أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 26 أبريل 2017

الحكواتي ماحي صديق..تروبادور الزمن المتحول

مجلة الفنون المسرحية



الحكواتي ماحي صديق..تروبادور الزمن المتحول

احميدة عياشي 


في "ربيع أسود"يقول كاتبي الذي أحببت حياته المتشردة ونزق كتاباته يوم كنت طالبا جامعيا الأمريكي هنري ميللر(1891-1980)"انا رحالة، ولست مغامرا"وهل يمكن آن يكون المرء رحالة دون آن يلتف حول عنقه حبل المغامرة،؟!الرحلة مغامرة، والمغامرة هي رحلة في قلب المجهول والخطر، رحلة في الظلام وفي أذغال الزمن المبهم المليئ بالأشياة الحلوة والمرة التي لايمكن آن تنسى لتتحول في لحظة الراحة المؤقتة أو الاستراحة من الترحال إلى حكاية تروى،يستعيد فيها صاحبها الوجوه التي بات يفتقدها والأزمنة التي أصبحت تشكل بالنسبه اليه مصدر الشوق والحنين،حكاية تنقل من مكان إلى مكان ومن سخص إلى آخر..
قفزت إلى ذهني مثل هذه العبارة التي قرآتها منذ وقت طويل وعثرت عليها في أحد دفاتري القديمة وأنا آتهيأ للكتابة عن ماحي صديق الذي أصبح حكواتيا محترفا منذ التسعينيات،هل كانت الحرب التي عشنا نارها وأوارها وجحيمها هي من فتقت في أعماق ماحي ذلك الخيط الإبيض الذي جذبه إلى سحر الحكاية التي لم تتوقف لياليها التي تحولت من السواد إلى ألوان ستى عمرة بالحياة والرغبة الجامحة في العيش الذي يجعل من المأساة حكاية تروى، ومن التاريخ خيوطا تنسج ومن التجربة الشخصية زادت لتعددالحكاية وانبعاثها من تحت رماد الحياة اليومية القاتلة كما الطير الأسطوري الخرافي كما العنقاء !
ماحي ليس مجرد حكواتي بالنسبة إلي وحسب بل هو صديق تعودعلاقتي به إلى أكثر من ثلاثين سنة،لا أكاد أصدق أن تكون علاقتي به تمتد إلى هذه السنوات الطويلة التي تذكرنا بالماضي السحيق شبه المندثر وبالزمن وبالموت المحلق في السماء كعقبان مسرحيات كاتب ياسين القديمة وكغربان أفلام هيتشكوك العظيم...ماذا لو أردت استعادته من أيامنا الأولى لأروي حكاية الصديق الذي أصبح حكواتيا ،تروبادورا يجول في داخل البلاد من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى أخرى..أحد الصورة مستتة، متلاشية أحيانا ومكثفة في أحيان أخرى
إبن الڤرابة الذي يروي حلمه وهو يمشي
عاش ماحي طفولته في المدينة العتيقة وتسمى الڤرابة،في هذا الفضاء أتفت سيدي بلعباس حول ذكرتها وتلافيف حياتها الحميمة، قريبة من وادي ماكرُة الذي يمشي متهاديا حينا ويشتد هيجانه تارة ليتحول إلى فيضان كاسح، متمرد، متجدر ، فالع للشجر والحجر والحيوانات والأشخاص..فيضان وادي ماكرٌة أسطوري وغريب،لم يكتب عنه إلا القليل، حكاياته ظلت تروى من العجائز إلى الأحفاد، وكان ماحي من هؤلاء الأحفاد الذي تفتح ذهنه على شجرة الحكاية المتشابكة والمعقدة والمتدفقة،حيث تأخذك إلى حيث لاتدري،ولد في سيدي بلعباس العتيقة،في العام 1960 كان يفصلنا عن يوم الاستقلال عامان،لم تكن سيدي بلعباس مدينة عادية، بل كانت مدينة كولونيالية بامتياز،حولها نابليون الثالث إلى عرين اللفيف الأجنبي،جاءها العسكريون المغامرون من كل الجهات، وتدفق نحوها المعمرون من كل الأنحاء، من جنوب فرنسا، من إسبانيا، من إيطاليا، من مالطا، لكن اأيضا توجه نحوها المغاربة من سجلماسة والسود من المالي والنيجر، وكانوا يسمون بالعبيد،تحولت سيدي بلعباس إلى موزاييك حقيقي، تمازجت في بوتقته الإثنيات والقوميات والديانات والثقافات،تلاقى فيها المغامر بالمقاوم، المهجر بالرحالة،الغازي بالاجئ،لم تكن مدينة ذات جاه تاريخي برغم وجود الأثار الرومانية والبربرية في الضواحي التي تدل على أن للمدينة ذاكرة
وصل اليها الأمير المقاوم عبد القادر، كان لديه رجاله في سيدي بلعباس،كان الأمير يقاوم على أكثر من جبهة،يواجه العسكر الفرنسي من جهة والخائن المنقلب الذي رأى في أوامر الأمير تضييقا وردعا وحدا لحريته وإلحاق ضر بمصالحه
كان الطفل ماحي مسلم شديد الارتباط بوالدته التي كانت تتكلم الى جانب العربية الفرنسية والإسبانية،كان وضعهم متواضعا،يفتقر البيت إلى الإضاءة عندما يحل الليل وهنا يقول لي ماحي كانت "الأم لا تتوقف عن الرواية،تحكي بتدفق وغزارة خاصة وأن حكاياتها تكاد لا تتوقف أو تذبل،كانت بالنسبة لماحي المنهل الذي تغذى به مخياله، يتحول الليل الى كتاب مفتوح وصوت الأم لا يتوقف بل يجول بالطفل في القرى، والجبال، والبراري،ينتقل به من زمن إلى أزمنة مفتوحة تلك الحكايات يقول لي ماحي "ظلت محفورة بذاكرتي ومنقوشة في خيالي،كانت نبعث بقوة وحيوية وأنا ألتقي بجمهوري المتعدد في مدن عربية وأوروبية وجزائرية،كان صوت الأم ينبعث من تحت الطبقات السميكة التي علاها غبار الزمن المتتالي والتراكم، وغطت عليها الأيام المتناسلة"
ناس الطحطاحة
يتذكر ماحي صديق مكان طفولته الآول ومهد صباه الزاخر بالصور والوجوه يقول " كانت الطحطاحة قلب القرابة، وقلب سيدي بلعباس العتيقة التي كان يسكنها الأهالي وقت الاستعمار بينما المدينة الكلونيالية فلقد كان يقطنها الفرنسيون والاسبان والمالطيون ،عالمان متناقضان ومتصدمان، هناك في المدينة الكولونيالية،المقاهي التي تجلس على طيراساتها البنات الحسنوات والشباب الذي يتجرع الجعة، والاستيديوهات التي تنطلق منها الاغاني الشهيرة في ذلك الزمان،بينما في المدينة العتيقة حيث الطحطاحة تنتشر المقاهي العربية من مقهى الهلال إلى مقهى ولد الزين هناك كان يجلس مغنيي الراي القديم مثل الشيخ المدني صاحب الأغنية الشهيرة "يا عودي واش بيك!؟"هناك كان يلتقي الشعراء الشعبيون يتداولون قصائد الملحون،ويتبادلون الاخبار والقصص، وفي قلب الساحة المسماة طحطاحة يجلس المداح ن والڤوالون والشعراء،تنطلق الاغاني من الديسك لتنتشر في ساحة الطحطاحة"هذا العالم المليئ بالألوان والأصوات لايمكنني نسيانه" يرددعلى مسمعي،
انتقل ماحي إلى شارع ڤومبيطا، وكانت عائلته تشجعه على ممارسة الفن،فدخل حركة مسرح الهواة وهنا كان ماحي صديق من بين الممثلين الذين برزوا ولمعوا وظهرت مواهبهم بشكل قوي في التمثيل،وكانت هذه التجربة المسرحية التي ابتدأها مع فرقة مسرح الأحياء غنية وقوية أقرت روحه كما يقول "وأضفت لي تجربةًجديدة ساعدتني على مواصلة مغامرتي المسرحية في شكل فن الحكاية"كان رئيس الفرقة يدعى قادة بن شميسة، وهو نفسه انتقل بعد تجربة زاخرة في المسرح إلى فن الحكاية وقد انتقل الى عدة بلدان أوروبية،وقدم قصصا محلية وأخرى مقتبسة من التراث الفني العالمي
الحكواتي في زمن الدم والعودة إلى بشير حاج علي
كان معي وهو في ريعان الشباب يؤمن باليسار كمخرج وحلم طوباوي لكن في الوقت ذاته طل متعلقا بتاريخه السخصي والمحلي والعائلي، طل الدين عنده يأخذ تلك المكانة الحميمة في حياته الشخصية، كقصة مفتوحة على كل الامكانا ت التي تقربه من الإنسان،الدين عند ماحي ،لحظة انبثاق الكلمة والحكاية،ماحي يقرأ باستمرار ويعيد ما قرأه في حكاية يتحد فيها الشفوي بالمكتوب، الحلمي بالطيفي، التاريخي بالميتي والواقعي بالخيال،
آتذكر في الثمانينيات كنت عائدا في العطلة إلى مسقط رأسي بسيدي بلعباس، التقينا ولم نتوقف عن الكلام،حدثته وقتها عن شعراء مصريبن متمردين ومختلفين أمل دنقل ونجيب سرور،كانت كتابات ياسين وقتها تجمعنا،طلب مني نصوص نجيب سرور، حسن وبهية، كانت ملحمة حب مصرية شعبية استلهمها الشاعر في عمل شعري باهر،قرأها ماحي عشرات المرات،سكنته حتى النخاع،استلهما هو بدوره وكتبها بلغته المتدفقة الشعرية الجزائرية،كنت وقتها منجذبا إلى تجربة مسرح الممثل الوحيد "قدور البلاندي"الذي دفعني إليها مختار بوجمعة الذي بدآت ممارسة المسرح لأول مرة معه في فرقته التي كانت تسمى فرقة "الأصلي"..مختار بوجمعة كان أيضا صديقنا في تلك الفترة، كانت لديه تجربة متميزة،مختلفة ألبترحوله الكثير من سوء التفاهم والانكار، كانت أثارها عميقة على مسيرته المسرحية التي توقفت ووصلت إلى طريق مسدود للأسف،سافر إلى سوريا،قضى زمنا كعامل في ورشة الديكور بأحد المسارح بدمشق، عاد إلى الجزائر بعد خمس سنوات من الغربة، جاء محملا بالكتب والأحلام والطموحات، قدم بعض الأعمال المسرحية التجريبية ثم ابتلعته روتينية المسرح الجهوي ببلعباس والصراعات النقابية العقيمة التي أطفآت جمرته المتوقدة التي بها وعلى نورها سلكت طريق النضال والابداع الثقافي..لم يحدث لماحي ماحدث للمختار،التزم ماحي لوقت بالنضال السياسي اليساري ودافع عن الخيارات التقدمية والثقافية المرتبطة بالهوية،التقينا مجددا في العاصمة ،وكان قريبا من فرقة دبزة التي كان يمثلها سليم بن سديرة الطالب في معهد العلوم الاقتصادية والناشط في محيط اليسار التروتسكاوي ،أذكر كيف وقف الماحي بصمود يوم حاولت ادارة مهرجان مسرح الهواة بمستغانم في المنتصف الأول من الثمانينيات حظر وجود فرقة البزة بالمهرجان وذردها،ثم أذكر شجاعة ماحي في سنوات الدم،كان مع ايقاف المسار الانتخابي ومواجهة الاسلاميين، التقينا يومها في أحد شوارع سيدي بلعباس وكان نقاشنا حادا، كنت ضد ايقاف المسار وكان هو مع مساندة ايقاف المسار،كان قد انتهى من مسيرة تندد بالاسلاميين الراديكاليين،كان رفقة رفاق واصدقاء، كان رفقته صديقنا محمد شاهي الذي شجعه فيما بعد على انتهاج طريق الحكواتي،تلاسنا وتشابكنا بالكلام، وظننت آن فصلا من الصداقة قد وصل إلى نقطة النهاية بسبب السياسة،التقيت بمحمد شاهي بعد سنوات وكان قد تغير قليلا وأعاد النظر في حماسته الراديكالية، ثم مات في ذات عيد أعياد الأضحى، تحول ماحي مع الزمن المتحول الذي يترك في أعماقك الكثير من الخيبات،توصل ماحي إلى لحظة انقسعت فيها شمسه الروحية وفتحت آمامه طريقا جديدا للتآمل والالتزام الجديد المختلف يقول لي ماحي "كانت سنوات الحرب التسعينية جدرية في إعادة بناء نظرتي حول نفسي وعن العالم الذي يحيطني، كنت أروي وأعلق على ما كان يدور وقتها وأنا أجلس إلى الاصدقاء مثل محمد شاهي واحميدة العياشي وعباس الزين وجمال وفاتح ،كان جمال رفيقي في الأحاديث اليومية التي كانت تجمعنا في تلك الأيام المرعبة التي تعرض فيها الصحفيون مثل الطاهر جاووت وعمر ورتيلان واسماعيل يفصح وبختي بن عودة ومبدعون مثل عبد القادر عللولة وعز الدين مجوبي والمغني حسني ومعطوب لوناس للاغتيال،يفتح الموت والدمار أمامك أبواب أخرى تعود بك إلى نقطة البداية من اجل اعادة ترتيب كل هذه الفوضى التي تقذف بنا فجأة في تياراتها المتضاربة والمتناقضة والهائجة كعاصفة هوجاء ومجنونة"
ويضيف ماحي صديق قائلا وهو يعود الى سنوات الصخب والعنف"في ذلك الوقت صمت المسرح وساد الصمت في المباني المسرحية،واغلقت أبواب صالات الاحتفالات، وتفرقت الفرق المسرحية،منهم من مات واختفى في غياهب الصمت ومنهم من ترك البلاد هاربا بجلده،كان علي أن أجد طريقي لاحتفظ بسلطة الكلام التي كانت تعرضني يوميا الى مخاطر الموت" 
اهتدى ماحي في تلك الفترة إلى فن القول، إلى الحكواتي الذي ينقل حكايته المأساوية إلى الناس ليرويها ويقصها، استعاد فنا كان شبه منسي وملقى به في ظلام النسيان،يقول ماحي"لقد وجدت آخيرا ضالتي وسلطتي الحقيقية التي آبني بها آحلامي الجريحة واعيد من خلالها بعث قصوري التي تلاعبت بأطيافها الرياح والعواصف،لقد عثرت على كنزي المفقود، الحكاية،وكان نص الشاعر الجزائري، والمناضل اليساري بشير حاج علي الذي تعرض في السنوات الأولى التي أعقبت انقلاب 19جوان الذي قاده الكولونيل هواري بومدين ضد احمد بن بللة مصدر انبعاثه وملهمه،نص البشير يسمى "العسف"يروي بشير حاج علي التعذيب في سجون بومدين،ينقل التجربة المؤلمة التي تعرض لها المناهضون للانقلاب العسكري الذي قام به بومدين ومن بين هؤلاء المناضلين كان الشيوعيون المنتمون إلى حزب الطليعة الاشتراكي الذي كان يقوده بشير حاج علي ،صمد البشير، وحول ليليه إلى أقمار وآناشيد للصمود والآمل،،كنت التقي ماحي في تلك الفترة، انتقلت اليه شعلة البشير، ليحولها الى خطاب انساني،مدين للقهر والتعذيب،تحول ماحي معها،تخلص من سطوة الايديولوجيا واستسلم لبهجة الحكاية التي جعلت منه آكثر شفافية وإنسانية،طاف ماحي صديق بنص العسف عند الرفاق، وانتقل به إلى أماكن لم يكن ليفكر أنه يصل اليها،هي تلك القرى المنسية وسط الجبال، هي تلك الوجوه المغمورة الصامتة ولها كنز من القصص التي لم ترو بعد،وفتح نص "العسف"أمام ماحي بهجة اكتشاف مولود معمري،الكاتب الذي اشتهر بروايته "الهضبة المنسية" وقصة "الأفيون والعصا "التي اقتبست للسينما وتحصلت على عدةًجوائز وهي تروي قصة الحرب والثورة في زمن الخمسينيات
"اماشاهو"لمولود معمري كانت الباب الثاني للحكاية التي جعلت ماحي صديق يختار طريقا جديدا سينتقل به إلى فصل جديد من الحياة،حيث سيغادر مهنته الاساسية موظف في الخزينة الولائية،ينتقل من سيدي بلعباس بعد زواجه إلى مدينة بني صاف، ويتفرغ نهايئا لفن الحكواتي،يقدم بعض حكاياته في الخارج لانشر بعد آن سدت الابواب في وجهه بالجزائر،تبدأ رحلته الى مارسيليا، الى دول مغاربية في تونس، والمغرب لتفتح الابواب على مصراعيها الى بلدان أفريقية، الى دبي، الى اسبانيا،الى البرتغال،الى الاردن الى مصر الى الكونغو
"الحرب تدمر لكن تخلق الحياة من جديد"
لا آتذكر أين قرأت هذا القول، لكن على كل حال قرأته وأنا طالب في الجامعة، ربما قال أحد المعلمين الثوريين الذين تعلمت منهم الكثير،تعلمت من حياتهم الشجاعة في قول الحقيقة، والاخلاص في تأدية الرسالة التي خلقنا لأجلها آو خلقت لأجلنا حتى نعطي لحياتنا وأفعالنا معنى،ربما يكون قائلها فلاديمير اليتش لينين،صاحب الكتب التي ايقظت عقلي مثل "ما العمل"و"الدفاتر الفلسفية" و"خطوتان الى الخلف وخطوة إلى الأمام"
الحرب ليست شرا مطلقا عندما تفرض نفسها علينا أحيانا بسبب المجانين الذين يتسببون في اشعالها ،لم يكن واحد من الجزائريين يتوقعون آن الحرب كانت تنتظرهم في قارعة الطريق بعد أن تخلصوا من جثة الحزب الوحيد وفرحوا بانتفاضة أكتوبر 1988،وقتها التقيت بماحي بمقهى الصومام القريبة من بيت عائلته في شارع ڤومبيطا،كان جالسا مع صديقه الحميم أحمد مهاودي، شاعر تروبادور،عاشق للرحلات لكن رجله أعاقته عن ذلك،فاطلق لحيته وصار مثل المتصوف المحنون، دائم الرحلات بين الكتب والاسماء التي لاتريد ان تنتهي في غابة الشعراء والكتاب والمسرحيين، من كاتب ياسين ومحمد ديب ومولود معمري الى شارل بودلير ورامبو وريلكة،كان ماحي واحمد يجلسان النهار كله وهما يتحدثان بشراهة،القي القبض على أحمد مهاودي واقتيد الى مقر الاستخبارات،غداة اكتوبر وقتلت طفلة آمام آعين ماحي برصاصات طائشة غيرت من حياة ماحي صديقي،وفجرت حساسيته الشعرية بشكل عميق ومهول
وجد ماحي نفسه في مفترق الطرق بين الانسان والمثقف الملتزم سياسيا، بين الحلم الطوباوي والحقيقة الواقعية المليئة بالنتوءات السوداء، توقف أمام الالام التي أثارتها بأعماقه الحرب ليعيد اكتشاف لغة جديدة، لغة الحب ولغة الانسان،الانسان حيثما كان،الانسان بعيدا عن اللغة واللون والنتماء العرقي والقومي، الانسان بكل ابعاده ،بكل الانسانية التي تجعل منه شريكا ونظير،لا عدوا ،قريبا لا بعيدا، حميما لا غريبا
الحرب يقول لي ماحي "غيرتني، انسنت خطابي، وسعت من نظرتي الى الأشياء وعمقت من حساسيتي تجاه الالوان والاشياء والكائنات"
اصبحت الاشياء قطعة موسيقية متعددالانغام بالنسبة لماحي ،وزاد من ايقاعها،تلك المرأة التي أحبها ومنحت له سارة التي تخرجت من الجامعة، وحاج علي،الذي اطلق اسمه على بشير حاج علي،يقول لي ماحي "شكرا لك لأنك منحتني ان آتحدث عن علاقتي بزوجتي التي منحتني كل شيئ لما ارتضت ان تقاسمني زهدي، بساطتي وحياتي المتواضعة "
عندما اتصلت بماحي صديق ليروي لي بدري حكايته ،كان على آهبة السفر الى معسكر، والى مدن جزائرية أخرى ليحط به الترحال بتونس،كان قادما لتوه من مدن آخرى لينتقل الى مدن آخرى، واحداها مدينة مراكش حيث التقى بجمهوره المغربي في الساحة الاسطورية للحكاية،التي مر بها الرواة وصناع الحكايات من المغاربة والعرب الرحالة،وقد يكون منهم الرحالة الطنجاوي الاسطوري الذي لا يموت "ابن بطوطة"؟!
يرتدي ماحي لباسه التقليدي الموشح بالبياض والصفرة الجمعية المشيعة للنور الداخلي الذي يجعل من اللسان حصانا حرا،يطير،يحلق في سماء الحكايةيطلق شعره كأي راو قادم من زمن الحكاية ومدن الأوشام، يحدق في الوجوه كأي انسان متشرد عركته الحياة وحنكته الأيام والحار والعواصف،يفتح يديه وهو يتآمل السماء حيث عين الرب ترعاه، يفتح كتبا الحكاية فينتفح الجسد مثل عباءة في قلب السماء، تشرئب الاعناق، تتعدد الجنسيات، تتناسل الاصوات،تتراقص الكلمات وتهطل الصور مثل التبر من آعالي العوالم البعيدة ويشرق العالم المحكي عبر ذاك النداء العميق الذي يشدنا الى منبع الخيال والنقاء،تلك هي حكايتنا جميعا التي يرويها حكواتي تروبادور.

------------------------------------
المصدر : الحياة نت 


الاثنين، 24 أبريل 2017

الاشتغال التكنولوجي في تطوير العرض المسرحي

مجلة الفنون المسرحية

الاشتغال التكنولوجي في تطوير العرض المسرحي

علاء كريم

تُعد (التكنولوجيا) من المصطلحات المعاصرة التي أصبحت أكثـر تداولاً في وقتنا الحالي، يمكن أن تحقق أغراضاً ذات قيمة عمليّة للمجتمع، وخدمة للإنسان ورفاهيّته، ولها الدور الأساس في تطور المجتمعات، برزت في النصف الثاني من القرن العشرين، أثرت بشكل مباشر في المجتمع من خلال تحولات علمية في مجال (التكنولوجيا)، هذا ما جعلها تتداخل في شتى مجالات الحياة، إذ انعكس هذا التحول بدوره على الفن بشكل مباشر، وأدى التطور إلى خلق آفاق جديدة أمام المخرجين والمؤلفين والممثلين، وذلك عبر اكتشاف سبل وأدوات وإمكانيات جديدة في التجسيد الإبداعي والخلق الفني، وعلى صعيد المسرح فقد تجسدت (التكنولوجيا) بطرق تقنية مرتبطة بالتشكيلات الصورية والسمعية في العرض المسرحي وتجدر الإشارة إلى إن هذا التطور لم ينبثق فجأة في هذه المرحلة من تاريخ المسرح، فالتكنولوجيا المسرحية كانت قائمة منذ العصر الإغريقي، بأدواتها البسيطة التي تجسد مشاهد المسرحية، وقد تطورت هذه التكنولوجيا على مرّ العصور المسرحية، وتوالت استخداماتها وصولاً إلى المسرح المعاصر عبر تجارب مسرحية مهمة ، أبرزها تجارب: (آرتو ، وبسكاتور، ومايرهولد، وبرخت).
 شهد المسرح المعاصر انتقالات جوهرية في ميدان (التكنولوجيا)، عبر بلورة هذا المفهوم على صعيد البنى الفكرية والتطبيقية لجملة من النتاجات المسرحية التي قدر لها أن تكون أنموذجاً متفرداً من حيث الصياغة المسرحية، والبحث عن الدلالات المعرفية التي يلجأ إليها المخرجون في اشتغالاتهم الفاعلة على مستوى الشكل والمضمون، وأن التقليدية التي تبثها المثيرات في العرض المسرحي تظهر بعض الإشكاليات التي تستلزم تقنيات جديدة، ولأن الواقع يتغير ويتجدد فإنّ خلق عوالم متجددة يقتضي ضرورة تغير الوسائل المتداخلة بعمل الفن المسرحي، الذي لن يقف عند نظرية واحدة أو شكل محدد أو منهج بعينه، فهو فن يرفض الثبات، بل يقوم أساساً على الاستمرارية التي تدفع إلى الحركة والتغير بين الفنان والمجتمع، لخلق مساحات متجددة عبر توظيف التكنولوجيا الحديثة ووضعها داخل المعمل المسرحي، ليتم تجاوز الواقعية وطرحها على خشبة المسرح بشكل مختلف ورؤية فنية تتناسب مع فكرة العرض المسرحي، وعناصره كلها (النص، والاخراج، والتمثيل، والديكور، والأزياء، والإضاءة، والموسيقى، والماكياج) للتعبير عن أفكار العرض ورؤيته.
هل انتهى عصر الإخراج المسرحي المتقدم؟ لماذا لم نعد نشاهد أو نسمع عن مسرحيات متعالية القيم يسعى الباحثون والنقاد للكتابة عنها وتحليلها؟ لماذا لم تعد العروض المسرحية تبهرنا رغم ما قدمته التكنولوجيا من إمكانات هائلة ومتنوعة وضعت في متناول الجميع؟ ما أقصده هو أن التكنولوجيا المتاحة للجميع، أتاحت للمخرج الانطلاق نحو رؤى إخراجية وأحلام ابداعية يمكن تحقيقها على الخشبة، حتى وأن تطلب ذلك تجريب هذه (التكنولوجيا) ووضعها داخل الفضاء المسرحي، كما يمكننا أن نحدد مجال الرؤية الإخراجية، بوساطة الاتجاه التفسيري الذي يركز على الأسس الفكرية التي يعكسها العرض المسرحي، وغالباً ما نرى أن أفكار المخرجين ترتبط بأيديولوجيا معينة، كما ترتبط بقضايا ومشاكل اجتماعية وسياسية خاصة، وهذا الأنموذج هو الذي ما زال يسيطر على الرؤى الإخراجية في المسرح، على المخرج أن يفكر دائماً في كيفية طرح أفكاره والتعبير عنها بمجموعة من المعادلات أو الرموز والتراكيب الفنية التي تبتعد بأفكاره عن المباشرة، وأيضاً يجب أن يربط فكرته مع نص العرض المكتوب، وكيفية إيصاله إلى المتلقي الذي يعد عنصراً أساس من منظومة العمل المسرحي.
المسرح الرقمي الذي يرفضه البعض ليس بديلاً مسرحياً ولكنه نوع من العروض التي تسعى للاستفادة من التكنولوجيا الرقمية بما توفره من عناصر فنية في مجال الصوت والصورة والخدع والمؤثرات البصرية والسمعية، يوضع هذا النوع من العروض تحت مسميات مثل (المسرح ذي الشاشات)، (الممثل الحي، والممثل الافتراضي) هذه المسميات قد تعطي فكرة بمحاولة فصل هذا النوع من العروض عن العروض المسرحية بشكل عام، وأيضاً هي محاولة لجعلها متخصصة وفصلها عن المسرح، وهذا خطأ كبير قد يقع فيه أنصار هذا التوجه متجاهلين أن المسرح منذ بدايته قد استوعب العديد من أنواع التكنولوجيا التي كانت جديدة وغريبة عن المسرح في وقتها ولكنها مع الوقت والتوظيف الفني لها قد أصبحت مجرد وسائل مسرحية عادية يستعان بها لصياغة رؤية فنية.
 كما أن التكنولوجيا لا يمكن أن تلغى أو تقلل من شأن العناصر الأخرى، والمقصود كل العناصر المشاركة في العرض بداية من المخرج ورؤيته، فالمصمم، والممثل الذي سيتعامل مع هذه التكنولوجيا، ناهيك عن تحسين ظروف التلقي، حيث أصبح بإمكان المتلقي أن يشاهد العرض في ظروف إنسانية أفضل لما موجود من إمكانيات وتجهيزات حديثه على كل الأصعدة: الصوت والصورة والمسافة والراحة، مما يتناسب وروح العصر.

----------------------------------------------
المصدر : جريدة الصباح 

الأحد، 23 أبريل 2017

المسرح المعاصر والتقنيات الحديثة

مجلة الفنون المسرحية

المسرح المعاصر والتقنيات الحديثة

د.فاضل الجاف 

شهد المسرح الحديث في العقود الاخيرة تطورا كبيرا في مجال التكنولوجيا، وقد شمل هذا التطور ميادين معمار المسرح والسينيوغرافيا(الفضاء والمناظر المسرحية) والضؤ والصوت والازياء.
 ومما لاشك فيه ان هذا التطور أدى بشكل مباشرالى خلق آفاق جديدة امام المخرجين والمؤلفين والممثلين بإكتشاف سبل وأدوات وإمكانيات جديدة في التجسيد الإبداعي والخلق الفني، ناهيك عن تحسين ظروف التلقي، حيث أصبح بإمكان المتلقي أن يشاهد العرض في ظروف انسانية أفضل في ظل إمكانيات وتجهيزات حديثه على كل الاصعدة: الصوت والصورة والمسافة والراحة، مما يتناسب وروح العصر.

 وتجدر الاشارة الى ان هذا التطور لم ينبثق فجاءة في هذه المرحلة من تاريخ المسرح، فالتكنولوجيا المسرحية، كانت قائمة منذ العصر الاغريقي، بماكنتها البسيطة وحلولها السهلة في تجسيد مشاهد المسرحية، وقد تطورت هذه التكنولوجيا على مرّ العصور المسرحية.
 لكن التكنولوجيا المسرحية قديما كانت في مجملها سهل التنفيذ وذات وظيفة مجازية في معظم الأحيان.
 ويدرج بعض الباحثين التقنيات التكنولوجية التي شهدها المسرح في العصور الاولى من تطوره، ضمن التقنيات السهلة او البسيطة، اما ماجرى من تطور تكنولوجي للمسرح الحديث فيندرج ضمن النوع المعقد ذي سرعة وإيقاع شديدين، حتى انه بات من الصعب مواكبته من قبل المسارح ذات الامكانات المتواضعة.

فمثلا في مجال الصوت والمؤثرات الصوتية كان صوت الرعد ينفذ حتى الخمسينات من القرن المنصرم بإستخدام صفيحة معدنية، وصوت حافر الخيل كان ينفذ عن طريق إستخدام قشرة جوز الهند الجافة. وكانت ثمة ماكنة بسيطة تستخدم لإحداث صوت الرياح بفعل قماش من الخيش. أما صوت سقوط المطر فقد كان يتم عن طريق تحريك البازلاء الجافة في أنابيب. أما ما حدث من تطور في مجال الصوت والمؤثرات الصوتية في العقود الاخيرة، خصوصا بعد ظهور الكومبيوتر فتعد قفزة لم يشهدها تطور المسرح من قبل كما ونوعا وسرعة.

ومن الباحثين من يطلق على التطور الحاصل في مجال تقنيات المسرح ثورة داخل ثورة المسرح الحديث، ثورة مهّد لها روّاد المسرح الحديث من أمثال مييرهولد، كريغ، آبيا ونيهر ببدايات وإنجازات متمثلة بالخطوات الاولى في تغيير بنية المسرح معمارا وفضاء وأضاءة و تقنيات في الصوت. 
 كانت تصورات الرواد حول تغيير المسرح تغييرا جذريا تبدو حينها ضربا من الحلم والرؤى المستقبلية، لكن رؤى الرواد وتصوراتهم كشفت امام المسرح المعاصر عن آفاق وأفضية شاسعة ربما لم يكن تصورها سهلا إلا لمخيلة مبدعين من امثال مييرهولد وكريغ وآبيا.

ويمكن القول ان هذا التطور الهائل الذي بلغ أوجّه في المسرح الموسيقي والأوبرا وعروض الرقص، خلَقت لغة مسرحية جديدة لغة مسرح الحداثة وما بعد الحداثة، كما هي تتجلى واضحة في اعمال كبار مخرجي عصرنا، من أمثال جورجيو ستريهلر وروبرت ويلسون وروبرت ليباج. أعمال تحقق فيه الكثير من أحلام رواد المسرح الحديث الاوائل.
وكانت التكنولوجيا الأداة الرئيسة لتحقيق الحلم الفني، ومنفذا لرؤى مخيلة الفنان المسرحي.

ومما يجدر الإشارة اليه هو ان تطور التقنيات في المسرح الحديث إستمد دوافعه وجذوره أساسا من المخرج ومخيلته وسعيه الى تجسيد رؤاه وأحلامه. فالتصورات الجديدة لإستخدام التكنولوجيا في المسرح وتطويعه في مجالات مختلفة، برزت وتبلوّرت ببروز المخرج كصاحب مهنة مستقلة ومهمة في العملية الإبداعية.

 فالمخرجين الأوائل مييرهولد، كريغ، رينهاردت فعَلوا ونشَطوا دور السينوغراف والمصمم المعماري و مصصم الانارة ومهندس الصوت، وبدأ التقنيون يتبأون لأول مرة مكانة مهمة في ثورة المسرح. 
ولعل من الصواب القول بأن أول قفزة في سياق التطوّر التكنولوجي بعد اختراع قوة الكهرباء كانت البنائية، التي استوجبت هندسة أخرى في الفضاء المسرحي والمعمار والماكنة المسرحية. ان التطوّر الحاصل في هيكل التقنيات المسرحية لهي إمتداد لإنجازات البنائيين في مجال إستخدام البنى الكبيرة والماكنة المعقدة على المسرح وبتقنيات غاية في البراعة والإتقان. تقنيات دخلت كجزء حيوي ضمن هيكل العرض المسرحي  وليس بخاف فإن البنائية إنبثقت في المسرح كثمرة للجهد المشترك بين المخرج والفنان المعماري. وعليه فإن الأنجازات في مجال التكنولوجيا المسرحية ما هي إلا تحقيق لرؤى وتصورات الاوائل من المخرجين والرساميين والمهندسين وتعاونهم في عمل مشترك لتطوير مسرح العصر الحديث.

يقول كريستوفر بو في كتابه العرض المسرحي والتكنولوجيا كان كريغ يريد لمناظره المسرحية ان تتحرك كالصوت، مثلما الموسيقى تتحرك.
ويذكر ايضا ان احد مصصمي المناظر المسرحية في فرنسا كتب بعد لقائه كريغ في رسالة الى مدير مسرحه عام1910 يقول:
"إن كريغ يريد لمناظره ان تتطور مع سير المسرحية، لا أعرف كيف يمكن ان يتم تنفيذ مثل هذه الفكرة. ولكن الفكرة بحد ذاتها تعد من الدرجة الاولى. فلو تم تحقيق ذلك لغدا ثورة في مجال السينوغرافيا".

إن كريغ كان فنانا يدرك ضرورة الخيال وضرورة إدراك كون التكنولوجيا المسرحية  إمتدادا للخيال المسرحي ذاته. فأستخدامه عند مييرهولد وطرق الاستفادة منها كان جزء من العملية المسرحية والابداع الفني.
 ولعل المخرج البريطاني بيتر هول احسن من يعبّر عن الحذر من إستخدام الماكنة في المسرح من أجل الاستخدام فقط، فهو يقول: إن المسرح يحبّذ التناقض وعليه فإن الماكنة في المسرح تجب ان تستخدم كقيمة مجازية.

رؤى وأحلام دافينشي في المسرح البصري
كان اكبر الحالمين بالحلول التكنولوجية المبتكرة، هو الرسام والنحات الايطالي ليوناردو دافينشي الذي على يده حصل أهم تطوّر في تأريخ التقنيات المسرحية.

كان نموذج دافينشي لأوبرا أورفيوس تطورا هائلا في مجال الأوبرا. فقد صمم دافينشي العديد من الماكنات المسرحية في ميلانو. وكان أهم تصميم جديد له هو تصميمه خشبة مسرح تقدم عليها لأوبرا أسطورة أورفيوس 1518.

كان تصميم المنظر معقدا جدا في حينة، فقد أحتوى المنظر قبة تمثل قبة الكنيسة، تتفتح شيئا فشيئا على شكل جبل، لتكشف عن مشهد آخر، ثم تسحب الجبال عن المسرح من الجانبين. الى جانب هذا كان المشهد الأكثر غرابة هو المشهد الذي كان يرفع من تحت الارض كمصعد الى مستوى المسرح.
ماذا لو عاش دافينشي في عصر مييرهولد و كريغ!،لكانت إنجازاتة بلغت العصر الحديث بفاعلية خارقة.
 ففي الخمسينات من القرن المنصرم فقط بدأت المسارح تستخدم الاصوات المسجلة على الاسطوانات الكبيرة، وقد كان الاعتراض على أستخدام الصوت المسجّل شديدا في حينه.

إن المسرح البريطاني يعد من أهم المسارح الذي أختبر وحقق مختلف التقنيات الحديثة، وكان الى جانب المسرح الاميركي السبّاق في التجريب على كافة أنماط التقنيات الحديثة، فعروض الويست إيند وعروض برودواي حملت في مجال التقنيات الحديثة دهشة وانبهارا لمشاهدها لم يكن متاحا قبل ذلك. وكانت العروض الموسيقية لمسرحيات من أمثال الشعر 1957 و مسرحية يا لها من حياة حلوة 1963 السبَاقة في كشوفاتها التقنية.
وعلى الرغم من ان المسرح البريطاني لم يشهد نهضة تقنية تستحق الاشارة الى نهاية حرب العالمية الثانية، لكن بعد ذلك استمد كبار المصمين في المسرح والأوبرا الإلهام في خلق وإبتكار تقنيات جديدة أستخدمت من قبل المخرجين الشباب في الستينات من أمثال بيتر هول وتريفور نان وجون كاريد.

رواد التكنولوجيا في المسرح المعاصر


يوسف سفابودا:1920- 2002
المصمم التشيكي سفابودا صمّم و اخرج أكثر من 700 عمل مسرحي، منهدس معماري اصلا، مخترع المصباح السحري على المسرح، مؤسس الستائر المتعددة أو المضاعفة، إلى جانب عدد من التقنيات البصرية والسمعية.
نجح سفابودا في جعل الضؤ وسيلة مادية ملموسة، ذا قصد نحتي تجسيدي، وذلك بإستخدام العاكسات (بروجيكشن).
لقد نجح سفابودا في خلق تشكيلات مسرحية على شكل مونتاج مؤلف من الممثلين و الصورة المنبعثة من العاكسة، لينتج بذلك مشهدا ملئيا بالحيوية.
لم يكن هدف سفابودا في عمله يقتصر فقط على خلق صورة مسرحية كإنعكاس للضؤ المنبعث من العاكسة، بل كان نجح في خلق مشاهد نحتية مجسّدة، مفعمة بالحيوية والعنفوان الدرامي.

ومن التقنيات المهمة التي أبتكرها سفابودا إستخدام المكعبات في صف واحد، على شكل جدار، وفي كل مكعب كان ثمة بروجكتور يعكس الصورة على النظارة بهدف خلق عمل حي متحرك لفن العرض.
كان هدف سفابودا يتلخص في السينوغرافيا الحية والتي هي الاخرى الى جانب الضؤ والموسيقى يجب ان تشارك في الفعل المسرحي، أو أن تكون في حركة دائمة ولا ينبغي أن تقتصر الحركة على الممثلين فقط.
لعلنا لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا سفابودا أهم مبدع ورائد ومطبق، بعد آبيا في مجال استخدام الضؤ وفي إبتكاره مفهوم السايكوبلاستيك وهو مفهوم يعتمد التقنيات العلمية الحديثة في تجسيد العلاقة بين الابعاد الثلاثة للفضاء المسرحي، وعلاقتها بالحالة النفسية والشعورية وبالنظارة في نفس الوقت. وفي رأيه ان مهمة السينوغراف تكمن في أستخدام هذه العناصر مجتمعة في وحدة واحدة، في بعد رابع يسميه الزمن- الفضاء، بما أن الحركة على المسرح تتطلب فضاء وزمنا.
إن منجزات سفابودا في مجال إستخدام التقنيات الحديثة في مجال ربط الفضاء الدرامي والزمن الدرامي والإيقاع الدرامي والضؤ الدرامي تعتبر من أهم إنجازات النصف الثاني من قرن العشرين.

روبرت ولسون

 إن المخرج الاميركي روبرت ولسون منهدس معماري ومصمم ديكور في المقام الأول، فهو عمله في الاخراج من التكوين المعماري والبصري للعرض قبل كل شيء ويساعده في تنفيذ ذلك خلفيته الثقافية كمعماري، ودرايته الواسعة في إستخدام التقنيات الحديثة، بالإضافة الى إعتماده على فريق كبير من أمهر التقنين في مختلف التقنيات المطلوبة في العرض المسرح … وإذا وضعنا جانب الانتقادات الموجهة إليه في هذا الصدد والتي تتلخص بطغيان الجانب البصري في عروضه على حساب النص والمضمون، فإن لروبرت ولسون طريقة متميزة ولغة فنية خاصة به فهو يقول : 
إنني أفكر في إعدادي الصور و التصاميم والرسوم البيانية، لكن ليس الهدف من الصور تصوير النص. وقد اعتاد ولسون على النقد المألوف الذي مفاده كيف يقوم المخرج برسم العرض قبل أن يلتقي بالممثلين، أو كيف يتم رسم الصورة والميزانسين دون وجود الممثل، وفي هذا الصدد يقول :

إنه مسألة تنظيم معماري في الزمن والفضاء، ولا يهم إن كان هناك ممثلون أو لا! فالضوء يتحرك، والأدوات المستعملة على المسرح تتحرك، إنها مسألة التوقيت، إنه البنيان (البناء) في الفضاء، لذلك أعتقد، إنه المعمار، أي بناء الشيء، سواء كان ذلك عند موزارت أو فاغنر أو شكسبير، باختصار إنه الأداء على أسس الرقص، دون الاكتراث بالبناء الأدبي للنص، فالقيمة البصرية تحل محل القيمة الأدبية دائماً. وعليه فإن الغرض القائم جمالياً لا يمس من قبل الجمهور، ولسون يحتفظ بخط البروسينيوم والمعمار التقليدي للمسرح ويسعى أن يقيم المتفرج علمه المسرحي هناك على مسافة.

 يبدأ ولسون عادة تمارينه بتنظيم ورشات عمل مع ممثليه لإلغاء المهمة الشفوية للعمل المسرحي، وغالباً ما تحدد متطلبات عمل الورشة باحتياجات الممثلين الفردية، لكن الورشة تحتوي دائماً على حركات جسدية عامة، يؤديها الجميع للعمل المسرحي.

وبرغم الخطوط العامة والسمات المشتركة لأسلوب ولسون، فإنه دائماً يبتكر شكلاً متميزا غير مألوف للعرض. ففي مسرحية "ماكنة هاملت" لهنري ميللر القصيرة، كان المؤلف قد خطط للعرض كي لا يتجاوز 15 دقيقة، لكن العرض في معالجة ولسون استغرق ساعتين ونصف، حيث وزع حوار المسرحية على الممثلين بشكل عشوائي، مما أعطى للعرض طابعاً سريالياً صرفاً. 
تشكل الموسيقى في الغالب عنصراً مهماً في العرض من البداية وحتى النهاية، ثم هناك الكلمات التي تدخل العرض بشكل متقطع.

إن السينوغرافيا في عرض ولسون المذكور تتضمن، بالإضافة إلى الهيكل المعماري، الصور المرسومة على الستائر، السلايدات المنفذة بدقة، بحيث تدخل البناء المعماري في إيقاع واحد مع الموسيقى والأداء المؤسلب المتأثر بروح المسرح المشرقي (نو الياباني).

روبرت ليباج
يتمتع المخرج الكندي روبرت ليباج، الملقب بساحر المسرح، بشهرة عالمية واسعة وحضور دائم في معظم المهرجانات المسرحية. ويحتل اسمه حالياً مكانة مرموقة بين أسماء أهم خمسة مخرجين مسرحيين بعد جيل بيتر بروك، وهم الأمريكي روبرت ويلسون، والألماني بيتر شتاين، والروسي ليف دودون، والفرنسية أريانا منوتشكين.
ويشارك هذا المخرج، الذي ولد في مدينة كوبيك عام 1957 ودرس المسرح فيها قبل أن ينتقل إلى فرنسا، الأمريكي روبرت ولسون في ريادة ما يسمى بالمسرح البصري.

ولعل الاستشهاد برأي المخرج الإنكليزي المعروف ريتشارد إر يساعدنا في الدخول إلى عالم ليباج المسرحي، وفهم أسلوبه الإخراجي، فهو يقول: "إن ليباج يحوّل المكان العام إلى مكان سحري، والمكان السحري إلى مكان واقعي سهل المنال، وليباج ممون أحلام، والأمر المحفّز بالنسبة إليّ أنه يعمل بلغة ومفردات تنتمي إلى لغة العرض".

 يقول ليباج ان التطور التقني جعل من المسرح يعيش عصر نهضة جديدة، فبالنسبة اليه ساعده هذا التطور في خلق الشكل المطلوب على المسرح، وفي تجسيد التصور الاخراجي بمساحة واسعة من الحرية.
تتسم أعمال ليباج المنجزة أسلوبه الإخراجي أفضل من تلك الأعمال التي يقدمها على المسارح الأوروبية كمخرج ضيف، حيث يعمل مع ممثلين من مدارس تأهيلية مختلفة، ضمن عقود مع مؤسسات مسرحية وتحت ظروف فنية مختلفة. 
وفي حين تتمتع "إكس ماشينا" بوحدة فنية في الأسلوب ومنهج صارم في التدريب والمران والعمل الدؤوب في الابتكار، يتم خلالها إنتاج أعمال مسرحية مدهشة بغية عرضها في المهرجانات العالمية وهي في أوج تكاملها. 

الصياغات السينوغرافية
في لعبة الحلم لأوغست سترندبرغ، تجري مشاهد المسرحية في مكعب مثبت على ركيزة، يدور المكعب لينتقل الممثلون من سطح إلى آخر حسب توالي المشاهد بطريقة مسرحية رشيقة، وكأنهم يعانون من ضغط هائل، ولا منفذ أمامهم سوى الحلم، بينما يتجلى البحر تحتهم على شكل مساحة مائية يشرف عليها المكعب المأهول بسكانه. وفي "حلم ليلة منتصف صيف" يحوّل ليباج الغابة الشكسبيرية إلى ساحة شاسعة من الوحل والمياه، تتمرغ فيها أجساد الممثلين ببدائية وعنفوان. 
ويهتم ليباج باللغة وأصواتها، ففي عروضه التي يعدها لفرقة "إكس ماشينا" يستخدم لغات عدة حسب انتقال المشاهد، ويكرر هذا الاهتمام في النصوص التي يكتبها بنفسه، حيث أن الجرس الموسيقي والتنويع الصوتي للغات المختلفة يضيفان على العرض شعراً إيقاعياً مثيراً، ويخلقان تأثيراً يضاهي التأثيرات البصرية.

الخلاصة

إن التتقينات الحديثة تمثل في جوهرها تحقيقا لخيالات ورؤى المسرحيين الاوائل ممن كانوا يسعون الى تجديد المسرح شكلا ومضمونا.
على المخرج ان يكون مطّلعا على المنجزات العملية في عصره، ويكون على وعي بانجازات الباحثين في مختلف مجالات العلوم. ان المخرج والتتقنين في عصرنا الحالي لايمكن أن يعيشوا بمعزل عن التطور العلمي والتكنولوجيا الذي غزت ميادين الحياة. وكلما كان إطلاع المخرج عميقا وشاملا كلما اصبح بمقدوره ان يجسّد أفكارة وتصوراته وحلوله الإخراجية بسهولة وبسبل فنية مدهشة و ساحرة. وكلما كان المسرح بمعزل عن التقنيات الحديثة أو غافلا عنها كلما أكتنفت لغة العرض صعوبات في التنفيذ والتحقيق.

ان لغة العرض شهدت تطورا كبير، لم يكن ليدور في خلد الرواد الاوائل من المجددين، فقد ادهشني عرض في الرقص على أحد مسارح ستوكهولم كان ينقل أجزاء مكملة من نفس العرض على مسرح في امستردام بتقنية بارعة و في مونتاج مبهر حيث ان المشهد الذي كان يجري أداءه على مسرح أمستردام، كان يشكَل جزاء حيا من عرض استوكهولم.

ولا يمكن إنكار حقيقة وجود مخرجين مبدعيين عملوا ويعملون بمنأى عن إستخدام التكنولوجيا المعقدة، الى هذا الصنف ينتمي على سبيل المثال، كروتوفسكي وبرووك في العصرالراهن، لكن تجاوز بعض المخرجين في اوربا التكنولوجيا والعمل بمبدأ الحد الادنى في العرض المسرحي لا يعني بالضرورة، الطلاق النهائي مع التكنولوجيا، فحتى في هذه الحال نرى ان كل شئ بإستثناء لغة العرض القائمة على الفضاء الفارغ عند برووك مثلا مرتبط إرتباطا وثيقا بالتطور التكنولوجي الحاصل في ميادين التقنيات المسموعة والمرئية، ناهيك عن مجالات التسويق والاتصال بالنظارة وبمختلف مسارح العالم وقطاعات الثقافة.
ففي آخر عرض شهدته لبيتر برووك في ستوكهولم في خريف عام المنصرم، شهدت كيف ان العرض البسيط العاري من كل التقنيات و باللغة الفرنسية، تصاحبه شاشة الترجمةـ فلم تعد اللغة حاجزا كبيرا أمام العرض المسرحي بفضل تقنيات الترجمة.

ومن الواضح ان الانتاج المسرحي بإعتماده على تقنيات الكومبيوتر قطع شوطا كبيرا في التنفيذ المتقن والسريع. في، حيث يتم برمجة المشاهد والضوء والموسيقى والصوت بطريقة يسيرة، مما يسهل إنتاج المسرحيات الطويلة الصعبة التنفيذ بأسابيع معدودة من المران والتدريب.
لعل إستخدام الكومبيوتر في مجالات الانتاج يعتبر اهم خطوة بعد اكتشاف الطاقة الكهربائية. فقد أصبح بإمكان فنان السينيوغرافيا ان يجسد نموذجه على شاشة الكومبيوتر وان يدخل عليه الممثلين وهم يتحركون وإختبار مدى إمكانية تغيير وتبديل المناظر عمليا،كي يصل الى نتيجة مضمونة قبل تنفيذ النموذج على الخشبة، والشئ نفسه ينطبق على الضؤ. اما بالنسبة لمصمم الازياء فقد حقق الكومبيوتر نجاحا في هذا المجال ايضا حيث يستخدم فنان الازياء صورة الممثل نفسه ليجرب معه مختلف أنواع الازياء وصولا الى الزي المناسب.

المسرح العربي والتكنولوجيا

وأمام هذا التطور الهائل الذي يشهده المسرح في الميدان التكنولوجي، نجد أن المسرح العربي يعاني قصورا كبيرا في استخدام التقنيات الحديثة وفي ندرة عدد تقنيين أكفاء، وان هذا القصور يشمل معظم ميادين المعمار والفضاء وهندسة الضؤ والصوت. ومما لاشك فيه ان القصور يشّكل أيضا نقطة مهمة في إنحسار المسرح العربي وتخلفه عن الركب المسرحي العالمي.

ان المسرح العربي بأمس الحاجة الى إعداد وتهيأة تقنيين أكفاء وجود التقنين في مختلف مجالات المسرح قبل إقناء الاجهزة والمعدات التقنية، فإن ذلك سيعطي للمسرح العربي زخما في طريق التطور والازدهار. ان الكليات ومعاهد المسرح في العالم العربي يجب ان تأخذ على عاتقها مهمة تدريس التكنولوجيا الحديثة في مناهج تدريس السينوغرافيا والضؤ والصوت والازياء

ومن جهة ثانية لا ينبغي أن نغفل دور التخلف التكنولوجي في المسرح العربي على إنحسار الجمهور الذي لا يمكن ان يعتاد على متابعة العرض المسرحي في صالات متهرئة وبتقنيات بالية.

يعيش المخرج في المسرح العربي في حالة تصادم دائم مع الخشبة، لكونها غير مجهزة بالتقنيات المطلوبة، وعليه فهي لا يمكن ان تستجيب لمتطلباته، وان كان مجهزا بالتقنيات فهناك غياب اوشحة في التقنين الاكفاء الذي بإمكانهم ان يقدموا للمخرج وللعرض ابعادا وجلولا إبداعية تضفي على العرض جوانب إضافات فنية لا تقل عن إبداع المخرج والممثل والمؤلف. 
 فإبداعات المخرج مهما كان بارعا، لايمكن ان تجسّد تجسيدا فنيا دقيقا متقنا الا بوجود الفنان التقني الذي بإمكانه ان يفتح بوجه المخرج أفاقا لا يمكن أن يتصوره أحيانا.

ان لغة العرض قائم في وظيفته ودلالاته في جزء كبير منه على العلاقة الابداعية والحرفية القائمة بين المخرج والتقنين، وهي علاقة مازالت ضعيفة في المسرح العربي، ان لم تكن معدومة في الكثير من العروض المسرحية.
 فالمخرج العربي مازال يجد نفسه وحيدا في العملية الابداعية و في إنتاج العرض، بينما نجد ان هذه العلاقة على درجة كبيرة من المتانة والحميمية في المسرح الغربي والشرقي معا، حيث ان فناني السينوغرافيا والضؤ والصوت يتفننون في خلق وتجسيد رؤى المخرج الفنية، بل فهم يعملون معا في انتاج العرض، إن الكلية في العمل الابداعي هي سمة المسرح المعاصر، هذه السمة مازالت ضعيفة، ان لم تكن معدومة في المسرح العربي.

ونتيجة لذلك نرى ان المخرج في المسرح العربي بشكل عام محروم من إبداعات الفنانين التقنيين، و لا يزال غير قادر على التعامل معهم  بلغة فنية قائمة على الحرفية وإحترام إبداع وعطاء الاخر، بغية الوصول الى عرض متكامل. وعليه فإن العروض المتكاملة تقنيا نادرة في المسرح العربي.

إن المسرح العربي لايزال يعتمد في لغة العرض على عطاءات المؤلف ثم المخرج وأخيرا الممثل. أما التقني فما زال دوره محدودا أو بعيدا عن الحرفية. بينما التكنولوجيا في المسرح المعاصر قطعت شوطا في كشف الحالة الانسانية في الدراما وتجسيد الدوافع الانسانية بأساليب حديثة، مسموعة ومرئية، فالتكنولوجيا الحديثة تمنح المؤلف المسرحي والممثل إمكانيات هائلة في تجسيد ما يدور في مخيلة المؤلف المسرحي شريطة ان يكون على دراية ووعي بذلك. وحتي في مجالات التجريب، فإن ما يسمى في المسرحي العربي تجريبا، خصوصا في مجال المسرح البصري على سبيل المثال، الذي هو اكثر المسارح اعتمادا على التقنيات الحديثة، فقد أكل الدهر عليه وشرب منذ الخمسينات في اوربا.
وأخيرا فان التكنولوجيا في المسرح لا يمكن ان يكتب لها النجاح من دون تقنيين مؤهلين تأهيلا تاما، ومن دون ممارستها بصورة مبدعة، ومن دون ان يتوفر لها المعمار المسرحي المناسب.

ملاحظة:
- استقيت معلوماتي عن سفابودا من كتاب العرض المسرحي والتكنولوجيا، كريستوفر بو. باللغة الانكليزية.
- المعلومات عن كريغ مستمدة من كتاب نهوض المسرح الحديث، غوستا بيرغمان، باللغة السويدية. 
- الفقرات الخاصة بالمخرجين ويلسون وليباج، مقتبس من كتاب المسرح السويدي، اراء وأفكار، د. فاضل الجاف، باللغة العربية

------------------------------------------
المصدر أيلاف 

الجمعة، 21 أبريل 2017

التجريب المسرحي وما بعد الحداثة

مجلة الفنون المسرحية


التجريب المسرحي وما بعد الحداثة

 رافق التجريب المسرحي، بمفهومه العام، فن المسرح منذ نشأته في الحضارات القديمة؛ فالممثل اليوناني ثيسبس، الذي طور الأناشيد الديثرامبية -تلك التي كان المنشدون في الاحتفالات الدينية الطقسية يمجدون بها الإله ديونيسوس- إلى عرض مسرحي "مونودرامي"، من خلال عربته الجوالة، كان مجرباً.
والشاعر الدرامي أسخيلوس، الذي أضاف ممثلاً ثانياً، وطوّر الفعل الدرامي، كان مجرباً.
وسوفوكليس، الذي أضاف ممثلاً ثالثاً، كان مجرباً، لأنه عمّق عناصر البناء الدرامي، ووسع آفاق العرض المسرحي.
وكان ممثلو "الكوميديا دي لارتي" الإيطاليين مجربين، لأنهم أطلقوا للممثلين حرية الخلق والابتكار، وقدموا أسلوباً جديداً في العرض "الملهاوي". وكانت طريقة فرقة "الدوق جورج الثاني" المعروف بـ"دوق ساكس مينينغن"، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، طريقةً تجريبيةً في وقتها، لأنها تجاوزت أحلام السابقين حينما حاولت البحث عن حل للتناقض بين المناظر المرسومة، وحركة الممثل الحي داخلها، وألغت فكرة الممثل البطل، أو النجم، تلك الفكرة التي أفسدت مسيرة المسرح الأوروبي، وشوّهته نصاً وعرضاً ما بين منتصف القرن الثاني عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، ووضعت، للمرة الأولى، البطل في مسرحية اليوم في دور ثانوي في مسرحية الغد.
أما التجريب المسرحي، بمفهومه الخاص، فقد تكوّن في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وارتبط بمفهوم الحداثة، بوصفها فعالية تقترن بالابتكار والتجديد، ونقض المألوف، وكسر المسلمات، وهدم الأنموذج علي صعيد الرؤية والتقنية. وقد عدّ برشت، في محاضرة له بعنوان "في المسرح التجريبي"، ألقاها في أواخر الثلاثينات، أن كل مسرح غير أرسطي هو مسرح تجريبي، بيد أن عدداً من الدارسين الغربيين يرى أن ليلة العاشر من كانون الأول، قبيل انتهاء القرن التاسع عشر بأربعة أعوام، على مسرح "الأوفر" بباريس، كانت ليلة تاريخية، إذ إنها وجهت فوهة المدافع الثقيلة إلى نبض أرسطو، والبناء الذي شيده للدراما، حينما عرض "ألفريد جاري" مسرحية "الملك أوبو"، التي قال عنها الروائي الفرنسي أندريه جيد: "إنها الشيء الخارق للعادة الذي لم يرَ المسرح مثله منذ وقت طويل"، ووصفها الشاعر والكاتب المسرحي الإيرلندي و. ب. ييتس بأنها "علامة تنهي مرحلة كاملة في الفن". وقد كان هذا العرض بالفعل ثورة مسرحية كبيرة تمخضت عنها الاتجاهات التجريبية في المسرح العالمي، كالتعبيرية، والسريالية، والطليعية.
إذا كان التجريب المسرحي في بدايته قد طال الشكل، فإن سمته الأساسية في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، تجلّت في محاولة الانفتاح بالمسرح على بقية الفنون، وفي خلق علاقة مختلفة مع المتلقين، وتوسيع هامشه. وبذلك أخذ التجريب منحى جمالياً فنياً ومنحى أيديولوجياً. وارتبطت حركة التجريب في المسرح بتطور العلوم الإنسانية وتأثيرها على مناهج قراءة المسرح.
وتكشف الدراسات الحديثة أن هذه الحركة توجهت إلى إعادة النظر في موقع الممثل في العملية المسرحية وبشكل أدائه، بل إن بعض تياراتها أراد إلغاء الممثل، بوصفه إنساناً، وعدّه آلةً، أو دميةً خارقةً يتحكم بها المخرج كما يشاء، أو تغييبه وتقليص وجوده في فضاء العرض. وفي ردة فعل لاحقة على ذلك، عاد الممثل ليصبح الوسيط الأول في عملية التواصل مع المتلقي، والعنصر الأساسي في تشكّل العرض المسرحي.
كما حاولت هذه الحركة إعادة النظر في شكل المكان المسرحي، والخروج من العمارة المسرحية التقليدية إلى أماكن أخرى، والاهتمام بموقع المتلقي من العرض، وبالعلاقة بين الخشبة والصالة، والإفادة من التقنيات المتطورة في مجال الصوت والإضاءة، واستخدامهما بمنحى درامي، والتعامل مع النص المسرحي بوصفه محض عنصر من عناصر العرض يمكن العصف به، أو اختزاله، أو تفتيته، أو تحويله من خطاب أدبي إلى خطاب بصري.
لقد شهدت الممارسة المسرحية في النصف الثاني من القرن العشرين تغيرات جذرية رافقت الانتقال من عصر "الحداثة" إلى عصر "ما بعد الحداثة". وتجلت هذه التغيرات في ظهور مفهوم "المسرح ما بعد الحداثي"، الذي ثار على المسرح الحديث (أو الحداثي) المناهض لمسرح الماضي القريب، في محاولة لتجاوزه وتأسيس قواعده العقلاتية الخاصة، واكتشاف شروطه الفنية المتفردة التي تؤسس شرعيته.
من أبرز تيارات "المسرح ما بعد الحداثي" ما اصطلح عليه بـ"المسرح ما بعد الدرامي" (post-dramatic theater)، في منحاه العام، وتفرعاته العديدة مثل "مسرح الهيستيريا الوجودي" الذي أسسه ريتشارد فورمان في حي سوهو بنيويورك، وغايته مسرحة عمليات التفكير في مجموعة من الصور عالية التعقيد لإنتاج مسرح تجريبي/ تجريدي يقوم المشاهد فيه بممارسة الاستغراق الذهني وسط هستيريا وجودية تطلقها الصور المتلاحقة، في حين يقف الممثلون مجرد متحدثين خلف إطارات لايصال الافكار!
العرض المسرحي ما بعد الدرامي، شيء يحدث بصورة دائمة من دون نهاية، ويتأرجح دائماً بين الحضور والغياب، وبين الزعزعة والتكريس، ويتبلور في شكل تساؤلات تشكك في كل الحدود والممكنات، بل يهدد الشروط التي يضعها هو نفسه لتحققها وتعريفها. إنه يتحقق في صورة سلسلة من المراوغات القلقة المتقلبة للتعريفات والقواعد، على حد تعبير الناقد الأميركي مايكل فريد، وعدم استقرار أو ثبات المعنى، وفي تدعيم عوامل الاختلاف والتناقض.
من خلال متابعتنا للمسرح العربي، مشاهدةً وقراءةً، خلال ثلاثة عقود، نجد أن العروض التجريبية الناضجة للمخرجين العرب تتركز في عدد محدود من البلدان العربية، التي ظهرت فيها تجارب مهمة حمل بعضها منحى حداثياً، ولامس بعضها الآخر أفق ما بعد الحداثة.
وتجلت مظاهر ذلك التحول في تغيير بنية الخطاب المسرحي التقليدي، وابتكار أشكال ورؤى وتقنيات أدائية جديدة على المسرح العربي، خصوصاً تلك التجارب التي توجهت إلى الإعلاء من سلطة "التلقي" برؤية معاصرة، مجردةً النصوص التي اشتغلت عليها من سياقاتها الأدبية، ومُقْصيةً مبدأ المماثلة، ومحاوِلةً الاقتراب إلى صياغات تشكيلية، بصرية للخطاب المسرحي، وإطلاق العنان للتخييل الحر، والانزياح عن الإطار المرجعي، إذا جاز لنا أن نستعير هذا المصطلح من نقد الشعر، وإضفاء منحى تركيبي غامض على شبكة العلاقات بين الشخصيات والمَشاهد والثيمات وعناصر التعبير الجسدي، بجعلها تتداخل بعضها مع بعض، بحيث يجد المتلقي نفسه أمام دهشة والالتباس يرغمانه على المشاركة في إنتاج البنية الدلالية للعرض المسرحي، أو تأويله.

-----------------------------------------
المصدر : عواد علي  - الراي 

الأربعاء، 19 أبريل 2017

المسرح الحديث وحالة المثاقفة

مجلة الفنون المسرحية

المسرح الحديث وحالة المثاقفة

د.علي محمد سليمان:

إن دراسة التبادل الثقافي عبر المسرح يقود إلى نقاش لطبيعة المسرح ذاته و لظاهرة العرض المسرحي.

وتعتبر استجابة المثقفين و المسرحيين في العالم الثالث للمسرح في شكله الغربي و محاولاتهم إدراج هذا الشكل المسرحي في سياق خصوصيتهم الثقافية قاعدة لخطاب نظري يخص الظاهرة المسرحية في القرن العشرين. وتنطوي محاولات هؤلاء المسرحيين و المثقفين لتأسيس هكذا خطاب على صراع مع الشكل المسرحي الغربي الكلاسيكي. و يعود ذلك إلى أن عملية إخضاع الشكل المسرحي الغربي لسياق ثقافي محلي تتضمن حرية كبيرة في توظيف أنماط التعبير الثقافي وأشكال الفرجة التي لا ينطبق عليها التعريف الغربي للمسرح. إلا أن عملية الصراع هذه مع النموذج الكلاسيكي لا تنحصر فقط في إطار المثاقفة خارج الحدود الجغرافية والسياسية لمراكز الحضارة الأوربية التي رسخت مؤسسة الشكل المسرحي. ذلك أن الحداثة المسرحية الأوربية ذاتها انطوت على عملية معقدة من المثاقفة كانت في جذورها تنزع نحو استعادة جوهر المسرح وديناميكية الظاهرة المسرحية من سيطرة تراث عريق من الأدبيات والأعراف التي رأى فيها حداثيو بداية القرن الماضي سجناً أفقد المسرح جوهره، لذلك لا بد من تحطيم هذا السجن والبحث خارجه عن آفاق ودماء جديدة.‏

وكانت عملية المثاقفة تلك التي حركت المسرحيين الأوربيين للبحث عن دماء جديدة تعيد الحياة إلى الجسد المتكلس لا تخلو في عمقها من رواسب نزعة استشراقية، كما أشار العديد من النقاد والدارسين للحركات والتجارب المسرحية في النصف الأول من القرن الماضي. فكل التجارب المسرحية من مايرخولد مروراً بغروتوفسكي وآرتو وغيرهم وصولاً إلى برتولد بريخت وبيتر بروك قد اتجهت إلى ثقافات الشرق لاستكشاف مواد وأدوات تعبيرية يمكن لها أن تزود المسرح الأوربي بدماء جديدة. وكانت استعادة الجسد والدهشة والاحتفالية والبدائية والشرطية إلى حدث العرض المسرحي كلها نوازع حركت كبار المسرحيين مخرجين وكتاباً باتجاه تدمير النموذج والمفهوم الكلاسيكي للعرض. وتعود النزعة الاستشراقية، حسب النقاد المسرحيين الذين درسوا تلك التجارب من وجهة نظر “ما بعد كولونيالية”، إلى أن المسرحيين الأوربيين قد استثمروا الظواهر المسرحية الشرقية واللا أوربية بدافع تقني-نفعي بحت، حيث أنهم وظفوا تعبيرات وتقنيات وجماليات من ثقافات مغايرة عبر اقتطاعها من سياقها وإعادة توظيفها وصياغتها في أنساق تعبيرية مختلفة دون الحفاظ على دلالاتها وخصوصياتها الثقافية الأصلية.‏

قد يصح الاختلاف مع هذه الرؤية إلى درجة أو أخرى باختلاف موقع النظر إلى التراث المسرحي الأوربي الحديث، ولكنه من المؤكد أن حالة المثاقفة تلك قد رفدت المسرح الأوربي فعلاً بدماء جديدة أعادت الحياة ليس فقط إلى المسرح، بل إلى الثقافة عموماً. ومع تطور حقل الدراسات المسرحية واستفادته من تطور الحقول المعرفية الأخرى خرج التراث المسرحي العالمي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي من سيطرة الاتجاهات النقدية والنظرية الكلاسيكية التي قرأت تاريخ المسرح من وجهة نظر أحادية يسيطر عليها المفهوم الأوربي للمسرح. وبالإضافة إلى ذلك أدت التطورات الفكرية والمعرفية إلى نشوء أدوات جديدة لقراءة الظاهرة المسرحية كتعبير ثقافي يتسم بالتعددية ومستقل عن أحادية النموذج. وفي هذا السياق قرأت الدراسات المسرحية الجديدة لحظة مثاقفة حداثية ثانية باتجاهات معاكسة ومغايرة لتلك التي حدثت في مطلع القرن الماضي. كانت تجربة المثاقفة المسرحية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين بعد انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة وإنجاز الاستقلال الوطني ونهوض مشاريع الثقافة القومية في معظم المستعمرات السابقة. ومنذ عقد الستينات حصل ما يشبه النهضة المسرحية في معظم الدول المستقلة. لقد تحول المسرح هنا إلى مشروع ثقافي تحرري ينزع لإعادة صياغة الهوية القومية الثقافية للأمم.‏

في سياق تلك النهضة التي لم تدم طويلاً، استطاع العديد من المسرحيين في أنحاء مختلفة من العالم أن يطوروا هاجساً تجريبياً سعى إلى خلق شكل مسرحي مختلف عن كل من طرفي المعادلة الثقافية خلال التجربة الاستعمارية، أي أنه مختلف عن تراث الذات وعن تراث الآخر في آن معاً. إلا أن خصوبة هذه التجربة نبعت من أن تجارب هؤلاء المسرحيين فككت عناصر طرفي المعادلة وإعادت صياغتها في نموذج جديد يختلف عن مصادره ومكوناته الأصلية. وهكذا نشأ مسرح تحدى النموذج الأوربي وتجاوز منظوماته، لكنه وفي نفس الوقت لم يرفضه بالمطلق وسعى إلى مغايرة الماضي الثقافي للذات لا برفضه كلياً، بل بإعادة توظيف بعض عناصره في تجارب جديدة وفي أنساق جمالية وتعبيرية مختلفة. هذه التجارب كلها هي التي خلقت ما أصبح يعرف اليوم بالثقافة المسرحية الحديثة التي استقلت عن المراكز الأوربية التقليدية للثقافة المسرحية التقليدية. ولعل من أهم ملامح هذه الثقافة وأكبر إنجازاتها هو أنها استطاعت أن تحدث تأثيراً كبيراً في الثقافة المسرحية في أوربا القديمة ذاتها. وهكذا استطاع مسرحيون أفارقة وهنود وآسيويون وآخرون من ثقافات مختلفة أن يصبحوا شركاء في صناعة المشهد المسرحي العالمي في لندن ونيويورك وباريس.. ولم يعد بالإمكان الحديث عن ثقافة مسرحية نقية بالمعنى الثقافي في أي مكان في العالم، بل أصبح المسرح فضاء ثقافياً مفتوحاً في كل الاتجاهات.‏

إن تاريخ المسرح الحديث في هذا السياق هو بالفعل حالة من المثاقفة التي تطورت بشكل جعل المسرح ثقافة كونية. ولعل من مظاهر هذه الكونية هو ما ترصده الدراسات المسرحية المعاصرة من أن حتى مشاكل وأزمات المسرح أصبحت ظواهر عابرة للثقافات.‏

-----------------------------------------------------
المصدر : الثورة 

الأحد، 9 أبريل 2017

المسرح التسجيلي في مصر: توثيق الحادثة الواقعية ومسرحتها

مجلة الفنون المسرحية

المسرح التسجيلي في مصر: توثيق الحادثة الواقعية ومسرحتها


د. حسن عطية 

مما لا ريب فيه أننا سنلتقي اليوم بكم وافر من الدراسات الجادة حول تاريخ ونظريات المسرح التسجيلي وتجليات افكاره وتقنياته بفضاء المسرح خلال نصف القرن الفائت من الزمان، تأكيداً على الجذور، وتفتيشاً عن التجاوزات، وقد فضلت في مداخلتي هنا ان اقف عند حضور المسرح التسجيلي او الوثائقي في مرأة المسرح العربي بمصر، متوقفاً عند ابرز من كتب وترجم وتحاور حول رؤيته وأعماله، ومتمهلا عند نموذجه في كتابة نص مسرحي مصري، يوثق فيه ما حدث من اهانة للعقل الانساني وللضمير البشري في سجن ابو غريب بالعراق، مستفيداً في ذلك بكل ما طرحه هذا المسرح من أفكار وما قدمه من تجليات، وما تطور به في مساره الطويل منذ ستينيات القرن الماضي، حينما بدأ نتعرف في مصر على المسرح التسجيلي، بقلم الشاعر والكاتب والمترجم واستاذ الطب البيطري د, «يسرى خميس»، حينما قام في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بعرض وترجمة ومناقشة ابرز ما طرحه فارس هذا المسرح الكاتب الالماني «بيتر فايس»، وفي عام واحد؛ هو عام 1967 المرير، قرأنا في مارس من هذا العام، وفي سلسلة (المسرح العالمي) مسرحية «بيتر فايس» الهيرة (اضطهاد واغتيال جان بول مارا كعرض قدمه نزلاء مصحة شارنتون) والشهيرة ب (مارا/صاد) اختصارا والتي كتبها صاحبها قبل ذلك بأربعة اعوام فقط، وقبل ان ينصرم العام، وفي ديسمبر، طالعنا على صفحات مجلة (الآداب) البيروتية مسرحيته الأخرى (انشودة غول لوزيتانيا) المعروفة باسم (انشودة انغولا) او (الغول) فقط كما عرضت بالقاهرة من اخراج المخرج المسرحي احمد زكي.

ومنذ ان ترجم د. «يسرى خميس» هذين النصين في ستينيات القرن الماضي، ورغم كل التيارات المسرحية التي وفدت الينا من تعبيرية وعبثية لما بعد حداثية اليوم، ما زال للمسرح التسجيلي حضوره الطاغي في مناقشاتنا، فهو ابرز هذه الاتجاهات المتعلقة بعلاقة الفن بمتغيرات الواقع الراهن والماضي معا، ليس بهدف توثيق ما يحدث في الأمس القريب او البعيد بصورة فنية، وانما سعيا للكشف عن القوانين التي تحكم الحدث، والحقائق المختبئة خلف تفاصيله.

ان نموذجنا الذي نتوقف عنده هنا هو نص مسرحية (المسلخ) الذي كتبه د. «يسري خميس» عن مذابح العراقيين على يد المحتل وقواته من مرتزقة (البالك ووتر) وأتباعه من العملاء الوطنيين، خلال الغزو الاميركي للعراق عام 2003، انما يعيد طرح القضية التي أثيرت وتثار دائماً حول قدرة المسرح التسجيلي على البقاء والخلود، فاذا ما كان هذا المسرح مؤسسا على فعل توقيق الحاضر، ورصد تفاصيله الآتية، وتحليل وقائعه المعيشية، فما هي امكانياته في البقاء ومخاطبة أزمنة أخرى وجماهير قادمة في المستقبل؟

فحينما كتب «فاس» مسرحيته (مارا/صاد)، ستينيات القرن الماضي، كان هذا العقد يصطخب بالثورات الوطنية التي اجتاحت العالم، وصاغت رموزها التي كانت صورها ايقونات لفعل التحرر من قوى الاحتلال السياسي والاقتصادي، كصورة الثوري المناضل خارج الأنظمة «تشي غيفارا»، الذي عادت صوره اليوم معلقة برقاب شباب وعلى جدران بيوتهم وأسطح موبايلاتهم مثيرة الدهشة حول جيل لم يعش ولم يعرف هذا المناضل الذي ترك كرسي الوزارة ليموت بغابات بوليفيا وسط الثائرين!!. غير ان هذه الثورات الوطنية، التي نشدت الحرية لمجموع الشعب، أجلت في مسيرتها التقدمية وفعلها في تحقيق العدالة الاجتماعية تحقيق حق الفرد في ان يكون حراً في ذاته، وفي ان يعبر عن ذاتيته هذه بحرية قد تنفق وقد تختلف مع حرية الجماعة، والتي تملك بقوتها الخاصة اكتساح الفرد وهرسه في طريقها، لذا نشأ الصراع الفلسفي والاقتصادي بين حرية الفرد المطلقة وحرية المجموع الكاملة، وسعى «بيتر فايس» لصياغة هذا الصراع دراميا في مسرحيته المذكورة، عائدا بنا لتاريخ اوروبا الذي يعرفه، منطلقا من شخصية «جان بول مارا» كنموذج ثوري من نماذج الثورة البورجوازية الفرنسية، والمؤمن بضرورة تحقيق الحرية الكلية لجماعة المجتمع، في مقابل شخصية «المركيز دي صاد» الساعي لتحقيق حريته الفردية، بغض النظر عن حرية المجتمع الذي يعيش فيه، ومنطلقا مسرحيا من زيارة تقوم بها مجموعة من الارستقراطيين لمصلحة (شارنتون) العقلية، والتي تقدم لهم عرضا مسرحيا، يقوم به بعض المرضى من تأليف واخراج المركيز دي صاد، المعتزل بذات المصحة، ويتمحور الحدث الدرامي حول الزعيم المغدور به من زعماء الثورة الفرنسية «جان بول مارا»، والمغتال بيد «شارلوت كوردي»، طارحا طوال مسيرة العرض المسرحي مناقشة جادة حول العلاقات بين السياسة والجنس والعنف، مركزاً على ذلك التضاد بين الحرية الفردية والحرية المجتمعية.

دخائل الشخصيات

وبالجدل بين الموقفين المدعومين بأقوال موثقة للشخصيتين الحقيقتين تاريخياً، وان لم يلتقيا ابدا الا في فضاء مسرحه المتخيل، وبتصور تحقق ذلك اللقاء في مصحة تزدحم بالشخصيات الحقيقية والمتخيلة، وتبيح بطبيعتها، كمصحة عقلية، ان تكشف عن دخائل الشخصيات المتحدثة والفاعلة في حركة الدراما التسجيلية، وتجعلنا نتعاطف مع هذه الشخصيات المتألمة من أجل ذاتها ومجتمعها وانسانيتها، يترك «فايس» للمتلقى المحتوى الدلالي للمسرحية ليستخلصه دون مباشرة من ذلك التعانق بين الموقفين، الذي يقف هو شخصيا موقف الحائر بينهما، لذا يعلن انه كالواقف بين مقعدين، لا يعرف بالضبط على أيهما يجلس، وربما كان يأمل في أن يجد له، مع البشرية، يوماً مقعداً ثالثاً يجلس عليه محققاً التناغم بين حرية الفرد وحرية المجتمع، فلا معنى لحرية فردية وسط مجتمع يعاني القهر والذل والانغلاق، ولا معنى لحرية مجتمعية تسحق حرية الفرد في أن يكون باختياره ذاتاً مبدعاً داخل هذا النسيج الجمعي المتحرر. لهذا إمتزج ما هو تسجيلي (آني) بما هو مستمر و(خالد) بهذا الطرح لموضوع التناقض بين رؤيتين للعالم، أطاحت واحدة منها بالأخرى منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، من دون أن تنجح في إبادتها، ومن دون أن تحقق للحالمين بحلم الحرية الفردية يوتوبيا العدالة الاجتماعية، بل وحق هذا الفرد الحر في أن يتعلم ويعالج ويعمل ويتزوج بصورة تحمي كرامته من الهرس تحت أقدام عجلة «آدم سميث» الاقتصادية.

لهذا ترك هذا النص واتجاهه بصمات واضحة على المسرح العالمي عامة، والمسرح العربي في مصر، خاصة في هذه الفترة الحرجة ما بين عامي 1867 و1973م، فحاول «عبدالرحمن الشرقاوي» الاستفادة من تقنيات المسرح التسجيلي في مسرحيته (وطني عكا) الدائرة حول القضية الفلسطينية، وظهرت المسرحية السياسية الوثائقية (النار والزيتون) لـ«ألفريد فرج» على المسرح القومي، مثيرة جدلاً حاداً في الساحة الفنية حول علاقة المسرح بقضايا الواقع الساخنة، خاصة القضية الفلسطينية، والتي أشعلت حركة المقاومة للفلسطينيين أنفسهم، وتماست مع حركات التحرر الثورية التي اجتاحت العالم خلال عقد الستينات، وتشابكت مع توجهات الأنظمة العربية المتباينة، والتي كانت تحاول أن تلملم أطراف ثوبها الممزق منذ هزيمة 67، وترتق الثوب بأفكار محافظة، وبتراجع عربي خافت الصوت عن ثورية الخمسينات وأوائل الستينات، فبدت المقاومة الفلسطينية وقتذاك شعلة تضيء للثوري المجروح طريق الخلاص، وتزيل الأقنعة عن المتقاعسين والمرتدين عن الخط الثوري، خاصة ومعارك الاستزاف ضد العدو الصهيوني في سيناء المحتلة قد حققت نتائجها المرجوة منها، والشارع يغلي بالرغبة في «إزالة آثار العدوان» بالقوة التي تحقق بها.

وظلت القضية الفلسطينية قابعة في عمق المسرح التسجيلي، فكتب اللبناني «عصام محفوظ» مسرحية بعنوان يماثل في طوله مسرحية «فايس» وهو (لماذا رفض سرحان بشارة سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟)، كما كتب «يسري الجندي» مسرحيته (ماذا حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر؟). غير أن الزمن تغير، واختصر الصراع العربي/ الإسرائيلي، الى خلاف فلسطيني/ إسرائيلي حول «أراض محتلة»، وفي عمقه برز صراع فلسطيني/ فلسطيني مثيراً للشقاق بين الثوار، وارتفع الاحتلال الأميركي للعراق ليحتل مكان الصدارة جانبه، وأحياناً أقوى منه لتشابك قوى دولية على الأرض العراقية، وانفجرت ذات يوم فضيحة سجن «أبو غريب»، وانفعلنا كلنا بها، وانتفض الشاعر بقلب المسرحي د. «يسري خميس»، وأرتج عقله غير مصدق لما يراه على شاشة التلفاز، عبر متابعة دؤوبة لكل ما انفجرت عليه هذه الحادثة التي جرت في زمن الصراخ بحقوق الإنسان في الحياة والمقاومة، وتبلورت الفكرة خلال أبرز متابعاته لأسرار ما حدث، وبخاصة متابعته اليومية لأكثر من عامين (2004 و2005) حتى الانتهاء من كتابة المسرحية منتصف عام 2006 لباب (أزمة السجون العراقية) على موقع BBC arabic.com بالإنترنت، ومشاهدته المواجهة المباشرة على «قناة الجزيرة» الفضائية مع البريجيدير جنرال جانيس كاربنسكي BG janis Karpinski قائد اللواء 800 للشرطة العسكرية الأميركية والمسؤولة آنذاك عن إدارة سجون العراق ومن بينها سجن (أبو غريب)، وكذلك المواجهة المباشرة على «قناة الجزيرة» الفضائية مع السيد «عبدالجبار العزاوي» أشهر المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، الذي تحولت صورته وهو مغطى الرأس بكيس أسود، فاتحاً ذراعية كالمسيح لتلقي الصدمات الكهربائية، الى رمز للفضيحة التاريخية. فضلاً عن الصور التي نشرها الصحافي الأميركي «سيمور هيرش» Seymour Hersh في مجلة (ذي نيويوركر) New Yorker Magazine وتناقلتها كل صحف ومجلات العالم، والوقائع المريرة التي نشرها في كتابه (القيادة الأميركية العمياء أو الطريق من 11 سبتمبر الى سجن أبو غريب). فجاءت مسرحيته هذه، التي إنتهى من كتابتها في صيف 2006، لتكون توثيقاً لهولوكست أميركي وقع ذات يوم على الإنسان العربي، غير القادر حتى على إثبات تدمير إنسانيته تحت نعال الأميركان.

التقرير الرسمي

ولأنها مسرحية تسجيلية كان لا بد وأن تعتمد ـ الى جانب المتابعة الحية المستمرة ـ على التقرير الرسمي للتحقيق الذي قام به ماجور جنرال «أنطونيو تاجوبا» MG Antonio M. Taguba لتقصي الحقئق في أحداث سجن (أبو غريب) ببغداد في يناير 2004، والواقع في 53 صفحة، والذي خلص فيه الى حدوث «وقائع متعددة لانتهاكات إجرامية سادية وجنسية واضحة». في السجون العراقية، ومنها سجن (أبو غريب)، الذي نشرت صوره وصارت صوره كالأيقونات الدالة على فظاعة الاحتلال، ونص (تقرير تاجوبا) على «إن المحتجزين في سجن أبو غريب في بغداد أجبروا على ارتكاب ممارسات جنسية وتعرضوا للتهديد بالتعذيب وللاغتصاب أو مهاجمتهم بالكلاب وتم إخفاؤهم عن الزيارات التي يقوم بها الصليب الأحمر «في خرق للقانون الدولي».

تعيدنا هذه الصياغة الدرامية لوقائع حدثت بالفعل للسؤال الجوهري الذي طرحناه في بداية مداخلتنا هذه حول قدرة المسرح التسجيلي على البقاء والخلود، ككل تيارات المسرح الخالدة من الإغريق حتى اليوم، إذا ما كانت طبيعته البنائية مؤسسة على فعل توثيق الحاضر، ورصد تفاصيله التي تدخل مع الزمن حقل التاريخ؟

فمن المسلم به أن الدراما المسرحية، وغيرها من فنون الدراما المرئية، تقوم على مبدأ إعادة صياغة الفعل الواقعي، ماضياً كان أم آنياً، في بناء جمالي يتأسس داخل السياق الاجتماعي القائم، ويستهدف التأثير في المجتمع الحي، فيخاطب جمهوراً يعرفه، ويكون حاضراً في هذه البناء الجمالي بزمنه وقيمه ورؤيته للعالم؛ شاء مبدعه أو تصور أنه ينفلت منه لعوالم فانتازية يبتدع معها أفعالاً خيالية سابحة في سماوات طوباوية، فحتى الفعل المتخيل له قاعدته الواقعية، ويصاغ لغاية واقعية، والمدن الفاضلة ما هي إلا موقفاً نقدياً من الواقع الراهن.

إذن فالإبداع في مجال المسرح التسجيلي، يمنح الوثيقة بعدها الجمالي، ويحول الراهن الزائل لمستمر خالد، ويحضر التاريخ فيصير بفضاء المسرح واقعاً معاشاً، وذلك لأن الفعل في حقل الدراما حاضر بطبيعته، لا يروى بلسان (راو) خبير كما في حقول التاريخ والسياسة، ولا يحكى بلسان (سارد) يعرف كل شيء عن موضوعه وشخصياته كما في حقل الرواية والقصة، بل هو يحدث الآن ويسير حتى نهايته أمامنا، خلال سويعات قليلة يتتبع عبرها المتلقي مسار الفعل ومصير المتعلقين به، ويتفاعل معهما بوجدان مشتعل وعقل يقظ، ويقتطف في النهاية الفكرة المبثوثة عبر هذا العمل بأكمله. وهي في جوهرها رسالة موجهة للجمهور المشاهد اليوم، وحاملة رؤية المبدع له فيما يتعلق بقضاياها التي يعيشها، وينتظر من الفنان أن يشاركه الرأي فيها، باعتباره مثقفاً فاعلاً في مجتمعه، تعلم و تثقف وخبر الحياة، لا ليدفن رأسه في رمال الأمس، بل ليلعب دوره في تنوير عقل المجتمع والعمل على تغيير واقعه الى ما هو أفضل.

النص الدرامي في المسرح التسجيلي هو توثيق جمالي لوقائع حياتية، ومسرحة فنية لأحداث وقعت في الماضي البعيد أو القريب، يأخذ من هذه الوقائع الحياتية ارتباطها الوثيق بلحظتها الزمنية، ويأخذ من الدراما قدرتها على الخلود والتجدد من كل زمن تقدم فيه، وكمكل مجتمع تخاطبه، ومن ثم سيظل المسرح التسجيلي قادراً على البقاء، طالما قابعاً في حقل المسرح، مستخدماً أدواته الجمالية لتواصل مع جمهور أتى إليه لا لكي يتلقى درساً في السياسة أو محاضرة تاريخية، بل لكي يتحاور مع مسرح ساخن وثائر ومثير للجدل.

----------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصدر :  الندوة الفكرية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الحادية والعشرين

الجمعة، 7 أبريل 2017

التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث

مجلة الفنون المسرحية

التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث

د . جبار جودي العُبُودي 


إن التطور الحاصل في حقل الفنون المسرحية من الناحية التقنية والتكنولوجية لم يكن بمعزل عن التطورات التقنية في جميع المجالات الحياتية الإنسانية، لكن مايميّز التكنولوجيات في حقل الفنون هو ارتباطها بجانبين مختلفين أحدهما هو الجانب النفعي الذي يحقق المنفعة الاستعمالية الخالصة، وهو يسير باتجاه مكاسب الاختراعات الصناعية والالكترونية، وهذا الأمر يكون بطبيعة الحال مرتبطاً بالجانب الحياتي والمعيشي بشكل عام، أما الشق الثاني فإنه على درجة كبيرة من الأهمية، وذلك لارتباط التكنولوجيات بالجوانب الحسية والجمالية في حقل الفنون عامةً ومجال المسرح خاصة، فعلى سبيل المثال، عندما نقوم بتغيير أحد فيدرات الإضاءة المبرمجة لأحد المشاهد، فإن الإيقاع التكنولوجي التقني لهذا التغيير ينعكس جمالياً وفنياً وفكرياً على خشبة المسرح عن طريق صنع عوالم خيالية متكاملة في الفضاء المسرحي للتعبير عن مختلف الثيمات المقصودة، كذلك فإن رفع وخفض الديكورات في المشاهد المسرحية مرتبط بالجانب التكنولوجي للمسرح، لكن عند تنفيذ ذلك، فإنه سوف يسهم بتحقيق مديات جمالية وحسية مرتبطة بالجانب الفكري للشكل والمضمون فوق الخشبة، إذ تسهم التكنولوجيات كعمليات تنفيذية أدائية آلية في تحـــقيــــق جماليات غير مسبوقة على مستوى عالٍ من الإتقان يشترك بها خيال الفنان ورؤاه المتميزة .
قد يتبادر الى الذهن التصور الذي يقول بأن التكنولوجيا هي معطى تقني آلي، وهذا بطبيعة الحال فرض عياني، لكن الصور المتحققة باستخدامات هذا المعطى، تفرز خطاً مستقلاً للجمالية والفكر والتأمل، إذ " شهدت الساحة الفنية نوعاً من السحر التكنولوجي على خشبة المسرح (..) ظهر بوضوح أن أفضل النتائج يمكن الحصول عليها عندما تنجح التكنولوجيا في التحول من الترقيع الى التجميل "(1) ، أي أن تكون تدخلاتها جمالية خالصة وليست عيالاً على العـــــــمل الفني أو مقحمةً فيه، لذلك استثمر العديد من فناني المسرح الحديث الجانب التكنولوجي في المسرح لإبراز رؤاهم الجمالية وعرضها بطرق مختلفة أسهمت في تكوينها تقنية التصورات الذهنية الإبداعية مشفوعة بالاستخدام التكنولوجي الأمثل للمهارات والخامات والمعدّات، حتى أصبحت تقنيات المسرح تشابه (جراب الحاوي) أو صندوق الساحر الذي يستدعي كل الغرائب من خلاله، إذ ان "تعبير تقنيات حديثة يبدو وكأنه جراب توضع فيه كل الأشياء ويرمز الى الشيء الجديد الذي يبدو أنه من التقنيات "(2) ، هذه التقنيات هي التي تسهم، بالاستخدامات الصحيحة لها ، في اثراء الشكل الفني المعبّر في عالم الفن المسرحي، فالمسرح ماعاد تقديمات تقليدية لمؤدٍ يحفظ دوره ويلقيه على مسامع الجمهور في مقدمة المسرح، بل أصبح ساحة للتنافس الشديد في جذب المتفرج من عوالم السينما والتلفزيون والمنافسة لهما من ناحية الإمكانات التكنولوجية التي تزيد من غنى العوالم الفنية المسرحية.
التقنيات الحديثة عندما تستخدم لخدمة المسرح، فإنها تأتي برؤى جديدة وآليات جديدة ، فالتقنيات تنمّي فكرة الخوارق باستدعائها للخيال الذي يحلّق في غير المألوف وغير المتوَقّع، كذلك لم تعد هذه التقنيات ضرورية لتقديم العرض المسرحي فحسب، بل تقوم بتوفير إمكانات جديدة لإتاحة الرؤية الخيالية سواء بالنسبة للمشاهد أو الممثلين (3) ، فالعرض المسرحي هو صناعة عوالم أخرى تختلف عن الواقع المحيط أو تشابهه، انها عوالم خاصة مصنوعة بحرفنة عالية، وبذوق الفنان وحسه الجمالي الأصيل وبخيالاته التي تصل الى أفق متقدمة في التجربة الإنسانية، إذ يقودنا العرض المسرحي الى " استكشاف كيفية تحوّل الخيال، أو مايفوق الخيال الى واقع، وهو يدفعنا الى استكشاف العلاقة بين الواقع وبين الصور المختلفة التي نعرف من خلالها هذا الواقع (..) العرض المسرحي مجال غريب لانألفه، يشبه عوالم الأحلام "(4) ، هذه العوالم تشخص الى الوجود وفق خيالات الفنان التي بدأت التكنولوجيا بتحقيقها ، فما كان سابقاً يشبه المعجزات في إمكانية تحققه أصبح الآن وبفضل التكنولوجيا المتقدمة، يتحقق بضغطة اصبع واحدة، وخصوصاً في مجال الضوء الذي يتم التحكم به الكترونياً عن طريق المكسرات الحاسوبية البرمجية الحديثة.
أما على صعيد التصورات الفكرية، فلقد أدرك كل من آبيا وكريغ، أن قابلية المسرح للتجريد تفوق كافة الإمكانات الفنية على صعيد البناء الذهني للتركيبات الصورية والمشهدية فيه، فالتجريد له القدرة على امكانية فرز بيئات خيالية أو واقعية لاتشابه في طبيعتها الواقع بالنسبة للمنظر المسرحي أو مستوى التخيّل عن طريق الإيحاء، إذ يوفّر التجريد توظيفه للمكان كمقابل مرئي للأحداث، ولقد كانت ( إضاءة الكهرباء ) هي الأداة المهمة والرئيسة في تحقيق هذا التغيير المهم في الخارطة المسرحية العالمية، إذ عن طريق استغلال مساحة الأداء الثلاثية الأبعاد وتوظيف الإمكانات التشكيلية للضوء، تلك الإمكانات اللا نهائية في تنويع وتركيز وضبط وتوجيه مصادره وحدّتها ونعومتها أضحت بديلة عن التكاليف الباهضة لإقامة المناظر المسرحية الضخمة، إذ بدأ المصممون يوظفون المساحات والعلاقات مابين المكان المضاء والمظلم ومابين الممثل والصورة المتخيلة للشكل والمضمون، إذ أدرك كل من آبيا وكريغ قوة الإضاءة الكبيرة في تشكيل المكان وتنويع فضاء العرض(5) .
لقد سعى فنانو المسرح منذ الإغريق الى الوقت الحالي، في إيجاد سبل مناسبة وطرق وأساليب عمل كفيلة بإيصال الأفكار والصور المتَخَيّلة الى المتلقي في العرض المسرحي عن طريق استخدام التكنولوجيات المختلفة والتي كانت سابقاً تدخل في باب الآلات البسيطة، أما الآن وفي خضم الإيقاع المتسارع للمتغيرات الكونية، أضحت التقنيات التكنولوجية من الحيوية بمكان، إذ لايمكننا تصوّر عرض مسرحي في الوقت الحالي بلا تكنولوجيات الضوء والصوت والمؤثرات البصرية، والكثير من الممكنات التي أتاحتها أجهزة الحاسوب في نقل الصورة .
(1) أنطونيو بيتزو: المسرح والعالم الرقمي، تر أماني فوزي حبشي ، القاهرة : (وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي) ، 2007 ، ص32 .
(2) لوسيل جاربانياني وبيير موريللي: المسرح والتقنيات الحديثة ، تر نادية كامل ، القاهرة : ( وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي)، 2007 ، ص248 .
(3) يُنظر: المصدر السابق ، ص7 و ص15 .
(4) جوليان هلتون: نظرية العرض المسرحي، تر نهاد صليحة ، الشارقة.

------------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

الخميس، 6 أبريل 2017

'الجسد الشعري' تقنيات التحكم في الجسد وضبط الحركة والإيقاع

مجلة الفنون المسرحية

'الجسد الشعري' تقنيات التحكم في الجسد وضبط الحركة والإيقاع

مازالت وضعية الممثل في المجتمع تثير الكثير من الجدل، فالبعض يراه معيباً ولا أخلاقياً، والبعض الآخر يرى فيه تجسيدا للحلم الاستعراضي، بأن يكون الشخص محط الأنظار سواء على الشاشة أو على خشبة المسرح، وبعيداً عن المظهر الحسن أو الغريب أو الأداء المفتعل أو الواقعي، مهنة التمثيل ليست وحياً ولها أنبياؤها، هي وليدة العمل والتدريب المستمر، وهناك مدارس مختلفة لها كلّ منها تطوّر أدوات الممثل الجسديّة والنفسيّة ليصل حد الاحتراف.

تقنيات التمثيل لا تعني مجرد حفظ الدور المفترض والقيام بالحركات المطلوبة والمبالغات الجسدية، فتطوير التمثيل كفن ومهنة لطالما كان هاجس العاملين في المسرح من منظرين وممثلين على حد سواء، في المنطقة العربيّة وعلى الصعيد العالمي وخصوصاً إنتاجات هوليوود التي تشتهر بـ”الواقعية النفسيّة” الطاغية على باقي التقنيات بوصفها محاكاة دقيقة للواقع.

إذ تأسست التقنية في روسيا على يد قسطنطين ستانسلافسكي ثم انتقلت إلى أميركا في بدايات القرن الماضي، مقدّمة لنا جيلا من الروّاد والمبدعين تركوا بصمة لا تنسى في تاريخ التمثيل، كروبرت دي نيرو ومارلون براندو وإليا كازان وآل باتشينو، والذين يعتبرون تجسيداً لمنهج الواقعية النفسية وتقنياته في إعداد جسد الممثل وطبيعته النفسية والعاطفيّة.

منهجية مغايرة

مهنة التمثيل من أصعب المهن وبالرغم من أن الكثير يحلم بها لكن الوصول للاحتراف يبتعد عن الموهبة والوحي
بالرغم من شهرة الواقعية النفسيّة إلا أن هناك مناهج أخرى تقترح تقنيات مغايرة ومقاربات مختلفة لتمارين الجسد والاستعداد النفسي والعاطفي، ومؤخراً أعادت دار أكت سود الفرنسية طباعة كتاب المخرج والممثل والمنظر المسرحي جاك لوكوك بعنوان “الجسد الشّعري”، والمترجم للإنكليزية أيضاً بعنوان “الجسد المتحرك”، والذي لم تعرفه المكتبة العربية المسرحيّة حتى الآن، فلوكوك يقدّم تقنيات الارتجال واللعب وبناء الحكاية عبر مقاربات تختلف عن تلك المعتادة في معاهد التمثيل في المنطقة.

يرى لوكوك أن كتابه هذا تعليمي لا فقط في مجال المسرح، بل يمكن أن يساعد أيضاً الأشخاص العاديين والمهتمين والعالمين بمجال الاستعراض بأن يتحكموا في أجسادهم لضبط حركاتهم وإيقاعها، فالمنهج الذي يقترحه يمتد لسنتين، يبدأ بـ”سيكولوجيا الحياة الصامتة” مروراً بالتمرينات الجسدية والقناع لتنتهي بضبط مفاهيم الكوميديا والتراجيديا والمهرجين والكوميديا دي لارتي، التي يتضح تأثره بها بسبب عمله في إيطاليا كمخرج وممثل مع عدد من الفرق المسرحيّة.

المنهج حسب تعبير لوكوك يدور حول ثلاثة محاور لإعداد الممثل، الأولى هي إتقان مهارات الجسد عبر ما يسمى “الأكروبات الدرامي”، بحيث تتطور مهارات الممثل الجسدية بما يفترض مبررات منطقية لها حسب الحالة المفروضة، وإلا هي مجرد حركات مجانية لا فائدة منها ولو كانت متقنة كالمهارة الرياضية، وهذه التبريرات الدرامية تبدأ من رمشة العين حتى الحركات المعقدة المرتبطة بالدور.

المحور الثاني هو القناع، وبصورة أدق القناع المحايد، الذي يتيح للممثل بناء الشخصية وحركاتها وانفعالاتها العاطفية بناء على التجربة الجسدية والحسيّة، ثم الارتجال، بوصفه التقنية المرتبطة بـ”إعادة اللعب”، وإعادة خلق الأدوار والمواقف والتخلص من التأثيرات والحركات المجانية من جهة وبناء المتماسك للدور من جهة أخرى، وذلك عبر سلسة من الألعاب المرتبطة بالصمت أولا ليدخل بعدها الكلام والتبريرات المرتبطة بالصوت واللفظ والمعنى.


كتاب تعليمي لكل من يرغب في امتهان التمثيل

يقدّم لوكوك في الكتاب بنية مفاهيمية متامسكة إلى جانب سلسلة من التعليمات العملية المرتبطة بفن التمثيل، وخصوصاً أنه يؤكد أن تقنيات “اللعب” لا ترتبط بجنسية أو لغة أو بنية جسدية معينة، بل هي تمارين عاطفية وجسدية للوصول إلى الصيغة الخاصة بالتعبير، إذ يختلف عن ستانسلافسكي في بناء الممثل، بوصفه يحرره من سطوة المسرح وكل الاعتبارات السابقة، وهذا ما يتضح في تقنيات القناع المحايد، واللعبة الشهيرة التي ابتدعها، وهي أن يستيقظ أحدهم واضعا قناعاً محايداً وينظر في المرأة، فما سيكون رد فعله الأول؟


اللعب والتأمل

حقيقة لا يمكن التكهن بما سيكون رد الفعل الأول، وخصوصاً أن القناع المحايد لا يحمل أي قيمة عاطفية، إذ يترك الممثل كصفحة بيضاء دون جنس أو تاريخ أو معرفه مسبقة، لنراه محدقاً في المرآة، منفصلاً عن ذاته من جهة، عمّا حوله لغياب الخبرة الجسدية مع المحيط إثر الحياد، فما يقترحه لوكوك أشبه بعملية تطهير، لتحرير الجسد من التراكمات العاطفية والفكرية التي قد يمتلكها الممثل، ليدخل الدور المفترض دون أيّ اعتبارات مسبقة.

فالانعتاق الذي يمنحه القناع لصاحبه يترك مساحة اللعب بفطرته الأولى، بوصفه يسبق أنظمة التفكير وبنى المعنى التي يمتلكها الممثل لا الشخصية، وهذا ما يجعل لوكوك يحددّ أنواع الأقنعة المختلفة، الوظيفية منها والعاطفية كالقناع التراجيدي أو الكوميدي، والتي تفترض في تكوينها أنظمة معينة من الاستجابات العاطفية والوظائف الجسديّة.

في نهاية الكتاب نقرأ المفاهيم التي يبني على أساسها لوكوك موضوعات المسرح الرئيسية وكيفية مقاربتها حسب وجهة نظره، كالتراجيديا والكوميديا وتقنيات عمل المهرج والمخبول، مقدماً عددا من الألعاب والتقنيات المرتبطة بعكس هذه الموضوعات جسدياً ومفاهيمياً بالاعتماد على الجسد أولاً وتقنيات الارتجال المرتبطة بالمعنى والتماسك الدرامي، بحيث لا يبدو أداء الممثل منفلتا أو مبالغاً به.

يسعى جاك لوكوك إلى جعل الممثل كرضيع ما إن يلامس الأرض حتى يبدأ في اكتشاف الحركات قبل أن يفرض عليه كيف ومتى يتحرك في كل مرة بعكس ستانسلافسكي الذي يفترض بنى وتقنيات مسبقة للحركة “الواقعية” ومبرّراتها النفسيّة المسبقة.


--------------------------------------------
المصدر : عمار المأمون - جريدة  العرب 

الاثنين، 3 أبريل 2017

مسرح الشارع ورهانات المسرح المغاير

مجلة الفنون المسرحية

مسرح الشارع ورهانات المسرح المغاير

د. اياد كاظم السلامي

       يعرّف معجم لالاند فلسفة الجمال على أنها “علم موضوعه الأحكام التقويمي الذي ينطبق على التفريق بين الجميل والبشع. ولو نتأمل تجارب عروض مسرح الشارع جاءت نتيجة لحاجات فكريه وجمالية فضلا عن حاجات تقنيه وماديه، فمن حيث الجانب الفكري يشترط على متلقيه ممن يتصادفون مع ما يطرح اي بمعنى ان لا يوجد استعداد سابق لمشاهدة العرض من قبل المتلقي ، اما اشتراطات وجوده وانتاجه فهو يفتقد الى طقسية العرض المسرحي كإطفاء الانوار وحركة فتح وغلق الستارة وصمت الجمهور ومكانية العرض الغير مؤطره بمكانيه محدده لا يجوز تجاوزها ليتحول من الارسطي الى البرشتي. اما الناحية الجمالية لو نتساءل اين يكمن جوهر الجمال في هذا النوع من الفن المسرحي؟ نجد ان التعبير التلقائي الذي يعبر روح الإنسان وخلوده، ويدفعه إلى ذلك غريزة قارّة في طبيعته البشرية التي تنحو به. فيرى (هيجل) بهذا الاتجاه ان التعبير عن الذات هو تعبيراً جمالياً، فيقوم الممثل بعمله الابداعي من خلال العاطفة والمادة المحسوسة، فهو يبقى أولاً وأخيراً نشاط عملي تأملي، فإن كانت الفلسفة هي الدهشة التي تحدثها فينا كما يقول الفيلسوف (مارتن هيدجر)، فإن الفن المسرحي هو التعبير الرمزي عن هذه الدهشة وبعد من اهم محاور مسرح الشارع جماليا  بما يمتلكه من دهشة ، كما نجده في (كوميديا لارتا) حيث يتماهى مسرح الشارع معها الى حد كبير مع يطرحه هذا النوع من العرض  فضلا عن علاقته مع المتلقي وتفاعليته  الغير مؤطره  بحدود. 
اما في الجانب التقني نجد مسرح الشارع يتخلى عن اغلب التقنيات ويتحول كروتوفسكيا بامتياز   فهو يستخدم مفردات حياتيه بسيطة ليوظفها تقنيا فيقوم بارتداء موسيقى شعبيه نابعه من هموم الهامش بالمجتمع وتتناغم اغانيه مع هذه الهموم، كما يستخدم مفردات بسيطة.
 اما الحاجات المادية فالمسرح برمته يعاني من ابويه ماديه صعبه وقحط كبير في منظومة الإنتاج فعروض مسرح الشارع تندرج تحت هذه اليافطة بامتياز.
وعليه ومما تقدم ان عروض مسرح الشارع تلامس هموم الناس لأنها تطرح ما يجول بأفكارهم وهمومهم اليومية وتقدم عن المعلن والمخبوء لهذه الهموم وفق إشتراطات معينه فهو يفترق عن المسرح البيئي بعدم تهيئة المكان مسبقا ويقدم أفكاره في اطباق الى المارة بسيطة. 


الأربعاء، 29 مارس 2017

في وداع ناهدة الرمّاح..غربتك بالمنفى.. كانت أكبر من عمر رماد النجوم

مجلة الفنون المسرحية

في وداع ناهدة الرمّاح..غربتك بالمنفى.. كانت أكبر من عمر رماد النجوم

صلاح القصب 

مسيرتك كانت إشعاعاً وشروقاً لمشهد فرح أبدي، أنوار تضيء في نغمة صافية، ضوء المسرح الذي عشقك كعشق الغيوم للمطر، مصابيح المسرح، كانت تحيط بك، وأعمالك كانت أناشيد تتشوّق لسماعها.  

الرجل الذي صار كلباً، الضمير المتكلم، المفتاح، النخلة والجيران، فكنت فيتوس الروح الصافية. رحيلك أمطرنا بدموع الألم السخية، وعربتك الذهبية التي يسجّى فوقها تاريخ يعلو مثل البروق من قبة السماء. ناهدة، أن الذاكرة تسقط مغشيّاً عليها، عندما ترى صورتك ماثلة أمامنا، لم تذبل ولم تتلاشى، طيفك مرّ، حملته الريح التي تحمل اعمالك المسرحية، والتي عادت إليّ الذاكرة ومضات استنفذت كل طاقتي، ناهدة، ماذا أقول لك يا جوهرة شمس كل العصور، التي عبرت ظلالها كل مسارات الزمن. 
في لحظات ذلك المكان – فرقة المسرح الحديث – كانت هناك لحظات ذهول ودهشة رسمها يوسف العاني، إبراهيم جلال، سامي عبد الحميد، قاسم محمد، عبد الواحد طه، خليل شوقي، زينب، روميو يوسف، يوسف سلمان، فاضل خليل، عقيل مهدي، جواد الأسدي، صلاح القصب، ولحظات آخرى مرّت، وعندما نستذكرها، تملأ روحنا بالدفء مثلما منحنا مسرح بغداد أجنحة الحب وسلاماً أبدياً.
شاهدناك في مسرحية المفتاح والنخلة والجيران والشريعة، كنت كأغانٍ مبتسمة، أداؤك كان كفضاءات سقطت عليها أشعة الشمس. 
أيّ جمال كان يحرّك روحك؟
التي تدفعنا إلى ارتعاشات جمال جارفة، أداؤك كان شعلة حب، اشغلت كل مصابيح مسرح بغداد، صفق لك الجمهور، حاملين لك الورود البيض، منحتيهم طيراناً من المتعة التي لا تتوقف.
ناهدة أيتها الزهرة الكبيرة، يا ذهب الوردة المزهرة ابداً. عرشك كان قاعة مسرح بغداد، وهويتك كانت فرقة المسرح الحديث، ومعلمك كان الشعب. 
سامي عبد الحميد، كان يراقبك، وانت تؤدّين دور أميرة في مسرحية، المفتاح شهق، لأدائك. أداؤك كان أضواء مصابيح متداخلة، شكّلت هالة جمال، جعلته يصفّق لك، لأنك كنت كل الأشياء التي تبحث عن رؤى كمخرج.
رحيلك يا أبنة النهر السخي، كان وجعاً لعيون بكتك، وصوتك في النخلة والجيران، مع صوت زينب وزكية الزيدي، يسمو ويرتفع كضياء يجري في النهر، كيف نودعك بقصائد، بشموع، بزهور، فجأة انقطع الضوء، ولكن العيون مازالت تلتقط طيفك كربيع مزهر. رحلتها مع الألم كانت طويلة، أتعبها المنفى ومطارات العالم ومحطات القطارات والمقاهي، التي لا نشم منها غير رائحة القهوة، ودخان السكائر، المنفى ووجدانية الغربة ووحشتها، كانت ممرات لزمن طويل، وفي رحلتها كانت تحمل معها اغاني حسين نعمة وكوكب حمزة وسعدون جابر ويوسف عمر وزهور حسين، أحبّت بغداد كحب الغيوم للمطر، الدهانة، العويتة الحيدرخانه، شارع الرشيد، مطعم تاجران ، مقهى حسن عجمي، قصائد مظفر النواب، اجواء غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، عبد الستار ناصر، كلها كانت أنغاماً لذكريات عذبة ملئت بها حقائب سفرها.
في منفاها كانت تردد اغنية لميعة توفيق 
يا الماشية بليل الهلج 
حولي عدنه الليلة 
ابعيد الدرب شيوصلج 
إهواية المسافة أطويله
كان الليل طويلاً والمسافات بعيدة وموحشة، عبرتها وكانت تنتظر الشمس، ترى حتى يظهر الشقق ويشتعل الفجر، التفتت الى تضاريس الذكريات، وهناك أبعد من مرمى النظر، سحبت ستارة المسرح كي ترى امواج الشوق لبغداد، رأت روحها تطفو فوق نواقيس نحاسية وسفوح دجلة تلوح لها بالبقاء كي تنهي رحلة الغربة التي عبرتها بلا رفيق. رحلتها عبرت بين النيران والأسوار العالية، عبرت كل تلك المسافات، حملت روحها العظيمة صورة مسرح بغداد وهوية فرقة المسرح الحديث واليوميات صور وذكريات شارع الرشيد ونهارات دجلة الخالدة.
ناهدة يا جوهرة كل العصور، يا ابنة الماء، كيف سأجمع أوراقي المتناثرة بعد رحيلك، رأيتك في حلمي أمس، تسيرين فوق الماء نحو نهايات المنحدر. ثم اختفى الحلم فجأة، حلمي كان فيضاً من الدموع كنت شعاعاً من الأمل لا ينحني لهبوب الريح، ارادت للأمل أن يعلو مرة ثانية، بعد العصف ليرتفع بقوة، أرادت أن تدخلنا الى حقول خضراء لضياء شامل مزهر. مسيرتها الفنية ملئت رحاب العالم مصابيح متوهجة تلمع كوهج البروق، أرادت أن تمنح الإنسان ضفافاً آمنة، يحتمي بداخلها من الخوف والدمار. كانت تحدّق في تلك المناطق التي تحتضن الشمس في منفاك ووحشة الوحدة، الثلوج لا تكف عن نقر ذكرياتك وغربتك.
كانت ابراج نحاسية، تدقّ، وبكل اللحظات، ورحلتك في المنفى، كانت تترك غباراً على منضدة المطارات والموانئ أوراقاً وذكريات والبومات صور، تحمل كل تلك المسافات الشاسعة، وكانت ازهار الشتاء، تقدم لك أجمل الأغاني، غريبة الروح لحسين نعمة، وعند الفجر، تستيقظ روحك فوق المسافات وبعدها تذوب في حلم بغداد ومسارحها، واغنية يا طيور الطايرة، ولمعان مصابيح تطير تبحث عن تلك الليالي، تبحث عن الشوارع والجدران والنوافذ، وعربات البريد راكدة في أحلامك التي تشعّ من خلال الضباب ظلالاً .
القطارات والموانئ والمقاهي المزدحمة بوجوه الغرباء، بكت في تلك الليالي الباردة، بكت معك، ودموعها كانت كضوء المطر،  غربتك بالمنفى يا ناهدة .. كانت اكبر من عمر رماد النجوم ناراً تمسُّ النار وباستمرار .
عند رحيلك.. شعرت يا ناهدة، بالزمن بارداً يجري في عروقي، ويسير خارج الحلم ويزحف نحو حدود العزلة، وبكائي لم يتوقف طوال الليل. بكتك الغيوم والمطر والسحب والأشجار، وقاعة مسرح بغداد، الا أن ضوءك بقي مشعّاً خلف زجاج نوافذ المسرح مثل تواريخ الأعياد.

-----------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 
تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption