتخيّل موقع مثل هذه الشخصيّات في مخيال المتفرّجين في عهد موليير وبعده. 
يُضاف إلى ذلك رصيد النّصوص المسرحِيّة التي ترك والتي قاربت الأربعين نصًّا بما في ذلك نصوصه الأولى التي لم تحظ بالرسوخ والانتشار مثل ما أنجزه بعد رسوخ قدمه في هذا الفن واكتشافه لأسراره. وقيام هذه النّصوص أسهمت إسهامًا في استمرار ذكر موليير وحضور منجَزِه اللغوي والغنِّيّ والفكري. ولقد لقيت هذه النّصوص موقِعها في الأدب الفرنسيّ وأصبحت جزءًا منه لا غنى عنها فيه. تُدرّس في المدارس والجامعات.  
والأمر الآخر الذي كان وراء فيض العناية بموليير واستمرارها من قبل اللاحقين هو كذلك حياة موليير في ذاتها والشخصيّة الروائيّة التي تحوّل إليها في نصوص عدد كبير ممن كتبوا حوله ومازالوا يكتبون. ويكفي أن ينظر المرء في مسارد الكتب المتعلّقة به  حتى يقف على عشرات الكتب الحامِلة لعنوان "موليير" فيتبيّن مدى الشغف بحياة موليير وسيرته، وبيّن أنّ حياة الرجل لم تكن حياة رتيبة عاديّة وكذلك موته. هل مات فوق الرّكح وهو يؤدّي دوم "مريض الوهم" وهو المريض الذي سيموت أو في بيته ورفض الكنيسة دفنه في مدافن المسيحيين، وعدم تدخّل الملك استجابة لطلب زوجته دفنه ككل الناس. وطبيعيّ أن يختلط الأمر بين ما هو واقِع، فعلاً، وما هو وليد الخيال أو ناجِم عن المحبّة والإعجاب. ومُحِبّو موليير والمعجبون به كثيرون من بين رجال المسرح بشكل خاص، شأن روبير مانويل Robert Manuel الذي ينطق عنوان كتابه " شكرًا، موليير" بكل معني هذا التقدير والمودّة لموليير:
Robert Manuel, Merci, Molière, Erreur perimes Pygmalion
وشأن كلّ من مشيل بوكي وفابريس لوكيني وفنسيس اوستير الذين نشروا أكثر من كتاب حول موليير سنة 2021، وحدها:  
Michel Bouquet raconte Molière, préface de fabrice Luchini, Philippe Rey, 2021. 
Francis Huster, Poquelin contre Molière, Un duel à mort, Armand Collin,2021
Francis Huster, Dictionnaire amoureux de Molière, Plon 2021.
2-3 مئويات موليير
طبيعيّ، من ثمّة، أن يتجدّد الاعتراف بموليير وأن تُكتب مئات النّصوص حول سيرته وحول ما أنجزه من أعمال مسرحية بصورة متّصلة لا تكاد تتوقّف. ولقد عمل أكثر من موثّق إلى حصرها وتدقيق مواقِعها للاطلاع عليها في مسارد دقيقة كلّ الدّقة. ولقد احتُفي بـ "موليير" أكثر من مرّة كان فيها لرقم مائة و لمحطة "المئويّة" حضور لافت يؤكّد رسوخ تقاليد الاحتفاء بـ "موليير" وارتباطها بهذا الرقم السّحريّ، لنستعرِض أهم هذه المسارد البيبليوغرافيّة التي كرّست رقم 100 تكريسًا، ثمّ نقف، بعد ذلك على مئويات موليير وعلى من كان وراءها إضافةً إلى ما قامت عليه:
" مائة سنة من البحوث حول موليير وحول عائلته وحول ممثّلي فرقته" Cent ans de recherches sur Molière, sur sa famille et sur les comédiens de s troupe, S.E.V.P.E.N. 13, rue du Four, PARIS (VIe ) 1963.
-  كتاب أصدرته، سنة 1963، كلٌّ من الأمريكية "إيليزابيت ماكسفيلد – ميلر"Elizabeth MAXFIELD-MILLER والفرنسيّة مادلين جورجانس  Madeleine JURGENS . لقد أحصت الباحثتان فيه مئات النصوص التي كتبت حول "موليير" وفرقته. ولئن تجلى في المقدّمة التي صدّر بها "آندري شامسون"André CHAMSON، الزّخمُ والتراكم الحاصِل في الكتابات المعنِيّة بـ"موليير" فإنّ فيها، كذلك، تعبيرًا عن الحاجة إلى استمرارها استزادةً للمعرفة بموليير ومنجزاته و إلمامًا بظروف تحقّقها فكتب: "لا يمرّ أسبوع واحِدٌ دون أن يسهم كتابٌ [جديد] أو مقالٌ [جديد] في فهمنا لـ "موليير" واستيعابنا لآثار موليير. فلقد اغتنت قائمة الكتابات المتعلّقة به بين سنتيْ 1892 و 1941 أي خلال 50 سنةً، فحسب، بـ :3316 عنوانًا جديدًا. ولئن غيصَ في خبايا آثار الرجل وقُلّب النظر فيها من مُختَلف الجوانب والزوايا، فإنّ ذلك لم يمنع من أن تبقى معرفَتَنا به محدودةً جدًّا"  والمائة سنة من البحوث الوارِدة في هذا الكتاب الصادر سنة 1963 هي تتمة وامتداد لما أُحصِي منها إلى حدود سنة 1863 تاريخ صدور كتابِ أود سوليي" - اللاحق ذكرُه - الذي اعتنى هو الآخر بجمع الوثائق المتعلّقة بموليير وترتيبها في مسارد بيبليوغرافيّة لا تقلّ دقّة عن كتابهما.

- " بحوث حول موليير وحول عائلته" لِأود سوليي  (Eud. Soulié, Recherches sur Molière et sur sa famille,). وهو كتاب سيرة لموليير تتبّع فيه صاحبه حياة موليير بكل جزئيّاتها وتفاصيلها استنادًا إلى تحقيق اعتمد فيه عددا هامّا من الوثائق أثبت نُسخا منها في مؤلَّفِه، إضافة إلى قائمة في ما كتب حول موليير إلى عصره.  

- أوّل احتفال بمئوية موليير ارتبطت بمرور مائة سنة عن وفاته لا عن ولادته، مثلما سيتم الأمر في ما بعد، وكان ذلك بمبادرة من عدد من الممثّلين في "الكويدي فرانسيز" الفرقة المرجعية وعللوا مبادرتهم تلك بأهمّية رصيد موليير وبقدرة أعماله على الاستمرار بفضل بمصداقيّة الشخصيات المسرحيّة التي ابتدعها "فإن مرّت عن موت موليير مائة سنة، فإنّ شخصيات، مثل طارطوف  Tartuffe و"ألسيست" Alceste وآرباقون Harpagon أزلية خالدة"  ( انظر: Sylvie Cheralley Revue de la Comzdie française n 16, p :19-20.   ) وأخذت الاحتفالات أشكالا مختلفة تمثّلت في عرض عدد من مسرحيات موليير، وتخصيص مداخيلها لإنجاز لإقامة نصب يمثل موليير يوضع في واجهة مسرح بصدد الإنشاء، ولكن وتجلّى ذكر "المائويّة" بشكل صريح في عنوان مسرحيّة كتبها "جان - بابتيست آرتو" Artaud, Jean-Baptiste (1732-1796) ،خِصّيصًا للاحتفاء به ووسمها مُؤلّفُها بـ : "مئويّة موليير، مسرحية تقع في فصل واحد كتبت شعرا ونثرًا؛ يليها حفل ترفيهيّ تمجيدًا لموليير وذِكره").  وقدّمها ممثلو فرقة الملك في باريس ثم في فرساي أمام الملك( انظر:  La_Centenaire_de_Moliere_comédie_[...]Artaud_Jean-Baptiste_bpt6k64718858.pdf  . 
        وقد عمد فيها كاتِبُها إلى استحضار الشخصيّات المسرحية التي ابتدعها موليير وألّف بينها توليفًا أبرز من خلالها حيويّة تلك الشخصيات وعبقريّة مبتدعها واستمرار حضور موليير من خلال الرصيد المسرحِيّ الذي ترك.   
- أمّا المئويّة اللاحِقة التي الاحتفال بها، فتمت سنة 1922، ثلاثة قرون عن تاريخ  ميلاده  ولقد اتسمت بسمات ميّزتها عن سابقاتها تمثّلت في تبني السلطات الفرنسيّة، بصورة رسميّة، حتى وإن كان الأمر من خلال جمعيات مدنية، الاحتفاء بموليير وبإدراجه ضمن أدوات إشعاعها في العالم. فلقد نُظِّم الاحتفال في قصر بلدية باريس "بحضور مندوبين من 44 دولة حليفة أو صديقة أتوا، حسب تعبير م. أ. أرتو مُحافظ السين" ولكن ذلك لم يمنع من احتفاءات أخرى ليست مرتبِطة بالجهات الرسمية الفرنسية، من ذلك الاحتفاء الذي حصل في نيويورك في شهر أفريل من تلك السنة.
مئويات موليير والمسرح العربي
ما يلفت الانتباه للمتابع للمسرح التونسيّ والمسرح العربي عامة أنّ موليير أضحى غائبًا أو يكاد منذ السنوات السبعين أو الثمانين من القرن العشرين. ولعلّ آخر احتفال بموليير في تونس تمّ سنة 1973 وقُدّمت في إطاره مجموعة من مسرحيات موليير وقدّمت المحاضرات حوله وحول المسرح عامة.
من الضروري التساؤل لا حول هذا الغياب، منذ السنوات الثمانين، فحسب وإنما حول "الحدث المولييري" في المسرح العربي الذي لا سيبل إلى إنكاره.  
ما يُمكن أن نشير إليه، إضافة إلى ما وقفنا عليه من وجوه لموليير متعدّدة ثريّة وموحية، هو أنّ الاحتفال بموليير ومعناه يتنزّل في إطار رؤية للمسرح وللفنون عامة هو المؤسسات الحاضنة لموليير في فرنسا، وما كان لموليير أن يحتلّ هذا الموقع ولا أن يستمرّ حضوره دون توفّر هذه الرؤية وتجلّيها في عدد من الاختيارات والمؤسسات وأهمّها على الإطلاق:
- نشر نصوص موليير النشرة بعد الأخرى على الورق وعلى مختلف المحامِل.
- تدريس نصوص موليير في المدارس والمعاهد والجامعات بصورة أصبح معها جزءًا مُكوّنًا للنتعلّم في فرنسا.
- دور مؤسسة "الكوميدي فرانسيز" في العمل على استمرار هذا المسرح فوق الركح وتجديد معالجة نصوص موليير إخراجِيّا وفَنِّيًّا والسعي إلى جلب الجمهور إلى مشاهدته.
- استمرار الدراسات والبحوث في المستويات الجامعية ونشرها بين النّاس
 فهل في هذا الذي ذكرت ما يُمكن أن يساعد على توجيه الرؤية لواقِع المسرح العربي وآفاقِه وحول كيفيّة بنائه وتشكيل رصيده بصورة يكتسِب معها مِصداقِيّة لدى جماهير الناس لا غنى عنها حتى يتحوّل إلى حاجة حقيقية لا مُجرّد احتفالات لا تعني أحَدًا، أو تكاد؟
محمد المديوني
تونس
ديسمبر 2022

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption