مونودراما "زَيْزَفْ" سيرة وشجن شعري
مجلة الفنون المسرحية أ.د جميلة مصطفى أزقاي
الأكاديمية الجزائرية الشهيرة .. والناقدة المسرحية القديرة
تشي مونودراما "زَيْزَفْ" بمشاعر إنسانية عالية تنبع من علاقة الكاتب بأمه الذي عاد الحبل السري ليتوطد بينهما بعد مغادرتها للحياة، أو لنقل لم ينقطع أبدًا بالرغم من أخاديد الزمن ومن صروف الدهر وظروفه. عادل البطوسي المبدع الشفيف الروح الذي ينضح أصالة معتقة بكريم الخلق وبياض السريرة ورقي التعامل الذي يرتسم في معاملاته مع أصدقائه وخلانه، فما بالك بمن حملته وهنا على وهن، فتابع حركاتها في السر والعلن، ووقف يرصد تفاصيل حياتها البسيطة التي صارت ملحمة بلازماتها المتكررة الخالدة بفضل ابنها المبدع ذي الخيال الخصب.
النص توأمة بين أدب السيرة وهو "سؤال الذات من أنا والكينونة: من أكون؟ يتلازمان بل بهما يتحقق الوجود الكامل للانسان..." ونص يبدو أحادي الصوت ظاهريا، لكنه في الحقيقة تتجاذب نسيجه شخصيات متعددة أخرى. هي الأنا التي تنشطر إلى ذوات فاعلة بلورت وصقلت الانا في أدق ما تتسم به من طبائع وسمات وما يصدر عنها من أفعال وما تصانع فيه من أحداث مؤثّرة حينا وصادمة حينا آخر، وهذا ما يصنع بنزين النص الدرامي فيهبه الايقاع المطلوب. وهو بذلك ناقض قول بعض النقاد الذي مفاده أن الواقع المعيش لا يصنع إبداعا، إلا أن المبدع عادل البطوسي بحسه المرهف وعواطفه الجياشة نقله فتفنن في ديباجته راكبا الصعوبة التي يراها البعض استحالة. بخاصة إذا تعلق الأمر بالمونودراما الشعرية التي لا ينذر وجودها إلا بسبب صعوبة كتابتها بل حتي أدائها.
إذا تعلق الأمر بأدب السيرة والمونودراما فهي الذات للذات قرينة ورفيقة تستأنسان معا في قناة سرد غير عادية، قناة تمتطي صهوة السرد الشعري لتحاربه بحد السيف حتى لا يجد نفسه مفتقرا لدراميته وقد كسته السردية وسلبته الإيقاع الدرامي المتوثب الذي من شأنه أن يشد القارئ من عرقوبه شوقا لمتابعة الأحداث فوق الخشبة. المونودراما الشعرية تسير بين إيقاعين إيقاع الشعر بأوزانه وتفعيلاته وبحره الخبب، وبين إيقاع البناء الدرامي الذي يلزم النص من بدايته إلى نهايته مثلما يساير وتيرة العرض فوق الخشبة بحسب باتريس بافيس. ذلك أن الحدث هو الجامع لعديد الأفعال لذلك يراه جورج لوكاش "ملتقى لتلك الأفعال المتبادلة والمتشابكة في حياة الإنسان" وتلك الافعال هي التي تحيك نوطات الإيقاع بنوعيه شعرا ودراما. مع العلم أن تمثيل الحدث حتى لغويا "لا يتاتى إلا من خلال مجموعة من الأفعال أو ما يتضمن معناها من مفردات مشتقة ستشكل بدورها الجملة السردية المجسدة للحدث بحركيته وفاعليته". لكن المبدع لم يسمح لسردية أدب السيرة أن تجثم بثقله على كنف المونودراما الشعرية التي تراقصت خفة وتناغمت مع معنائية تلك الوظائف التي حددها رومان جاكبسون في دراسة الجمل السردية مجتمعة وهي الوظيفة الانفعالية التي تعني المرسل/ المبدع، والوظيفة الإشارية او الشعرية التي تعني الرسالة وهو نص المونودراما والوظيفة الطلبية التي تعني القارئ. وتلك الأحداث التي كانت الأم الموناليزا العربية هي محورها، وقد أحاطت نفسها بتشكيلة من الأحداث صنعت حبكة تنم عن خبرة الكاتب في نسجها شعريا بتمكنه من خيوطها الرفيعة التي بقي وراءها مختفيا حتى لكأنك تحس أن الأم هي الكاتب, وهذا ما أراده المبدع ... أن تنسكب روحه بمكامنه حتى وإن تشظت نفسه فداء لأمه وحفاظا على لملمة أشلاء نفسها التي هي في الحقيقة أشلاؤه وانشطاره بين أناه، والأنا التي وهبته إكسير الحياة ورونقها.
ولئن كان النسق المونولوجي نسقا أثيرا في السرد النسوي على اختلاف تمظهراته النصية، فإنه في هذا النص فاز بسيادة الصوت المونولوجي وهيمنة الروي الداخلي عليها؛ حيث كان الكاتب متكفلا وملما بشخصيته البطلة التي ملكت روحه وتربعت بفؤاده، وقد نفى المقولة السابقة جاعلا السرد النسوي لا ينفرد بها، لانه اختار الشعر النثري ديدنا لينفس به عن أرزاء نفسه العليلة بتلك الأوجاع التي خبرها منذ صغره بقرب أمه وكأنه يتابع شريطا تمنى ألا يكون واقعا وبخاصة حدث إصابة الجدة بمرض السرطان.
لم تترفع مونودراما "زَيْزَفْ" عن تناصها الشعري مع نصوص أخرى تعلق بأثوابها الناعمة دون قصد منها لأن الكاتب نهل من ينابيع الشعر العربي العمودي الذي ملك عليه صنعته الشعرية، فلما ألم به ما الم بملك المعلقات امرئ القيس راح ينشد جملة شعرية من رائعته اللامية الخالدة "أرخى سدوله" فضمن نصه الجملة الشعرية التي توائم ما الم به من خطب ونصب "فقده لامه".
والملفت للانتباه في هذا النص هو ذلك التكرار الشعري الذي حدث على مستويات عدة حرفا وفونيما وفعلا وإسما وجملة، وذلك لانه يؤكد المعاني ويشحذ العواطف والأحاسيس ويسهم في جمالية الموسيقى الخارجية لنص المونودراما الشعرية ومن ذلك قوله:
وتهدر تهدر كالبركان – أبكي وأنوح ..أنوح وأبكي – لا لست أصدق .. لست أصدق لا – مازالت نائمة.. ما زالت ما....
وناهيك عن عدم التزامه بالترتيب الأصلي لتشكيلة الجمل، حيث عمد إلى تقديم ما حقه التأخير مثلما حدث في الأمثلة السابقة، وقد أذكى ذلك شعرية النص التي بدت لآلئها منذ البداية كالنجم الثاقب، ومرد ذلك إلى الصور الجميلة التي كانت استهلالا ينضح جمالية وسحرا بتقاسيم المرأة العربية الأصيلة التي طالما تغنّى بها الشعراء خلسة وجهرا. مع العلم أن جمال الصور تناسل عن جمال ذلك الكائن الأسطوري الذي يضاهي بينلوب وبلقيس وزنوبيا وغيرها ...
هذا وقد توشت المونودراما الشعرية بحشد من الوصف الدقيق الذي نجم عن حرفية الكاتب في الوصف والتوصيف لأعز كائن يسّر عليه ركوب الإبداع، وقد ألهمه أسراره وسلمه مفاتيحه، فنراه يستعين بعدد من التشبيهات والمجازات التي تشابكت لتشكل معاني من جسم معاني أخرى مقدمة أروع الصور المركبة التي تراها بذاكرتك الصورية على الورق قبل أن تتفنن الكتابة الثانية في تجسيمها وتجسيدها فوق الخشبة. وكلها تشبيهات تمثيلية مركبة يتعدد فيها كل من المشبه والمشبه به لينتزع وجه الشبه من متعدد شحذ وتيرة الجمالية. كما أن التشبيهات البليغة تعاضت مع التمثيلية لتحيك صورا شفافة تستجلي الحقائق الموجعة وتخلق من الشجن والمعاناة جمالا غير متوقع وهنا تكمن براعة التعبير الدرامي المدهش والمثير.
يسع القول في نهاية هذه القراءة المختزلة أن القارئ لمونودراما "زَيْزَفْ" إضافة إلى استمتاعه بالبني الفاعلة والمؤسسة لنبض الشعر وقوافيه، فإنه يعض على النواجذ لأنه يدرك مدى تقصيره في حق أمه لأن الكاتب بنى لها بيتا من ذهب وألماس، وقد أجلى أن هذا الحب الماتع والممتع إنما استورثه من حب أمه لأمها، فأنعم به ميراثا ينبغي أن يرصف عقدا بجيد كل الأمهات. ولن أختم إلا بما ملأ علي روحي وأنا أرتشف من عبق هذه التفعيلات والقوافي التي وهبتني إشراقا والقا وعشقا صوفيا لهذا الكائن الذي يحترق تضحية من أجل فلذات الكبد وتهون عليه نفسه فيقدمها قربانا لها، ولذلك أسكنها الشاعر المبدع الفردوس الأعلى إذ يقول :
الأم الطيبة العذبة من سكان الجنة
إني أثق بذلك .. فهي تهنأ بالفردوس الآن
فقد كانت أنقى من بوح النساك وأطيب من كل يمامات البستان
كانت أرقى من ألق الوردة وأرق من العصفور الصادح فوق الأغصان
كانت أبهى من نوار الحقل وأجمل من كل طيور الشطآن...
مونودراما "زَيْزَفْ" سيرة عبقة تختزل بواطن علاقة الإبن بأمه، الإبن البار الذي لا يستسيغ الحياة بدونها بالرغم من إيمانه الراسخ بحتمية الفراق وفناء الأجساد. ألبس الشاعر نصه حلة شعرية كان فيها للموسيقى الداخلية نصيبها المعتبر دون أن يهتك البناء الدرامي للنص الذي كان تصاعديا. والجميل في هذا النص هو ذلك التماهي بين ثلاثة أجناس تفنن الكاتب في الجمع بينها وهي "الشعر وأدب السيرة والمونودراما" فأبلى بلاءً حسنًا إذ لمّ شملهم في خدمة الموناليزا العربية "أمه" فوهبها الحياة والخلود بعد أفول نجمها ...
أ.د جميلة مصطفى أزقاي ـ الجزائر
0 التعليقات:
إرسال تعليق