مــونــودرامـا ( الْبَـــاكِــــيَةُ ) تأليف محمود القليني
مجلة الفنون المسرحية
تنـــويــه :
"الخنساء" و"تُماضر" في الأصل شخصيةٌ واحدةٌ ، ولكن في المسرحية تم فصل الشخصية إلى شخصيتين أو حدث استقلال لجانبي الشخصية الواحدة لضرورة فنية .
شخصية "الخنساء" تمثل الجانب المعروف لنا بكل ملامحها النفسية والعقلية والجسدية ، الشاعرة العربية المعتزة بقيم ومبادئ وتقاليد القبيلة العربية ، والتي تتيه فخرا وإعجابا باستقلال شخصيتها وثقافتها وتحقيق ذاتيتها وكيانها وسط مجتمع الهيمنة والسلطة المطلقة فيه للرجل
و"تُماضر" تمثل الجانب الإنساني والأنثوي والذي يدخل في صراع وحوار مع "الخنساء" مراجعا بعض المواقف التي اتخذتها في شبابها وتمسكتْ بها في شيخوختها وكان لها الأثر غير المحمود – من وجهة نظر "تُماضر" - على مسار حياتها بصفة عامة وعلى الجانب الأنثوي بصفتها امرأة .
الظلامُ يسودُ المكانَ ،يكاد يظهر فراش متواضع "الخنساء"ممدة عليه ، بجواره منضدة عليها صديري قديم ومهترئ من شْعْرٍ ومرآة متصدعة ، بعض الثياب القديمة المغبرة بالتراب معلقة على الحائط وبجوارها عدد من السيوف داخل جرابها الجلدي المتغضن .في الجهة المقابلة نافذة ذات مصراعين خشبيين يصدر عنهما أنين خافت إذا تحركا مع أي هبة من هبات الرياح ، ومن خلالها يسمع ما يدور خارج الحجرة .ومقاعد خشبية متفرقة في وسط المكان .
في اللحظة التي يسلط علي " الخنساء " دائرة من ضوء تنتفض من نومها جالسة على طرف الفراش تحدق في الظلام المنتشر حولها مذعورة .
الخنساء: ( تمس على عينيها المقرحتين وبصوت مبحوح متحشرج) قلتُ لك يا خناس لاتنامي
، النومُ عالمٌ مجهولٌ تضلين فيه بين متاهات أحلامه ، فلا تدرين أين أنت ومن أنت ؟! صبيةٌ تدرجُ في ميعة الشباب ، أم شيخةٌ عجوزٌ تدبُ على عصا الحسرة ( تقف تنفض جلبابها المهترئ تمد يدها تجذب الصديري وترتديه بمشقة وتأخذ العصا من على الوسادة وتعاود الجلوس ، وتمس على الفراش بيدها الأخرى ) حتى النوم تريدين أن تحرِّميه على نفسكِ ؟! ( تنهض مستندة على العصا وتسير مترنحة حتى المنتصف ودائرة الضوء تتبعها وسط ظلام المكان ، تلتفتْ ناظرة إلى الفراش ) الأمرُ لم يقتصرْ على النوم ! لقد حرمتُ أمورا كثيرة ( تنظر إلى يدها المعروقة القابضة على العصا ) أنت كائن صيغ من الحرمان ( تسير خطوة وتهز رأسها ) وكأن العذابَ والشقاءَ صارا نذرا أو قسما لا تريدين الرجوع عنهما أو الحنث بهما ..هيه يا خناس.. ( تمس على جبينها مطرقة ) وما هذا الحلمُ الذي أراه مرارا وتكرارا ؟! أراني أحدث نفسي وتحادثني ..أجادلها وتناقشني ..تلك إماراتُ الجنون يا خناسُ ..كلُّ شيء هرم فيك وضَمُرَ وجاء الدورُ على عقلك ..ظننتُ أنه سيبقى سليما حتى أموت ..الموتُ ..لقد تأخر كثيرا، ولكنني في عداد الموتى ، كلهم ماتوا تركونني.. أم أنا التي تركتهم ؟!
(تمسك برأسها الحليق ساخرة ) ما هذا الذي تهذرين به ؟! حتى في يقظتك ! ألا يكفي ما ترينه في أحلامك ؟ ( تسير منحنية الظهر تدب على العصا وتجلس على مقعد خشبي يئن ) وما ضر الأحلام أن تجافي العقل ؟! ..وما ينبغي لحلم أن يشغلك لهذا القدر يا خناس !
تُماضر : ( تخرج من مساحة الظلام ، تقترب من الخنساء وتربت على كتفها ) ليس حلما
وإنما حقيقة!
الخنساء : ( تفزع مبتعدة ) أأنت شيطانةٌ تتمثلين بي ؟!
تُماضر : ( تضع يدها على صدرها ) أنا تُماضر ألا تعرفيني ؟!
الخنساء : ( مضطربة ) أأنت أنا ؟!
تُماضر : ( تشير إليها ) بل أنا أنت !
الخنساء : أما أنك مجنونة أو أنا من جُننتُ!
تماضر : ولماذا نختلف فنحن شخصٌ واحدٌ؟!
الخنساء : ( تجلس على مقعد بمشقة ، تضع ذقنها على طرف العصا متعجبة ) أنا وأنت شخصٌ واحدٌ !( تتأملها ساخرة ) وماذا تريدين يا تماضر مني ؟!
تماضر : ( تدور حولها) أنا لا أريد منك شيئا ..بل أنت من تريدين !
الخنساء : ( تشير إليها بإصبعها ساخرة) أنا أريدك ؟!
تماضر : تلك هي الحقيقة ..ألستِ تماضر ؟!
الخنساء : ( شادرة ) بلى .. أنا تماضر !
تماضر : وألستِ الخنساء ؟!
الخنساء : بلى .. أنا الخنساء !
تماضر : إذن أنت الآن تتحدثين مع نفسك وأنا نفسك .
الخنساء : ( تحرك عصاها يمينا يسارا ) وما العجب في ذلك ؟! ليست المرة الأولى التي أتحدث فيها مع نفسي ، فقد حدثتُ عيني وحدثتُ قلبي وحدثتُ رُوحي ..بعضي يحدث بعضي !
تماضر : وما العجب في ذلك ؟!
الخنساء : العجب أني أول مرة أرى نفسي رؤيا العين ، مع أني صرتُ أكذب ما تراه عيناي ؛ فقد تقرحتا !
تماضر : ( تربت على كتفها مشفقة ) لقد أجهدتِ عينيك كثيرا .
الخنساء :وكأنك تلومينني على هذا !
تماضر : أمور كثيرة تُلامي عليها يا خنساء .
الخنساء : ( ساخرة ) بعد هذا العمر الطويل تأتين وتعاتبين ..أين كنتِ؟!
تماضر : كثيرا ما راجعتك وعاتبتك ولكنك لم تصغي إلىَّ .
الخنساء : وماذا كنت تريدين ؟!
تماضر : أن تترفقي بي ..أن ترحميني ..لقد أوشكتِ أن تقتلينني حزنا وغما وحسرة ..
الخنساء : نعم ..لقد أسرفتُ كثيرا في الحزن والبكاء( ترفع رأسها محدقة في ملامحها ) وماذا كان بيدي لأفعله ؟! هكذا خُلقتُ ..وكثيرا ما كنتُ أسألك لماذا ..
تماضر : ( مقاطعة في حدة ) قلتُ لك كنتِ لا تصغين إلى أي شيء يمنعك من التمادي في حزنك وبكائك، وكأنك كنتِ ترين في الحزن حياتك وفي البكاء سر بقائك .
الخنساء : ( تنهض وتسير خطوات نحو الفراش )وكيف لا أحزن ؟! وكيف لا أبكي ؟!
تماضر : ( تلاحقها )لا أحد يمنعك من الحزن والبكاء ، ولكن أن تقضي عمرك كله في الحزن والبكاء فهذا ما لا يقرك عليه أحدٌ !
الخنساء : ( تجلس على طرف فراشها وتضع العصا على ركبتيها وتمسح على ارأسها الحليق وعلى وجهها المعروق ) لم أكن أعرف الحزن ولم يكن بيني وبين البكاء عهدٌ ، كنتُ صغيرةً ورعناءَ ، كالمهرة الجموح ، والقلب مازال غضا طريا ، إذا مرتْ النسمةُ تركتْ أثارَها عليه ، والرُوحُ في أوج يقظتها ، والعقلُ في قمة نشاطه وتطلعه .
كنتُ غرةً ومخدوعةً ، ظننتُ أن نبع السعادة لن ينفد وتيار السرور لن يتوقف ، وأيام الفرح لن يعكر صفوها شيءٌ ، وليالي الأنس لن يغيِّب قمرها سحبُ الحزن والأسى .
كنتُ أظن أن الحياة سلسلة متصلة من الفرح والسعادة والأنس والبهجة أتقلب بين أيامها ولياليها .
نعم ..كنتُ مخدوعة ، لم يخبرني أحدٌ أن الحياة بين حلو ومر .
لم يعلمني أحدٌ أن أفطم القلب عن غيه من أن يظل سارحا في وديان الوهم .
لم يبصرني أحدٌ أن في يوم من الأيام قد تُعتصر الرُوحُ ألما وغما وحزنا وحسرة .
إلى أن قُتل صخرٌ( تضع يديها حول عنقها ) ذُبحتُ بسكين ثلمة ألف مرة ومرة ومرة .( تضع يدها على قلبها) أدمى قلبي ( تضغط بقوة على قلبها ) لو مددتُ يدي إلى قلبي للمستْ أناملي النزف لزجا ساخنا . (تقف وتدور حول نفسها وهي تدق بالعصا على الأرض ثم تتوقف رافعة بصرها إلى أعلى ) أنا لم أصدقْ نفسي ..من أين تفجرتْ كلُّ ينابيع الحزن تلك ؟!
من أين جاءتْ غيومُ الأسى والحسرة لتطبق على قلبي ؟!
.نعم كنتُ أحب "صخرا" ، وكان الأخ والصديق والأب والابن والحبيب ..كان لي كل شيء .لم يُقتل بل أنا الذي قُتلتُ ..أنا الذي ذُُبحتُ ..أنا القتيلةُ الحيةُ ، المذبوح الذي يسير بين الأحياء يعزونه .أنا قبسٌ من نار يسكب عليها الزيت مرارا لتظل مشتعلة إلى الأبد .
تماضر : ( تتقدم نحوها ) لا أنت آخر ولا أول من فقدتْ عزيزا عليها !
الخنساء : أتظنني لم أحاول أن أرعوي ..كثيرةٌ تلك الليالي التي استيقظتُ فيها وأنا أطبطب على صدري ، وأترفق بروحي المتصدعة وأحاول أن ألملم حبة قلبي المتشققة ..ولكن كل محاولاتي تزيد ناري استعارا وتوهجا ، النار أحالتْ حياتي إلى رماد ، ولكن بقتْ النارُ تحت الرماد تأكل في الضلوع وتسكن الحنايا .
تماضر : كنتِ امرأةً خرقاءَ بددتِ سنوات عمرك في البكاء على من مات وفني وبماذا أفادهم ؟! بل وبماذا أفادك ؟!غير أنك أفنيتِ عمرك حزنا وأسفا وحسرة !
الخنساء : ( متعجبة ) لم أفكر لحظة في جدوى حزني وبكائي ، ولا ماذا أفادهم وماذا أفادني و..
تماضر : ( مقاطعة) أواه يا ( خنساء ) مازلتِ مصرةً على أن تبددي ما بقي من عمرك ، ستعاندين وتحاولين إقناعي أنك كنتِ على صواب ! لماذا لا تصارحيني ولومرة واحدة أنك كنتِ مخطئةً ؟!
الخنساء :( تضحك في سخرية وهي تمشي تدق بعصاها على الأرض ) أكون مخطئة في سنة أو اثنين أو ثلاث أما أن أكون مخطئة في عمري كله ، خير لي أن أظل مخدوعة بدلا من أن أصحو من أوهامي فيما بقى من عمرى ..وأظن لم يبق لي الكثير !
تماضر : ( تشير إليها في سخرية ) العظمُ وهن ، والشعرُ تساقط والعروقُ يبست ، والبصركلَّ،الكيانُ تصدع وتقوض فمن يبكي عليك .من يبكي عليك ؟!
الخنساء : وهل أنا امرأةٌ خرقاء لن يبكي عليَّ أحدٌ ؟!
تماضر : لن يبكي عليك أحدٌ ، وإن كان فلتبكي أنت ( تضحك ساخرة ) أتصدقين أن لو وُجد من يستحق البكاء عليه فهو أنت ؟!
الخنساء : ( شاردة ) كنتُ سيدةَ الباكيات و ..
تماضر : ( تدور حولها ) سؤال كثيرا ما كنتُ أريد أن أسألك إياه، ألم يكن هناك بديل عن البكاء ، إلم يجد الوفاء سوى البكاء دليلا عليه لديك ؟!
الخنساء : ما في قلبي "لصخر" يتعدى الوفاء بمراحل ، وإن كان هناك غير البكاء لقدمتُه له .
تماضر : كل مشاعرنا الإنسانية لها حدود لا تتجاوزها إلا ترين أنك تجاوزتي تلك الحدود وبالغتي كثيرا في حزنك وبكائك ، فإذا ذُكر الحزنُ والبكاءُ ذُكرتْ الخنساءُ ؟!
الخنساء : ذلك أنني امرأة عربية أصيلة ، عمادُ خلقها الوفاءُ وحفظُ الجميل ، الشيء الآخر أن ما فعله "صخر" ..
تماضر : ( مقاطعة ) ما قدمه "صخرُ" لك يقدمه أي أخ لأخته ..ما العجييبُ في ذلك ؟!
الخنساء : ( مستنكرة ) لا ...لا تغبني حق وجميل ومعروف "صخر" ، فما فعله لا يفعله أي أخ لأخته ، فأني لن أنسى ما حيتُ ما فعله من أجلى وذلك أنّ أبي زوّجني سيد قومه، وكان رجلا متلافا، فأسرف في ماله حتى أنفده، ثم رجع في مالي فأنفده أيضا، فذهبت إلى "صخر" فقسم ماله شطرين، ثم خيّرني في أحسن الشطرين، فرجعتُ من عنده، فلم يزل زوجي حتى أذهب جميعه ،فذهبتُ إلى "صخر" فقسم ماله شطرين وخيّرني في أفضل الشطرين، فقالتْ له زوجتُه: أما ترضى أن تشاطرها مالك حتى تخيّريها بين الشطرين؟ فقال قاطعاً عليها كل إعتراض:
والله لا أمنحها شرارها وهي حصان قد كفتني عارها
ولو هلكتُ مزقتْ خمارها واتخذتْ من شعرها صدارها.
تماضر : ( ساخرة ) أعطاك مالا فانيا ورهن ما بقي من عمرك ، والعمر لا يقدر بمال !
الخنساء : أنا من رهنتُ عمرى وعن رضا ولو لدي أعمارٌ لرهنتُها كلَّها .
تماضر : لم أر امرأة أكثر حمقا منك ، بددتِ أجمل أيام عمرك وأضعتِ وعود السعادة والسرور التي قد تصادفها أي امرأة ، وعشتِ في حداد أبدي .
الخنساء :( تقف في مواجهتها رافعة العصا في وجهها ) ماذا تريدين منى ؟! وما الذي تسعين إليه ؟
تماضر : ( ثائرة منحية العصا جانبا ) لقد جنيتِ علىَّ يا خنساء عشتِ داخل سجن من أوهامك ، نسيتِ أنك امرأةٌ ، أخرست كل صوت للأنثى طوال عمرك المديد الشقي ،ووأدتِ كل لهفة من لهفاتها ، وبددتِ كل عاطفة من عواطفها ، وأطفأتِ نار كل شوق من أشواقها .
الخنساء : ( منهارة ) ما بالك بعد كل تلك السنين تعودين إلىَّ ، تعاتبني وتخاصمني ، لقد رضيتِ فيما مضى ، فما بالك تعودين الآن غاضبةً ناقمةً ثائرةً ؟!
تماضر :لأنك ضعفتِ وهرمتِ ولستِ بقادرة على كبت وكظم ما كنتِ قادرة عليه فيما مضى ؟!
الخنساء : ( تجلس على المقعد وتضع ذقنها على مقبض العصا ) أتراك تريدين أن ترتوي بعد طول ظمأ؟! ( تضع يدها على صدرها ) ومن أين لهذا الإرتواء وقد جفَّ الضرع ؟!
تماضر :( تقترب منها معاتبة ) ما ضرك لو عشتِ كما تعيش كل بنات حواء ؟! وأمضت حياتك كما تمضيها كل امرأة ؟وذقتِ من الحياة حلوها ومرها كما تفعل كل أنثى ؟!
الخنساء : (مستنكرة ) وهل أنا لم أعش كما تعيش كل بنات حواء ؟! ولم أمض حياتي كما تمضيها كل امرأة ؟! ولم أذق مر الحياة وحلوها كأي أنثى؟!
تماضر : ( تقترب منها وتمسك بكتفيها ) لا ..كنت للرجل أقرب منك للمرأة .. وللذكر أحب إليك من الأنثى ...( تذهب نحو المنضدة وتلتقط مكحلة متربة وترميها على الأرض ) كم مرة تزينتي ؟! ( تلتقط زجاجة عطر قديمة وتلقيها على الأرض ) كم مرة تعطرتي ؟! ( ترفع المرآة وتلقي بها إلى الأرض ) منذ كم سنة لم تري وجهك في المرآة ؟! حل حدث ولو مرة واحدة و تمنيتين أن تكوني بين أحضان ...( تصمت وتشير إلى وجهها ضاحكة في سخرية ) حتى الآن تخجلين وتموتين حياء لمجرد ذكر الأحضان ...أنت حتى في أحلامك ( تصمت قليلا مستنكرة وتذهب نحو الفراش ) هذا الفراشُ يشهد أن صاحبته لم تكن تحلم ، وإذا حلمتْ فهي أحلامٌ جامدةٌ متحجرةٌ مقيدةٌ ،يالك من امرأة قاسية جبارة ..حتى الأحلام قدرتِ أن ترويضها ..حيزبون شهربة حليقة الرأس منحنية الظهر مقرحة الجفنين ، شعثاء غبراء !
الخنساء : ( تنهض وتسير مترنحة بين الأشياء الملقاة على الأرض وتعود للجلوس على مقعدها في مواجهة تماضر ) هل أفرغتِ كل ما في جوفك من نقد ؟!هل أشبعتِ رغبتك في اللوم والتأنيب ؟! ألا فلتعلمي أني لستُ بنادمة على كل ما فعلتُه ،ولو عادتْ بي الحياةُ لبدايتي لفعلتُ ما فعلتُه ولم أغير من أمري شيئا ؛ لأني امرأةٌ عربيةٌ كريمةٌ المحتد ، طيبةٌ الأصل ، قويةٌ كالصخر ، شامخةٌ كالجبل، منذ نعومة أظفاري وأنا معتزةٌ بنسبي واثقة بشخصيتي ، زاهدةٌ في كل ما ترغب فيه الفتيات ، حينما تقدم سيد بني جشم ( دريد بن الصمة ) إلى خاطبا ، جاء والدي يستشيرني وكان هذا خاصة لي فالفتيات كن لا يستشرن ،وقال لي : («يا خنساء! أتاك (دريد بن الصمة) يخطبك وهو من تعلمين..» ورفضته قائلة " يا أبت: أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح، وناكحة شيخ بني جشم؟
تماضر : (مقاطعة ساخرة ) وهل اُنصفتِ في زواجك من أبناء عمومتك ؟!
الخنساء : لم أكن لأفضل عليهم أحدا .
تماضر : لم يكن لقلبك رأي فيما اختارتِه منهم ،ولم يعرف الحب الطريق إلى قلبك .
الخنساء : ( شاردة ) الحب ..! كلمة وقعها غريب على قلبي قبل أذني ( تلتفت إليها ) أتصدقين أنني ...
تماضر : ( مقاطعة ) أصدقك قبل أن تكملي ...فلم يسبق أن تحادثنا عن الحب ، حتى أني ظننتُ أنك امرأة بلا قلب .
الخنساء :(تكظم مشاعرها ) لن أغضب منك ..أتدرين لماذا ؟
تماضر : لأني أقول الحقيقة !
الخنساء : لأني تمنيتُ أن أكون كذلك .
تماضر : ( متعجبة ) تمنيتِ أن تكوني امرأة بلا قلب ؟!
الخنساء : لقد عشتُ عمرا أهرب من قلبي ، وأدفن كل نبضة من نبضات الحب و ..
تماضر : ( مقاطعة في لهفة ) ألهذا لم يكن لتلك الكلمة تواجدٌ كثيرا في شعرك ؟!
الخنساء : ( متهللة ) شعري ..لا أدري كيف كنت أحيا لولا الشعر ..أنه النفس الذي أتنفسه ! حينما كان يمتلئ القلب حزنا يفيض شعرا ، لعله يخفف مابي، لعله يكون سلوى وعزاء ، لعله يضمد جروح الروح ، لعله يجبر إنكسارها ، ولكنه كان كالزيت على النار يزيدها اشتعالا ، وكأني لا أريد أن أطفئ لهيب النار ، صرت كمخلوق يجد في النار كل لذته وسعادته !
تماضر :( متعجبة ) أحقا يا خناس كنت لا تريدين إطفاء نار الحزن ؟! لقد حرمتِ على نفسك الراحة والهناء ، وعقدتِ بينك وبين الحزن عهدا وميثاقا ، ألم تسألي نفسك بعد هذا العمر الطويل هل ستظلين أبد الدهر حزينة باكية ؟! ألم تحاولي أن تتوقفي عن قول الشعر قد تنطفئ نيرانك ؟!
الخنساء : ( تدق الأرض بالعصا ) ليس بيدي ...ليس بيدي شيء!
تماضر : ( تشبك يديها وتتقدم نحوها ) ربما كان الشعرُ مصدرَ عذابك وشقائك .
الخنساء : ( متجهمة ) كيف ؟!
تماضر : لو لم تكوني شاعرة ..هل كان لحزنك وبكائك كل هذا الإمتداد والعمق ؟!
الخنساء : ( مفكرة ) تقصدين أن شعري كان الوقود الذي أمد حزني بمدد لا يفتر ولا ينفد ؟!
تماضر : ولماذا لا يكون العكس !
الخنساء : ( متعجبة ) كيف ؟!
تماضر : أنك حرصتِ أن يظل حزنك متأججا ومشتعلا ليمد شعرك بمدد لا ينقطع .
الخنساء : ( متحيرة ) الحزن هو من نسج الشعر ، أم الشعر هو من أبقى على الحزن وغذاه ؟! ومن الذي صنع الخنساءَ الحزنُ أم الشعرُ ؟!
تماضر : لم لا يكون الشعرُ والحزنُ معا هما اللذان صنعا الخنساءَ !
الخنساء : ( غاضبة ) لا الحزن صنع الخنساء ولا الشعر صنع الخنساء !
تماضر : ( متحيرة ) إذن من ؟!
الخنساء : ( تشمخ بأنفها ) الخنساءُ هي من صنعتْ الخنساءَ .
تماضر : ولكن الناس لا يعرفونك إلا كشاعرة ، ولولا شعرك لجهلك الناس جهلا تاما !
الخنساء : ( غاضبة ) ومواقفي !
تماضر : أي مواقف تقصدين ؟!
الخنساء : موقفي كأم مضحية ..أخبريني عن أم قدمتْ فلذات أكبادها ، لم تكتف بابن أو اثنين أو ثلاثة بل بالأربعة ، وكنتُ على يقين أنهم سيستشهدون في أقدس وأطهر وأجل الحروب ( تتقدم وهي تدب على العصا نحو الحائظ المعلق عليه السيوف الأربعة مشيرة إليهم ويسمع صهيل الخيول صادر من النافذة الخشبية )جمعتهم قبل أن يودعوني وقلت لهم : يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم ولا فضحتُ خالكم، ولا هجنتُ حسبكم ولا غيرتُ نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحربَ قد شمرتْ عن ساقها واضطرمتْ لظى على سياقها وجللتْ نارًا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة. وحينما جاءني خبر استشهادهم شعرتُ بأني طُعنتُ في قلبي بسكين ولكن حالما ثاب الفؤادُ وارتقى رقي أبنائي ، ولا أدري من أين تنزلتْ سحائبُ البرد والسلام على قلبي ووجدتُني أقول : الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته .
تماضر : ( تقترب منها وتمسح على رأسها ) هل كنت تحبينهم ؟!
الخنساء : ( تمسح على عينيها المغرورقة بالدموع ) وهل توجد أم لا تحب فلذات أكبادها ؟!
تماضر : ولكنك لم ترثي واحدا منهم ، وملأتِ الدنيا برثاء "معاوية" و"صخر" وبكيتِ ونزفتِ عليهما الدمع غزيزا، وأبكيتِ من حولك
الخنساء : ( تدب بعصاها سيرا في المكان مطرقة ثم تجلس على مقعدها واضعة العصا فوق ركبتيها مشيرة إلى صدرها) اُتهمتُ بقسوة القلب ، وغلظة المشاعر ، وطعونني في أمومتي وأن "معاوية" و"صخر" أحب إلى من أبنائي الأربعة و ..
تماضر : ( مقاطعة ) معهم حق في هذا ، لقد ملأتِ الدنيا شعرا وأبكيت العالمين ألست القائلة :
وسوف أبكيك ما ناحت مطوقة وما أضاءت نجوم الليل الساري .
ألم تمدحي صخرا لم يمدح مثله رجل قائلة :
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
الخنساء : ( باكية ) حنانيك ..كفى لقد أيقظت من الجروح ما كان غافيا ، وأدميت منها ما كان قد تماثل للشفاء و ..
تماضر (مقاطعة في حدة ) إن أولادك الأربعة لم يظفروا منك بشطر بيت ،لم تفيضي عليهم بدمعة من بحور الدموع الذي أفضته على أخويك ..
الخنساء : ( تقاطعها ثائرة غاضبة ) لأنهما قتلا ..
تماضر : ( متعجبة ) وبنيك الأربعة .
الخنساء : ( تدب على العصا متجهة نحو السيوف على الجدار ويسمع صهيل خيول صادرا من النافذة المغلقة ) كيف أرثيهم وهم أحياء عند ربهم
تماضر : إذن أمدحيهم كما مدحتي صخرا .
الخنساء : ( تلتفت إليها ) وهل بعد مدح الله لهم مدح ( تبحث في أرجاء المكان عنها وتدق الأرض بعصاها ) أين ذهبتِ ؟!أين اختفيت ؟! كنت أعلم أنك بعد أن تحاكميني وتعاتبيني وتفتحي الكثير من الجراح ستتركيني كما الجميع تركونني ( تدور في المكان مترددة حائرة، تلملم جلبابها حول جسدها الناحل ) ما أطول ليلي ، وما أشد برودته ، الجميع تركونني ( تتلفت حولها ) ..وحيدة ..منفردة ( تذهب نحو الفراش تجلس على طرفه ) ما أتعس من يمتد عمره وقد فقدَ الأحبةَ والصحابَ ..ويبقى القلبُ فارغا والعقلُ خاويا إلا من الذكريات التي تكوي القلب حينا وتداويه أحيانا ...ما جدوى العمر ؟! وفيم البقاء ؟! جفت مياه الحياة في كياني ..كشجرة تيبستْ أغصانُها وتساقطتْ أوراقُها وتقلصتْ ظلالُها. وكأن كُتب على هذا القلب أن يعاني! ( تنظر إلى الباب الخشبي المغلق مشيرة إليه بعصاها ) لم أعد أرى من حولي ، ولا من حولي يراني .لم أعد أسمعهم ، وهم لا يكلفون أنفسهم الاستماع إلي ! لم يعد شوقي إلى الاستنئناس بهم يدفعني نحوهم ،...قذف بي زماني في ركن من أركان النسيان والإهمال ، كجراب مهترئ لسيف صدئ رمى به صاحبه غير نادم..صرتُ غريبة وثقيلة عمن حولي ...وأشد غربة وثقلا على نفسي التي جاءتْ تخاصمني وتحاسبني ( تنهض وتتجه نحو الباب وهي تدب على العصا ) سبعون عاما ومازالت تلك القدمان المرتعشتان تحمل هذا الجسد المعنى ...سبعون عاما ومازال هذا القلب الكليل ينبض ...سبعون عاما ومازال هذا العقل المجهد يجتر ذكريات العمر الطويل . ( تقف أمام الباب وتدق عليه دقات متقطعة بعصاها ) أنا هنا أيها الثكالى ...أنا هنا يا من حطمهن الحزن ...تعالى لأحتضنكن ! تعالى لأخبركن .تعالى لأعلمكن .تعالى لأبصرنكن ..أن الحياة ليستْ نسمةَ صيف ، لا أنكر أنني عشتُ أزمانا طيبة ذقتُ فيها شهدَ الوئام ! ولكنني عشتُ أوقاتا تعيسة تجرعتُ فيها مرَ الفراق ..مرَ الفراق ...مرَ الفراق ( تلتفت متجه نحو الفراش تدب على العصا ) مليئة بالأحداث والأمور الجسام كانت حياتي ، كنتُ في حاجة إلى عمربجوار عمري حتى لا يفوتني شيء... أحببت الحياة ..نعم بل كنتُ أعشقها بحلوها ومرها ..وهل الحياة إلا هذان المذاقان ..الحلو والمر ( تجلس على الفراش ، تتمدد عليه وتضع العصا على صدرها ناظرة إلى أعلى رافعة يدها ...يظلم المسرح ، وتبقي دائرة نور عليها ثم تخفت شيئا فشيئا حتى يظلم المسرح كله ) .
( ستار )








0 التعليقات:
إرسال تعليق