مسرح العرائس في المناهج التعليمية
مجلة الفنون المسرحية
مسرح العرائس في المناهج التعليمية.
*آمنه بنت محمد البلوشي
تظل ذاكرتي تحمل صورة لا تُمحى، صورة عم خليل، الرجل الذي كان قلب الهبطة ينبض بالحياة والبهجة. بين أصوات الباعة وروائح الحلويات والبهارات، وبين الألعاب التقليدية والمواشي والملابس العمانية، كان عم خليل يقدم عروضه الصغيرة التي تجمع بين السحر والتعليم في آن واحد. جلس خلف شاشة بسيطة، فوقها قماش متواضع، يدفع الزوار له مبلغًا رمزيًا لا يتجاوز 100 بيسة، ليشاهدوا صورًا تتحرك تتراقص بين يديه، وكأنها على قيد الحياة. كان يمتلك أدوات خشبية منحوتة بعناية، تتحول بين يديه إلى شخصيات نابضة بالحياة، والحبال تمتد بين يديه برشاقة، تتحرك وفق إيقاع القصص والحكايات، كل حركة للحبل كانت درسًا، وكل دوران للشخصية كان يحمل معنى. كان عم خليل، بمهارته وموهبته، مهندسًا للحكاية وفنانًا للحركة، يروي للأطفال ما لم تستطع الكتب أو الصفوف أن ترويه.
الهبطة، ذلك السوق الشعبي المفتوح قبل أيام العيد، لم تكن مجرد مكان للشراء والبيع، بل مختبرًا للحياة والخيال. الأطفال يتعلمون الصبر أثناء الانتظار، والتفاوض أثناء البيع، ويعيشون قيم التعاون والمشاركة، بينما يشاهدون الحكايات تتكشف أمام أعينهم. تمامًا كما يفعل مسرح العرائس، كان عم خليل ينقل القيم والأفكار بطريقة طبيعية، تجعل التعلم متعة لا تُنسى ودرسًا حيًا يعيش في الذاكرة.
لكن الزمن مر، واختفى عم خليل في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، واختفت معه المجسمات الخشبية بعناية، ولم تبقَ سوى الحبال المعلقة في زاوية بيته، صامتة، تذكّرنا بفن كان ينبض بالحياة ويغذي العقول ويحرر الأرواح. هذا الغياب لم يكن مجرد فقدان للترفيه التقليدي، بل خسارة ثقافية وتربوية عميقة، لأنه يرمز إلى فقدان وسيلة تعليمية فريدة تجمع بين الحكاية واللغة والتعبير والإبداع.
برغم كل هذا، يظل مسرح العرائس يحمل قوة لا تُضاهى، نافذة للغة تتفتح على المعاني الجديدة، يجعل الكلمات حية والحروف ترقص على مسرح الخيال، ومنصة لصناعة الحكاية حيث يمكن للأطفال والمعلمين تحويل قصص التراث أو البيئة أو القيم الاجتماعية إلى عروض مرئية وجاذبة، لتصبح محتوى ثقافي عالمي يربط التراث المحلي بالعالم. إنه محفز للتفكير النقدي والإبداعي، حيث يراقب الطفل تصرفات الشخصيات، يستنتج النتائج، ويتعلم كيف يحول الخيال إلى فعل والفكرة إلى تجربة ملموسة، وفرصة اقتصادية وثقافية يمكن من خلالها تحويل الفن التقليدي إلى صناعة معرفية مستدامة، توفر فرص عمل، وتعيد الحيوية للتراث، وتفتح أبوابًا للربط بين الثقافة المحلية والعالمية.
وقد لاحظت في بعض معارض الكتب في الخليج والوطن العربي أن العديد منها يفتقد عنصر الترفيه الفني المباشر، الذي كان يملأ الهبطة بالبهجة، ويجعل الأطفال يندمجون في الحكاية ويعيشونها بعيونهم وقلوبهم. الغياب هنا ليس فقدانًا للتسلية فحسب، بل فجوة حقيقية في مهارات الأطفال اللغوية والإبداعية، فالطفل الذي يشاهد الدمى تتحرك ويتفاعل معها يتعلم لغة الحوار، التعبير عن المشاعر، وصياغة الأفكار، كما كان يحدث مع عم خليل.
تظهر التجارب العالمية مدى نجاح مسرح العرائس في الجمع بين التعليم والترفيه والاقتصاد. ففي بودابست وبراغ، تقدم مسارح العرائس عروضًا مستمرة تستقبل عشرات الآلاف سنويًا، محققة عوائد مادية من التذاكر والورش التعليمية والمعارض المصاحبة. أما في كندا وبريطانيا، فقد تنوعت مصادر دخل فرق مثل Mermaid Theatre وPuppetSoup وPuppet Theatre Barge بين العروض المباشرة، الورش التدريبية، العروض السياحية، والتعاونات الدولية، مؤكدة أن العرائس يمكن أن تكون صناعة ثقافية واقتصادية متكاملة.
وفي الخليج، بدأت التجارب المحلية تؤكد نجاح الفكرة أيضًا. ففي الإمارات، يقدم مركز فنون العرائس في الشارقة ورش عمل وعروضًا تفاعلية لتعليم صناعة العرائس وتحريكها والتعبير بها، بينما تقدم أبوظبي ودبي عروضًا في Al Qattara Arts Centre وLes Marionnettes للحكايات الإماراتية والعالمية بأسلوب ممتع، مع ورش عمل مدرسية وعروض بلغات متعددة، ليصبح نموذجًا خليجيًا في الترويج الثقافي والتربوي لمسرح العرائس. أما في الكويت، فقد أصبح مهرجان الطفل العربي منصة لتنافس الفرق الخليجية والعربية، مما يعزز روح الإبداع والمشاركة لدى الأطفال ويؤكد قدرة المسرح الحي على تطوير مهارات التعبير والإبداع.
ولا ننسى التجارب العربية التاريخية؛ ففي مصر، قدمت أيقونة الليلة الكبيرة لأول مرة عام 1961، مزجت بين الدمى والموسيقى والغناء والمسرح، وحققت انتشارًا عربيًا ودوليًا، لتصبح مثالًا حيًا على قدرة العرائس على الجمع بين التراث والفن الجماهيري والتواصل العالمي. وفي الأردن، تعكس مبادرات مثل مشروع متحف العرائس الأردني وعروض Dongola اهتمامًا بالحفاظ على التراث المسرحي العربي وتطويره، مع إتاحة منصات للأطفال للتعلم والمشاركة الثقافية.
وتلعب المعاهد المسرحية دورًا حيويًا في نشر ثقافة العرائس وتدريب الطلاب على الديكور والتحريك والتعبير المسرحي، ما يجعل كل قصة وكل شخصية درسًا حيًا في الفهم والإبداع. ومن الكويت، تبرز تجربة دكتورة خلود الرشيدي، التي أثبتت أن مسرح العرائس يمكن أن يكون منصة تعليمية وثقافية وتجارية، يطور اللغة والتعبير لدى الأطفال، ويعلمهم صناعة الحكاية، ويتيح إنتاج محتوى ثقافي جذاب يصل إلى العالم مع الحفاظ على التراث والإبداع المحلي.
برغم كل هذه التجارب الناجحة، يبقى مسرح العرائس غائبًا عن المناهج التعليمية الرسمية والأنشطة الثقافية المدرسية. الطفل اليوم لا يجد فرصة للالتقاء المباشر بالشخصيات، ولا يعيش تجربة صناعة الحكاية، ولا يشارك في الحوار الحي كما كان يحدث في الهبطة مع عم خليل. هذا الغياب يمثل فجوة حقيقية في الثقافة العربية والخليجية، تمنع الأطفال من التعلم المباشر، وتعيق تطوير مهارات التعبير والخيال، وتضيع فرصة تحويل التراث والفن إلى محتوى حي يمكن أن يلهم جيلًا جديدًا قادرًا على الإبداع، والابتكار، والاستثمار الثقافي.
ومع ذلك، تبقى الإمكانات موجودة، والتجارب العالمية والعربية والخليجية تثبت أن إدماج مسرح العرائس في المناهج والفعاليات التعليمية يمكن أن يحوّل الخيال إلى فعل، والفكرة إلى تجربة، والفن إلى مشروع تعليمي وثقافي مستدام. وكما كان الأطفال في الهبطة يستمعون إلى عم خليل ويعيشون الحكاية، يمكن للأطفال اليوم أن يعيدوا الحياة لهذا الفن، ويجعلوه جسراً بين التراث واللغة والإبداع والاستدامة الثقافية والاقتصادية.
* ناقدة من سلطنة عُمان
Ayaamq222@gmail.com








0 التعليقات:
إرسال تعليق