مسرح الميكروتياترو بين النشأة في بيت التسامح وتسمية المنشأ الإسبانية والعالمية
مجلة الفنون المسرحية
مسرح الميكروتياترو بين النشأة في بيت التسامح وتسمية المنشأ الإسبانية والعالمية
خالد سالم - الحوار المتمدن
لئن كان المسرح فن تفاعل بين الجمهور والممثلين فإن الميكروتياترو تجربة مسرحية إسبانية ألقت بالمتلقي في وضع أكثر تفاعلاً وحميميةً مع الممثل، يشارك معه في الحدث الدرامي خلال العرض. وهو شكل درامي مرن يسمح بخلق قصص ذات طبيعة متنوعة للغاية وتقريب الجمهور من عالم مختلف: تقديم منتج أو نقل قيم علامة بعينها أو الوصول إلى جمهور جديد. ويضطلع فيه الخيال بوضع الحد، النهاية. إنه ثقافة وفنون متعددة في تجربة قشيبة وفريدة من نوعها انشرت في بقاع شتى من عالمنا. وهذا النوع الجديد يتجاوز المسرح المختصر، ويجمع بين الفن وفن الطهي، في تجربة شكلية للاستهلاك الثقافي حسب كل مشاهد.
يقترح هذا الوليد تنسيقًا للأحداث الفورية في غضون بضعة دقائق ويتم تحديده من خلال الفورية المادية بين فضائيّ التمثيل والفرجة، وغالبًا ما تكون مغمورة في توتر مشترك. وحسب ناقدة أرجنتينية يمكن أن يقدم الميكروتياترو فكرة للمشاهدين والتمتع بممارسة الحرية، مع ضرورة الدخول والخروج.
إنه طريقة لعيش المسرح انطلاقًا من الحميمية، من القرب والاقتراب بين الطرفين. كل هذا رغم أن خصائصه كانت موضع شك عند مولده في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد ولد في ظروف مدهشة ليبقى بعد أن شكك كثيرون في امكان صموده بين فنون الفرجة. لكن على النقيض هناك من وصل إلى وصفه بأنه بديل ممتاز لعيش هذا الفن والشعور به والاستمتاع به بطريقة أكثر حميمية.
وتذهب المخرجة المكسيكية والمسؤولة عن هذا الفن في بلدها أليخاندرا غيبارا إلى إنه فضاء يمكن للجمهور أن يعيش المسرح فيه ليس فقط بتكلفة قليلة، بل أيضًا بطريقة لم تحدث من قبل في دنيا المسرح. لقد خرج الميكروتياترو من فضاء التشكيك في استمراريته إلى كسب مساحات أرحب والمزيد من المؤيدين يومًا بعد يوم، ليُعرّف بأنه لقاء يتطلب قريحة وذكاء.
يسع الميكروتياترو فضاء لا تزيد مساحته على خمسة عشر مترًا مربعًا، ويشارك في العمل ممثلون لا يزيدون على ثلاثة، يلجؤون إلى ذكائهم الفطري والمهني لأداء عمل لا تزيد مدته عن خمس عشرة دقيقة، وهي المعايير الأساسية لهذا النوع القشيب من المسرح الذي شهد مولده أحد أكثر أحياء مدريد عراقة، حي مالاسانيا، الحي الذي كان له حضور اجتماعي عريض في ليالي مدريد الشبابية خلال الثمانينات والتسعينات. كل هذه المعايير من شأنها أن تفسح للجمهور، الذي لا يزيد عدده عن خمسة عشر مشاهدًا، بأن يلتحموا بالعمل بالكامل.
ويكمن غرض هذه الطريقة المسرحية في التقاط جوهر الموضوع ثم التعبير عنه في فترة زمنية قصيرة بحضور عدد محدود من المشاهدين، عملاً بالمعايير التي وُضعت له مع مولده. ومن السمات المميزة لمسرح الميكروتياترو أنها تتيح تطوير العديد من المسرحيات في وقت واحد. ويجب أن تتبع عروضه الخط الموضوعي نفسه، وتسمح لكل فرقة بحرية مطلقة في الطرح والإخراج وكذلك المنظور الذي تنشده من العمل. ومن السمات الأخرى لهذه الطريقة المسرحية المبتكرة أن الأعمال لا تُعرض عادة عدة مرات في المكان نفسه، مما يجعل كلَا منها شيئًا فريدًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن هدفها هو سرد قصة بأقل عدد ممكن من العناصر، ولكن مع التركيز دائمًا على اشراك الجمهور في الوقت الحاضر. ولا يتعلق الأمر بفن الأداء performance أو التمثيل الصامت أو الارتجال، لكنها أعمال تتطلب نصًا مسبقًا وتحترم العديد من خصائص العمل التقليدي.
وقد قيل إن هذا الشكل المسرحي الوليد يُؤخذ على شكل حبوب، فالمشاهد يجهز قائمة الأطعمة حيث يتلذذ بكل خطوة وببطء خلال الدقائق المعدودة للعمل الذي يُطرح على مقربة، في تلاحم معه، وخلال دقائق معدودة وقرب جسدي بين منطقتي التمثيل والمشاهدة، في توتر مشترك.
ثمة قائل إن الميكروتياترو هو فكرة المشاهدين، لهذا فهناك ضرورة للتمتع بحرية الدخول والخروج، أي ممارسة الحرية. ومن هذا المنطلق فقد تجد أن مسرحًا تقليديًا قد تحول إلى خمس أو ست قاعات تعمل في آن واحد، وكأن الأعمال المعروضة تتكاثر. فعلى سبيل المثال هذا النوع من المسرح ولد في العاصمة الإسبانية ومنها انتقل إلى أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية ودول عديدة أخرى خارج هاتين الدائرتين. وقد وصل إلى الأرجنتين منذ أربع سنوات، وخلال هذه الفترة قُدم أكثر من سبعمائة عرض منه خلال هذه المدة، وحضر العروض ما يقرب من مليون مشاهد. كما حقق في الأرجنتين نجاحًا عظيمًا في أكثر من مدينة، وخاصة في العاصمة بوينوس آيريس وأصبح تقليدًا يبحث عنه الجمهور وينتظره خارج الموسم المسرحي.
ومن القيم المضافة للميكروتياترو أنه، في المقام الأول، يقرب جمهورًا ليس لديه الهمة في الذهاب إلى المسرح ويأمل القائمون عليه أن يحضر هذا الجمهور العروض، أن يذهب إلى قاعات العرض دون خوف. وفي المقام الثاني فإنه يستجيب لحاجة كل متفرج، ككتاب يُفتح ويُغلق في الصفحة المراد قراءتها. وهو في هذا يتفوق على المسرح التقليدي الذي يوصف بأنه مغلق، يصعب اجتيازه.
المخرجة الأرجنتينية خوليتا نوبارّو التي اقتربت من الفن من مختلف اللغات التعبيرية وانطلاقًا من تجاربها العديدة، بدءًا من الإخراج والكتابة المسرحية وتصميم الملابس والإخراج السينمائي، ترى أن الميكروتياترو مشروع يقترن تحديًا، إلى حد ما، يصطحب بعض القيم الحيوية الاجتماعية كالقرب والافتقار إلى الوقت، لكنه في الوقت نفسه يعزز الملامح الإبداعية. هذا دون اغفال وضع العالم الراهن الذي يفسح المجال أمام هذا الشكل المسرحي الجديد، إذ تجبرنا منصات التفاهم والشبكات الاجتماعية على استهلاكه عبر خاصية القفز والتجوال بين منصة وأخرى بغية الاستقصاء والتوصل إلى الهدف.
وفي الميكروتياترو يضطلع المشاهد بمساحة لم يكن يتمتع بها من قبل، إذ يقوم بدور بارز، دور بطولي، في علاقة مختلطة مع المشهد انطلاقًا من المسافة القصيرة التي تفصل المشاهدين عن الفنانين. وهذه المساحة الضيقة هي التي تجعل الناس لا يشعرون بأنهم حَكم بل هم جزء من التجربة حتى عندما لا يُكسر الجدار الرابع، وهو الاصطلاح التمثيلي الذي يشير إلى جدار متخيل، غير مرئي، يفصل الممثلين عن الجمهور. فبينما يمكن للجمهور أن يرى من خلال هذا الجدار يتصرف الممثلون كما لو أنهم لا يستطيعون رؤية الجمهور.
يذكرنا منطق الميكروتياترو بمفهوم السينما القديم "العرض المستمر"، لكنه يُصاغ حسب الفضاءات الحالية المتمثلة في القاعات المتعددة حيث يعملون على محاكاة الواقع، ما هو رقمي، افتراضي، وبالتالي مساعدة الفضاء للعمل المسرحي على الاستيعاب وليس العكس، أي دون تأقلم العمل المسرحي على الفضاء المكاني.
ومن المسلمات في هذا المضمار اليوم هو أنه إذا كان التحدي الذي يواجه المخرجين والممثلين كبيرًا، فإنه ليس أقل من مهمة الكتاب المسرحيين، فهم المنوط بهم حل تلك الثلاثية الشهيرة القائمة على الحكاية والحبكة والعقدة وتفكيكها في فترة لا تزيد كثيرًا عن عشر دقائق. وعليه فمن الصعب على الكاتب المسرحي ادخال تحول كل ثلاث أو أربع دقائق، على ألا يكون مشهدًا منفردًا أو لوحة مسرحية، بل عمل مسرحي متكامل.
ولد هذا المسرح الظاهرة، كما أسلفت، في حي مالاسانيا التاريخي في العاصمة الإسبانية، بدءًا من حدث عرضي، ففي لحظة أراد مجلس الحي في تلك المدينة رفع النشاط في المنطقة التي كانت تكثر فيها تجارة الجنس. ولمنع ذلك، استولى فنانو الغرافيتي والفنانون التشكيليون على تلك المحلات المهجورة. وكان المخرج ميغيل ألكانتود من شجع فكرة تقديم مشروع مسرحي مبتكر في ماخور قديم في الحي. قُدم العرض تحت مسمى "بنقود" Por dinero في شهر نوفمبر عام 2009 وبمشاركة حوالي خمسين شخصًا من العاملين في مجال المسرح. استولوا على القاعات كلها، بما في ذلك الحمام، وعُرضت أعمال بممثلَيّن أمام مشاهدَين. وكان العرض يقام كلما كان هناك مشاهدون، ووصل ببعض الأعمال أن عُرضت أربع عشرة مرة. حري أن نذكر أن ميغيل ألكانتود مخرج ناجح وسبق له أن قدم أعمالاً درامية ناجحة في التلفزيون العام والخاص، وكان لنا مؤتمر عن المسرح، وتناولنا كيفية نقل الفكرة إلى المسرح العربي في خريف 2014، إضافة إلى أمور أخرى تتعلق بالمسرح، لكنها لم ترَ النور سنتئذ.
كان الميكروتياتر مشروعًا عرضيًا، ثمن التذكرة يورو واحد. كان طلب أولئك الفنانين قويًا، ما ترك له صدى شديدًا. وأطلق عليه مسمى "ميكروتياترو مقابل المال"، محاكاةً لبيوت التسامح، أو الدعارة، الجنس مقابل المال، وفكرة الصفقة. وفي الوقت نفسه تنازلت البلدية عن محل جزارة، مكان تطور الميكروتياترو في مدينة مدريد. هكذا ولد الميكروتياترو متخطيًا منطق المسرح القصير. ففنانو المسرح يخضعون للتحدي الإبداعي المتمثل في الإيجاز والقرب. والميكرتياترو مشروع كاشف من شاعرية الزمان والمكان، في نوع من القفز zapping المشهدي، السمات الفورية التي تتغلغل في مجتمع اليوم، وهي ظاهرة امتدت إلى الحياة الحضرية.
وإذا كان لإسبانيا سبق وبراءة اختراع الميكروتياترو فإن مصر لم تتأخر كثيرًا في إدخال هذا النوع الجديد من المسرح إلى الوطن العربي. ويعود الفضل في ذلك إلى الدكتورة نبيلة حسن، الأستاذ في أكاديمية الفنون والممثلة، التي حصلت على الدكتوراه من جامعة مدريد أوتونوما. فقد أقامت دورتين لمهرجان الميكروتياترو في القاهرة والإسكندرية وفي مدن أخرى العامين الماضيين، وينتظر أن تقيم الدورة الثالثة للمهرجان في خريف العام الحالي.
انتيهت منذ أيام من ترجمة عشرين مسرحيًا ونيفًا آمل أن ترى النور قريبًا، لتثري التجربة المصرية والعربية في مجال هذا الجنس المسرحي الجديد الذي ولد بشهادة وتسمية منشأ إسبانيتين، ليصبح إضافة إسبانية جديدة في دنيا الأدب والفنون، وليرفل المسرح العالمي بوليد انتشر في أوروبا والأميركتين والوطن العربي عبر بوابة أرص الكنانة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق