المسرح والتراث والإنسان والاحتفال (14) /د. عبد الكريم برشيد
مجلة الفنون المسرحية
الاحتفال بالتراث من خلال مسرحية
بالأمس، عشت ـ عشنا أمسية مسرحية احتفالية باذخة، وقد كان ذلك بالمركب الثقافي أنفا بمدينة الدار البيضاء، وكان ذلك احتفاء بعيدين اثنين هما، عيد الطبيعة الضاحكة والبهية، والذي يمثله فصل الربيع الجديد والمجدد والمتجدد، والذي هو فصل احتفالي وعيدي بامتياز، أما العيد الثاني فيمثله احتفال البشرية باليوم العالمي للمسرح
لقد عشنا المسرح، وتنفسنا المسرح في مناخ احتفالي ربيعي، وكان احتفالنا في المسرح وبالمسرح ومع محبي وعشاق المسرح، وكنا حاضرين، جسدا وروحا، في الواقع وفي التاريخ معا، ولقد حضرت الذاكرة الجماعية في هذا الاحتفال، وحضر السؤال الوجودي فيها ومعها، وكان ذلك السؤال الضمني هو
ــ نكون أو لا نكون؟
ولقد استدل الاحتفالي دائما، من خللا حضوره وفعله وفاعليته، على حياته وحيويته، وفي هذا المعنى قال:
ــ أنا أحتفل إذن، فأنا كائن وموجود
وبدل الأنا والأنانية، فإنه لا وجود في شرع وفي أخلاق الاحتفالية والاحتفاليين إلا للنحن الجماعية والمقتسمة، وهي التي أعطت للتلاقي المسرحي كل ذلك البهاء
ولقد حضرت في احتفالية الأمس كل المسائل الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية الصادقة، وقد كانت كل المعاني الجميلة والنبيلة الصادقة حاضرة في احتفال مسرحي بعنوان ( احتفال الجسد) والذي اقترحه علينا الكاتب والناقد والمنظر الاحتفالي الدكتور محمد الوادي، وتولى ترجمته مشهديا وركحيا المخرج والممثل سعيد الخالفي، وترجمته حركة وأداء ورقصا وغناء مجموعة من الممثلين البارعين والصادقين، ولأنهم كانوا مستمتعين بأدائهم في المسرحية، فقد اقتسموا معنا لذة الاحتفال ومتعته بسخاء كبير جدا
وفي (احتفالية الجسد) حضر الجسد الحي، وبداخله حضر معه روح الإنسان وروح المكان وروح الزمان، وروح قضية الإنسان، وبغير هذا، فهل كان ممكنا أن نتحدث عن احتفال عيدي حقيقي؟ احتفال صادق غني بالحياة وبالحيوية، وبالأضواء وبالظلال وبالأشكال وبالحركات، وبالأزياء وبالأقنعة
لقد كنا في تلك الأمسية ضيوفا على محترف مسرحي قدم إلينا من مدينة سلا، والذي هو محترف الخيال، وحيثما يكون الاحتفال تكون الحرية، ويكون الخلق والإبداع، وتكون العفوية والتقائية، ويكون السفر إلى العالم السحرية، البعيدة والخفية والعجيبة
رجل هو، وامرأة هي، جسدان اثنان وثالثهما القضية، هو قيس المجنون، وهي ليلى العامرية، هما اسمان اثنان ترددا كثيرا في هذا الاحتفال المسرحي، واختزلا كل قضايا الإنسان العربي المعاصر والحديث، مما جعل هذا الاحتفال يخاطب فينا كل حواسنا، ويخاطب وجداننا، ويخاطبا عقولنا المفكرة، ويخاطب خيالنا ول وعينا
المسرح (و) والتراث والحياة
المسرح والتراث، هكذا نقول ونكتب ونردد دائما، ونحن نفترض دائما، من حيث ندري أو لا ندري، وجود إشكالية لا وجود لها إلا في عقول بعض النقاد والباحثين، في حين أن علاقة الإبداع بالتراث، هي أبسط مما يمكن أن نتصور، لأنها علاقة المبدع بذاكرته وبثقافته وبوجدانه وبوعيه الجمعي، ولا أعتقد أن شكسبير، وهو يكتب مسرحياته من التاريخ المصري أو الدنماركي أو أو الروماني أو الإيطالي أو من التراث الإنساني العام والشامل، كان يقصد نفس ما نعنيه اليوم، والذي هو التعامل مع هذا التراث تعاملا ماديا يتعلق بوجود جسدين مختلفين لحد التناقض والتنافي، أي وجود جسد الإنسان المبدع ووجود جسد الإبداعات والتصورات والتخيلات التراثية، أو أن يكون بمعنى توظيف التراث أو بمعنى مسرحة التراث، أو بمعنى اقتباس التراث أو اختلاسه من السادة الموتى، أو أن يكون بمعنى تحيين هذا التراث، ونقله من ماض كان، إلى حاضر كائن وممكن، أو أن يكون بمعنى تثوير هذا التراث، وذلك بالسب ة للذين يفترضون أن هذا التراث رجعي وتخلفي وساكن وجامد وميت ومتحفي ومحنط، ومن واجبنا اليوم، ونحن نتفاعب، إيجابا أو يلبا مع هذا التراث أن نتساءل:
ــ كيف نتصور أن يكون هذا التراث جامدا وميتا، وقد شعل البلاد والعباد، وحرك العقول والنفوس والأقلام، وأسال أنهارا وبحارا كثيرة من المداد، ذلك وعلى امتداد عقود طويلة من القرن العشرين بشكل خاص؟
ــ وهل استطاع هذا التراث، أن يحيا، في النفوس والعقول والأرواح، وأن يصل إلينا اليوم، لو لم تكن به نسبة معينة من الحياة والحيوية ومن الحق والحقيقة ومن الحركة ومن الطاقة الحيوية المحركة داخله؟
ــ وهل يمكن أن نقفز على حقيقية أن الحقيقة ـ في معناها الحقيقي ـ لا يمكن أن تكون حقيقة مرحلية وموسمية، وذلك داخل زمن محدد، وفي مجال جغرافي محدود، وأن صلاحيتها مثل صلاحية المواد الغذائية والطبية ـ في الدكاكين والأسواق ـ هي صلاحية محدودة ومحدد؟
وهل هذه الحقيقة، وهي في جسد التراث والتاريخ والإبداع الفكري والأدبي والفني، يمكن أن يفسدها لزمن، وأن يلحقها البلى، وأن تفقد فعلها وفاعليتها وقوتها وعنفها وقدرتها على الإدهاش وعلى الإقناع والإمتاع؟
إن التراث الإنساني الحي، في الأجساد والأرواح الحية، وفي المراحل التاريخية الحية، هو دائما تراث إبداعي متحرك ومتجدد في الزمن الجديد والمتجدد، وهو لا يعترف بالحدود الإدارية، ولا بذلك التقطيع المتعسف الذي يرتكبه المؤرخون والدارسون، والتراث الإنساني الحقيقي هو ذك التراث الذي العابر للتاريخ والعابر للجغرافيا والعابر للثقافات والعابر للغات، والذي أثبت من خلال إغراءاته وغواياته وسحريته أنه حي، وبهذا فهو لا ينتمي إلى وجهة نظر معينة خاصة، ولا إلى حقبة تاريخية عبرت مع أجساد عابرة، ولا هو صيحة كانت، ولا هو موضة قالت قولها وانتهت إلى النسيان، لأن التراث الحقيقي هو فيض الأرواح، وهو ظل العبقرية الإنسانية، وبهذا ينتمي إلى الحقيقة المطلقة، والتي هي حقيقة الأمس وحقيقة اليوم، وحقيقة الغد، وحقيقة كل زمان ومكان
وهذه الحقيقة، بقوتها الجديدة والمتجددة على الإقناع الفكري، وعلى الإمتاع الوجداني، أليست ثورية؟ ثم أيضا، من قال لنا بأن هذا المسرح، مسرحنا، هو نفسه اليوم لم يصبح تراثا إنسانيا مشتركا؟
ومن قال بأن هذا التراث يمكن أن يحتاج لمن يتعامل معه من خارجه، أو لمن يوظفه توظيفا تربويا أو توظيفا تجاريا سياسيا أو توظيفا دينيا أو توظيفا انتهازيا؟
وبهذا يكون قولنا ( المسرح والتراث) بعيدا جدا عن الصواب، لأنه يفترض وجود شيئين مختلفين، مع أنها شيء واحد، وكل المسرح الإنساني والكوني، من إسخيلوس اليوناني إلى أحدث كاتب معاصر، موضوع أخذ من النقاد التراث والباحثين والدارسين العرب
للامادي، في الفنون والآداب، ماذا يني وماذا يفيد؟
بالتأكيد هو ليس شيئا من الأشياء، وليس سلعة من السلع، ونحن في الكتابة لا نستعيره، ولا نستأجره من أي أحد، أو من أية جهة من الجهات، هو ترثنا الإنساني الذي نقتسم عبقريته كلنا، ولا أحد يذهب إلى السوق ليشتري مثلا أو حكمة أو حكاية أو خرافة أو أسطورة أو ملحمة، لأن التراث الحي، والذي نحيا به وفيه لحد هذا اليوم، هو ذلك التراث الذي قاوم الزمن، والذي أثبت مع الأيام أنه صالح لكل الناس في أي زمان ومكان،
في كتاب ينتظر أن يصدر، يسألني د. محمد الوادي السؤال التالي
(العديد من المسرحيين العرب اشتغلوا على تيمات تراثية، وخاصة الأعلام الثقافية والفكرية، هل ها الاختيار استطاع تحقيق التواصل مع المتلقي العربي أم أنه لبى نزعات النخبة الفكرية والشرط النقدي والجمالي فقط؟
وفي الجزاب يقول الاحتفالي ( إن الكتابة عن الأسماء الكبرى، سواء في التاريخ أو في الآداب أو في العلوم والفنون، ليست مطلوبا لذاتها) كما هي هذه الأسماء في إطارها التاريخي (لأن الأساس في هذه الأسماء هو قوتها الإيحائية وهو قوتها الاقتراحية، وهي في المسرح مجرد أدوار، أو هي مجرد أقنعة) أو هي مجرد أزياء في كرنفال أو في حفل تنكري، والمهم إذن، أو الأهم، هو ما خلفها، وهو ما تعنيه) والكاتب المسرحي ليس مؤرخا، وليس إعلاميا، وما يكتبه دائما ليست كتابات وصفية، وليست تقارير، ولكنها إبداع جمالي حر، إبداع فيه شيء من روح الكاتب، وفيه ذاكرته وذوقه، وفيه أحلامه وتخيلاته، وفيه رؤيته للعالم، وفيه ثقافته، ويه لمسته الجمالية، والمسرحية أساسا هي حلم بأعين مفتوحة، وأجمل كل الأحلام هي الأحلام الصادقة، والتي يعرف الكاتب كيف يحكيها ويرويها، وكيف يترجمها ترجمة أمينة وبليغة، وأية مسرحية من المسرحيات لابد أن يكون له شكل خارجي، وأن يكون لها روح خفي ومضمر، والعاقل هو من يبحث في جوهر المسرحية، وأن يستدل بعناوينها البرانية على خفاياها الجوانية، والأساسي والجوهري في أيد مسرحية هو (ما توحي به، وما تقترحه من معاني ومن قيم ومن حالات ومن مقامات ومن مواقف، وامرؤ القيس في المسرح ليس هو نفسه امرؤ القيس في التاريخ، وابن الرومي في الأدب ليس هو ابن الرومي في المسرحية أو في القصيدة الشعرية، كما أن جحا في الحكي الشعبي ليس هو جحا في المسرحية، نفس الشيء يمكن أن نقوله عن ابن رشد وعن السندباد وعن شهرزاد وعن الحلاج وعن عيشة قنديشة وعن لونجة وعن زرقاء اليمامة، أو عن غير هذه الأسماء)
فالمسرح، باعتباره لغة دقيقة ومركبة ومعقدة، فإنه يعتمد أساسا على الصورة وعلى الاستعارة، وعلى ترجمته المقول اللفظي إلى منظور بصري، وعلى ترجمة المعاني المجردة إلى أجساد ومواقف وحالات وشخصيات إنسانية حية، ونعرف أن (الاستعارة المسرحية تستوجب وجود كثير من الأسماء، وذلك حتى لا نسقط هذا المسرح في الخطابية وفي التقريرية، ومن طبيعة هذا المسرح الحي، هو أنه فن وعلم تجسيد المعاني المجردة في أجساد، وهو فن وفكر تشخيص المعاني والقيم في شخصيات مسرحية حية، وعندما نقول عنترة مثلا، فنحن نقول البطولة والشجاعة، وعندما نقول حاتم الطائي، فإننا نعني الكرم، وعندما نقول جحا فإننا نقصد الحيلة، والمسرح أساسا هو لغة سيميائية، والأساس فيها هو العلامات والإشارات والرموز والدلالات والإيحاءات، وكل المسرح اليوناني العظيم اشتغل على تيمات تراثية، نفس الشيء يمكن أن نقوله عن كل المسرح العالمي، وحتى بريشت، رغم ثوريته، قد اشتغل على تيمات تراثية في ( دائرة الطباشير القوقازية) وفي ( الروح الطيبة في ستشوان) وحتى ألبير كامو وجان بول سارتر ويونسكو، وهذا هو قدر المسرح، أن يقوم على التغريب بحثا عن تحقيق التقريب، وحتى يمكن أن ترى اللوحة المعلقة أمامك على الجدار،بشكل أفضل، فينبغي أن ترجع خطوات إلى الخلف، وأن تتأملها عن بعد، أما من يراها عن قرب، فيراها مجرد قماش، ومجرد أصباغ ولا شيء غير ذلك)
نحن التراث في المسرح كما في الحياة
ومن بوابة كل هذه الاستعارات المسرحية، والتي يحضرها الخيال، وتسكنها الأحلام، وبؤطرها الحس السوريالي والفنطازي، ويوجهها الحدس الصوفي بشطحاته الغريبة والعجيبة، استطاع المسرح العالمي المعاصر أن يكون حقيقيا في جوهره، وذلك بدل أن يظل واقعيا وطبيعيا في لغته الوصفية وفي تركيبته البرانية الواقعية
وهذه الشخصيات التي نكتب عنها، ونمسرحها، هل هي نفسها الموجودة في التاريخ وفي الأدب والعلوم؟
وجوابا على هذا التساؤل يقول الاحتفالي ( إنني أنا الكاتب المسرحي، محكوم بأن أعيش التعدد في الواحد، وأن أحيا حياة مزدوجة ومركبة ومتجددة الحالات والمقامات، إنني أعيش حياتي الخاصة، ومعها أعيش حياة شخصياتي المسرحية أيضا، وان وجود حياة بهذا العمق وهذا الغنى هل يمكن فهمها بسهولة؟لا أظن.. إنني أعيش في اليقظة الحالمة دائما، وأحلم في الليالي المضاءة بأنوار الشمس وبأضواء النفس والمتلألئة بسراج الروح المتوهجة والمشعة بقناديل الخيال والاحتفال، تماما كما أن شخصياتي المسرحية ـ والتي هي ظلالي الفكرية والروحية ـ تخرج عادة من رحم ظلمتها الحالكة إلى النور، وتخرج من عدميتها إلي الوجود، كما أنني أنا الكاتب الحي لا أحيا إلا في الأحلام الحية والواقعية والحقيقية، وعند نقطة عليا بين الليل والنهار ألتقي بهذه الشخصيات عادة، وتقع هذه النقطة عند مفترق الأشياء، وتقع عند ملتقاها أيضا، وهي تنتمي بهذا لفضاء شعري وسحري بالضرورة، فضاء فوق واقعي وفوق طبيعي وفوق حقيقي، وهذا الفضاء الآخر لا يمكن أن يكون إلا ليلا، وفي هذا الليل تولد الأرواح، وتخرج الأشباح وتتحرر الكلمات والعبارات، وتتعدد صور الناس وصور الأشياء)
وفي تقديمه لاحتفالية ( قراقوش الكبير) والتي هي ثنائية مسرحية تتألق من ( قراقوش حلاقا) و( قراقوش مفكرا) يقول الكاتب الاحافالي
( شيء مؤكد أن بهذا القراقوش نسبة معينة من الشخصية التاريخية عماد الدين قراقوش، وذلك كما عرق قي مصر في عهد الدولة الأيوبية، وفيها أشياء أخرى من تلك الشخصية الكاريكاتورية كما رسمها ابن مماتي في كتابه ( الفاشوش في حكم قراقوش) وفيها أيضا، ملامح كثيرة من الشخصية الظلية قره قوز التركي، وما يهمني في هذا الاحتفال المسرحي ليس هو الشخصية التاريخية، ولا هو تلك الشخصية الغريبة والعجيبة والحمقاء، والموجودة في المخيال الشعبي العربي، لأن الأساس في الفعل الإبداعي أنه أساسا عملية كيميائية وسحرية، وذلك لتفكيك الشخصيات والأحداث، ثم تركيبها أو إعادة تركيبها بشكل آخر مختلف، وبهذا فقد ظل التاريخ حاضرا في هذه الاحتفالية، وذلك باعتباره خلفية فقط، أما ما سوى ذلك، فكله من تمثلات هذا الحاضر الآن هنا )
0 التعليقات:
إرسال تعليق