مسرحية مونودراما " دنيا رابعة " تأليف وليد عماد الدين
مجلة الفنون المسرحيةمقدمة :
يحكي النص التحولات الفكرية والنفسية والفلسفية الوجودية التي تتناوب على رابعة ، فتأخذها من طور إلى طور في الحب ، ومن طور إلى طور في الإيمان ، ومن طور إلى طور في الفكر.
تستغرق المسرحية ثلاثين دقيقة مرة واحدة دون تقطيعات ، على أن يكون الإيقاع سريعا ما أمكن، دون عجلة، تجنبا للملل الفكري والفلسفي!
المشهد الأول
رابعة في مصلاها وثياب صلاتها الأنيقة المترفة ، تنزل من الوقوف إلى السجود في الركعة الأخيرة. تسجد سجدتي القعود الأخيربكل هدوء وخشوع... ترفع من السجود.. تفعل هذا بكل بطء ورتابة وكأنها تفكر كثيرا.
في الجلوس للتشهد، تزداد سيما الحزن والخشوع عليها، حتى تبدأ عيناها تدمعان قليلا
تنهي صلاتها بالتسليم
تبدأ في الدعاء المصحوب بالدموع ...
الحمد لك يارب أن أعنتني على الصلاة...
الحمد لك يارب أن أعنتني على طاعتك.
رب اغفر لي ذنوبي
رب اغفر لي خطاياي
رب إني أسأت إلى نفسي كثيرا فيا رب سامحني
تزداد عبراتها وتكاد تتشنج
يا رب أغثني
يا رب اعف عني
يا رب أنقذني فليس لي سواك
يزداد نشيجها بصوت متألم :
يارب أنت رحيم بعبادك...أنت رحمن رحيم..ولكن... يارب سامحني إن سألتك: لماذا يجب أن أخاف منك.. لماذا أخاف من عقابك!! أنا أحاول جهدي أن أطيعك، فلماذا يجب أن أكون متوجسة ملتاعة؟؟؟ قلقة من حسابك لي، وجلة! ألست تحب عبادك المؤمنين؟ أنا مؤمنة بك فلماذا لا تحبني ولماذا ينبغي أن أخاف منك!
يتصاعد النشيج إلى حد الصراخ والعويل:
يا رب
أنا أعلم أنني قصرت في عبادتي..قصرت في التزامي ...أذنبت فعلا، بل ربما بالغت في الخطايا..ينبغي أن أعترف بذلك.. فكيف ستغفر لي كل هذه الذنوب!!! أين أذهب من وجهك الكريم! كيف سأقابلك يوم القيامة؟ كيف أفعل هذا وقد كنت غارقة في المعاصي!
هل أفضح نفسي الآن أمامك وأنت الذي تعلم سري! أنا أستحيي من طلب الرحمة. أخجل أحيانا من نفسي أن أرجوك المغفرة..هل أجرؤ على البوح أنني عصيت الله في جسدي! عصيت الله في خلواتي الشيطانية! عصيت الله في ملابسي الفاضحة وعريي أمام الآخرين! في شرابي الماجن وفسوقي!! كيف أقابلك يارب... كيف!!!
رابعة تصمت فجأة ويعلو صوتها وكأنها غاضبة :
يا رب ...أنا تعبة..مرهقة. أتعذب وأكاد اكتوي بالنار من فرط إحساسي بالذنب...ها أنذا أصلي لك وأستغفرك وألجا إليك راغبة ومرهوبة أيضا...ماذا أفعل أكثر من ذلك...أصلي وأصوم وأحج وأتصدق ..كل ذلك أملا في رحمتك...لكنني خائفة ..خائفة ألا أرضيك ...خائفة أن خطاياي أكثر بكثير من أن تغفرها لي...
ولكن يا رب ..أليس أمر الناس كله إليك...ألست أنت الذي يقدر الأقدار ...ألست أنت من يقدر الخير والشر؟ الخطيئة والإحسان ...لماذا سمحت لي ان أعصيك؟ لماذا دفعتني في طريق لا تحبه ؟؟ لماذا سمحت للشيطان أن يغويني ويغريني بمعصيتك؟؟؟ لماذ قدرت لي هذا كله وتريد محاسبتي ومعاقبتي؟؟؟ هل هذا عدل يا رب ؟؟؟ هل هذا إنصاف؟ يا رب أنت لم تهدني إلى الخير فذهبت في الشر بعيدا...ثم تريد أن تحاسبني؟؟ أنت تقول إنك قدرت كل شيء. وتعلم كل شيء ، وتقول للشيء كن فيكون! يارب لماذا لم تهدني للتقوى فذهبت في طريق المعصية! لماذا لم تمنعني بقوتك القادرة على كل شيء، فغصت في كل إثم وشر!
يزداد غضبها وتمردها
يارب تريد أن تحاسبني على ذنوبي وأنت خلقتها! أنا ما خلقت نفسي في هذه الحياة لتحاسبني بعدها على خطاياي. أنا ما سألتك أن تخلقني ثم تعذبني..أنت فتنتني بالمعاصي وقذفتني في طريق كله إغراءات وملذات وهوى وحب وغرام ، ثم تريد عذابي؟؟ لماذا لا ترحمني إذاً وتكافئني أنني تبت إليك وأنني رجعت لك؟؟؟ لماذا ينبغي أن أخاف لماذا..
تتلوى رابعة على سجادة الصلاة مرهقة خائرة...يبدو عليها الانفعال الشديد لكن تعبها من هذه المعاناة أخمد كل قواها... يارب كيف يكون هذا كله؟؟؟ كيف يكون!! تنهار باكية تنشج بكل حرقة من جديد.
تخطف لحافا من حولها. تتكور على نفسها، وتتغطى كلها باللحاف فلا يظهر منها شيء!
المشهد الثاني
الموسيقا التصويرية هادئة جدا ..كلها أغنية رباعيات الخيام...موسيقى الأغنية كلها تصاحب المشهد من أوله إلى آخره.
تسترخي رابعة على كنب فاخر..في ثياب مريحة ومغرية...تبدو مرتاحة جدا ..تغني وترقص تشرب عصيرا تتلذذ به...تبدو عليها البهجة. تدور في أرجاء المسرح تدعو إلى الفرح...ترقص الباليه...تتلوى على الأرض سعيدة رائقة... تفعل كل ما يشي بالفرح...كل ما يشي بالحب والحميمية....صوت الموسيقى يرتفع ويتصاعد مع تعبيراتها الفرحة...يتصاعد صوتها وصوت الموسيقى حتى الضجيج
تدور على نفسها وتدور ...تتسلق عمود ( الستربتيز)....تفعل على الأرض من الحركات الماجنة ما يدل على سرورها وبهجتها إلى حد كبير جدا...
تتصاعد الموسيقى أكثر.....يزداد الصخب...تبدأ بالصراخ...مرحبا بالحب...هيا يا رفاق إلى البهجة والسرور...هيا إلى العشق والغرام...هيا نتجاوز الخطوط الحمراء والصفراء وكل الألوان...هيا إلى البحر نسبح ونتعانق ونغرق بالقبلات ونتبادل الأحضان ..هيا إلى الحياة....هيا إلى الملذات..لا تدعوا شيئا من الفرح يفوتكم...هذه هي الحياة..لعب ولهو وحب وغرام ومسرات...
تبلغ في الفرح والصخب الذروة...
في حركتها على المسرح تفطن إلى وجود مرآة في طرفه ...تتوقف فجأة وتتجه رويدا رويدا إلى المرآة . تقف أمامها من بعيد. تتهيب أن تنظر إلى نفسها .. تتمتم بصوت هامس : لماذا هذه المرآة هنا؟ من وضعها؟ تقترب من المرآة أكثر فأكثر لكن بحذر أيضا كأنها تعرف ما سترى! تصل إليها في النهاية....
تتأمل تفاصيل وجهها. تمسك بخصلات شعرها... تربت بيدها على بطنها...تتلمس ضخامة أردافها...يبدو لها كأن جسدها ملآن بالعيوب تشعر بالوجل ..تبدو كأنها مرعوبة...تبدأ بالتساؤلات بمرارة: واه..هل هذه تجاعيد في رقبتي! ياه كأنني كبرت عشر سنوات دون أن أنتبه! ما هذه الخصلات البيضاء في شعري! كأن الصبغة لم تعد تنفع كثيرا في تلوين شعري! يا ربي !!!!!!! لي بطن...بطن! شحوم... تتلمس أردافها...ياه أنا ذاهبة في العرض...شكلي يتكور .جمالي يتآكل...كل شيء يذبل..لعنة الله عليك أيها المرآة..لماذا ظهرت الآن مثل الشيطان! هل جئت لتنكدي علي وتفسدي علي فرحتي!
هل هذا ممكن! هل يمكن أن أذبل أكثر فأكثر! هل أهرم فعلا ويتلاشى جمالي! هل سيكف الرجال عن الالتفات إلي والانبهار بجسدي! هل ستتوقف صديقاتي عن الغيرة من نهوض صدري وتدويرات قفاي البرازيليتين ! هل لن أستطيع أن ان أتمختر بين زميلاتي وقريباتي بغنج ودلال! ياه....يبدو أن هذه المرآة القبيحة جاءت لتكسرني! لا ...لن تكسرينني أيها المرآة. أنا رابعة ملكة الحب والبهجة والسرور..ملكة اللهو والعبث...ملكة الدنيا وزينتها..
تهدأ أكثر وتبدأ الهذيان.... لا . لا.. يبدو أنني لم أعد رابعة تلك...دنياي قد انتهت على ما يظهر...يبدو أن هذا الجسد إلى اضمحلال...هذه الفتنة إلى ذبول..هذا الصخب إلى صمت..هذا التعالي إلى انكسار...هذا الضجيج إلى سكون...سينتهي كل شيء...سينتهي الحب والجسد والمسرات واللذاذات...ماذا سأفعل إذا داهمني هذا بقوة أكبر في السنوات القادمة! هل أستطيع أن أوقف هذا الانحدار في جمالي وشهواتي وفتنتي !!! هل كان على هذه المرآة أن تأتيني قبل سنوات فتنبهني إلى قدوم فنائي وتحلل مفاتن جسدي وذبولي وخوائي!!
تهدأ أكثر فأكثر...يهيمن عليها حزن وتأمل أكبر..تدور في أرجاء المسرح مذعورة...تتلفت كأنها تائهة تبحث عن شيء.. يلفت انتباهها سجادة صلاة معلقة على الجدار، فتقف أمامها تتأملها وتفكر فيها، ولكنها ما تلبث أن تغوص في حوار مع نفسها: يا ربييييي ..معقول أنني ما التفت إلى سجادة الصلاة من قبل! معقول أنني ما فكرت بأن أصلي حتى اللحظة! هل أنا مؤمنة؟؟؟؟هل ما خطر ببالي هذا السؤال من قبل ! هل أنا إلى هذا الحد عابثة فلا آبه بحياة ولا ممات! جنة أو نار!! إيمان أو كفر! الآن فقط انتبهت! معقول هذه الغفلة! لقد كنت أسمع إشارات إلي فلا أعيرها اهتماما...كنت ألحظ بعض الذبول فأعتبره عارضا..لم أعمل فكري جيدا...لقد تجاهلت اللمحات ..صممت أذني عن دعوات اليقظة والاعتبار...ها أنذا ضعيفة خائرة ذابلة كسيرة ..يبدو أنني ضللت الطريق..يبدو أنني بالغت في الغواية...يبدو أنني نسيت المآلات...لطالما جاءتني تحذيرات الآخرة فقاومتها ولم أرد سماعها والالتفات إليها..لقد كنت غافلة عن عمد....نعم أعرف نفسي...تجاهلت عن عمد لأنني لا أريد لأي شيء أن يذكرني بالمآلات...هاهي ساعة الحقيقة قد أزفت..جاءتك اللحظة يا امرأة..جاءتك الحقيقة يا فتاة...راحت السكرة وتجلت الفكرة ..أصخي وانتبهي..ابحثي عن طوق نجاة....سائلي نفسك ومن حولك أين الطريق؟؟؟ كيف الصحو والانتباه؟؟؟كيف اليقظة والتعافي؟؟؟ كيف تصلحين ما فات؟؟؟
تنهار على الوسادة على الأرض..تهيمن عليها اللحظة فتبدأ في البكاء...يزداد البكاء وتبدأ في الانتحاب...
تخطف لحافا من حولها. تتكور على نفسها، وتتغطى كلها باللحاف فلا يظهر منها شيء!
المشهد الثالث والأخير:صامت
تدخل رابعة من باب المسرح واثقة من نفسها دون تعال... جميلة من غير أنفة...أنيقة من غير ابتذال...تدور في المسرح من أقصاه إلى أقصاه...التصفيق لها (من المخرج) يحييها ...
تلبس ثوبا مترفا سابغا ...شالا يظهر شيئا كثيرا من شعرها.. تحمل أوراقا ...تتهادى على المسرح وتحيي جمهورها.. تبدو متصالحة مع نفسها...منسجمة رضية...
تتنتقل إلى سجادة الصلاة...تسجد بهدوء..ترتفع من السجود راضية ...تبتسم لمن حولها...تذهب إلى مكتب في طرف المسرح...تكتب على الكومبيوتر دون أن تلتفت إلى المشاهدين أشعارا لرابعة العدوية وابن الفارض والحلاج ...تظهر هذه الأشعار على شاشة كبيرة يراها الجمهور...
30/08/2023
0 التعليقات:
إرسال تعليق