مسرحنا نحن الآن هنا: بين المأتمية والاحتفالية (12)/ د. عبد الكريم برشيد
مجلة الفنون المسرحية
يوم دراسي حول المسرح بالرباط
المسرح والعيد وجهان اثنان لعملة واحدة، وكل فعل مسرحي هو احتفال، وليس كل احتفال هو مسرح بالضرورة، وفي البيان الذي صدر بمدينة باجة بتونس، والذي حمل اسم (البيان المغاربي للمسرح الاحتفالي) الورقة الأولى 1988ورد ما يلي:
(إننا نعرف ان الإنسان قد تعرض طوال التاريخ لعمليات متكررة من السلب والنهب، لقد اخذ منه منه كل شىء، وصودرت منه كل الأشياء، إلا الاحتفال، فهو. وحده الذي لا يمكن أن يؤخذ منه، لأنه هو، ففي الاحتفالات إذن، خبأت كثير من الشعوب تجربتها مع الموت والحياة، والجذب والخصب، ومع المرض والوباء، ومع الفرح والحزن، ومع القهر والعذاب، فلنعد إذن قراءة ديوان الشعب العربي، ففيه سنجد بلا شك ما يدهشنا.. سنجد تاريخا لم يدونه التاريخ، ونقف على وجدان شعب اهملته الكتابات الرسمية الأجيرة، من هنا إذن، أمكن ان نقول مع أبي تمامة(الحفل أصدق انباء من الكتب) مع الإشارة إلى أن البيان قد استبدل كلمة السيف، كما وردت في شعر ابي تمام، بكلمة الاحتفال.
هذا الشهر اليوم هو شهر مارس، والذي هو شهر الخيال والاحتفال، وشهر البعث بعد الموت، وشهر التجديد والتجدد، والذي به يوم استثنائي هو اليوم العالمي للمسرح، والذي تحتفي به كل البشرية، لماذا؟لأن هذا المسرح – الاحتفال هو ديوان الإنسان، وهو ديوان الحياة والحيوية، وهو ديوان المدينة والمدنية، وفي هذا المناخ الربيعي والعيدي والمسرح، انعقد بالأمس، بمدينة سلا يوم دراسي للسؤال عن حال المسرح، والبحث في المسائل المسرحية، والتي هي مسائل مهنية ومادية وتقنية وتنظيمية وفكرية وجمالية وتواصلية كثيرة جدا، وبهذه المناسبة، فستكون مقالة هذا اليوم، من هذه الكتابة التاملية عن المسرح، محاولة لإعادة قراءة المسرح، وذلك في جميع مراحله التاريخية، كما كان من قبل، وكما هو هذا اليوم، وكما ينبغي أن يكون غدا، وأن نفكر بصوت مرتفع، من أجل ان يستعيد هذا المسرح العيد احتفاليه الضائعة والمضيعة، وأن يستعيد روحه وجوهره وحقيقته وذاكرته ووعيه النقدي وحسه الجمالي السليم، وأن يكون احتفاليا، بمناخه وبطقوسيته وبآدابه واخلاقه قبل كل شيء.
وفي شهر مارس يحضر الربيع، ومع حضوره يتجدد وجه الأرض، وتخرج التربةاجمل ألوانها، وتجود على الناس باحلى واشهى ثمارها، وتكتسي الطبيعة حلة جديدة، ويشيع الدفء في الأجساد وفي النفوس وفي الأرواح، وهذا ما يجعلنا نقول عن فصل الربيع بأنه فصل احتفالي، ولأنه احتفالي فهو مسرحي بامتياز، واعتقد ان هذا اليوم سيكون بداية جديدة لعصر جديد في المسرح المغربي، واعتبر ان عودة الحسن النفالي إلى بيته، سيعيد التوازن العقلي إلى هذا المسرح.
مسرحنا نحن ـ الآن ـ هنا برؤية مستقبلية
وفي البدء كانت الاحتفالية مسرحا، وكان كل الذين ساهموا في تأسيس هذه الاحتفالية قد جاءوا من المسرح، وتحديدا من مسرح الهواة، لأن المسرح بالنسبة إليهم جميعا، قد كان دائما، وسوف يبقى، عشقا وهوى، وهو حياتهم وحيويتهم، وهو وجودهم وعنوان وجوهم، وهو مسيرته ومسارهم.
وهذا المسرح، في نشأته الأولى كان احتفاليا، وكان عيدا من أعياد الناس في المدينة، وذلك قبل أن يصبح هذا المسرح تيارات واتجاهات ومدارس متعددة ومتنوعة، لقد كان مسرحا واحدا، برؤية عيدية للوجود، وكان هذا المسرح ـ الواحد الأوحد ـ احتفاليا كله، و كان ذلك المسرح الاحتفالي ـ بكل لغاته وأسئلته ومسائله وموضوعاته وتقنياته وآلياته ومعاجمه وبنياته ـ مفتوحا كله على الحياة، ومفتوحا كله على العلم وعلى الفكر وعلى الفنون وعلى كل الصناعات، وإلى حدود هذا اليوم، فهو مازال كذلك، في كثير من تجاربه الإبداعية الصادقة، والتي حافظت على روحه وعلى جوهره وعلى ثوابته وعلى كل مفرداته الأساسية والحيوية، وكذلك سوف يبقى كائنا وموجودا، سواء في مسرح الفن أو في مسرح الفكر أو في مسرح العلم أو في مسرح الوجود، وهكذا سوف يبقى حاضرا ومجددا ومتجددا في مسرح الحياة إلى ما لا نهاية، وهذا هو قدره بكل تأكيد، والذي هو نفس قدر الإنسان الاحتفالي فيه، والذي كتب عليه أن يحيا الحياة، وأن يعبر بجسده وروحه ووجدانه وخياله عن حياته وحيويته، وايضا عن نشوة الحياة وعن نشوة الوجود في الوجود.
والأصل في هذا المسرح الاحتفالي، في صيغته الحديثة والمعاصرة، هو أنه تفكير جاد وجديد ومتجدد، ليس في مسرحنا المغربي ـ العربي فقط، ولكن في كل مسارح العالم، وهو اليوم، في تجربتنا واجتهادنا، مجرد تفكير في تفكير، وتحديدا هو تفكير في فكر كل المفكرين المسرحيين العالميين، قديما وحديثا، وتماما كما قال رولان بارت عن بريشت، فإن الاحتفالي هو أيضا ( يفكر في عقول أخرى، وفي عقله يفكر آخرون).
وقبل أن تكون هذه الاحتفالية تيارا مسرحيا، له منظومته الفكرية الخاصة، وله نظامه الجمالي والأخلاقي، فقد كانت حلم حالمين في زمن غير احتفالي، ولكنه زمن عاشق للاحتفالية الغائبة والمغيبة والممنوعة والمصادرة، ولقد قال الاحتفاليون مع د. المهدي المنجرة بأن الحلم ليس جريمة، وبأن التطلع إلى المستقبل قد أعطى علما جديدا هو علم المستقبليات، وبأن (المستقبليات ليست حكرا على المثاليين أو الحالمين، وهي أبعد ما تكون مخجلة، فعلى عكس ذلك، فإن دورها يتحول إلى أداة للقرار والعمل) والاحتفالية بالتأكيد، هي جزء أساسي من هذا العلم الجديد، أو في هذا الفن الجديد، والذي يبحث في الممكنات المتوقعة، والذي له وجهة واحدة هي المستقبل، ولولا هذا الرهان على المستقبل، فهل كان ممكنا لهذه الاحتفالية أن تملأ الدنيا وتشغل الناس، وذلك على امتداد عقود طويلة جدا.
إن الرهان الأكبر والأخطر، في الحلم الاحتفالي، أو المشروع الاحتفالي، قد كان دائما هو (الرهان على المستقبل، وهو بالتأكيد رهان على الممكن، وعلى المحتمل الوجود، وفي ذلك المستقبل الآخر يوجد المسرح الآخر دائما، وتوجد البنيات المسرحية الأخرى، وتوجد المؤسسات المسرحية الأخرى، وتوجد التجارب المسرحية الأخرى، وانطلاقا مما هو كائن الآن ـ هنا، فإنه يمكن تصور ما يمكن أن يكون مستقبلا، وانطلاقا من هذه اللحظة الواقعية يمكن السفر إلى المستقبل الممكن).
الاحتفال لحظة في الزمن نورهان على الزمن
هذه المسرح الاحتفالي له تاريخ ممتد في الماضي، وله ذاكرة حية موجودة داخله، وله عيون سحرية موجودة في وجهه وليس في قفاه، وهي مفتوحة عن آخرها على الآتي الممكن، وهي فعلا تعشق الآتي الذي سوف يأتي، ولكنها أبدا لا يمكن أن تفرط في الماضي الذي لا يمضي، والذي ـ بدونه ـ فإنه يمكن أن تصاب بالزهايمر، وان تفقد الإحساس بذاتها والعالم وبالساعة، وفي المقابل، وبالنسبة لهذه لاحتفالية الحالمة والفاهمة والعالمة فإن (من لا يؤمن بالمستقبل لا يمكن أن يؤسس هذا المستقبل، ولعل أقصى ما يمكن أن يصل إليه، هو أن يظل سجين لحظته الآنية المحدودة، من هنا كان الإيمان بالمستقبل الممكن هو البوابة نحو كل تغيير، وكان بداية الطريق الشاق والطويل نحو تحقيق التجديد والتطوير، ونحو كل نمو، ونحو كل تنمية شاملة ومتكاملة ومستدامة).
هكذا تحدث الحالم الاحتفالي، في رهانه على الزمن الآتي، وفي بحثه عن المسرح الآخر الممكن، وفي عشقه لحياة مسرحية أخرى صادقة وأكثر جمالا وكمالا، وفي انحيازه العاقل إلى الغائب والمغيب، وإلى الممنوع والمقموع، ولعل أخطر ما هو ممنوع في حياتنا العلمية والفكرية والجمالية هي الحرية، وهو الإبداع الفكري والجمالي الحر، وهل المسرح الاحتفالي إلا (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر)؟
وقبل أن تكون هذه الاحتفالية حلم مسرحيين، فد كانت حدثا فكريا وجماليا في تاريخ الفكر والفن المعاصرين، ولقد كانت مخاطرة تجريبية وتجديدية وتحديثية عنيفة وقوية، ولأن ظهورها، في المغرب والعالم العربي، كان مفاجئا، ولم يكن متوقعا، فقد شكل ذلك الظهور رجة كبيرة في الوسط المسرحي، المغربي والعربي معا، ويؤكد الاحتفالي على أن حدث ذلك التأسيس لم يكن حدثا عاديا، وأنه كان (هزة فكرية وجمالية وأخلاقية، وأن لهذه الهزة درجتها التي لا يمكن أن تقاس وفق سلم رشتر، ونعرف أن الأساس في أية هزة ـ مادية كانت أو معنوية ـ هو أن تخلخل البنيات القائمة، وأن تحطم منها ما كان هشا، وما كان قائما على غير أعمدة قوية وصلبة، وبهذا وجدت نفسي، أنا الاحتفالي المؤسس، أخوض معارك ملحمية ضد أشباح الماضي، وضد أشباح الموتى، وضد وكلاء الآخر الغائب، وضد استبدادية المركز الغربي ـ الأوربي، وضد الأستاذية والمدرسية، وضد عبادة الأصنام والأوثان، وضد المسلمات والبديهيات، وضد الاتباعية والنمطية، ولقد عشت الثورة الصادقة ضد الإشاعة الكاذبة، واعتبرت عظمة كثير من العظماء مجرد إشاعة فقط، ولعل هذا هو ما جعلني أتجرأ على مناقشة بعض الأسماء التي لم يكن مسموحا مناقشتها، مثل أرسطو وماركس وفرويد وداروين ونتشه وبريشت، ولولا هذه الجرأة، ولولا تلك المخاطرة، في العلم والفكر والفن والصناعة المسرحية، فهل كان ممكنا أن يكون هناك اليوم ثورة فكرية وإبداعية تسمى الثورة الاحتفالية؟).
هكذا تحث الاحتفالي في كتاب أعطاه اسم (أنا الذي رأيت)
ومن خلال هذا المسرح الاحتفالي، بكل تجاربه واجتهاداته، وبكل أحلامه واختياراته، عبرت الحركة الاحتفالية عن وجودها، وكشفت عن فلسفتها في الوجود، وبينت في البيانات رؤيتها للعالم، وحددت مواقفها المبدئية من الأحداث والوقائع ومن المظاهر والظواهر، وبحكم رؤيتها الاحتفالية والعيدية للحياة والأحياء، فقد انحازت تلقائيا وعفويا إلى العيد وإلى الاحتفال، وانحازت إلى الإنسان والإنسانية، وانحازت إلى الحياة والحيوية، وانحازت إلى الجمال والجمالية، وانحازت إلى المدينة والمدنية، وانحازت إلى الفرح والحق في الفرح، وأن حازت إلى الاختلاف العلمي والفكري والى الحق في الاختلاف
إن المسرح، هو أساسا فعل جماعي واجتماعي حي؛ هكذا هو في حقيقته الأساسية والجوهرية، إنه تظاهرة شعبية عامة، وهو رؤية لها أصل في الأرواح وفي النفوس وفي العقول المفكرة، وله امتدادات مادية في الأزمنة وفي الأمكنة المختلفة، وبذلك فقد كان في حقيقته الأولية المؤسسة حالة وجدانية، وكان تمردا وجوديا، وكان احتجاجا اجتماعيا، وكان نشاطا فكريا أيضا، وكان واجهة سياسية ونضالية كذلك؛ وبهذه العين تراه وتتمثله الفلسفة الاحتفالية..
الأصل في الإنسان انه كان يحكي ويحاكي
وهذا المسرح الاحتفالي، يرتبط في حياة الإنسان الحي بكل ما هو ثابت ودائم وعميق وصادق وحقيقي وحيوي وجديد ومتجدد وأبدي وسرمدي وإنساني وكوني، ويرتبط أساسا بغريزة المحاكاة، وبإرادة التحول والتغير والتطور والتجدد، ولقد تمظهرت هذه المحاكاة الاحتفالية في مجموعة كبيرة من اللغات اللفظية، ومن التعبيرات الجسدية الحية، والتي شكلت في مجموعها حالات من التمسرح الاحتفالي والعيدي، الجديد والمجدد والمتجدد.
إن الأصل في الإنسان أنه كائن يمثل، وهو يمثل ليعرف العالم، في ثوابته ومتغيراته، وفي كائنه وممكنه، وفي ظاهره وخفيه، أي أن يعرف نفسه أولا، وأن يعرف بها ثانيا، وأن يتعارف بها مع الآخرين، ليبلغهم ما يعرف، وما لا يعرف، وما الذي يريد أن يعرف، وهو في المجتمع يمثل في كل حين، من المهد إلى اللحد، أي أنه يمثل في المسرح، ويمثل خارجه، مع أنه لا وجود في مسرح الوجود إلا لهذا الإنسان الممثل، والذي لا يفعل شيئا أخر في حياته سوى أن يحكي ويحاكي، وهو يمثل في أعياده واحتفالاته، ويمثل في تظاهراته اليومية المتجددة، وهو في تمثيله وتمثله مقتنع بأن الحياة مسرح، وبأن التاريخ مسرح، وبأن الأيام والليالي مسرح، وبأن الأصل في هذا المسرح الوجودي والاجتماعي أنه احتفال عيدي متجدد؛ احتفال دائري مفتوح على الأرض والسماء، وهو بهذا حق من حقوق الذوات الإنسانية والمدنية الحية في الحياة، هو حقها الطبيعي في الحضور، وحقها في التلاقي، وحقها في التعبير، وحقها في الحوار، وحقها في الاستئناس بوجود الناس في عالم الناس، وعليه، فقد أكدت الاحتفالية كثيرا على الحقيقة التالية، وهي أنه ليس من الممكن، ولا من المنطقي مصادرة أعياد الناس واحتفالاتهم، والتي هي عنوان وجودهم، وهي عنوان حريتهم وهي عنوان حيويتهم، وهي عنوان إحساسهم بالزمن وبالمكان، وعنوان أسئلتهم ومسائلهم الوجودية والاجتماعية والسياسية، وهي عنوان أفعالهم وانفعالهم، وهي عنوان فاعليتهم في الوجود وفي الحياة اليومية وفي التاريخ.
ولأن إلغاء هذا المسرح غير ممكن، كليا أو جزئيا، فقد اتجهت السلطات والإدارات ـ في كثير من البلدان ـ إلى الحد من فاعليته ومن خطورته، وذلك بإفراغه من طبيعته الحقيقية، وأقالته من وظيفته التاريخية، الشيء الذي جعل هذا المسرح، المفرد والموحد، يصبح مسارح متعددة ومختلفة ومتنوعة، لقد اختلط الحقيقي بالزائف، والأصيل بالدخيل، والواقعي بالوهمي، والكوني بالمحلي، والمقيم بالعابر، وهذا هو ما جعل الاحتفالية ـ داخل هذه الفوضى غير المنظمة ـ تسعى دائما للبحث عن المسرح المسرحي الحقيقي، أي المسرح الأجمل والأكمل، والأكثر صدقا ومصداقية، والأكثر حقيقة، والأكثر إقناعا وإمتاعا، مؤكدة في بحثها دائما على القناعة التالية، وهي أننا قد أصبحنا اليوم، ومن حيث ندري أو لا ندري، نزاول المسرح ومضاعفه، ونحيا المسرح ومشابهه، ونمارس المسرح الحي والمسرح الميت،، ونعيش المسرح الحر والمسرح المعتقل، ونخرج في أحيان كثيرة من عالم المسرح الحق والأصيل، لندخل إلى مضاعفه المستنسخ والمزيف، ولقد تم اعتقال المسرح الفاعل والحي، وذلك بنفس ما اعتقلت به كثير من المجتمعات المعتقلة، أي بالتشريعات القرقوشية الحمقاء، وبالسياسات اللاشعبية وبالأعراف البالية والمتخلفة وبالتعاليم المدرسية الجامدة، وبهذا، فقد وجد المسرح نفسه، ضدا على حقيقته وجوهره، مكبلا ومعتقلا؛ يتحرك في إطار ضيق ومحدود جدا؛ إطار لا يمكن أن تخرج من حدوده الثابتة إلا التجارب المسرحة الحقيقية، أي التجارب الرائدة والثائرة والمفكرة والمحرضة على التجديد وعلى البحث وعلى الاجتهاد وعلى التجريب الميداني، العاقل والفاعل والمسئول طبعا، وبهذا المنطق ظهرت الاحتفالية، في الفكر والفن معا، لتكون حركة ثورية، تأسيسية وتصحيحية في مسرح الحياة وفي حياة المسرح معا.
وبالنسبة للاحتفالية دائما، فإن أخطر ما يخيف في وجود المسرح، في كثير من الأنظمة، هو أنه سلطة حقيقية في عالم غير حقيقي، في حين أن المطلوب منه، في كثير من المجتمعات، هو أن يكون مسرحا للسلطة، وهذا ما يخالف منطق الحياة، ويعاكس إرادة الكائنات البشرية الحية فيه، من هنا إذن، تأتي في الاحتفالية ضرورة تحرير المسرح العربي أولا، وتحريره من كل قيوده المختلفة، الظاهرة والخفية معا، وذلك حتى يستعيد هذا المسرح حقيقته، ويستعيد حريته وحيويته، ويستعيد دوره ووظيفته، ويستعيد ذاكرته المصادرة، وحتى يمكن أن يؤدي وظيفته التنويرية والتثويرية والتحريرية في المجتمعات الحديثة، وأن يقوم بدوره الإنساني والتاريخي، وأن يكون شيئا أكثر من حكاية تحكى، أو رواية تروى، أو أن يكون مجرد فرجة عابرة بلا معنى، وهذا ما يفسر أن تكون المسرحية الاحتفالية عنيفة عنف الحقيقة، وأن تكون متمردة على المسرح المقموع، وأن تسعى دائما باتجاه ذلك المسرح الآخر الممنوع، والذي هو وحده المسرح الحق والحقيقي.
ختام مؤقت
وفي الحاجة إلى المسرح، وفي الحاجة إلى الكتابة فيه وعنه، يقول الاحتفالي (أعتقد أن الكتابة مسئولية تاريخية، وأن يمسك الإنسان القلم لا يقل خطورة عن القبض على الجمر، أو أن يمسك الإنسان بالسيف، ولهذا اعتبرت الكتابة ـ دائما ـ محاولة لفهم العالم، وفهم الذات، وقراءة علامات الأشياء، وقراءة رموز الواقع، ولقد رأيت أن هذا الواقع لا يمكن أن ينفصل عن تاريخه ومعطياته الخفية، لهذا نبشت كثيرا في الموروث الثقافي، ونبشت في أرضية الذاكرة الجماعية، وفي الوجدان الشعبي، واعتبرت أن المسرح فن خطير، لأنه طويل اللسان، وأنه محاولة للقبض على الثابت والمتحرك في التاريخ، ولأنه يغوص في أعماق الإنسان، وهي الأعماق التي، وعلى الرغم من الكشوفات العلمية، تظل مجهولة، وتظل في حاجة متجددة، إلى السفر والترحال) هكذ تحدث الاحتفالي.
هو مسرح يحيا الحياة، ويهمه أن يعرف معنى الحياة، وهو أيضا مسرح يرى الوجود، ويفكر فيه، وهو يراه بعيني عراف، أو بروح صوفي أو بوجدان نبي، وهو يفكر عقلانيا بعقل حكيم عاقل، وهو يمشي في الدروب والساحات العامة ويفكر، وهذا ما يفسر أن يكون تفكيره تفكيرا متحركا، وأن تكون فيه ثواب ثابتة، وأن تكون به متغيرات جديدة ومتجددة، وما يغري هذا الاحتفالي، قبل كل شيء، هي الأشياء والأفكار الثابتة والبعيدة، والتي يتطلب الوصول إليها السفر والبحث والنبش والحفر، وفي جوابه عن سؤال للأستاذ محمد الوادي، يقول الاحتفالي (ينبغي أن يعرف الجميع أن أجمل وأصدق ما في الاحتفاليين، والذي أنا واحد منهم، هو إصرارهم السيزيفي على الحضور وعلى المواجهة وعلى الثقة بالنفس وعلى الشغب الفكري وعلى الكبرياء الفكري، وعندما تختار فكرة، وتختارك هي ايصا، وينشأ بينكما عشق صوفي، وتقتنع بها لحد الإيمان، فهل يمكن أن تنكسر؟ بالتأكيد لا يمكن).
ويمكن أن نتساءل اليوم، تماما كما تساءلنا بالأمس، هل كان من الممكن صناعة مسرح مغربي ـ عربي إنساني وكوني جديد، وذلك في عالم قديم، بدون أجساد وأروح جديدة، وبدون قناعات فكرية جديدة، وبدون ذلك الإصرار السيزيفي على الفعل والتفاعل وعلى الحضور، حيث ينبغي أن يكون الحضور، وأيضا على الصمود والتصدي، التحدي والتجاوز، وبدون (اقتراف) ذلك الفعل (العبثي) السيزيفي، والقائم أساسا على التكرار وعلى معاودة نفس الفعل على امتداد عقود طويلة جدا من الزمن، وأيضا، بدون الثقة في النفس، والثقة في عبقرية الإنسان، وفي عبقرية اللحظة التاريخية، وبدون الثقة في الآني والآتي معا، وبدون الإيمان بأن الاجتهاد ليس له وقت محدد ومحدود، وأنه ليس حكرا على شعب دون آخر، ولا على مرحلة تاريخية دون غيرها، ولا على ثقافة دون سواها، وبغير هذه النزعة السيزيفية، ما كان لهذا المسرح الاحتفالي وجود، ولما استطاع أن يتجدد داخل مسار الزمن المتجدد.
وللحقيقة والتاريخ، يمكن أن نقول ما يلي : هذا المسرح الاحتفالي لم يؤسسه الاحتفاليون وحدهم، وهو بالتأكيد أكبر وأخطر من أن تؤسسه جماعة سمت نفسها (جماعة المسرح الاحتفالي) ولقد أكد هذا الاحتفالي على أنه لا يكتب الكتابة، وعلى أن هذه الكتابة ـ كتابته ـ تنكتب به فقط، وهو حين يكتب لا يفعل ذلك وحده، ولكن تكتب معه ثقافته، ويكتب معه التاريخ، وتكتب معه الجغرافيا، وتكتب معه لغته، وتكتب معه ذاكرته الجماعية، وتكتب معه ثقافات العصر وفنون العصر وعلوم العصر وصناعات العصر واكتشافات العصز واختراعات العصر، و(اللحظة التاريخية تكتب معه أيضا، وأنا أنتمي إلى جيل فتح عينيه على وطنه مستعمرا، وعاش النكسة الحزيرانية، وعاش حلم الوحدة العربية وانتكاستها، وعاش القضية الفلسطينية وكل قضايا التحرر في العالم، وبهذا فقد كان ضروريا أن يكره هذا الواقع المأتمي، وأن يبشر بواقع أخر مختلف ومغاير، واقع احتفالي وعيدي، وأن ينحاز إلى الحرية والتحرر وإلى الإنسان والإنسانية وإلى الحياة والحيوية وإلى المدينة والمدنية وإلى الحق والحقيقة وإلى الصدق والمصداقية).
فهل هذا المطلب ممنوع؟ وما الذي يمكن أن يمنعه؟ ولصالح من؟ او لصالح أية جهة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق