دراسة لمسرحية " زقاق القناديل" : مسرح الجوع والكرامة بين الشدة المستنصرية وحصار غزة
مجلة الفنون المسرحية
د.دينا فتياني
لقد تميز الكاتب المسرحي (محمود القليني) بتميز أعماله المسرحية ؛ فقد استطاع تجسيد أفكاره ، ومبادئه ، ورؤيته للمجتمع في ثوب أدبي إبداعي .
فقد انتقلت أعماله من حيز التعبير الكتابي إلى حيز الخلق الفني الهادف بأسلوبه الأدبي الذي يجمع الجِد والفكاهة معًا نابعًا من ثقافة تاريخيّة ودينيّة وأدبيّة .
ويُعَدُّ أدبه صورة صادقة مواكبة لتغيرات عصره ، ولسان حال أمته ؛ فقد استطاع تصوير المجتمع ، وتَغَلْغَلَ في جوانبه النفسيّة بصورةٍ أدبية فنية سلسة مقنعة ، معتمدًا على الصراع الدرامي والحوار ، مثيرًا عنصر التشويق بداخلنا .
واليوم نتناول إحدى إبداعات المبدع (محمود القليني) ، مسرحية (زقاق القناديل) الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة (2025م) ، ضمن سلسلة (المسرحيات العربية) .
نجد مسرحية (زقاق القناديل) نصًّا تاريخيًّا محملًا بإسقاطات اجتماعيّة ، وسياسيّة ، تعود لزمن الشدة المستنصرية ، ويجسّده أفراد الشعب المحكوم عليه بالجوع والعُري وانسداد الأفق .
وقد حدد المؤلف زمن الحدث ومكانه بوضوح في العصر الفاطمي زمن الخليفة (المستنصر بالله) ، عام 462هـ - 1070م ، بين الفسطاط والقاهرة ؛ أي بين موطن العامة ،عاصمة الحكم ، والانقسام هنا رمزًا لانقسام المجتمع بين شعب جائع ، وسلطة مترفة ، رصدًا للتوتر القائم بينهما ، في فترة تاريخية تتسم بالانهيار الاقتصادي .
أولًا : قراءة في العنوان وإيحاءاته :
(أ)على المستوى الرمزي :
العنوان بسيط في بنائه ، كثيف في دلالته ، وغير خافٍ أن (الزقاق) : وحدة عمرانية ضيقة ، ترمز إلى انحشار الأجساد والعيون والأنفاس ، وضيق العيش والفقر والبطالة ، بالإضافة إلى ضيق الحالة النفسية .
أما (القناديل) الشق الثاني من العنوان ، يُعدُّ رمزًا للنور في ظلمة الظُّلم ؛ فهو مصباح تقليدي يوضع فيه فتيل يشتعل بالزيت أو الكيروسين ، وهنا يستوقفني الدلالة الرمزية التي تحملها كلمة (قناديل) ؛ حيث يمثل الفتيل المواطن المقهور المسلوب حقه في عهد الخليفة الفاطمي (المستنصر بالله) ؛ فهو يحترق من أجل إرسال النور لأهله ووطنه .
ومن هنا نتوصل للبؤرة الدلالية الأولى : زقاق يضيق على أهله ، لكن قناديله تُصرُّ على الإضاءة ، فعلى الرغم من الضغوط الواقعة على الزقاق ، لكنه لا يطفئ المصابيح ؛ بل يبقيها شاهدة ومضاءة لأجيال قادمة.
(ب)على مستوى الاستعارة يتلاقى العنوان مع رمزية النص :
فنجد (الزقاق) هو جسد الجماعة ، التي تنطق بصوتٍ واحدٍ أحيانًا ، كما في هُتاف الصبية وترديدهم "يا أهل زقاق القناديل الخبز بدرهم ..يا أهل زقاق القناديل" .
بينما (الطبيب أبو الحسن على بن رضوان ) ، و(أبو شامة) ، و(إسحاق العنابي) ، و(الشيخ أبو الفتح المنصوري) يعملون كقناديل بشرية ؛ فنجد :
الأول : يعمل على إضاءة الوعي الصحي والفكري :
كما في قوله معاتبًا أم مليكة : "ألم أخبرك أنه حينما ينفد الدواء تأتين لي لإعادة فحصها ، وإعطائها الدواء (يقدم لها زجاجة) أعطيها من هذا الدواء ، ولا تعطيها شيئًا آخر" ص 61 .
وكذلك في قوله لأبي الفتح :"ما يعانيه الناس ، وما صارت إليه البلاد ليس قدرًا" ص 65
وفي موضع آخر يقول له :"يعبرون عما يشعرون به ..يضجون ..يشكون..يبكون..يكون لهم صوت لا يموتون في صمت ..الناس يساقون إلى مصيرهم كما تساق الخراف إلى المذبح" .ص66
الثاني : يعمل على إضاءة السعي والإصرار والعزيمة :
ويتضح ذلك من قوله :"أنا مقدر ما هن فيه يا عم جعفر ، أنا طوال النهار أبحث في الشوارع والحواري وأسال هذا وذاك كي أعثر لهن عن عمل يأكلن من ورائه لقمة عيش" .ص18
وكذلك قوله بعد الانضمام لجيش (ناصر الدولة) :"بعد أن نجتاز التدريب سوف نستلم أسلحة لنحضر بها الموكب الخلافي للقائد (ناصر الدولة ". ص 143
الثالث : يعمل على إضاءة الوعي الثقافي :
ويتضح ذلك من قوله : "أيها الشاعر المغمور والذي لم يقرأ من الكتب سوى عناوينها إنْ قرأها ...أتفق مع (ابن رضوان) أن الغمة التي استمرت سنوات ولا يعلم إلا الله ، إلى متى ستستمر لا يصطلي بنارها إلا الفقراء وأهل البلد ، وأما الجنود والقواد وأمراء الجنود من أتراك وأكراد وعبيد وأعراب ...فسلاحهم في يدهم يمكنهم من فعل أي شيء وهم يرتهنون البلد حتى أمير المؤمنين مرهون بإرادتهم ، واتفق...أن الناس وأهل البلد تنقصهم الإرادة والقدرة والرغبة في تغيير هذا الوضع ". ص32
وكذلك قوله :" الوضع في البلد الآن وصل إلى قمة الفساد ، وأي تغيير يحدث أظن سيكون في صالح البلد ". ص 35
الرابع : يعمل على إضاءة الوعي الديني والدنيوي :
ويظهر ذلك في قوله :"إنه قدر ولابد أن نتقبل القدر بالصبر والدعاء وانتظار أن يأتي الله بالفرج من عنده" ص 65
وكذلك قوله : "من الآن أنا لدي درس في الجامع العتيق سيكون عنوانه عدم السكوت على الظلم ، وسوف أحرض الناس أن يرفعوا أصواتهم ويضجون بالشكوى ويطالبون ولي الأمر بالإصلاح والضرب على يدي المفسدين ولن أكتفي بذلك ، بل سأتقدم في الحواري والأزقة والأسواق والميادين". ص71
(ج)على المستوى السيميائي :
يجمع العنوان بين مجالين حسّيين أحدهما حركي يتمثل في (الزقاق) ، والآخر بصري يتمثل في (القناديل) ، ومن هنا يُعدُّ العنوان (خريطة تجهيز) يستعد بها (القليني) خوض المعركة رغم انسداد الطريق .
ثانيًا : الزمان والمكان بوصفهما محركين دراميين :
لقد اختار الكاتب وقتًا محددًا (462هـ - 1070م) ؛ أي قلب سنوات الشدة المستنصرية ، وقد وضع المسرح بين الفسطاط والقاهرة ؛ فالفجوة بين العاصمتين هي الفجوة بين الزقاق والقصر، أي بين طبقة الشعب (التجار ،والفقراء ، والعوام ) الذين يعانون الفقر والمجاعة ، وطبقة الخليفة الفاطمي وأعوانه الذين يعيشون في القصور .
ثالثًا : الشخصيات بوصفها حقول دِلالة :
1-أبو شامة :
شخصية ديناميكية تتحرك من الرفض السلبي إلى الفعل المقاوم ، وتتطور داخل الأحداث ؛ لتكشف عن الصراع بين الإرادة الفردية ، والقدرة الجماعية.
*الوظيفة الدرامية : يمثل المحرك الأساسي للصراع في الزقاق ، ويكسر جمود المشهد ، ويمنح الأحداث توترًا دراميًّا .
*الدلالة الرمزية: يعد رمزًا للوعي الشعبي المقاوم ، لا يملك حلًا كاملًا لكنه يعبر عن وجع الجماعة .
2-التجار وأصحاب الدكاكين :
شخصيات ثابتة نسبيًا ، توضع في حالة انتظار سلبي ، ووجودهم يخلق جوًّا مأساويًّا .
*الوظيفة الدرامية : يشكلون الخلفية الجماعية الصامتة التي تُزيد من حدة المأساة .
*الدلالة الرمزية : رمزًا لحالة المجتمع المأزوم الذي فقد القدرة على الفعل أثناء الشدة المسنتصرية .
3-نساء الزقاق :
شخصيات هامشية لكنها مؤثرة عاطفيًّا ، تمنح الأحداث بعدًا وجدانيًّا.
*الوظيفة الدرامية : تحريك الجانب الوجداني لدى المتلقي ، وتكشف الوجه الباطني للأزمة المستنصرية .
*الدلالة الرمزية : نساء الزقاق يرمزن للانهيار الأسري بصورة كاملة .
4-الطبيب ابن رضوان :
شخصية عقلانية ، يظهر كصوت الحكمة ، والضمير الواعي.
*الوظيفة الدرامية : يمثل ضميرًا معرفيًّا يحاول تفسير المأساة المستنصرية ؛ رابطًا بين أسباب الأزمة ونتائجها .
*الدلالة الرمزية : يرمز إلى العقل في زمن الفوضى المستنصرية .
5-إسحاق العنابي :
شخصية مثقفة مهمشة ، تشارك في النقد والشكوى ، لكنها محكومة بحدود وظيفتها الرسمية في مكتبة القصر .
*الوظيفة الدرامية : يمثل صوت المثقف الناقد الذي يرى أفعال الخليفة وأعوانه داخل القصر ، ويعيش الأزمة المستنصرية خارج القصر مع العامة ، مما يعمق البعد الفكري في النص .
*الدلالة الرمزية : يرمز للمعرفة المحاصرة داخل جدران قصر الخليفة المغلقة .
6-ناصر الدولة بن حمدان:
شخصية تحمل تناقضًا جوهريًّا ؛ حيث يفرض ضغوط وضرائب على الشعب بسبب صراعه مع الخليفة الفاطمي ؛ مما يجعله سببًا مباشرًا في مضاعفة معاناتهم ، ومن جانب آخر يراه الشعب ملاذًا ومنقذًا بسبب انتصاراته العسكرية . وهنا برع (القليني) في الجمع بين المتناقضات .
*الوظيفة الدرامية : شخصية تحرك الصراع ، وتكشف عمق معاناة الشعب .
*الدلالة الرمزية : يرمز إلى الأمل الذي يتحول لخذلان .
7- الصبية :
يمثلون جيلًا جديدًا وكتلة واحدة لمستقبل واعٍ ؛ مما يمنحهم دور شخصية جماعية تعكس الروح العامة للشعب ، ودخولهم بالسيوف الخشبية يضفي على المشهد الأخير إيقاعًا مسرحيًّا جديدًا .
*الوظيفة الدرامية : نقلة نوعية من الصوت الفردي الذي مات بموت (أبي شامة) إلى الوعي الجماعي .
*الدلالة الرمزية : يعد الصبية رمزًا للأمل الوليد ، وقوة لم تَمُتْ وإن بدت ضعيفة .
رابعًا : الصراع :
لم يكن الصراع في (زقاق القناديل) أداة درامية فحسب ، بل منظومة نقدية فكرية للأزمة المستنصرية ؛ حيث نجد المسرحية تقوم على تشابك عدة مستويات من الصراع :
1- الصراع السياسي:
بين الخليفة الفاطمي (المستنصر بالله) ، وخصمه (ناصر الدولة الحمداني) ؛ مما يعكس تفكك السلطة ، وصراع النفوذ .
2- الصراع الاجتماعي والاقتصادي:
بين الشعب الكادح في الفسطاط ، ومواجهة المجاعة(من نقص الخبز والماء) والشدة المستنصرية ، فالخبز هنا ليس طعامًا فحسب ، بل مؤشر عدالة ؛ كلما ارتفع ثمنه أو شحَّ حضوره تكشّف فساد التوريع قبل فساد الإنتاج ، ويتضح ذلك من الهتاف "الخبز بدرهم" .
وهنا يظهر الانقسام الطبقي في فترة الخليفة (المستنصر بالله).
3. الصراع الفكري:
المتمثل في شخصية (الطبيب ابن رضوان والعنابي والشيخ أبو الفتح) ومحاولات مختلفة لفهم الأزمة ؛ فنجد :
ابن رضوان: يدعو إلى الإصلاح العقلاني .
العنابي: الناقد المثقف الذي يعيش صراع الضمير .
أبو الفتح: الواعظ الديني والأخلاقي.
هذه الأصوات المختلفة تجسد حوارًا داخليًا حول أسباب الانهيار وطرق الخلاص.
4-الصراع النفسي الداخلي :
نجد صراع (ناصر الدولة) بين طموحه العسكري ورغبته في حماية الناس ، و(أبو شامة) ممزق بين واقعه القاسي وحلمه بالتغيير ، وكذلك (العنابي) يعيش مأزقًا وجوديًّا بين عمله في مكتبة القصر ، وعدم الرضا عن الأوضاع ؛ فيجد نفسه ممزقًا بين الولاء والخيانة .
هذا الصراع يعمّق البعد التراجيدي ويمنح الشخصيات ثراءً نفسيًّا.
5- الصراع الرمزي :
النهاية المأساوية مقتل (أبو شامة ، واغتيال ناصر الدولة) تُبرز مأساة الأمة بين الحلم والانكسار ، وظهور (الصبية) رافعين السيوف الخشبية يفتح بابًا رمزيًّا لاستمرار المقاومة ؛ أملًا في مستقبل جديد . والرسالة الرمزية هنا أن البطولة الفردية قد تُقمع ، لكن الوعي الجمعي هو الذي يستمر.
خامسًا : اللغة وبناء المشهد :
يشتغل النص على النداء الجمعي (صوت الصبية) ، والمحادثات الجماعية أكثر من الثنائية ، وعلى سخرية شعبية محببة متمثلة في ملاطفات (غرام) لأبي شامة ، وفي المقابل لغة عسكرية من قاعة الخرائط بقصر اللؤلؤة ، وهذا التباين يُقيم جسرًا مسرحيًّا بين اليومي والسياسي ، بين العامية التي تتملك وجدان المتلقي وبين الرسمية الإدارية السلطوية.
سادسًا : الفسطاط مرآة عاكسة لحصار غزة :
لم يكن (القليني) حين كتب مسرحيته (زقاق القناديل) حريصًا على تسجيل التاريخ في صورته الحرفية ، ولا كان قصده أن يعيد علينا ما قرأناه في كتب الؤرحين من وقائع وأحداث ، وإنما كان هدفه أبعد وأعمق ؛ فقد اتخذ من (الفسطاط) صورة مصغرة لشعب بأكمله ؛ ليقول للناس إن ما جرى بالأمس ، نراه يتكرر اليوم في غزة .
نجد مأساة (الفسطاط) تعد معادلًا موضوعيًّا لمأساة فلسطين (كإسقاط معاصر)، إذ الشعب يدفع ثمن الصراع السياسي.
ونحو ربطٍ واعٍ بما يجري لأهل غزة اليوم يلجأ (القليني) إلى زمن الشِّدّة المستنصرية وفضاء الزقاق ليفتح أعيننا على أن التجويع سلاحٌ سياسي وأنّ الخبز، والماء ليسا موارد طبيعية فحسب، بل أدوات سيطرة.
هذا ما تراه العيون اليوم في غزة : حصارٌ يقطعُ أسباب الحياة ويحوّل لقمة الخبز ، وقطرة الماء إلى معركة بقاء. إنّ العِبرة في النص ليست توبيخًا للضحايا، بل أداة لحماية الإرادة الجمعية.
حين يقول الطبيب : إنّ الناس لا ينبغي أن يُثَقَّلوا بثمن الفحص والدواء وهم "يتحمّلون الجوع والعري"، فإنه يؤسس لأخلاقية الإغاثة والطب العام المجاني بوصفهما واجبًا مدنيًّا في مواجهة التجويع.
وحين يقرّر أن صوت الناس أقوى لأنهم أصحاب البلد، يوجِّه الفنّ إلى تنظيم الإرادة بدل تسطيحها؛ وهو درسٌ بالغُ الصلة بمحاصَرة غزة ، واجتماعُ الصوت من أهمّ شروط كسر الحصار.
وكذلك مشهد السيوف الخشبية لا يُمجِّد العسكرة ، بل يُربّي على الانضباط الأهلي ، وترتيب الصفوف، وتنمية المهارة، وحفظ ذاكرة القائد الشهيد في سلوكٍ جماعيٍّ راشد؛ وهي استراتيجية مقاومة مدنية قبل أن تكون حسمًا عسكريًّا.
بهذا المعنى، تمثّل (زقاق القناديل) مرآةً أخلاقية ، وجمالية تفضح سياسات التجويع وتُعلن أن الخبز قضية سياسية ، وأنّ الطبّ والإغاثة ليسا رفاهية بل حقًّا، وأنّ الذاكرة الشعبية لا تموت باغتيالٍ أو حصار.
وهنا تتجلى براعة (القليني) في توظيف التفاصيل اليومية البسيطة ؛ لتدل على معانٍ كبرى ، تُحمِّل المتلقي مسئولية المشاركة في التفكير .
وعليه فإن (القليني) يُرسخ في هذه المسرحية انتماءه إلى تيار المسرح التاريخي النقدي ، الذي يجعل من الماضي بنية رمزية للحاضر ، وعلى سبيل المثال غزة المحتلة .
(زقاق القناديل)
مسرح الجوع والكرامة بين الشدة المستنصرية وحصار غزة
لقد تميز الكاتب المسرحي (محمود القليني) بتميز أعماله المسرحية ؛ فقد استطاع تجسيد أفكاره ، ومبادئه ، ورؤيته للمجتمع في ثوب أدبي إبداعي .
فقد انتقلت أعماله من حيز التعبير الكتابي إلى حيز الخلق الفني الهادف بأسلوبه الأدبي الذي يجمع الجِد والفكاهة معًا نابعًا من ثقافة تاريخيّة ودينيّة وأدبيّة .
ويُعَدُّ أدبه صورة صادقة مواكبة لتغيرات عصره ، ولسان حال أمته ؛ فقد استطاع تصوير المجتمع ، وتَغَلْغَلَ في جوانبه النفسيّة بصورةٍ أدبية فنية سلسة مقنعة ، معتمدًا على الصراع الدرامي والحوار ، مثيرًا عنصر التشويق بداخلنا .
واليوم نتناول إحدى إبداعات المبدع (محمود القليني) ، مسرحية (زقاق القناديل) الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة (2025م) ، ضمن سلسلة (المسرحيات العربية) .
نجد مسرحية (زقاق القناديل) نصًّا تاريخيًّا محملًا بإسقاطات اجتماعيّة ، وسياسيّة ، تعود لزمن الشدة المستنصرية ، ويجسّده أفراد الشعب المحكوم عليه بالجوع والعُري وانسداد الأفق .
وقد حدد المؤلف زمن الحدث ومكانه بوضوح في العصر الفاطمي زمن الخليفة (المستنصر بالله) ، عام 462هـ - 1070م ، بين الفسطاط والقاهرة ؛ أي بين موطن العامة ،عاصمة الحكم ، والانقسام هنا رمزًا لانقسام المجتمع بين شعب جائع ، وسلطة مترفة ، رصدًا للتوتر القائم بينهما ، في فترة تاريخية تتسم بالانهيار الاقتصادي .
أولًا : قراءة في العنوان وإيحاءاته :
(أ)على المستوى الرمزي :
العنوان بسيط في بنائه ، كثيف في دلالته ، وغير خافٍ أن (الزقاق) : وحدة عمرانية ضيقة ، ترمز إلى انحشار الأجساد والعيون والأنفاس ، وضيق العيش والفقر والبطالة ، بالإضافة إلى ضيق الحالة النفسية .
أما (القناديل) الشق الثاني من العنوان ، يُعدُّ رمزًا للنور في ظلمة الظُّلم ؛ فهو مصباح تقليدي يوضع فيه فتيل يشتعل بالزيت أو الكيروسين ، وهنا يستوقفني الدلالة الرمزية التي تحملها كلمة (قناديل) ؛ حيث يمثل الفتيل المواطن المقهور المسلوب حقه في عهد الخليفة الفاطمي (المستنصر بالله) ؛ فهو يحترق من أجل إرسال النور لأهله ووطنه .
ومن هنا نتوصل للبؤرة الدلالية الأولى : زقاق يضيق على أهله ، لكن قناديله تُصرُّ على الإضاءة ، فعلى الرغم من الضغوط الواقعة على الزقاق ، لكنه لا يطفئ المصابيح ؛ بل يبقيها شاهدة ومضاءة لأجيال قادمة.
(ب)على مستوى الاستعارة يتلاقى العنوان مع رمزية النص :
فنجد (الزقاق) هو جسد الجماعة ، التي تنطق بصوتٍ واحدٍ أحيانًا ، كما في هُتاف الصبية وترديدهم "يا أهل زقاق القناديل الخبز بدرهم ..يا أهل زقاق القناديل" .
بينما (الطبيب أبو الحسن على بن رضوان ) ، و(أبو شامة) ، و(إسحاق العنابي) ، و(الشيخ أبو الفتح المنصوري) يعملون كقناديل بشرية ؛ فنجد :
الأول : يعمل على إضاءة الوعي الصحي والفكري :
كما في قوله معاتبًا أم مليكة : "ألم أخبرك أنه حينما ينفد الدواء تأتين لي لإعادة فحصها ، وإعطائها الدواء (يقدم لها زجاجة) أعطيها من هذا الدواء ، ولا تعطيها شيئًا آخر" ص 61 .
وكذلك في قوله لأبي الفتح :"ما يعانيه الناس ، وما صارت إليه البلاد ليس قدرًا" ص 65
وفي موضع آخر يقول له :"يعبرون عما يشعرون به ..يضجون ..يشكون..يبكون..يكون لهم صوت لا يموتون في صمت ..الناس يساقون إلى مصيرهم كما تساق الخراف إلى المذبح" .ص66
الثاني : يعمل على إضاءة السعي والإصرار والعزيمة :
ويتضح ذلك من قوله :"أنا مقدر ما هن فيه يا عم جعفر ، أنا طوال النهار أبحث في الشوارع والحواري وأسال هذا وذاك كي أعثر لهن عن عمل يأكلن من ورائه لقمة عيش" .ص18
وكذلك قوله بعد الانضمام لجيش (ناصر الدولة) :"بعد أن نجتاز التدريب سوف نستلم أسلحة لنحضر بها الموكب الخلافي للقائد (ناصر الدولة ". ص 143
الثالث : يعمل على إضاءة الوعي الثقافي :
ويتضح ذلك من قوله : "أيها الشاعر المغمور والذي لم يقرأ من الكتب سوى عناوينها إنْ قرأها ...أتفق مع (ابن رضوان) أن الغمة التي استمرت سنوات ولا يعلم إلا الله ، إلى متى ستستمر لا يصطلي بنارها إلا الفقراء وأهل البلد ، وأما الجنود والقواد وأمراء الجنود من أتراك وأكراد وعبيد وأعراب ...فسلاحهم في يدهم يمكنهم من فعل أي شيء وهم يرتهنون البلد حتى أمير المؤمنين مرهون بإرادتهم ، واتفق...أن الناس وأهل البلد تنقصهم الإرادة والقدرة والرغبة في تغيير هذا الوضع ". ص32
وكذلك قوله :" الوضع في البلد الآن وصل إلى قمة الفساد ، وأي تغيير يحدث أظن سيكون في صالح البلد ". ص 35
الرابع : يعمل على إضاءة الوعي الديني والدنيوي :
ويظهر ذلك في قوله :"إنه قدر ولابد أن نتقبل القدر بالصبر والدعاء وانتظار أن يأتي الله بالفرج من عنده" ص 65
وكذلك قوله : "من الآن أنا لدي درس في الجامع العتيق سيكون عنوانه عدم السكوت على الظلم ، وسوف أحرض الناس أن يرفعوا أصواتهم ويضجون بالشكوى ويطالبون ولي الأمر بالإصلاح والضرب على يدي المفسدين ولن أكتفي بذلك ، بل سأتقدم في الحواري والأزقة والأسواق والميادين". ص71
(ج)على المستوى السيميائي :
يجمع العنوان بين مجالين حسّيين أحدهما حركي يتمثل في (الزقاق) ، والآخر بصري يتمثل في (القناديل) ، ومن هنا يُعدُّ العنوان (خريطة تجهيز) يستعد بها (القليني) خوض المعركة رغم انسداد الطريق .
ثانيًا : الزمان والمكان بوصفهما محركين دراميين :
لقد اختار الكاتب وقتًا محددًا (462هـ - 1070م) ؛ أي قلب سنوات الشدة المستنصرية ، وقد وضع المسرح بين الفسطاط والقاهرة ؛ فالفجوة بين العاصمتين هي الفجوة بين الزقاق والقصر، أي بين طبقة الشعب (التجار ،والفقراء ، والعوام ) الذين يعانون الفقر والمجاعة ، وطبقة الخليفة الفاطمي وأعوانه الذين يعيشون في القصور .
ثالثًا : الشخصيات بوصفها حقول دِلالة :
1-أبو شامة :
شخصية ديناميكية تتحرك من الرفض السلبي إلى الفعل المقاوم ، وتتطور داخل الأحداث ؛ لتكشف عن الصراع بين الإرادة الفردية ، والقدرة الجماعية.
*الوظيفة الدرامية : يمثل المحرك الأساسي للصراع في الزقاق ، ويكسر جمود المشهد ، ويمنح الأحداث توترًا دراميًّا .
*الدلالة الرمزية: يعد رمزًا للوعي الشعبي المقاوم ، لا يملك حلًا كاملًا لكنه يعبر عن وجع الجماعة .
2-التجار وأصحاب الدكاكين :
شخصيات ثابتة نسبيًا ، توضع في حالة انتظار سلبي ، ووجودهم يخلق جوًّا مأساويًّا .
*الوظيفة الدرامية : يشكلون الخلفية الجماعية الصامتة التي تُزيد من حدة المأساة .
*الدلالة الرمزية : رمزًا لحالة المجتمع المأزوم الذي فقد القدرة على الفعل أثناء الشدة المسنتصرية .
3-نساء الزقاق :
شخصيات هامشية لكنها مؤثرة عاطفيًّا ، تمنح الأحداث بعدًا وجدانيًّا.
*الوظيفة الدرامية : تحريك الجانب الوجداني لدى المتلقي ، وتكشف الوجه الباطني للأزمة المستنصرية .
*الدلالة الرمزية : نساء الزقاق يرمزن للانهيار الأسري بصورة كاملة .
4-الطبيب ابن رضوان :
شخصية عقلانية ، يظهر كصوت الحكمة ، والضمير الواعي.
*الوظيفة الدرامية : يمثل ضميرًا معرفيًّا يحاول تفسير المأساة المستنصرية ؛ رابطًا بين أسباب الأزمة ونتائجها .
*الدلالة الرمزية : يرمز إلى العقل في زمن الفوضى المستنصرية .
5-إسحاق العنابي :
شخصية مثقفة مهمشة ، تشارك في النقد والشكوى ، لكنها محكومة بحدود وظيفتها الرسمية في مكتبة القصر .
*الوظيفة الدرامية : يمثل صوت المثقف الناقد الذي يرى أفعال الخليفة وأعوانه داخل القصر ، ويعيش الأزمة المستنصرية خارج القصر مع العامة ، مما يعمق البعد الفكري في النص .
*الدلالة الرمزية : يرمز للمعرفة المحاصرة داخل جدران قصر الخليفة المغلقة .
6-ناصر الدولة بن حمدان:
شخصية تحمل تناقضًا جوهريًّا ؛ حيث يفرض ضغوط وضرائب على الشعب بسبب صراعه مع الخليفة الفاطمي ؛ مما يجعله سببًا مباشرًا في مضاعفة معاناتهم ، ومن جانب آخر يراه الشعب ملاذًا ومنقذًا بسبب انتصاراته العسكرية . وهنا برع (القليني) في الجمع بين المتناقضات .
*الوظيفة الدرامية : شخصية تحرك الصراع ، وتكشف عمق معاناة الشعب .
*الدلالة الرمزية : يرمز إلى الأمل الذي يتحول لخذلان .
7- الصبية :
يمثلون جيلًا جديدًا وكتلة واحدة لمستقبل واعٍ ؛ مما يمنحهم دور شخصية جماعية تعكس الروح العامة للشعب ، ودخولهم بالسيوف الخشبية يضفي على المشهد الأخير إيقاعًا مسرحيًّا جديدًا .
*الوظيفة الدرامية : نقلة نوعية من الصوت الفردي الذي مات بموت (أبي شامة) إلى الوعي الجماعي .
*الدلالة الرمزية : يعد الصبية رمزًا للأمل الوليد ، وقوة لم تَمُتْ وإن بدت ضعيفة .
رابعًا : الصراع :
لم يكن الصراع في (زقاق القناديل) أداة درامية فحسب ، بل منظومة نقدية فكرية للأزمة المستنصرية ؛ حيث نجد المسرحية تقوم على تشابك عدة مستويات من الصراع :
1- الصراع السياسي:
بين الخليفة الفاطمي (المستنصر بالله) ، وخصمه (ناصر الدولة الحمداني) ؛ مما يعكس تفكك السلطة ، وصراع النفوذ .
2- الصراع الاجتماعي والاقتصادي:
بين الشعب الكادح في الفسطاط ، ومواجهة المجاعة(من نقص الخبز والماء) والشدة المستنصرية ، فالخبز هنا ليس طعامًا فحسب ، بل مؤشر عدالة ؛ كلما ارتفع ثمنه أو شحَّ حضوره تكشّف فساد التوريع قبل فساد الإنتاج ، ويتضح ذلك من الهتاف "الخبز بدرهم" .
وهنا يظهر الانقسام الطبقي في فترة الخليفة (المستنصر بالله).
3. الصراع الفكري:
المتمثل في شخصية (الطبيب ابن رضوان والعنابي والشيخ أبو الفتح) ومحاولات مختلفة لفهم الأزمة ؛ فنجد :
ابن رضوان: يدعو إلى الإصلاح العقلاني .
العنابي: الناقد المثقف الذي يعيش صراع الضمير .
أبو الفتح: الواعظ الديني والأخلاقي.
هذه الأصوات المختلفة تجسد حوارًا داخليًا حول أسباب الانهيار وطرق الخلاص.
4-الصراع النفسي الداخلي :
نجد صراع (ناصر الدولة) بين طموحه العسكري ورغبته في حماية الناس ، و(أبو شامة) ممزق بين واقعه القاسي وحلمه بالتغيير ، وكذلك (العنابي) يعيش مأزقًا وجوديًّا بين عمله في مكتبة القصر ، وعدم الرضا عن الأوضاع ؛ فيجد نفسه ممزقًا بين الولاء والخيانة .
هذا الصراع يعمّق البعد التراجيدي ويمنح الشخصيات ثراءً نفسيًّا.
5- الصراع الرمزي :
النهاية المأساوية مقتل (أبو شامة ، واغتيال ناصر الدولة) تُبرز مأساة الأمة بين الحلم والانكسار ، وظهور (الصبية) رافعين السيوف الخشبية يفتح بابًا رمزيًّا لاستمرار المقاومة ؛ أملًا في مستقبل جديد . والرسالة الرمزية هنا أن البطولة الفردية قد تُقمع ، لكن الوعي الجمعي هو الذي يستمر.
خامسًا : اللغة وبناء المشهد :
يشتغل النص على النداء الجمعي (صوت الصبية) ، والمحادثات الجماعية أكثر من الثنائية ، وعلى سخرية شعبية محببة متمثلة في ملاطفات (غرام) لأبي شامة ، وفي المقابل لغة عسكرية من قاعة الخرائط بقصر اللؤلؤة ، وهذا التباين يُقيم جسرًا مسرحيًّا بين اليومي والسياسي ، بين العامية التي تتملك وجدان المتلقي وبين الرسمية الإدارية السلطوية.
سادسًا : الفسطاط مرآة عاكسة لحصار غزة :
لم يكن (القليني) حين كتب مسرحيته (زقاق القناديل) حريصًا على تسجيل التاريخ في صورته الحرفية ، ولا كان قصده أن يعيد علينا ما قرأناه في كتب الؤرحين من وقائع وأحداث ، وإنما كان هدفه أبعد وأعمق ؛ فقد اتخذ من (الفسطاط) صورة مصغرة لشعب بأكمله ؛ ليقول للناس إن ما جرى بالأمس ، نراه يتكرر اليوم في غزة .
نجد مأساة (الفسطاط) تعد معادلًا موضوعيًّا لمأساة فلسطين (كإسقاط معاصر)، إذ الشعب يدفع ثمن الصراع السياسي.
ونحو ربطٍ واعٍ بما يجري لأهل غزة اليوم يلجأ (القليني) إلى زمن الشِّدّة المستنصرية وفضاء الزقاق ليفتح أعيننا على أن التجويع سلاحٌ سياسي وأنّ الخبز، والماء ليسا موارد طبيعية فحسب، بل أدوات سيطرة.
هذا ما تراه العيون اليوم في غزة : حصارٌ يقطعُ أسباب الحياة ويحوّل لقمة الخبز ، وقطرة الماء إلى معركة بقاء. إنّ العِبرة في النص ليست توبيخًا للضحايا، بل أداة لحماية الإرادة الجمعية.
حين يقول الطبيب : إنّ الناس لا ينبغي أن يُثَقَّلوا بثمن الفحص والدواء وهم "يتحمّلون الجوع والعري"، فإنه يؤسس لأخلاقية الإغاثة والطب العام المجاني بوصفهما واجبًا مدنيًّا في مواجهة التجويع.
وحين يقرّر أن صوت الناس أقوى لأنهم أصحاب البلد، يوجِّه الفنّ إلى تنظيم الإرادة بدل تسطيحها؛ وهو درسٌ بالغُ الصلة بمحاصَرة غزة ، واجتماعُ الصوت من أهمّ شروط كسر الحصار.
وكذلك مشهد السيوف الخشبية لا يُمجِّد العسكرة ، بل يُربّي على الانضباط الأهلي ، وترتيب الصفوف، وتنمية المهارة، وحفظ ذاكرة القائد الشهيد في سلوكٍ جماعيٍّ راشد؛ وهي استراتيجية مقاومة مدنية قبل أن تكون حسمًا عسكريًّا.
بهذا المعنى، تمثّل (زقاق القناديل) مرآةً أخلاقية ، وجمالية تفضح سياسات التجويع وتُعلن أن الخبز قضية سياسية ، وأنّ الطبّ والإغاثة ليسا رفاهية بل حقًّا، وأنّ الذاكرة الشعبية لا تموت باغتيالٍ أو حصار.
وهنا تتجلى براعة (القليني) في توظيف التفاصيل اليومية البسيطة ؛ لتدل على معانٍ كبرى ، تُحمِّل المتلقي مسئولية المشاركة في التفكير .
وعليه فإن (القليني) يُرسخ في هذه المسرحية انتماءه إلى تيار المسرح التاريخي النقدي ، الذي يجعل من الماضي بنية رمزية للحاضر ، وعلى سبيل المثال غزة المحتلة .







0 التعليقات:
إرسال تعليق