الاحتفالي والبحث عن أعز ما يكتب (27 )/ د.عبد الكريم برشيد
مجلة الفنون المسرحية
الاحتفالي والبحث عن أعز ما يكتب (27)
فاتحة الكلام
بالأمس وقبل الأمس كان الكاتب الحالم برشيد في مدينة برشيد، وقبل ذلك كان في مدينة مراكش، وقبلها كان في مدينة الجديدة، ومنها كان يطل عشية كل يوم على المحيط الأطلسي، وعلى شمس الله وهي تغرب عندنا وتشرق عند الآخرين، وكان ضروريا ان يقول للذين يقتسمون معنا نفس الجفرافيا مساء الخير، وأن يقول للذين تشرق عندهم شمس الصباح صباح الخير
وفي مراكش الحمراء، والتي انطلقت منها الحركة الاحتفالية، كتبت مقالة يوم فاتح ماي، والتي كانت احتفالا بعيد العمل، وكانت احتفاء بكل عمال العالم، سواء الذين يشتغلون بسواعدهم، أو الذين يشتغلون بوجدانهم وبنفوسهم وبمخيلاتهم وبأرواحهم، ولقد تمت تلك الكتابة بمقهى بني يزناسن بطريق آسفي، وذلك في صبيحة يوم لا يشبه كل الأيام التي سبقته
وانا بمراكش، جاءني نعي واحد من أصدقاء الطفولة، والذي هو إدريس ابو شيار، والذي كان شاهدا على عشقي للحرف العربي وعلى عشقي للفنون المشهدية، ولقد نقل الي الخبر الحزين والمفجع اخوه الشاعر البركاني الكبير الأستاذ عبد العزيز ابو شيار، وكان لابد أن استعيد لحظات هاربة من زمن هارب، ومو غير أن ادري، وجدت نفسي في نفس موقف الشاعر الجاهلي الذي كان يقف على الاطلال، ليجد ان المكان مازال هو نفس المكان، ولكن الزمن تغير، والأهل والصحاب لم يعد لهم وجود
وفي علاقته بهذا الزمن يقول الاحتفالي ( ويقولون لي بان الوقت سيف، وبأن عليك أن تمسكه من مقبضه، وإلا جرحك وادمى يديك، وسألت عن ايام الفرح وسويعات السرور، فقالوا بانها تسرف من بنك الزمن، وانها تختلس اختلاسا، وبأن السرقة فعلا حرام، ولكن، يستثني من هذا الحرام شيء واحد اوحد، والذي هو سرقة اللحظات الممتلئة بالحياة والحيوية وبالجمال والجمالية وبالصدق والمصداقية
وفي هذا المعنى يقول ذو الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب
يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى او خلسة المختلس
وبحسب الاحتفالي فإن المكان غير الزمان، وان(من طبيعة هذا المكان انه ليس وعاء فارغا ومحايدا، خصوصا عندما نلتحم به لدرجة التماهي والحلول الصوفي فيه، ولحد ان نعيش فيه، وأن نحلم فيه، وان نكبر فيه، وأن نحتفل فيه، وأن نعيد فيه، وأن نصبح نحن هو وهو نحن، وعليه، فإنه عندما نهجره مرغمين ومكرهين، بحكم سلطان الطبيعة وسلطتها، فإننا بالتأكيد نترك فيه اجزاء منا، وبهذا نعيش التمزق والغربة والمنفى، ونترك في كل مكان شيئا منا ونمضي)
وَهذه الرؤية الاحتفالية للوجود، في بعدها الكوني العام، وكما جاء ذلك في كتاب ( التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث ) فإنها ( الأساس الذي انتج الشعر الاحتفالي عند طاغور وعند المتنبي والحاج وعند ابن الفارض وصلاح عبد الصبور، وهو نفسه الأساس الذي انتج المسرح الاحتفالي عند غارسيا لوركا وعند جورج شحادة وعند اندريه شديد وعند غيرهم من الشعراء ومن كتاب المسرح)
كتابة غنية في مشروع غني
إن الأصل في هذه الكتابة، هو أنها كتابة شاعر يتأمة الوجود، ويتأمل شعرية الحياة، ويتأمل شعرية الفنون، وكيفما تحركت هذه الكتابة،، ومهما حلقت وابتعدت، ومهما تعددت وتنوعت أساليب الشطح فيها، فإنها لا يمكن أن تحلق إلا في السماوات الاحتفالية والعيدية
، الكائنة والممكنة معا، وهي لا تنطلق، ولا تبتعد، ولا تغيب، إلا من أجل أن تحضر، وأن تعود بعد التحليق إلى هذه الأرض الاحتفالية أيضا، وتعود إلى مناخها وزمنها، وهي لا تتغذى ـ فكريا و جماليا وأخلاقيا ـ إلا بالغذاء الاحتفالي، والذي هو غذاء الحرية والتحرر، وهو غذاء الإنسان والإنسانية، وهو غذاء المدينة والمدنية، وهو غذاء الحياة والحيوية، وهو غذاء الجمال والجمالية، وهي لا ترى هذا العالم، ولا تحياه، ولا تتمثله، إلا من خلال رؤية عيدية واحتفالية صادقة وناطقة، رؤية مضاءة بكل الأنوار السحرية، وملونة بكل الألوان الطبيعية، ومفتوحة عن آخرها، على كل عوالم هذا الكون، وهي في أصلها وفصلها رؤية إنسانية وكونية شاملة، فلا هي شرقية فقط، ولا هي غربية بشكل مطلق، وهي رؤية مركبة تتعدد فيها الألوان، وتتقاطع فيها الأشكال، وتتعايش فيها الأجساد والظلال، وتتحاور فيها الأصوات والأصداء، وتتكامل فيها الأجساد الحية والجامدة معا، وتنطق فيها كل الموجودات بلغة الوجود، وتنطق فيها كل عناصر الطبيعة بلغة الطبيعة الحية/ وهذه اللغة، الما فوق طبيعية، لها في الاحتفالية اسم واحد، والتي هي اللغة الفردوسية
ولعل أهم ما يميز هذه السماوات الاحتفالية هو أنها عالية وغالية وغنية جدا، ولو لم تكن كذلك، فهل كان ممكنا أن تكون بهذا السحر وبهذه الشعرية وبهذه الغرابة وبهذا الإدهاش وبهذه القدرة على التحدي والتصدي؟
أما أرض هذه الاحتفالية ـ المشروع ـ أو أراضيها ـ فإنها لا يمكن أن تكون إلا صلبة وثابتة، وفي فعل ذلك التحليق، المجنح إلى الأعلى والأسمى، يحضر الخيال الغني والفياض دائما، وفي هذا الخيال يحضر شيء من الواقع والوقائع، وتحضر أشياء كثيرة جدا من الحقيقة العارية والشفافة، وبذلك يكون عالم الكتابة أعمق أصدق، ويكون أحق بأن نعيشه ونحياه من عالم يوم..
في هذه الكتابة المعيدة، والمحتفية بالجمال والخيال، لا تهم الاحتفالي المعلومة في ذاتها، تسألون لماذا؟ أقول لكم لماذا لأنه ـ وبكل بساطة ـ يعتبر أن كل معلومة لا تؤسس علما جديدا ليس لها معنى، هذا أولا
وثانيا؟
وثانيا، فإنني أعتبر أن كل فكرة لا تؤسس فكرا لا يعول عليها
وبحسب الاحتفالي، فإن كل مسرحية، كتابة كانت، أو عرضا مسرحيا كاملا أو متكاملا، لا تبني مسرحا، أو لا تساهم في تفعيل حركة مسرحية واسعة وعريضة، ما هي إلا فعل سطحي وظرفي وعابر في زمن عابر، وكل كتابة لا تؤسس تاريخها المستقبلي، فإنها لا يمكن أن تكون كتابة حقيقية
وعليه، فإن ما أطمح إليه عادة، من وراء المخاطرة في فعل الكتابة، ليس هو أن أكون رجل إعلام، وأتصيد المعلومات، ولكن، أن أكون رجل علم ورجل فكر ورجل فن ورجل ثقافة، وقبل هذا وذاك، أن أكون رجل مواقف مبدئية ثابتة وراسخة ومتجذرة في أرضها وفي تربتها وفي لغتها وفي ثقافتها وفي سياقها التاريخي والجغرافي والحضاري
إنني أعيش، أنا الاحتفالي الشاعر، ومعي مشروعي الفكري، داخل عالم يزخر بالوقائع والأحداث، وإذا كان هناك من يكتفي بصور ومشاهد هذه الأحداث وخيالاتها، ويكتفي بالوقائع الواقعية، فإن ما يهمني ـ بالدرجة الأولى ـ هو معنى هذه الأحداث والوقائع، وهو روحها وفلسفتها، وهو محركها وطبيعة حركتها، إنني كائن ثقافي تاريخي.. هكذا أعرف نفسي، وهكذا يمكن أن أعرف بها، إنني أنا الكاتب الثقافي المفكر أعيش في التاريخ الثقافي، وأكتب على ألواحه كتابة صادقة وحية، وكل كتاباتي التي ( كتبت) قد انكتبت بوحي من هذا التاريخ، وإنني أحرص دائما على ألا يخدعني مكر هذا التاريخ، وألا يشغلني المظهر الخارجي عن المضمر الخفي، وما يهمني أكثر، في هذه الكتبة، ليس هو هذا التاريخ، كوقائع وأسماء ومواقع وتواريخ وناسبات، ولكن.. هو روح التاريخ، وعن سر هذا الروح، أو عن أسراره الخفية أسال وأبحث دائما..
المندهش في المشروع المدهش
في حياة هذه الكتابة الحيوية إذن، تنكتب الحروف والكلمات بشكل عفوي وحيوي، وتتأسس العبارات، وتولد المعاني، وتتشكل عناصر الدهشة أمام غرائبية الأشياء، وأمام عجائبية الصور، وأمام سحر المشاهدات، وتتأسس المماليك الأسطورية والخرافية الجديدة والبعيدة.
وفي هذه الحياة ـ حياتنا دائما، توجد تضاريس وجدانية وفكرية مركبة ومعقدة ودقيقة جدا، وفيها أحوال نفسية متقلبة ومتجددة، وفيها انتصارات وانكسارات، وفيها منعطفات ومنعرجات، وفيها مرتفعات ومنحدرات، وفيها جزر وخلجان، وفيها مدن وأوطان، وفي شعابها ودروبها توجد علامات وإشارات كثيرة، بعضها معروف ومألوف، وأغلبها غامض وملتبس، وبذلك فهي تستعصي على القراءة البرانية، وتستعصي على الرؤية العامة والسطحية.
وشيء مؤكد، وبحسب المشروع الاحتفالي طبعا، فإنه لا وجود لحياة واحدة بسرعة واحدة، ولا وجود لعمر لا يتحرك، ولا يرتقي إلى الأعلى، أو إلى الأسفل دائما، ولا وجود لعيش لا يتخلله التوتر والمعاناة، ولا وجود لأجساد حية لا تخترقها الأخطاء والأعطاب والصدمات، وكثيرا ما تغتني حياة الكاتب المبدع بالتعدد والتنوع، وتتطهر نفسه بالقلق والتوتر، وتتجدد أعماره بالاحتراق النفسي والذهني والروحي، وما حياة الاحتفالي إلا سلسلة طويلة من المعاناة ومن الحيرة والشك ومن الاحتراق الوجداني والعقلي
وأعترف، أنا المغامر الاحتفالي أعترف، بأن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخيلها بعض المتخيلين، وذلك لأن من يبحث عن حياة حقيقية، بمثل هذا الغنى والامتلاء، وبهذا الاختلاف والتنوع، فإنه لا بد أن يتعب ويشقى كثيرا.. يشقى ماديا وجسديا بكل تأكيد، ولكنه في المقابل، يمكن أن يرتاح، نفسيا وذهنيا وروحيا، وأن يرضى عن نفسه، وأن ترضى عنه نفسه، وذلك هو الحال عندي الأن .. تماما كما قد يكون عند كثير ممن يحترقون بنار التأمل والكتابة، وبذلك يكون فعل الكتابة، وهو في درجة الصدق والمصداقية، هو .. أعز ما يطلب، وبهذا يكون كل ما نكتبه من كتابات وكل ما نبدعه من إبداعات حقيقية وشفافة وصادقة، هو لدينا أعز ما يكتب، وهو أعز ما يطلب، وهو أعز ما يمكن أن يصل إليه الواصلون
وأعتقد أنه لا أحد يمكن أن تفوته الحقيقة البسيطة التالية، وهي أن أعز ما يكتب، لا يمكن أن يكون ـ وبالضرورة ـ هو نفسه أعز ما يقرأ، وذلك لأنه لا وجود لقراءة نموذجية واحدة، ولا وجود لقارئ نمطي واحد، ولا وجود لنظام مدرسي واحد في القراءة، وأعتقد أنه لا يمكن أن نختلف حول الصورة التالية، وهي أن الأجساد والأرواح والأشياء، في هذا العالم، لا تبحث إلا عما وعمن يشبهها، فكل كتابة تبحث عن قارئها الافتراضي، وكل قارئ يبحث عن كتابته الممكنة، ولا شك أن هذه الكتابة الاحتفالية لها بين الناس أهل وأحباب، ولها أصدقاء ورفاق، ولها أرواح ونفوس تلتقي وإياها عند نقطة ما في دروب المعاني والأفكار والمواقف.. ولهذه الأرواح والنفوس التي تشبهنا ونشبهها، ينبغي أن نكتب اليوم، تماما مثلما كتبنا بالأمس، وتماما كما سوف نكتب غدا وبعد غد، ويمكن أن نقتنع أيضا، بأن نصف المعاني فقط موجودة في كتابة الكاتب، أما نصفها الثاني، فهو موجود في صدر رفيقنا وشقيقنا القارئ .. أي ذلك القارئ العالم والفاهم والصانع والمبدع، والذي لا يمكن أن تكتمل الكتابة إلا به ومعه
إن أعز ما يكتب إذن، في هذا المشروع الاحتفالي الموسع، هي تلك الكتابة الأخرى؛ الغائبة أو المغيبة أو المصادرة أو المقموعة أو الممنوعة أو المقرصنة أو المهربة، وهي الكتابة العالمة بكل تأكيد، والتي لها أرض صلبة تقف عليها، ولها سماء واسعة تصعد إليها، والتي لها أحلام مشروعة تراها بأعين مفتوحة عن آخرها، والتي لها طريق تختاره ويختارها، وتحاول أن تمشي فيه، خطوة بعد خطوة، ابتداء من بدايته إلى ما لا نهاية له، والتي لها غاية جميلة ونبيلة تتجه إليها، والتي لها قناعات واختيارات فكرية ووجودية ثابتة وراسخة، وهي التي لها أفكار مختلفة ومخالفة، وتحاول أن ترقى بهذه الأفكار الواردة والشاردة، وأن تحولها إلى منظومة أفكار، وأن تؤسس بها فكرا جديدا، وأن تكون قادرة على أن تنتج داخلها الأفكار المناقضة والمخالفة لها، وأن تعطي الفرصة لهذه الأفكار لأن تحاور بعضها البعض، وبدون كيمياء الأفكار والمعاني فإنه لا يكون لهذه المعاني أي معنى
جماليات الغموض في الكتابة الاحتفالية
إنني أعرف، وأعترف أيضا، بأن بعض ما يكتبه الاحتفالي غامض ومغلق، وهذا شيء لا يضايقني إطلاقا، لأن للغموض جاذبيته وسحره، وقد يكون السحر هو الغموض، لأنه يخفي روح الأشياء وروح المعاني، وأعرف أن البعض الآخر مما يكتبه الاحتفالي قد يكون غير مفيد، أو غير مثير، أو غير ممتع، أو غير صادق، أو غير جريء، أو غير مقنع، وفي عالم هذه الكتابة تلتقي وتتعايش كل المتناقضات، فهناك ما هو شفاف وهناك ما هو كثيف، وهناك حلو الكلام إلى جانب مر الكلام، وهناك كلام النهار، وإلى جواره نجد كلاما آخر هو كلام الليل .. وهذا الكلام الأخير لا يعول عليه، لأنه في النهاية، لابد أن يمحوه ضوء النهار، وكل ما لا يتجدد مع تجدد الأيام والليالي فإنه لا يعول عليه
إن الأصل في الكتابة أنها لا تطابق الواقع بالضرورة، فهي إما أن تكون أكبر منه، أو تكون أصغر منه، وأن تكون فوقه أو تكون تحته، ولعل هذا هو ما انتبه إلى السورياليون عندما دعوا إلى الارتقاء إلى ما فوق الواقع، وإلى ما وراء الوقائع.
(العالم فوضى إذن، واصبحت الكلمات تخونمعانيها، واصبحت الأسماء تتبرأ من مسمياتها، وأصبح الخفي في الأشياء أكثر خطورة من المعلن عنه)
إنني انا الاختفالي أكتب دائما، واتكلم احيانا، ولا اصمت إلا أذا كان الصمت أبلغ من الكلام، أو كان صمتي معناه الكلام الداخلي، أو كان حوارات هامسا مع الذات ومع النفس ومع الله، أو كان هروبا من ثرثرة بلا معنى، أو كان استغراقا في التفكير الصامت، في كثير من الحالات، قد يكون امتلاء، وليس فراغا او خواء، وقد يكون لغة أخرى مغايرة، ،لغة افصح من كل اللغات، وأكثر حياة من كل اللغات)
إنني، انا الإنسان الاحتفالي العاقل، أقف اليوم أمام فوضى هذا العالم، مستغربا ومتسائلا وحائرا، واقرأفوضى الأسماء واسميها، واقرا فوضى الأشياء واشير إليها واقرا فوضى العلاقات واسعى لتصحيحها، واقرا فوضى البنيات، من أجل تفكطكها وإعادة تركيبها بشكل جميل
هذا العالم لسنا نحن من صنعه، هكذا يقول ويكتب الاحتفاليون دائما، وهو فعلا كتلة واحدة، ولكن بزوايا لا حد لها ولا حصر، وكل واحد يمكن ان يرى هذا العالم من زاويه الخاصة، ان كان هذا العالم منحة من الله، فإن المنحة لا ترد، وأن كان محنة فما عسانا ان تفعل؟ وعليه، فإنه لا مسؤولية لنا في فساد هذا العالم، ولا نحن أيضا من اوجدناه ومن رسمناه، ومن ركبناه كما هو، لقد جئناه يوما، لحكمة لا نعرفها، ووجدناه كما هو، وإذا لم نكن قادرين على تغييره واستبداله، فما الذي يمنعنا من نقده ومن رفضه ومن فضحه ومن الضحك على حماقاته ومن الحلم ببديل له؟ وان يكون ذلك في الحلم على الأقل، وفي الخيال الصادق ايضا، وفي الفن الحالم، وفي العلم الحالم بكل تاكيد، وهذا هو الدور الحقيقي للعالم الفنان وللفنان العالم، اي ان يكون موجودا اولا، وأن يكون مناضلا وجوديا في الوجود بعد ذلك، وأن يكون مسافرا في مسيرة الحياة، وأن يكون ساخرا في مهزلة التاريخ وفي مهزلة الأيام والأعوام، وأن يعرف اللا معروف، وأن يضيء الجوانب المظلمة في الواقع وفي النفوس ايضا، وأن يرفع الحجب عنها، وأن يقرب الأشياء البعيدة، وأن يصح المفاهيم
الخاطئةوالمغلوطة،
كتابة غنية في مشروع غني
إن الأصل في هذه الكتابة، هو أنها كتابة شاعر يتأمل شعرية الوجود، ويتأمل شعرية الحياة، ويتأمل شعرية الفنون، وكيفما تحركت هذه الكتابة،، ومهما حلقت وابتعدت، ومهما تعددت وتنوعت أساليب الشطح فيها، فإنها لا يمكن أن تحلق إلا في السماوات الاحتفالية والعيدية
، الكائنة والممكنة معا، وهي لا تنطلق، ولا تبتعد، ولا تغيب، إلا من أجل أن تحضر، وأن تعود بعد التحليق إلى هذه الأرض الاحتفالية أيضا، وتعود إلى مناخها وزمنها، وهي لا تتغذى ـ فكريا و جماليا وأخلاقيا ـ إلا بالغذاء الاحتفالي، والذي هو غذاء الحرية والتحرر، وهو غذاء الإنسان والإنسانية، وهو غذاء المدينة والمدنية، وهو غذاء الحياة والحيوية، وهو غذاء الجمال والجمالية، وهي لا ترى هذا العالم، ولا تحياه، ولا تتمثله، إلا من خلال رؤية عيدية واحتفالية صادقة وناطقة، رؤية مضاءة بكل الأنوار السحرية، وملونة بكل الألوان الطبيعية، ومفتوحة عن آخرها، على كل عوالم هذا الكون، وهي في أصلها وفصلها رؤية إنسانية وكونية شاملة، فلا هي شرقية فقط، ولا هي غربية بشكل مطلق، وهي رؤية مركبة تتعدد فيها الألوان، وتتقاطع فيها الأشكال، وتتعايش فيها الأجساد والظلال، وتتحاور فيها الأصوات والأصداء، وتتكامل فيها الأجساد الحية والجامدة معا، وتنطق فيها كل الموجودات بلغة الوجود، وتنطق فيها كل عناصر الطبيعة بلغة الطبيعة الحية/ وهذه اللغة، الما فوق طبيعية، لها في الاحتفالية اسم واحد، والتي هي اللغة الفردوسية
ولعل أهم ما يميز هذه السماوات الاحتفالية هو أنها عالية وغالية وغنية جدا، ولو لم تكن كذلك، فهل كان ممكنا أن تكون بهذا السحر وبهذه الشعرية وبهذه الغرابة وبهذا الإدهاش وبهذه القدرة على التحدي والتصدي؟
أما أرض هذه الاحتفالية ـ المشروع ـ أو أراضيها ـ فإنها لا يمكن أن تكون إلا صلبة وثابتة، وفي فعل ذلك التحليق، المجنح إلى الأعلى والأسمى، يحضر الخيال الغني والفياض دائما، وفي هذا الخيال يحضر شيء من الواقع والوقائع، وتحضر أشياء كثيرة جدا من الحقيقة العارية والشفافة، وبذلك يكون عالم الكتابة أعمق أصدق، ويكون أحق بأن نعيشه ونحياه من عالم يوم..
في هذه الكتابة المعيدة، والمحتفية بالجمال والخيال، لا تهم الاحتفالي المعلومة في ذاتها، تسألون لماذا؟ أقول لكم لماذا لأنه ـ وبكل بساطة ـ يعتبر أن كل معلومة لا تؤسس علما جديدا ليس لها معنى، هذا أولا
وثانيا؟
وثانيا، فإنني أعتبر أن كل فكرة لا تؤسس فكرا لا يعول عليها
وبحسب الاحتفالي، فإن كل مسرحية، كتابة كانت، أو عرضا مسرحيا كاملا أو متكاملا، لا تبني مسرحا، أو لا تساهم في تفعيل حركة مسرحية واسعة وعريضة، ما هي إلا فعل سطحي وظرفي وعابر في زمن عابر، وكل كتابة لا تؤسس تاريخها المستقبلي، فإنها لا يمكن أن تكون كتابة حقيقية
وعليه، فإن ما أطمح إليه عادة، من وراء المخاطرة في فعل الكتابة، ليس هو أن أكون رجل إعلام، وأتصيد المعلومات، ولكن، أن أكون رجل علم ورجل فكر ورجل فن ورجل ثقافة، وقبل هذا وذاك، أن أكون رجل مواقف مبدئية ثابتة وراسخة ومتجذرة في أرضها وفي تربتها وفي لغتها وفي ثقافتها وفي سياقها التاريخي والجغرافي والحضاري
إنني أعيش، أنا الاحتفالي الشاعر، ومعي مشروعي الفكري، داخل عالم يزخر بالوقائع والأحداث، وإذا كان هناك من يكتفي بصور ومشاهد هذه الأحداث وخيالاتها، ويكتفي بالوقائع الواقعية، فإن ما يهمني ـ بالدرجة الأولى ـ هو معنى هذه الأحداث والوقائع، وهو روحها وفلسفتها، وهو محركها وطبيعة حركتها، إنني كائن ثقافي تاريخي.. هكذا أعرف نفسي، وهكذا يمكن أن أعرف بها، إنني أنا الكاتب الثقافي المفكر أعيش في التاريخ الثقافي، وأكتب على ألواحه كتابة صادقة وحية، وكل كتاباتي التي ( كتبت) قد انكتبت بوحي من هذا التاريخ، وإنني أحرص دائما على ألا يخدعني مكر هذا التاريخ، وألا يشغلني المظهر الخارجي عن المضمر الخفي، وما يهمني أكثر، في هذه الكتبة، ليس هو هذا التاريخ، كوقائع وأسماء ومواقع وتواريخ وناسبات، ولكن.. هو روح التاريخ، وعن سر هذا الروح، أو عن أسراره الخفية أسال وأبحث دائما..
المندهش في المشروع المدهش
في حياة هذه الكتابة الحيوية إذن، تنكتب الحروف والكلمات بشكل عفوي وحيوي، وتتأسس العبارات، وتولد المعاني، وتتشكل عناصر الدهشة أمام غرائبية الأشياء، وأمام عجائبية الصور، وأمام سحر المشاهدات، وتتأسس المماليك الأسطورية والخرافية الجديدة والبعيدة.
وفي هذه الحياة ـ حياتنا دائما، توجد تضاريس وجدانية وفكرية مركبة ومعقدة ودقيقة جدا، وفيها أحوال نفسية متقلبة ومتجددة، وفيها انتصارات وانكسارات، وفيها منعطفات ومنعرجات، وفيها مرتفعات ومنحدرات، وفيها جزر وخلجان، وفيها مدن وأوطان، وفي شعابها ودروبها توجد علامات وإشارات كثيرة، بعضها معروف ومألوف، وأغلبها غامض وملتبس، وبذلك فهي تستعصي على القراءة البرانية، وتستعصي على الرؤية العامة والسطحية.
وشيء مؤكد، وبحسب المشروع الاحتفالي طبعا، فإنه لا وجود لحياة واحدة بسرعة واحدة، ولا وجود لعمر لا يتحرك، ولا يرتقي إلى الأعلى، أو إلى الأسفل دائما، ولا وجود لعيش لا يتخلله التوتر والمعاناة، ولا وجود لأجساد حية لا تخترقها الأخطاء والأعطاب والصدمات، وكثيرا ما تغتني حياة الكاتب المبدع بالتعدد والتنوع، وتتطهر نفسه بالقلق والتوتر، وتتجدد أعماره بالاحتراق النفسي والذهني والروحي، وما حياة الاحتفالي إلا سلسلة طويلة من المعاناة ومن الحيرة والشك ومن الاحتراق الوجداني والعقلي
وأعترف، أنا المغامر الاحتفالي أعترف، بأن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخيلها بعض المتخيلين، وذلك لأن من يبحث عن حياة حقيقية، بمثل هذا الغنى والامتلاء، وبهذا الاختلاف والتنوع، فإنه لا بد أن يتعب ويشقى كثيرا.. يشقى ماديا وجسديا بكل تأكيد، ولكنه في المقابل، يمكن أن يرتاح، نفسيا وذهنيا وروحيا، وأن يرضى عن نفسه، وأن ترضى عنه نفسه، وذلك هو الحال عندي الأن .. تماما كما قد يكون عند كثير ممن يحترقون بنار التأمل والكتابة، وبذلك يكون فعل الكتابة، وهو في درجة الصدق والمصداقية، هو .. أعز ما يطلب، وبهذا يكون كل ما نكتبه من كتابات وكل ما نبدعه من إبداعات حقيقية وشفافة وصادقة، هو لدينا أعز ما يكتب، وهو أعز ما يطلب، وهو أعز ما يمكن أن يصل إليه الواصلون
وأعتقد أنه لا أحد يمكن أن تفوته الحقيقة البسيطة التالية، وهي أن أعز ما يكتب، لا يمكن أن يكون ـ وبالضرورة ـ هو نفسه أعز ما يقرأ، وذلك لأنه لا وجود لقراءة نموذجية واحدة، ولا وجود لقارئ نمطي واحد، ولا وجود لنظام مدرسي واحد في القراءة، وأعتقد أنه لا يمكن أن نختلف حول الصورة التالية، وهي أن الأجساد والأرواح والأشياء، في هذا العالم، لا تبحث إلا عما وعمن يشبهها، فكل كتابة تبحث عن قارئها الافتراضي، وكل قارئ يبحث عن كتابته الممكنة، ولا شك أن هذه الكتابة الاحتفالية لها بين الناس أهل وأحباب، ولها أصدقاء ورفاق، ولها أرواح ونفوس تلتقي وإياها عند نقطة ما في دروب المعاني والأفكار والمواقف.. ولهذه الأرواح والنفوس التي تشبهنا ونشبهها، ينبغي أن نكتب اليوم، تماما مثلما كتبنا بالأمس، وتماما كما سوف نكتب غدا وبعد غد، ويمكن أن نقتنع أيضا، بأن نصف المعاني فقط موجودة في كتابة الكاتب، أما نصفها الثاني، فهو موجود في صدر رفيقنا وشقيقنا القارئ .. أي ذلك القارئ العالم والفاهم والصانع والمبدع، والذي لا يمكن أن تكتمل الكتابة إلا به ومعه
إن أعز ما يكتب إذن، في هذا المشروع الاحتفالي الموسع، هي تلك الكتابة الأخرى؛ الغائبة أو المغيبة أو المصادرة أو المقموعة أو الممنوعة أو المقرصنة أو المهربة، وهي الكتابة العالمة بكل تأكيد، والتي لها أرض صلبة تقف عليها، ولها سماء واسعة تصعد إليها، والتي لها أحلام مشروعة تراها بأعين مفتوحة عن آخرها، والتي لها طريق تختاره ويختارها، وتحاول أن تمشي فيه، خطوة بعد خطوة، ابتداء من بدايته إلى ما لا نهاية له، والتي لها غاية جميلة ونبيلة تتجه إليها، والتي لها قناعات واختيارات فكرية ووجودية ثابتة وراسخة، وهي التي لها أفكار مختلفة ومخالفة، وتحاول أن ترقى بهذه الأفكار الواردة والشاردة، وأن تحولها إلى منظومة أفكار، وأن تؤسس بها فكرا جديدا، وأن تكون قادرة على أن تنتج داخلها الأفكار المناقضة والمخالفة لها، وأن تعطي الفرصة لهذه الأفكار لأن تحاور بعضها البعض، وبدون كيمياء الأفكار والمعاني فإنه لا يكون لهذه المعاني أي معنى
جماليات الغموض في الكتابة الاحتفالية
إنني أعرف، وأعترف أيضا، بأن بعض ما يكتبه الاحتفالي غامض ومغلق، وهذا شيء لا يضايقني إطلاقا، لأن للغموض جاذبيته وسحره، وقد يكون السحر هو الغموض، لأنه يخفي روح الأشياء وروح المعاني، وأعرف أن البعض الآخر مما يكتبه الاحتفالي قد يكون غير مفيد، أو غير مثير، أو غير ممتع، أو غير صادق، أو غير جريء، أو غير مقنع، وفي عالم هذه الكتابة تلتقي وتتعايش كل المتناقضات، فهناك ما هو شفاف وهناك ما هو كثيف، وهناك حلو الكلام إلى جانب مر الكلام، وهناك كلام النهار، وإلى جواره نجد كلاما آخر هو كلام الليل .. وهذا الكلام الأخير لا يعول عليه، لأنه في النهاية، لابد أن يمحوه ضوء النهار، وكل ما لا يتجدد مع تجدد الأيام والليالي فإنه لا يعول عليه
إن الأصل في الكتابة أنها لا تطابق الواقع بالضرورة، فهي إما أن تكون أكبر منه، أو تكون أصغر منه، وأن تكون فوقه أو تكون تحته، ولعل هذا هو ما انتبه إلى السورياليون عندما دعوا إلى الارتقاء إلى ما فوق الواقع، وإلى ما وراء الوقائع.
(العالم فوضى إذن، واصبحت الكلمات تخونمعانيها، واصبحت الأسماء تتبرأ من مسمياتها، وأصبح الخفي في الأشياء أكثر خطورة من المعلن عنه)
إنني انا الاختفالي أكتب دائما، واتكلم احيانا، ولا اصمت إلا أذا كان الصمت أبلغ من الكلام، أو كان صمتي معناه الكلام الداخلي، أو كان حوارات هامسا مع الذات ومع النفس ومع الله، أو كان هروبا من ثرثرة بلا معنى، أو كان استغراقا في التفكير الصامت، في كثير من الحالات، قد يكون امتلاء، وليس فراغا او خواء، وقد يكون لغة أخرى مغايرة، ،لغة افصح من كل اللغات، وأكثر حياة من كل اللغات)
إنني، انا الإنسان الاحتفالي العاقل، أقف اليوم أمام فوضى هذا العالم، مستغربا ومتسائلا وحائرا، واقرأفوضى الأسماء واسميها، واقرا فوضى الأشياء واشير إليها واقرا فوضى العلاقات واسعى لتصحيحها، واقرا فوضى البنيات، من أجل تفكبكها وإعادة تركيبها بشكل جميل
هذا العالم لسنا نحن من صنعه، هكذا يقول ويكتب الاحتفاليون دائما، وهو فعلا كتلة واحدة، ولكن بزوايا لا حد لها ولا حصر، وكل واحد يمكن ان يرى هذا العالم من زاويه الخاصة، ان كان هذا العالم منحة من الله، فإن المنحة لا ترد، وأن كان محنة فما عسانا ان تفعل؟ وعليه، فإنه لا مسؤولية لنا في فساد هذا العالم، ولا نحن أيضا من اوجدناه ومن رسمناه، ومن ركبناه كما هو، لقد جئناه يوما، لحكمة لا نعرفها، ووجدناه كما هو، وإذا لم نكن قادرين على تغييره واستبداله، فما الذي يمنعنا من نقده ومن رفضه ومن فضحه ومن الضحك على حماقاته ومن الحلم ببديل له؟ وان يكون ذلك في الحلم على الأقل، وفي الخيال الصادق ايضا، وفي الفن الحالم، وفي العلم الحالم بكل تاكيد، وهذا هو الدور الحقيقي للعالم الفنان وللفنان العالم، اي ان يكون موجودا اولا، وأن يكون مناضلا وجوديا في الوجود بعد ذلك، وأن يكون مسافرا في مسيرة الحياة، وأن يكون ساخرا في مهزلة التاريخ وفي مهزلة الأيام والأعوام، وأن يعرف اللا معروف، وأن يضيء الجوانب المظلمة في الواقع وفي النفوس ايضا، وأن يرفع الحجب عنها، وأن يقرب الأشياء البعيدة، وأن يصح المفاهيم
الخاطئةوالمغلوطة،
0 التعليقات:
إرسال تعليق