مسرحية " بنت البار" : فلسفة التأسيس لمسرح الصحراء / *الحسام محيي الدين
مجلة الفنون المسرحيةبعيدا من التقاليد السائدة للأشكال المسرحية المعروفة عربياً وعالميا ، اختتم " المسرح الصحراوي " منذ أيام مهرجانه السادس في ديسمبر الحالي في إمارة الشارقة بالعرض الموريتاني " منت البار " ( منت باللهجة الشعبية هي بنت ) من إعداد وإخراج " سلي عبد الفتاح " ، أداء أعضاء " جمعية إيحاء للفنون الركحية " بموريتانيا : سلي سليم ، المختار الشيخ مراد ، السالمة الشيخ ، حمود عثمان صو، عيشة موسى ، محمد سويلم ، مريم محمد الصغير، فاطمة ممادي ، النبوي البخاري ، محمد بلال ، عالي سالم ، حمادي عبدالله ، أما الاشراف الفني فهو للمخرج التونسي الفذّ حافظ خليفة . استلهم الدراماتورج هذا النص من صلب الثقافة الصحراوية الموريتانية ، ليتناول قصة الفتاة " عزيزة " التي عرف والدها " محمد " بين أبناء قبيلته بأخلاقه الحميدة حتى سمي " البار " وكان هو الأب والأخ والصديق وبيت الأسرار لابنته الجميلة الوحيدة بعدما توفيت والدتها ، هذه الابنة التي اشتهرت أيضا بذكائها وحفظها الشعر وإلقائه حتى غدت محط اهتمام وإعجاب رجال قبيلتها " المنارة " الذين تبارى منهم ثلاثة أبطال في مشهديات الفروسية وإلقاء الشعر وحسن الخطاب وبسط أنسابهم وكريم أخلاقهم للزواج بها ، هي التي طبّق صيتها الطيّب آفاق الصحراء حتى أبناء القبائل الأخرى ، إلى أن يقوم قاطع طريق اسمه " الضبع " بالاغارة قتلاً وسلباً ونهباً على احدى قوافل القبيلة ، في تحول درامي إلى صراع الخير والشر يستتبع فيه هذا الأخير وعصابته الكرّ على أحياء القبيلة نفسها لخطف " عزيزة " حيث يتصدى له الفرسان الثلاثة متحدين في القضاء عليه وعلى رجاله . مع ذلك تبقى " بنت البار" طليقة الروح والوجدان ، حرة الخيار فيمن قد تريده زوجا لها ، لتغدو أسطورة صحراوية خالدة متناقضة النهايات لا تزال تروى كابراً عن كابر حتى تلقفتها يد " أبي الفنون " أمامنا في صحراء مليحة ، منطقة الكهيف . ففي تطور إخراجي جدير بالاهتمام ، لم يتهيب المخرج " عبد الفتاح " من اقتحام سورالابداع مفلسفاً تبدلات النظرة إلى النص المسرحي بصياغاته الشعرية التي امتزجت فيها اللهجة البدوية الحسانية بالعربية الفصحى ، معروضاً على الرمال بعيداً من التقاليد السائدة للأنواع المسرحية ، وبرؤية حديثة تعالقت الإِشراف الفني لحافظ خليفة ليَخرجا فيها معاً من عباءة القلق الذي وقعت فيه العروض السابقة بشكل غير مبرر ، مُنطلِقَين من مفهوم جينيّ ، حداثي بكل المقاييس ، لا وجود فيه لكلمة فشل ، بل طرح تجربة ريادية قد لا تحقق جلّ أهدافها في هذا الشكل الوليد ، لكنها تقدم بالتأكيد منظورا متقدما لمسرحة الصحراء لا عذر لغيابه طالما أنّ التجريب مُتاح ومطلوب في تحولات الممارسة المسرحية أيا كان الشكل الذي رست عليه . بهذا المعنى ، يمكن القول أن ما قبل عرض " بنت البار " ليس كما بعده ، ومع حافظ خليفة تحديداً الذي أدخل عرفاً فنياً مُستجداً في اللاوعي الجمعي للجمهور المحتشد على المدارج ، نعني نوعية التواصل التي أمّنتها تشاكيل اللغة المسرحية الشاملة ( لونية ، ضوئية ، صوتية ، حركية ، اجتماعية ، ثقافية ، حوارية ) باعتبار أن ما نشاهده هو منظومة علامات سيمولوجية ترى إلى تغييرات جذرية في شروط العرض والاخراج ، وتفسّر ، بل يجب أن تفسر الرسالة الأصيلة للثقافة الصحراوية طمعاً بتكريسها إلى جانب الأشكال المسرحية الأخرى المعروفة عربيا وربما عالمياً في وقت لاحق . لقد اعتقل هذا الرجل عقولنا وقلوبنا حدّ الدهشة وهو يلقي بثقله الخبراتي ورصيده الفني فيما يمكن عدّه بطولة في مغامرة الابداع توّا ًفي المكان والزمان من أجل نجاح اللحظة المسرحية الحية ، فكان شجاعا بإدخال الفرسان إلى الحيز الرملي المتسع على صهوات جيادهم الجامحة التي لم تهدأ جيئة وذهاباً وهم يؤدون أدوارهم منشدين الشعر بين سلّ السيوف وإغمادها مع ما يتطلبه ذلك من تركيزذهني وجسدي معاً ، عالي المستوى ولا مجال فيه للتردد في الحوار وحركية الأداء ومواكبة البلاي باك في اللحظة المناسبة للكلام والسيطرة على الخيول التي تحتهم ، إلى اتصال المواقف بشكل متماسك مشدود بعمق وتقانة ، الخطأُ فيها يمكن أن يكون قاتلا ، كما لا فجوات زمنية أو حوارية مشوشة بين تابلوه وآخر ما أقنعنا بقدرة هؤلاء الممثلين الشباب ومواهبهم الواعدة وكأننا فعلا أمام فيلم سينمائي هوليودي بمؤثراته السمعية والبصرية كما أشار غير ناقد إلى ذلك بعد العرض وكما دلت على ذلك تعليقات وتقييمات جمهور غفير ملأ المدرجات مستغرقاً في تتبع مركّز لمآلات الحوادث وتحولاتها بإعجاب واقتناع . إنها عملية مسرحة متكاملة بخصوصية عربية ومن منظور جديد يواكب تحولات المسرح عن الخشبة إلى الصحراء ، أعاد فيه المخرج النظر في البناء الزماني والمكاني ونوعية النص والعرض ؛ ذلك أنه وعلى الرغم من التزام الاخير بمعايير الشكل المفتوح التي فرضت نفسها حيث لا وجود لمبدأ الجدار الرابع ولا لممكنات العلبة الايطالية ، إلا أنه فرض بُنية نوعية ذات معانٍ مكثفة وأفعال متجانسة متصلة للشخصيات ، تغلق الباب على التكهنات والتناقضات في فهم المتفرجين لها وتمنح هؤلاء أفقاً للتلقي يفسر الاسئلة التي قد يتركها النص . في مثل هذا التصور نقلتنا السينوغرافيا شعورياً إلى كل ما يتعلق بحياة ابنة البار : أمكنة الولادة والنشوء والحب ومساحات تنافس المحبين على قلبها ، وحوارات الرفقة الأنثوية ، كما لازمت ديناميكية الفعل الدرامي في مشهديات الاستسقاء والمعارك والفروسية والغناء ، إلى علاقة " البار" بابنته ، والفارس الحالم بفتاته ، والفرسان بقبيلتهم ، من ألف العرض إلى يائه مما أمسك بالتسلسل المنطقي لمختلف المواقف التي تفاوتت بين الاستقرار والتوتر ، عطفا على دقة النسيج الموسيقي الذي أظهر جمالية الانتقاء الحسّاس للأغنية الصحراوية الذي مارسه الاخراج لرفد العرض بخلطة ماتعة تحمل بذوراً درامية خصيبة من فلكلور الثقافة الحسّانية أمكن استنباتها وتشكيلها في علاقة إثارة وانبهار رافقت الوحدات المرئية ولم نكن خارجها كجمهور وهذا تأصيل بكل المقاييس . لقد تمكن حافظ خليفة كصانع مسرح من خوض التجربة الفنية بالمعنى الريادي الذي ترفع له القبعات وهو يلتقي ورؤية سمو الشيخ سلطان القاسمي في إطلاقه لفكرة " المسرح الصحراوي"، مؤسساً لمفهوم طليعي دائم متعلق بهذا المسرح كي لا يدخل مع الوقت في التقليد ، وليؤكد أنه لا يمكن القبول بالعودة إلى الوراء وبأن تكون العروض في دورات قادمة مستقبلا بأقل من هذا المنجز المعياري الغير مسبوق في مسرحة الصحراء نصا وعرضا ، ودائما في سبيل تأصيل الممارسة المسرحية العربية .
*ناقد وباحث وكاتب مسرحي
بيروت
0 التعليقات:
إرسال تعليق