أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

من وحي البروفة الأخيرة (ولادة من الموت / تأمل في المعنى الإنساني للمسرح)

مجلة الفنون المسرحية 
من وحي البروفة الأخيرة (ولادة من الموت / تأمل في المعنى الإنساني للمسرح).

   د. علي محمد سعيد 

النص المسرحي الذي سنناقشه يقدم تجربة جمالية ووجودية تتجاوز الحدود التقليدية للبناء الدرامي فيتخلى عن الحبكة الكلاسيكية لصالح انفتاح على فضاءات الشعر والهذيان الداخلي كل ما يتحرك على الخشبة يتحول إلى كتابة داخلية الصوت الجسد الضوء والظل ليست زينة مضافة بل عناصر تؤسس خطابا موازيا وتفتح أفقا من الأسئلة حول معنى الوجود وجدلية الموت والحياة العنوان نفسه ولادة من الموت يضعنا مباشرة أمام هذه الجدلية حيث الولادة والموت ليسا ضدين منفصلين بل صورتين لحركة واحدة كما في رمز طائر الفينيق الذي ينهض من رماده أو في رؤية ابن عربي للموت باعتباره انتقالا من دار إلى دار.
النص يتأسس على حضور البطل الذي يعيش مأزق المبدع في وحدته محاصرا بأطياف نسائية متشابكة الأم بما تمثله من أصل وذاكرة الخادمة بوصفها صوت الواقع العرافة كصورة للغموض والرغبة والفتاة الزهرة باعتبارها رمز البراءة المهددة بالزوال هذا التعدد ليس مجرد توزيع للأدوار بل انعكاس لصراع داخلي يجعل النص أقرب إلى مرآة تعكس التوتر بين الرغبة واللعنة بين الكتابة والانهيار في هذا السياق يبدو الشاب أقرب إلى هاملت معاصر مأزوما أمام ذاته مدفوعا بالبحث عن خلاص مستحيل.
اللغة هنا ليست أداة سردية بل فضاء شعري كثيف مشحون بالصور والاستعارات (ينزلق النهد كأسماك نهر)،  (  الدم يتحول إلى صديد متخثر) هذه اللغة تقرّب النص من مسرح القسوة عند أرتو حيث تتحول الكلمات إلى ضربات حسية تستهدف المتلقي وتخلخل يقينه تكرار مفردات مثل (الدم ،الصديد، اللعنة، الزهرة )يكشف عن هوس متأصل بالجسد والأنوثة والموت وهو ما يجعل الحوار أقرب إلى مونولوج داخلي أو قصيدة مأزومة لا إلى تبادل واقعي للأدوار.
بنية النص تضعه في فضاء المسرح التجريبي أو العبثي حيث يغيب التسلسل السببي للأحداث ويحل محله التكرار والدائرية النهاية التي تسلم سلطة الكتابة إلى الخادمة لا تحسم الصراع بل تعيد تأسيسه في شكل جديد كأن الإبداع نفسه حركة لا تنتهي في هذا الانفتاح يلتقي النص بروح بيكيت في دائرية الزمن وانغلاق الأفق كما يلتقي بيونسكو في جعل الشخصيات أقنعة لقلق وجودي أكثر من كونها كائنات نفسية مكتملة غير أن النص يحافظ على فرادته من خلال اللغة العربية المشبعة بالشعر التي تحمل في طياتها صدى التصوف ورمزية الجسد في آن
السينوغرافيا تعمق هذا الأفق فالضوء يتأرجح بين العتمة والوهج كعلامة على القلق الداخلي والموسيقى تنبع كصوت الذاكرة بينما يتشكل الفراغ المسرحي كمساحة للانفتاح على المجهول كل عنصر بصري أو سمعي يتحول إلى أثر يتجاوز لحظته كما أشار دريدا إلى أن الأثر يبقى حاضرا حتى في غياب الأصل وهو ما يتجلى في انطفاء الضوء أو تلاشي الظل.
المدينة نفسها ( اي القاهرة ) تدخل في النسيج الدلالي للعرض فهي  بما تحمله من تراكم حضاري وزمني تمنح النص بعدا إضافيا كأنها فضاء يولد من رماده مثلما يولد البطل من موت داخلي متكرر حضور المكان هنا ليس خلفية محايدة بل جزء من المعنى الذي يعمّق فكرة الانبعاث.
وعند إدخال هذه التجربة في سياق المسرح العربي المعاصر يظهر أن النص يقف في حوار غير معلن مع محاولات مسرحيين كبار مثل سعد الله ونوس الذي جعل من المسرح فضاء لمساءلة الحاضر السياسي والوجودي في آن عبر نصوص مثل مغامرة رأس المملوك جابر أو الملك هو الملك حيث الدراما تتحول إلى أداة لكشف تناقضات الواقع والبحث عن أفق للتجدد كما يمكن مقارنته بتجربة الطيب الصديقي في المغرب الذي أعاد صياغة التراث في شكل ملحمي وشعري مما جعل النصوص تعيش في منطقة وسيطة بين الحكاية الشعبية والحداثة المسرحية ولادة من الموت ينفتح على هذه الروح ذاتها إذ يمزج البعد الشعري بالهواجس الوجودية ليعيد إنتاج اللغة العربية المسرحية في شكل متوتر حداثي ومرتبط بالذاكرة الثقافية في الوقت نفسه
ما يتبدى في النهاية أن ولادة من الموت هو  تجربة فلسفية وجمالية تستنطق أسئلة الوجود من داخل الجسد والذاكرة واللغة.  الحياة والموت يظهران كحركة واحدة والكتابة تتحول إلى فعل مفتوح يتجاوز حدود الفرد إلى الآخر إن قوة النص تكمن في لغته الشاعرة وصوره الصادمة وقدرته على ربط المسرح بفعل إنساني متجدد حيث كل نهاية تحمل في طياتها بداية أخرى وكل موت يفتح أفقا لولادة جديدة في انسجام مع أسئلة المسرح العربي الحديث وامتدادا لمحاولاته الدؤوبة في جعل الخشبة مرآة للإنسان في قلقه وأحلامه وانكساراته
واخيرا عرض ولادة من الموت هو بناء جمالي وفكري تتداخل فيه أصوات متعددة لصناعة تجربة تتجاوز المألوف يقف في صدارة الأداء كل من الفنانة القديرة أميرة إدريس والفنان الدكتور جمال سليمان والفنانة المصرية بسمة فرح عباس مع حضور ضيف الشرف النجمة انتصار محجوب برين بما يمنح العرض ثقلا تمثيليا يتكئ على خبرات متنوعة ويؤسس لتوازن بين العمق المحلي والانفتاح على الأفق العربي النص الذي خطه الفنان التشكيلي العالمي خالد مرغيني يشي منذ البداية بانحيازه إلى لغة بصرية تتغذى من الحس التشكيلي وتتقاطع مع الدراما في اشتغالها على الرمزية والتجريد هذا النص يجد امتداداته في المعمل الفكري الذي أعده الفنان الدكتور علي سعيد حيث تلتقي القراءة النظرية مع البنية الدرامية لتمنح العرض بعده التأملي على المستوى التقني تشكل إضاءة الفنان المصري العالمي أبوبكر شريف لغة موازية للنص فهي لا تكتفي بإنارة الفضاء بل تعيد صياغته عبر الظلال والانعكاسات فيما يرفد الفنانان هشام كمال وعلي الزين فضاء العرض بموسيقى وغناء يصنعان بعدا سمعيا يوازي الحضور البصري هذه العناصر تنسجم مع الجهد الجماعي لمساعدي الإخراج ناصر كيخا والطيب السر والمخرج المنفذ إيهاب بلاش ما يجعل من عملية التنفيذ جزءا من الرؤية الكلية أما التغطيات الإعلامية التي تولّاها الأستاذ ياسر عركي والأستاذة ماجدة حسن فقد منحت العرض حضوره في المجال العام وأتاحت إعادة إنتاجه في الوعي الثقافي وتتوج هذه المنظومة بالرؤية الإخراجية للمخرج زهير عبدالكريم الذي يشتغل على تحويل العنوان ولادة من الموت إلى بنية درامية تعيد مساءلة جدلية الحياة والفناء وتجعل من العرض مختبرا جماليا وفكريا .

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption