أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

المسرح المعاصر ينفتح على وسائل الاتصال الحديثة

مجلة الفنون المسرحية

المسرح المعاصر ينفتح على وسائل الاتصال الحديثة
من خلال إحياء نصوص كلاسيكية أو تقديم أعمال جديدة تجذب جمهور الشباب


*د. رياض عصمت - الشرق الأوسط


الكلمات وحدها لا تصنع مسرحاً. المسرح لوحة متكاملة من الأداء الجسدي والصوتي مع الضوء والموسيقى والفن التشكيلي وسواها من عناصر تقنية حديثة، تتشكل في تكوينات درامية يبدعها تصور مخرج تجسيداً لخيال مؤلف. قد تصنع الكلمات دراما إذاعية، وفي أحسن الأحوال، تلفزيونية. لكن المسرح المعاصر اتجه تدريجياً في النصف الثاني من القرن العشرين إلى البحث عن لغته التعبيرية الخاصة والمتميزة عن السينما والتلفزيون، بل حتى عن المسرح بصورته التقليدية والتجارية، وهي لغة الجسد وتقنيات الفنون الحديثة. هل بدأ الأمر، يا ترى، مع مايرهولد والبايوميكانيك المستلهم من «الكوميديا دي لارتي»؟ أم تراه بدأ مع أدولف آبيا وتأثير النحت، أم من غوردن كريغ وتأثير الماريونيت؟ أتراه بدأ مع أروين بيسكاتور أم ماكس راينهارت، بحيث نسأل هل كان إدماج السينما في العروض المسرحية أبلغ أثراً أم إدماج السيرك؟ وهل كان الألماني برتولد برشت الرائد الأبرز والمنظر الأهم لتفاعل الفنون في المسرح المعاصر؟ في الواقع، يصعب تحديد الموجة من قطرات الماء. الأهم هو استمرار انسفاح الموجة على الصخر مرة تلو أخرى حتى تحفر أثراً.

البلدان الأكثر حفاوة بهذا الطراز من تداخل الفنون البصرية هي: وتشيكيا، وبولندا، وفرنسا، وألمانيا، والدنمارك، وهولندا، وبريطانيا، وروسيا والولايات المتحدة. منذ زمن طويل، اشتهرت براغ بطراز سمي «المسرح الأسود»، يعتمد على مؤدين يرتدون ثياباً سوداء، ويحركون أشياء مطلية بألوان فسفورية، هذا بالإضافة إلى استخدام التشيك الرائد لتقنية «سينيراما»، وهي إدماج مقاطع صورت سينمائياً مع أداء الممثلين الحي على خشبة المسرح. بدورها، كانت بولندا رائدة في تجارب لغة المسرح الممتزجة بالفن التشكيلي، خاصة مع تحول بعض الرسامين والمصممين إلى مخرجين، وفي طليعة هؤلاء غروتوفسكي ومسرحه الطقسي، كانتور ومسرحه البصري، توماشيفسكي ومسرحه الإيمائي الذي أبهر دمشق في أواخر الستينات، جوزيف شاينا والاستوديو الاختباري في وارسو، (وقد دعي إلى القاهرة في أواخر القرن الماضي، وشاهدت إحياءه لعرضه «ربليكا» عن الجحيم النازي على مسرح «الهناجر» في دار الأوبرا المصرية) في ألمانيا، تألق في برلين في القرن الماضي المخرج بيتر شتاين، ومن بعده في القرن الحادي والعشرين المخرج توماس أوسترماير، واستخدم الأخير منهما شاشة ضخمة تعرض لقطات مكبرة جداً لتعابير وجوه الممثلين في «هاملت» مع فرقة موسيقية تعزف بشكل حي على الخشبة موسيقى صاخبة Heavy Metal.

كان من أوائل المخرجين المجددين في فرنسا منذ أواخر الخمسينات المخرج روجيه بلانشون في مدينة ليون، متأثراً بنظريات برشت، فأخرج من نصوصه «خوف وبؤس في الرايخ الثالث»، و«شفايك» و«المرأة الطيبة من ستشوان»، كما استخدم بلانشون السينما في مسرحية شكسبير التاريخية «هنري الرابع»، فضلاً عن تجديده في إخراج مسرحية موليير «جورج داندان». في زمن لاحق، ظهرت في المسرح الفرنسي تجارب ملهمة لمخرجين طليعيين مثل أريان مينوشكين وفرقتها «مسرح الشمس»، وكذلك إخراجات باتريس شيرو المبهرة بصرياً. كما تألق المخرجون الزائرون من بلجيكا مثل يان فابر، الذي حضرت له عرضاً أثار ضجة كبرى في مهرجان «أفينيون» الفرنسي، وحمل عنوان «أنا الدم». مؤخراً، لفتت إخراجات البلجيكي إيفو فان هوفه الأنظار في لندن ونيويورك وأمستردام، خاصة مقاربته الكلاسيكيات بأسلوب فذٍ ومبتكر، منها مزجه لعدة مسرحيات شكسبيرية في Kings of War وRoman Tragedies إلى مقاربته لمسرحية آرثر ميلر «منظر من الجسر»، سواء في مسرح «ينغ فيك» في لندن، أو مسرح «غودمان» في شيكاغو.

بدأت آثار تداخل الفنون تنال حفاوة في لندن على نحو متأخر نسبياً. بدأ تريفور نن بذلك في بعض عروض الميوزيكال في القرن الحادي والعشرين، رغم أنه جاء إليها من خبرة طويلة في إخراج أعمال شكسبير، وإن كان التجديد مع الشكسبيريات أمرٌ مألوف وقديم العهد في «فرقة شكسبير الملكية» و«المسرح القومي» عند عدة مخرجين آخرين استخدم بعضهم أحيانا وسائل التقنية المتقدمة. اليوم، يتألق المخرج والممثل البريطاني المعروف سيمون ماكبارني في تطوير مسرح الجسد مع فرقته ذائعة الصيت «كومبليستيه» في لندن. كذلك لمعت المخرجة كيتي ميتشل بإخراجاتها في بريطانيا وألمانيا. لمعت أيضاً فرقة «1927» في لندن بطابعها التجريبي الذي يستخدم وسائل الاتصال المتعددة، كما في عرضها الشهير Golem. برزت أيضاً فرقة Frantic Assembly من الويلز، وهي تمزج بين المسرح الجسدي والموسيقى الحديثة، كما في عرض Beautiful Burnout وCurious Incident of the dog in the Nighttime بحيث انتقل العرض الأخير إلى أحد مسارح لندن، وحظي بجوائز.

في الدنمارك، يتصدر حركة المسرح الطليعي المخرج الإيطالي الشهير يوجينيو باربا، الذي يدير منذ سنوات «مسرح أودين» في مدينة هولتسبرو، ويقوم بجولات عالمية في مختلف أصقاع الأرض. أخرج باربا مسرحية «هاملت» في قلعة «ألسينور» نفسها التي جعلها شكسبير موضعاً لأحداث قصة الأمير الدنماركي الذي يخطط للإطاحة بعمه المستبد وقاتل أبيه غيلةً وغدراً محتلاً عرشه ومقترناً بزوجته. زار باربا سوريا وقدم ثلاثة عروض مونودراما من إخراجه، وأجريت معه آنذاك لقاءً تلفزيونياً مطولاً.

شهد المسرح الروسي انقلاباً جذرياً، وتغير رفضه المتشدد لأي تيار مجدد ومجرب خارج إطار واقعية ستانسلافسكي واضطهاد السلطات آنذاك لمايرهولد بسبب أسلوبه التجريبي، وتهميش تجارب تاييروف، إلى القبول بالتجريب الذي كان من المحرمات في الربع الأول من القرن العشرين. تعرض حتى ستانسلافسكي نفسه في أواخر حياته، وكذلك فاختانكوف، إلى الضغط كي لا ينحرفا عن المنهج الواقعي ويقاربا تجارب الشكل الجديد. منذ مطلع السبعينات تقريباً، رُدَّ الاعتبار إلى مايرهولد، واحتفي بأساليب مسرحية متنوعة في الاتحاد السوفياتي والجمهوريات التابعة له آنذاك. في مقدمة الأسماء اللامعة التي تألقت عالمياً يوري لوبيموف ومسرحه الشهير «تاغانكا» في موسكو، وبالأخص إخراجاته التي شاهدتها لعروض «عشرة أيام هزت العالم» و«طرطوف»، وما سمعت من الصديق الراحل فواز الساجر عن مقاربته المبدعة لمسرحية «هاملت». اشتهر عالمياً أيضاً الجورجي روبرت ستوروا بإخراجه لمسرحيتي شكسبير «ريتشارد الثالث» و«الملك لير»، وقد حضرت الثانية منهما في موسكو. كما اشتهر نيكروشوس بإخراجه المجدد لمسرحية تشيخوف «الخال فانيا»، التي أعجبت بها أيما إعجاب. في القرن الحادي والعشرين، ظهرت عروض المخرج ذي الأصل الليثواني ريماس توميناس ذات الطابع التجريبي، وفي طليعتها «الخال فانيا» و«يوجين أونيغن». كما لمع نجم المخرج التجريبي ديمتري كريموف في القرن الحادي والعشرين، وبالأخص عرضه التجريبي اللامع تشكيلياً «شيطان، نظرة من الأعلى» Demon، View from Above.

تملك الولايات المتحدة زخماً قوياً في المسرح التجريبي منذ ستينات القرن الماضي، وبالأخص جوليان بِك وجوديث مالينا في «المسرح الحي». كما نذكر من بين الفرق التجريبية الرائدة «فرقة سان فرانسيسكو الإيمائية» لمؤسسها المخرج المتأثر ببرشت ر. ج. ديفيز. اكتسبت الكثير من هذه الفرق شهرتها من معارضتها السياسية لحرب فيتنام، ومن جولاتها المظفرة في العواصم الأوروبية. عندما عملت في أواخر الثمانينات مساعداً للمخرج الطليعي الراحل جوزيف تشيكن، شاهدت في منزله فيديوهات عن عروضه الرائدة حين أسس وأدار فرقة «المسرح المفتوح». في أواخر الثمانينات أيضاً، شاهدت عرضاً مذهلاً في سان فرانسيسكو لرائد المسرح التشكيلي / البصري الأميركي جورج كوتس، وكان مذهلاً في جمالياته وابتكاره في الاستفادة من التقنيات الحديثة. حالياً، تقدم المخرجة كاثرين سوليفان في شيكاغو عروضاً من هذا الطراز، تستخدم فيها وسائل الاتصال الجماهيري multi - media كأدوات تعبير، وهي نموذج لتجارب متعددة أخرى كثيرة، وبالأخص في نيويورك.

ختاماً، نكرر القول: إن المسرح ليس كلمات فحسب، وإنما فرجة بصرية تتداخل فيها عناصر الأداء الجسدي ورسم الحركة مع الموسيقى والضوء والتشكيل لخلق تعبير يهدف إلى التأثير في عاطفة وعقل متفرج ملَّ من الأساليب التقليدية، وصار يطمح إلى أسلوب جديد يهز مشاعره ويحفر أثره عميقاً في الوجدان. إنه التطهير الذي ينشده المسرحي المعاصر بانفتاحه على استخدام تقنيات وسائل الاتصال الحديثة ضمن العرض المسرحي الحي وهو يقوم بإحياء نصوص كلاسيكية أو تقديم نصوص جديدة تجذب جمهور الشباب خاصة إلى ارتياد المسارح.

* مخرج وكاتب مسرحي سوري مقيم في الولايا

الاثنين، 30 أكتوبر 2017

صباح الأنباري وأعماله الكاملة

مجلة الفنون المسرحية

صباح الأنباري وأعماله الكاملة

د. أسماء غريب

(1)
لماذا الأعمال الكاملة؟أيُّ سرٍّ هذا الّذي يُحَفِّزُ العديدَ مِنَ الأدباء عَلى التّفكير في لحظةٍ مُعيّنة مِن حياتِهم، بإصدارِ "أعمالهم الكاملة" في مُجلّد أو مجلّدات عدّة، يجمعُون فيها كلّ ما ألَّفُوه طيلةَ حياتهم الفكريّة؟! هلْ في هذا الأمرِ إعلان عنْ قرب النّهاية؟ أو اعتراف ضمنيّ بأهمّية ما تمَّ تقديمُه مِن عملٍ يُعتَقَدُ في أحقّيتِهِ بالجمعِ والتوثيقِ ليَنْتَفِعَ بهِ ومنهُ الآخرون؟ وماذا عن موقف دُورِ النّشر في هذه القضيّة؟ أو بعبارة أخرى؛ ما الّذي يدفعُ بناشر مَا إلى خوض هذه التجربة، والمغامرة بالنّشر لكاتبٍ قرّر أن يجمعَ أعمالَهُ في زمن قلّ فيه إقبالُ القرّاءِ والنّقّادِ على الكِتاب والكُتّاب والأدباء بشكلٍ عامّ؟! 
لا أحدَ غير مَنْ يعملُ في مجال الكتابة ويعرفُ دهاليزَها الشّائكة، ويَخْبِرُ معاناة الأدباء والنّاشرين معاً، يُمْكِنُهُ أنْ يجيبَ عن هذه التساؤلات بكلٍّ حيادية وتوازنٍ ورصانةٍ، وعليهِ أقولُ: إنّ الّذي عادةً ما يُشَجِّعُ كاتباً مَا على نشرِ أعماله الكاملة ليسَ فقط الإحساس الذّاتيّ أو الشخصّيّ بأهمّية ما تمَّ تقديمُه خلال سنوات العمر الماضية، وإنّما هُو الاعترافُ الجمعيّ والغيْريّ بمَا لهذه الأعمال نفسها من قيمة أدبيّة وعلميّة عالية، وهو الأمرُ الذي لا يمكنُ الأخذ به في غياب عنصر التراكم الكمّيّ والكيفيّ، والذي أعني به مجموعَ ما تراكَمَ من موادّ ونصوص وكُتُبٍ فَرَضَتْ ليس على الكاتبِ وحده وإنّما على النّاشر والنّاقد والمهتمّين مِن الأساتذة الأكاديميين وغيرهم من ذوي الخبرة الاعترافَ الصّريحَ أو الضّمنيّ بأهمّية تجربة كاتب ما سواءً كانَ شاعراً، أو روائياً أو مؤرّخاً أو مسرحيّاً وهلمّ جرّاً، وبأحقّيَتِهِ أكثر من غيره بأنْ تُوثَّقَ أعمالُه وتُجْمَعَ في مجلّدات تُجَنِّسُ لما يُسَمّى بـ (الأعمال الكاملة).
وبما أنّني بصدد تناوُلِ تجربة الأديب المسرحيّ صباح الأنباريّ، أقولُ إنَّ صاحبَ كتابِ (المجموعة المسرحية الكاملة) الذي صدرَ مؤخّراً الجزءُ الأول منه (1)، قد تحقّقَ في مسيرتِه الإبداعيّةِ عُنْصرُ التّراكُم بامتياز، إضافة إلى عُنصرَيْ التّجديدِ والخصوصيّة اللذان يُشَكّلان ركيزة مُهمّة يعتمدُ عليها النّقدة والبحّاثة وكذا النّاشرون ليُقرّوا مدى أحقّية أديب ما في جمع نتاجاته بين دفّتيْ مُجلّدٍ أو مجلّديْن أو ربّما أكثر.
وأمّا عُنصر التّراكُم عند الأنباري فتؤكّدُه إصداراتُه التي تجمّعت على امتداد السّبعِ عشرة سنوات الأولى منَ القرن الواحد والعشرين، انطلاقاً من (طقوس صامتة) ووصولاً إلى (مذكّرات مونودرامية) (2)، إضافة إلى العديد منَ المقالات التي كتبَها في مجال المسرح والنّقد المسرحيّ والتي تتجاوزُ الخمسين مقالةً نُشِرتْ في العديدِ مِن الجرائد والمجلّات كـ (الموقف الثقافي)، و(العرب العالمية)، وجريدة (الحياة)، و(طريق الشّعب)، و(المدى)، و(الزمان) و(التآخي)، ومجلة (دجلة)، وغيرها منَ المنابر الثقافيّة والإعلاميّة، دون نسيانِ المسرحيـّاتِ التـي أخرجَها للخشبة ضمنَ أنشطة (فرقة مسرح بعقوبة) كمثلِ مسرحية علي سالم (بهلوان آخر زمان)، ومسرحية (المفتاح) ليوسف العاني، ثم مسرحية (قضيـّة ظـلّ الحمـار) لفردريش دورنمات.
كما لا يفوتني أنْ أسجّلَ أنّ الأنباريّ حظيَ باهتمام العديد من النقاد والمتتبّعين الأكاديميّينَ لرحلتِه وتجربتهِ المسرحيّة والّذين بلغتْ كتاباتُهم عنهُ ما يفوق التّسعين مقالة، أذْكُرُ منهم على سبيل المثال لا الحصر كلّاً من تحسين كرمياني (3)، ود. فاضل عبود التميمي (4)، ود. فائق مصطفى، ود. إبراهيم علي محمود، وسعد محمد رحيم (5)، ثم علي مزاحم عبّاس (6) وشاكر مجيد سيفو وبلاسم إبراهيم الضاحي (7)، وكذا محيي الدّين زنكنة (8). ويضافُ إلى هذا العديد من اللقاءات الصحفيّة التي أجْرِيَتْ معه، ونُشِرتْ على صفحات العديد من الجرائد داخل أو خارج العراق (9).
أمّا لمنْ يسألُ عنْ عُنْصُرَي التّجديدِ والخصوصيّة في التجربة الأنباريّة، فالمرادُ بهما نجاحُ الأنباريّ في تجنيسٍ جديدٍ بمجالِ الكتابة المسرحيّة بطريقةٍ حوّلَ معها وبهَا النصَّ الصامتَ مِنْ سيناريو متخصِّصٍ فنّيّاً وتقنيّاً بخشبة المسرح إلى نصٍّ مقروء منَ الناحية الأدبيّة، وذلك لخبرة الأنباريّ الطويلة في مجال المسرح الصّامت الذي هو بالنسبة له فنٌّ بصريٌّ يشتغلُ على الصّورة التي يُحَرّكُها الفعلُ والرّغبة والهدفُ بغرض تشكيلٍ معنى مُعيّن يكونُ قادراً على التجسُّد في هيئة نصّ مُدَوّنٍ على الورق، أو عرضٍ فوق خشبةِ المسرح، وهذا ما جعل الأنباريّ يحظى بهذه الخصوصيّة التي تُمَيّزُه عنْ غيره من رواد المسرح العربيّ لأنهُ يُعَدُّ أوّلَ مَنْ أسّسَ صرحَ أدبيّات المسرحيّة الصّامتة، على الرغم مِنْ ما في كتابةِ النصّ المسرحيّ الصّامتِ مِن صعوباتٍ قدْ تجعَلُ في الكثيرِ مِنَ الأحيانِ مهمّةَ الإبداعِ والتميُّزِ في هذا الجنسِ الأدبيّ الجديدِ أمراً مستحيلاً، لا سيما إذا كانَ الكاتبُ غيْرَ مُتَمَرّسٍ في العمل الإخراجيّ المسرحيّ، ولا خبرة لديه فيه، وذلكَ لأنّ كتابةَ النصِّ الصّامت تقتضي بالأساس معرفةَ شروط وقواعد الخشبة والتّمثيلِ معرفةً دقيقةً، تُكَمِّلُ ما يكونُ قد تراكَم عند الكاتبِ عبر السنوات منْ ثقافةٍ مسرحيّة شاملة وعالميّة تكونُ تطبيقيّةً أكثر منها نظريّة، حتّى يستطيعَ اللّعبَ بمرونة على حبلِ الخيالِ والابتكار الجديدِ المُتجدّد والمُتحرّرِ مِنْ ربقات التناصّ المسرحيّ الذي غالباً ما يجرُّ رجلَ المسرحِ إلى اجترار ما سبقَ أنْ كتبَهُ الآخرون، أو استلهام النّصوصِ مِن تجارب أخرى عالميّة كانت أو وطنيّة أو محليّة. وكلّ هذا يعني أنّ صباح الأنباريّ قد نجحَ بخبرته العميقة ليس فقط في تجنيسِ المسرحيّة الصّامتة وإنّما في إيجاد لغة إنسانيّة عالميّة مُشْتَرَكَةٍ للتثاقُفِ والحوار البنّاء وتبادل الخبرات دون الحاجة إلى التّرجمة، لأنّ هذا النوعَ من الإبداع أثبتَ مع الأنباري، أنه الأقدَرُ على تمكينِ الإنسانِ من التواصل مباشرةً مع أخيه الإنسان كيفما كانت لغته، وديانته واعتقاده، كما الرياضيات والموسيقى بالضّبط، التي هي لغة السّماء.
(2)
الطّريق إلى الأعمال الكاملة

قد يبدو لمُتَتَبّعي إصدارات صباح الأنباري في مجال المسرح الصّامت، أنَّ البدايات كانت منذ سبع عشرة سنة فقط، أيْ حينما أصدرَ سنة 2000 (طقوس صامتة)، في حين تقولُ لائحة الجرد البيبليوغرافيّ لأعماله المسرحيّة الصّامت منها أو الصّائت، إنّ نقطة الانطلاق الحقَّة كانت سنة 1974، أيْ حينما أخرجَ مسرحية (بهلوان آخر زمان) التي ألّفها علي سالم، وأعدّها عبد الخالق جودت، وقدّمتها فرقة مسرح بعقوبة، لكن هل حقّاً تُسَجَّلُ بدايات المُبدع معَ أوّل عملٍ يُقَدِّمُهُ أو يُصْدِرُهُ؟ أعتقدُ أنّ الأمر فيه حيف وظلم ما بعده ظلم، فالبدايات لا تسجِّلُهَا الأوراقُ والكتبُ فقط، ولا العروضُ ما دمنا بالآداب المسرحيّة منشغلين في مقالتنا هذه، وإنّما تُسَجِّلُهَا الأماكنُ، والتّجَاربُ المعيشة فيها ومن خلالها منذ أن يرى المبدعُ النّورَ إلى آخر يوم في حياته الدنيويّة، وقَوْلِي هذا يُشَرِّعُ لي سؤالي الجديد عن دوْر الأماكنِ في حياة صباح الأنباري، والبدايةُ ستكونُ من بعقوبة.
وُلدَ صباح الأنباريّ حسبَ ما هو مسجّل في الوثائق الرسميّة في مدينة بعقوبة عام 1954، لكن حسبَ ذاكرة والِدِهِ فإنّ الولادة الحقّة كانت عام 1952. وبعقوبة هذه تقعُ على نهر ديالي المرتبطِ بنهر دجلة في جنوب محافظة بغداد، ويصبُّ فيه نهر الوند قربَ مدينة جلولاء، كما يحتضنُ بحيرتيْن ذواتا جمالٍ خلّاب هما حمرين ودربنديخان في محافظة السليمانية. ومن تعدُّدِ هذه الأنهار وروافدِها وبحيراتها وُلدَ اسم المدينة الثاني لبعقوبة والذي يعشقُ صباح الأنباري على وجه التّحديد أن يناديها بـهِ، وهو (مدينة البرتقال)، وقد يعترضُ بعضُ القرّاء على قولي هذا مؤكّدين أن كلّ أهل العراق يحبّونَ مناداة المدينة بهذا الاسم وليس الأنباريّ فقط، إلّا أنّني أنظرُ إلى الأمر بعين داخليّة لا تتحدَّثُ سوى بحرفِ الاندهاش المصحوب بسحريّة الجمال ورهافة الحسّ، فأنا لستُ منَ العراق كي أرى ما يراه عمومُ النّاس من هذا البلد الأثير، وإنّما مِن مغرب جبال الأطلس وأنهار أمّ الربيع ودرعة وتانسيفت، وكلّ ما يصلُنِي من بلاد الرّافدين هو جديد عليّ وعتيق في الوقت نفسه، وضاربٌ في جذور انتمائي الكونيّ لكوكبِ الرّوح وكنوزه الدّفينة، ألجُه بقلبي الطّفل وأقولُ بلسانه ما لم يقله غيري من قبل، ولذا، فإنني أرى أنّ اسم (مدينة البرتقال) وهو يُتَهَجَّأُ حرفاً حرفاً في قلب وبين يدَي صباح الأنباري لهُ وقع خاصّ فيه منَ الجمال والسِّحْر ما يحتاج إلى التوقّف أكثر فأكثر عند هذه المدينة.
بعقوبة هي بيْتُ الصّبر والدّمع والجَلَد، وهي قبلَ هذا وذاك حوضُ الذّهب، وإذ أقول هذا فإنّي أعني الأرضَ الّتي ظهرتْ فوقها خيراتُ الله متجلّيةً في حقول البرتقال والليمون والرّمَان والنخيل، والزهر والورد الفوّاح، والنباتات العطريّة من ياسمين وميرمية وعطرشيّة أو ما يسميها البعضُ بنبتة اللقلقيّ النّفّاذ، ترمزُ كلُّهَا إلى الدّفء والمحبّة والوفاء والإخلاص، لأنّ أبناءَها، ولا سيما منهم أهلَ الحرفِ والتّقوى، استمَدّوا كلّ هذه الصّفات النبيلة من عطور نباتاتِ مدينتهم وألوان زهر النارنج فيها، وعرفوا باكراً أنّ سرّ السّعادة لا يكمنُ في الاعتناء بالفراشة وأجنحتها السّاحرة، وإنما في الاهتمام بالأرض والحقل والوفاء لهُما والدّفاع عنهما بكل تفانٍ ونُكْران للذّات، حتى تؤمّهُما بعد ذلك كلّ فراشات الكون، وتصبحُ الأرضُ وطنَ النّور والعشقِ المنبعث سحرُه في كلّ القلوب. وليس غريباً أن نجد الأنباريّ قد تعلّم من مدينته الكثير، لأنه نبتَ كما شجرة البرتقال فيها، ففاح أريجه وامتدَّ إلى أبعد بقاع الله في الأرض؛ استراليا حيث يقيمُ اليوم هو وأسرتُه الفاضلة الكريمة.
وشجرةُ البرتقال البعقوبيّة حاضرة في كلّ شيء خطّتهُ يداه، بدءاً من بداياته الشّعريّة إلى نصوصه المسرحيّة الصّامت منها والصائت (10) ومروراً بنصوصه في النّقد المسرحي والشعريّ، ولعلّ أكبر دليل على ما ذهبتُ إليه هو كتابُه (الرّسم والفوتوغراف في مدينة البرتقال) (11) والّذي ظهرتْ فيه بعقوبة بأبهى صورها عبر توثيق الأنباريّ لإبداعات رواد الرّسم والفوتوغراف فيها كالفنّان ناظم الجبوري، وسامي مسعد وأكرم الخزرجيّ وعدنان حسين مطر، وكذلك عبر تجلّيات جماليّة لا تجيدُ احتضانَها مدينة أخرى غير بعقوبة لأنّ لها منَ الأبناء مَن هُم وحدهم قادرون على مدّ جسور المحبّة انطلاقاً مِن مساحاتِ طبيعةِ مدينتهُم المفتوحة وفضاءاتها وحقولها وبساتينها اليانعة التي شربوا منها جميعاً إكسيرَ التمدّن والتحضّر والحوار والتآخي والتآلف مع الآخر (12) ليس فقط لأنّها قريبة من العاصمة بغداد وإنّما لأنّ حجرَ العشق والحكمة والفلسفة والعرفان كامنٌ فيها وهذا ما يبرّرُ تسميتي لها آنفاً بحوض الذّهب.
لكن ما الذي حدثَ لبعقوبة فيما بعد؟ من هشَّمَ قلبَها وأهرقَ دمعَها، وأحرقَ أشجارَهَا، وجفّفَ أنهَارَهَا؟ أينَ ذهبَ بياضُ القيمر وصفاؤه، وعطرُ الدولمة والبرياني والكباب في مطابخ البيوت البعقوبيّة الكريمة؟ بل أينهم البعقوبيّون البسطاء الّذين كانوا يتحلّقون حول المذياع لينصتوا بكلّ شغفٍ إلى مصطفى جواد وهو يطلُّ عليهم ببرنامجه الإذاعيّ اللغويّ الشيّقِ (قل ولا تقل)، وحول شاشة التلفزيون العتيقة ليتابعوا مؤيد البدري في برنامجه (الرياضة في أسبوع)، ويستأنسوا بالمسرحياتِ والمسلسلات التي خلدت في الأذهان كمسلسل (تحت موس الحلاق) ضاحكين منْ أعماق القلوب من كلّ ما كان يقدّمُه سليم البصري (حجّي راضي) وحمودي الحارثي (عبّوسي) وهُما يعالجان قضيةَ محو الأميّة لا سيما في حلقات خاصّة أذْكُرُ منها حلقةَ (تلميذ مسائي)؟ أين ذهبَ كلّ هذا البهاء والجمال والسعادة؟ الجواب يوجدُ في أعمال صباح الكاملة: إنّها الحرب تلك التي كان يحاولُ والدهُ أن يُبْعِدَ شبحَها عنهُ وعن بقيّة إخوته، وهو الرجل الذي خبِر ويلات الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، ويعرفُ جيّدا ما تخلّفه الحروب كلّها بدون استثناء من دمار وخراب. لكن هيهات هيهات، فحروب بلاد الرافدين الكثيرة ابتلعتْ أهل الأنباري، ولم تتركْ له لا أبا ولا أخا ولا أمّا ولا أختا، وأذاقتهُ باكرا مرارة السّلب والحرمان والموتِ الخاطف الغادر، فأصبحَ مثله مثلَ العديد مِنَ البعقوبيين شجرةَ برتقالٍ قُطِعَتْ أوصالُهَا، ونُسِفَتْ أوراقُهَا وغُيّبَتْ شمسُها عن المدينة، ولم يبقَ أمامها سوى أن تحمل ما تبقّى مِن جذعها المُقاوِم لأوار الحقد والكراهية والتعصّب الطّائفي لتذهبَ وتغرسَه في أرض أخرى لا حربَ فيها علَّ الجذعَ يُنْبِتُ أغصاناً جديدةً تورِقُ زهراً عَطِراً وفاكهةً تسرُّ النّاظرينَ، لتحتفظَ مِن خلالها على صِلَتِها بنهر الحكمة الأمّ، وتعيدَ الحياةَ إلى حوض الذّهب ومكنوناته البهيّة.




(3)
في حضرة اليمامة والقمرية

في أرضِ المهجر (أديلايد) اختمرتْ ونضجتْ فكرةُ جمع كلّ ما أنتجَه صباح الأنباري خلال مسيرته الإبداعيّة في مجموعة شاملة هي (المجموعة المسرحية الكاملة)، وعبر منشورات ضفاف اللبنانية وصلَ الجزء الأول إلى مناطق مختلفة منَ العالم منها مصر، أرض الفنون ورواد المسرح العربيّ الأوائل، هناكَ حيثُ وُزِّعتْ العديدُ مِنَ النّسَخِ على طلّاب الدراسات العليا بقسم المسرح في جامعة طنطا باعتبار أنَّ هذا الجزءَ قد أصبح مقرّرَهم الدراسيّ لهذه السنة الأكاديميّة الجارية، وجسراً للتواصلِ بينهم وبين صباح، وبينهم وبين الجامعات العربيّة من خلال أستاذهم الدكتور سيد علي إسماعيل (13).
يتكوّنُ الجزء الأول من (المجموعة المسرحية الكاملة) من فصليْن جامعيْن هُما (المسرحيات الصوامت وأسسها النظريّة والتطبيقية) و(نصوص المسرحيّات الصوامت) الذي يضمُّ ثلاثَ مجموعاتٍ جمَعَ الأنباريّ في الأولى منها كلّ الصوامت التي صدرتْ عام 2000 في كتابه (طقوس صامتة)، وأعادَ نشرها في (كتاب الصوامت) الذي صدرَ عام 2012. أمّا في المجموعة الثانية فجمعَ كلَّ الصوامت التي صدرت في (ارتحالات في ملكوت الصّمت) بدءاً من مسرحية (الالتحام في فضاءات الصّمت) وانتهاءً بـمسرحيّة (حجر من سجّيل) (14). وفي المجموعة الثالثة أدرجَ إحدى عشرة مسرحية، اثنتانِ منها سبقَ أنْ صَدَرَتَا في (كتاب الصوامت) (15) وهُما (قطار الموت) و(عندما يرقص الأطفال)، أمّا التّسعُ الباقيات فهي نصوص جديدة نُشِرَتْ واحدة منها ورقيّاً في جريدة (تاتو) (16) وثانية رقميّاً على موقع (بصرياثا) (17) وثالثة منها ورقيّاً أيضاً في مجلّة (الجديد) (18) أمّا المسرحيات الستّ الأخرى فنُشِرَتْ كلها ورقيّاً في جريدة (العالم) عام 2014، وهي المسرحيات التي سأختارُ من مجموعها كاملة (19) مسرحية لا غير، وأعني بها مسرحية (الهديل الّذي بدّد صمتَ اليمامة) (20)، وذلك لأنّي أعتبرُهَا أكثرَ النّصوص اختزالاً للمسار الأنباريّ كاملاً، ولأنّهُ يحكي عن بعقوبة وعن شيَم الوفاء والعفاف والكفاف والغنى عنِ النّاس التي تُمَيِّزُ هذا الأديب والتي تجلّتْ في إهداءاته سواءً منها التي افتتحَ بها (المجموعة المسرحيّة الكاملة) أو تلك التي تصدّرتْ (كتاب الصوامت) أو نصّ المسرحية ذاته، وهي الإهداءات التي سأجردها كما يلي:
- في المجموعة المسرحيّة الكاملة:
((إلى الّتي لا أزال على قيد محبّتها، وإلى أبنائي... وصمتي المناهض للتهريج، والضجيج، والثرثرة العالمية)) (21)؛
- في كتاب الصوامت:
((إلى الّتي طوّقتْ بهديلها الشجيّ صمتَ انتظاري الطّويل، وفرشت ظلّ جناحها الوارف على ملكوتي الدّرامي، إلى زوجتي لول (كما يحلو لي أن أسمّيها)، أهدي هذا السّفر من الصّوامت)) (22)؛
- في مطلع مسرحية ((الهديل الّذي بدّد صمت اليمامة):
((إلى اللائي انتظرن عودة يمامهن طويلاً. وإلى زوجتي مع خالص الهديل)) (23).
الجميل في هذه الإهداءات التي تفيضُ محبّة وإخلاصاً وسمواً واحتراماً لشريكة العمر والحياة هوَ حرصُ صباح الأنباري الشّديد على الدقة في اختيار الكلمات ومعانيها، فهو لمْ يستخدم كلمة (الحمام) مثلاً، وإن كانت تدلّ على معاني لطيفة ساميةً أهمّها السلام والاطمئنان الرّوحيّ، ولكنّه انتقى مصطلحَ (اليمام) ليخاطبَ زوجتَهُ والقرّاءَ من خلالها داعين إياهم للتعمّق في فحوى نصوصه، وذلك لسعة وغزارة ثقافة هذا الأديب ومعرفتهِ للفرق بين كلا النّوعين من الطّيور، وهذا ما يؤكّده جمعه بين اليمام والهديل والصّمتِ، ليلخّص المعنى الحقيقيّ لمسرحياتهِ الصّامتة.
اليمامُ في عرف المختصّين بعلم الطيور (Ornithology) أشدّ وفاء وإخلاصاً من الحمام، وأكثر حبّا للحريّة، لذا، فإنّه منَ الصّعب جدّا قنصُه، إضافة إلى أنه لا يطيق أن يستسلم للإنسان ليروّضَهُ على العيش حبيسا بين الجدران، وإذا حدثَ وحُبِس فإنه لا يفرّخ إلا نادراً، وإذا أفلت من سجنه فإنه لا يعود إليه أبداً، ويحبّ الهجرةَ كثيراً بحثاً عن أوطان أكثر أماناً واستقراراً، وإذا عشقَ كثُر هديل ذُكْرانِه.
وفي اللغة العربية لا يوجدُ مذكّر مصطلح "اليمام"، إذ اليمامة كما الحمامة والنملة والنحلة ونحو ذلك تطلقُ على الذكر والأنثى، فإن قصدوا التمييز بين الذّكَر والأنثى ميزوا بينهُما بوصف كأن يقولوا نحلة ذكر مثلا، أما اليمام فقد وضعوا لأنثاه اسماً خاصّاً بها هو القمرية. وبناء على هذا التمييز بين الجنسين فإني أجدُ نفسي بين يمامة وقمرية: يمامة هي صباح الأنباري وقمرية هي حبيبتُه (لول) كما يعشقُ أن يسمّيها، ولهذا فإنّ من يقرأ للأنباري بعينِ المحبّة لا بدّ سيجدُ زوجتَه وقمريتَهُ السّيدة لميعة الناشئ حاضرةً بشكل أو بآخر في كلّ نصوصهِ الصّامت منها والصّائت (24). وهكذا يصبحُ جليّا لماذا اختار نصّ (الصّمت الذي بدّد هديل اليمامة) وأهداهُ لها بكلّ تفانٍ ومحبّة، لأنهُمَا معاً معنيان أكثرَ من غيرهما بما عانته المرأةُ العراقية ومازالت من ويلات الحرب التي قصمتْ ظهرها، ورمّلتها، وتركتها عرضة لوحوش الغاب وللعزلة والحزن والقهر والاكتئاب. 
والحربُ في نصّ هذه المسرحية تُعَدُّ الحدثَ الرّئيس الذي تلتقِي حولهُ الشّخصياتُ (25) وتتفجّرُ عبره الصّراعات ولحظاتُ التوتُّر والتأزُّم لتضفيَ عليهم جميعاً حضوراً مسرحيّاً يشُدُّ بشكلٍ أكثرَ عمقاً بصرَ الجمهور، مخترِقاً فكرَهُ ووجدانَهُ، وواضعاً إيّاهُ أمامَ الوجهِ الحقيقيِّ للحرب، بالضّبط كما فعلت مارغريت ميتشل مِنْ خلال روايتها (ذهب مع الرّيح) التي كانت تقرأها من حين لآخر بطلةُ مسرحيّة الأنباريّ. 
ولمْ يكتفِ الأنباري بالحربِ كحدث قامَ بِمَسْرَحَتِهِ على الخشبة، وإنما كواقعةٍ للكشفِ النّفسيّ عبر تقنية العزل والانتقاء، والتي أعني بها ذاك المجهود الذي بذله الأنباريّ لينتقي من حدث الحرب عنصرا واحداً هو المرأة ليتمكّنَ منْ معالجة علاقتِها بتداعيات الحرب بشكلٍ مكثَّفٍ ومُخْتَزَلٍ حتّى يضمنَ سرعةَ وصول رسالته إلى الجمهور والتأثير المباشر فيه، دون المبالغة في الإثارة العصبيّة للمُشاهد كيْ لا يصرفَه عن الالتفات إلى المعاني الإنسانيّة والمظاهر الفنيّة في المسرحية من رسم للشخصيات، وبناء فنّيّ متكامل لها، وإضاءةٍ وأصوات وما إليها.
وفي مقابل حدث الحربِ، يَظهرُ في هذه المسرحية حدث آخر لا يقلُّ أهمّية عن الحدث الأول، وأعني به الدّعوةَ إلى السّلام والوئام بين بني البشر من خلال عنصرٍ على قدر عالٍ من الرّقيّ والأناقة والوسامة الفنّية، وهو هديلُ اليمام، والذي ما هو في الحقيقة سوى هديل صباح الأنباريّ نفسه الموجّه للنّاس أجمعين، فهو الدّاعي إلى العفاف والمحبّة، وإلى الوفاء والسّلام عبر كلّ نصوصه القديم منها والجديد، السّلام الذي هو لغة الصّامتين، المُبتعدين عن ثرثرة العالم، وغباء وضجيج أهل الاستكبار والاستعلاء.
سيبقى الأنباريّ شاهداً على زمنه من خلال تجاربه الغنّية، ومسرحياته الصّامتة التي اخترقتْ حجب العوالم، وأدخلتِ القارئَ والمتفرّجَ على حدّ سواء إلى حضرة البَصَر والبصيرة ليعثُرَ فيها كلّ واحد على يمامته أو قمريته، ويهدلَ معهُ أو معها أنشودة السّلام الأبديّ، لذا فإنّي أقولُ ختاماً: لا تصدّقوا هذا الهرمَ إذا ما أصدر أعمالَه الكاملة مُعلناً ختامَ المشوار المسرحيّ، لأنّه بكلّ اختصار، رجلُ الورشات الكبيرة المفتوحة إلى ما لا نهاية، وما زال في جعبتهِ الكثير، ونصُّهُ الصّامت الأكبر والأهمّ مازال في الطّريق، فانتظروه، وانتظروا هذه اليمامة ذات الهديل السّاحرِ الشجيّ.

الهوامش:
(1) صباح الأنباريّ، المجموعة المسرحية الكاملة (ج1)، ط1،  منشورات ضفاف، لبنان، 2017.
(2) - طقوس صامتة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2000؛
- ليلة انفلاق الزمن، اتحاد الكتاب العرب – دمشق، 2001؛
- البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2002؛
- ارتحالات في ملكوت الصمت، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2004؛
- المخيلة الخلاقة في تجربة محيي الدين زنكنة الإبداعية، منشورات مجلة بيفين، السليمانية، 2009؛
- المقروء والمنظور... تجارب إبداعية محدثة في المسرح العراقي، دار سردم للطباعة والنّشر- السليمانية، 2010؛
- المكان ودلالته الجمالية في شعر شيركو بيكس، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2011؛
- قاسم مطرود في مرايا النقد المسرحي، دار نون للنشر والإعلام، القاهرة، 2011
- تجليات السرد وجمالياته في قصص محيي الدين زنكنة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2011؛
- كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012؛
- التأصيل والتجريب في مسرح عبد الفتاح قلعجي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2013؛ 
- محيي الدين زنكنة / الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة، منشورات مهرجان كلاويز السابع عشر، السليمانية، 2013؛
- شهوة النهايات / ثلاث مسرحيات عراقية صائتة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2013؛ 
- الرسم والفوتوغراف في مدينة البرتقال، قوس قزح للطباعة، كوبنهاكن الدينمارك، 2014؛
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين، دار ضفاف / بيروت، 2014؛ 
- مذكرات مونودرامية / نصوص مسرحية صامتة، دار ضفاف / بيروت، 2015.

(3) انظر كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، ص 185.
(4) المصدر نفسه، ص 191.
(5) المصدر نفسه، ص 206.
(6) المصدر نفسه، صص 213-233.
(7) المصدر نفسه، صص 234-266.
(8) ألّف صباح الأنباري عن محيي الدّين زنكنه في النّقد المسرحيّ أربعة كتب هي:
- البناء الدرامي في مسرح محيي الدّين زنكنه، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، العراق، 2002؛
- المخيّلة الخلاقة في تجربة محيي الدّين زنكنة، منشورات مجلة به يفين (10)، 2009؛
- تجلّيات السرد وجمالياته في قصص محيي الدّين زنكنه، ط1، دار الشؤون الثقافية العامّة، 2011؛
- ثمّ محيي الدّين زنكنه، الجبل الذي تفيّنا بظلاله الوارفة، مطبعة دلير، من مطبوعات مهرجان كلاويز السّابع عشر، 2013.
(9) - صباح الأنباري يتحدث لـ (الزمان) عن المسرح الصامت، (الزمان)، لندن، 10/ 7/ 2009؛
- حوار مع الكاتب المسرحي والناقد صباح الأنباري، (الدستور)، العراق، 1/12/2003؛
- ثمّ صباح الأنباري بين هواجس الكتابة والتمثيل والإخراج، (أشنونا)، العراق، 20 / 10 /2001، وغيرها من العشرات من اللقاءات.
(10) انظر مسرحية (الهديل الذي بدّد صمت اليمامة) والتي ظهرت فيها بعقوبة من خلال الحمولة الرمزية العالية لكأسيْ عصير البرتقال الموضوعـتين فوق المنضدة التي تجلس إليها الشخصية الرئيسة: كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، ص 101.
(11) الرسم والفوتوغراف في مدينة البرتقال، قوس قزح للطباعة، كوبنهاكن الدينمارك، 2014.
(12) انظر في هذا الإطار صورة الأنباري (داخل صالة التصوير) وهو يجلس على مقعد مرتفع في شهره السادس وإلى جانبه فتاة كردية تضع يدها البيضاء الكريمة على صدره الصغير بكلّ محبّة وحنان: (الصورة موجودة بموقعه الرسميّ، وتحمل رقم 54).
(13) يشهد العديد من رجال ورواد المسرح العراقي المعاصر للأستاذ د. سيد علي إسماعيل بما يبذله من جهود حثيثة بكلّ محبة وإخلاص من أجل إعلاء صرح هذا الفن والوصول به إلى أكبر عدد من الجمهور والمتتبعين منَ البحاثة والنّقدة، وأذكر له شخصيّاً بكلّ تقدير ومودة واحترام ماقام به تجاه مشروع (فوبوس وديموس) للمسرحيّ العراقي ميثم السّعدي حينما جعلهُ ضمن المنهج الدراسي لطلبته في قسم النقد بكلية الآداب (جامعة حلوان / جمهورية مصر العربية)، وأصبح أيضا معتمدا في امتحانات الجامعة السنوية، وهو المشروع ذاته الذي سبق أن ألّفتُ عنهُ كتاباً نقديّاً بعنوان (ميثم السعدي وثنائية العرض المسرحي)، وصدر في بغداد، عن مطبعة تنوير عام 2016.
(14) وهي موجودة أيضا في (كتاب الصوامت)، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، صص80-148.
(15) المصدر نفسه، صص 157-166.
(16) مسرحية (الموت بين يدي القصيدة) عدد تموز 2014.
(17) مسرحية (جرذان سود وشمس بيضاء)، آذار 2015.
(18) مسرحية (دولة السّيّد وحيد الأذن)، عدد جزيران 2016.
(19) يبلغ عدد المسرحيات المنشورة في هذا الجزء الأول من المجموعة المسرحية الكاملة خمساً وعشرين مسرحية.
(20) صباح الأنباري، (الهديل الذي بدّد صمت اليمامة) من المجموعة المسرحية الكاملة، منشورات ضفاف، بيروت، 2017، ص 115.
(21) المصدر نفسه، ص5.
(22) صباح الأنباري، كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، ص 5.
(23) المصدر نفسه، ص 100، وفي المجموعة المسرحية الكاملة، ص 115.
(24) انظر على سبيل المثال لا الحصر: صباح الأنباري، ليلة انفلاق الزمن، اتحاد الكتاب العرب – دمشق، 2001، صص 8-28-29.
(25) امرأة في الثلاثين ورجل الظلّ ثمّ الرجال الثلاثة.



السبت، 28 أكتوبر 2017

روجيه عساف الشاهد الملك على نهضة المسرح اللبناني

مجلة الفنون المسرحية

روجيه عساف الشاهد الملك على نهضة المسرح اللبناني

مدرسة المواطنة والحريّة 

بيار أبي صعب - الأخبار


كلّما عاد روجيه عسّاف إلى المسرح، مخرجاً أو ممثّلاً، أو الاثنين معاً، كانت العودة حدثاً بحدّ ذاتها، ومناسبة للاحتفال. نحتفل، حتّى قبل أن نشاهد العمل، والمعروف أنّ الأعمال الفنيّة التي تُنتَج اليوم في مدينة كبيروت، بإمكانيّات المدينة ومع ناسها، عرضة لكل المخاطر والأنواء والرياح. الفكرة هي أن تخيّم على مسرحنا قامة هذا «القديس»، أو «الوليّ الصالح»، مؤسس «مسرح الحكواتي»، وقد ازداد جلالاً وتعباً مع السنوات.

الفكرة أن صنّاع العصر الذهبي لبيروت، لم يغيبوا كلّهم، أو يصمتوا، أو يستسلموا، أو ينقلبوا على تاريخنا وذاكرتنا. نذهب الليلة إلى «الطيّونة» ونحن نقول لأنفسنا إن الدنيا بألف خير، رغم كلّ شيء. إن الأشياء ما زالت ممكنة في هذا الزمن العقيم، المشلّع. إن القيم التي كافح لارسائها روجيه منذ عقود عدّة، مع حفنة من النساء والرجال، ما زالت راهنة، ويمكن أن نتشاركها مع أهل الحاضرة… وإن المشروع الذي منحه عمره هذا المثقف العضوي الآتي من الفرنكوفونيّة ـــ تركة الاستعمار ـــ إلى قلب العروبة والاسلام، ومعارك التحرر، والإنتماء إلى الناس وذاكرتهم الجمعيّة، هذا المشروع ما زال قابلاً للاستمرار والتجدد والانتقال إلى الأجيال الجديدة.
هذا هو الرهان الأساس لدى روجيه عسّاف، ولعلّه يختصر كل مسيرته المسرحيّة. في اعتقادنا أن الجماليّات، والتقنيات، والأساليب والمدراس، والمشاغل الثقافيّة والادائيّة والدراميّة، تأتي بعد ذلك. المسرح هنا مدرسة المواطنة، ومختبر لمستقبل نهضوي، وبلد على مقاس أهله. المسرح العسّافي مكان «لقاء» الممثلين والممثلات، القادمين من كل الجهات والشرائح، ليتبادلوا الأحلام والأوجاع والمشاغل، ليحفروا معاً في اللاوعي أو في الحاضر وأسئلته، ويفكروا وينفعلوا ويبدعوا، ليستعيدوا ذواتهم الحقيقية المغيّبة في مدينة السماسرة والقتلة والخراب العظيم. كل السر في طريقة عمل روجيه مع ممثليه وممثلاته. في ما يقترحه عليهم ويطلبه منهم. الفن هنا لم يعد سلعة واستعراضاً، ولا تجربة ابداعيّة «مجّانيّة»، ولا خطاباً أسلوبياً وتسويقياً ستتنافس عليه مهرجانات الرجل الأبيض… الفن مشروع ولادة جديدة. والمسرح العسّافي أيضاً، هو أرضيّة التماس والتفاعل بين صنّاع العمل وجمهوره: هؤلاء الرجال والنساء الآتون للبحث عن ذواتهم، واستعادة صوتهم المصادَر، وهويّاتهم المهدورة. من تلك العلاقة تولد روح المسرحيّة!
كل هذا سنجده الليلة في «طروادة»، تجربة روجيه عسّاف الجديدة، مع باقة من الممثلين والممثلات الشباب. غرف المعلّم من معين المسرح الاغريقي، هو المنكب منذ سنوات على اعادة قراءة تاريخ المسرح العالمي، على طريقته كفنّان القطيعة مع الأنماط المهيمنة، ومن زاويته التحليليّة النقديّة (صدرت أجزاء من موسوعته بالعربيّة عن «دار الآداب»، والجزء الأوّل بالفرنسيّة عن L’Orient des livres). ليطلع بنص لبناني في الصميم، وعربي بامتياز. فلنذهب مع حصار طروادة «حتى نهايات العواصم» كما كتب محمود درويش في «أحمد الزعتر». المسرح مع روجيه، مدرسة المواطنة والحريّة.

الجمعة، 27 أكتوبر 2017

التناضح التشكيلي بين اللوحة والكوريغرافيا

مجلة الفنون المسرحية

التناضح التشكيلي بين اللوحة والكوريغرافيا

ضحى عبد الرؤوف المل  - المدى 

تنوعت المفاهيم الكوريغرافية وتقاربت الرؤى الفنية مع بعضها البعض، فاختلفت التوظيفات التشكيلية في هذا المجال. إلا أن أهم ما جمع اللوحة مع الكوريغرافيا، هي العناصر المؤلفة لخصوصية التصميم النابع من ثقافات تشترك مع الفن والجمال والقدرة على التأليف المرن في التشكيل والرقص بمختلف تمظهراتهما، وفق تفاعلات بصرية مدروسة بدقة تتمثل بالمعنى المتجذر في الطقوس المرتبطة بالحركة والألوان، والفضاءات المفتوحة على تخيلات يتم تدوينها ودراستها وفق رسوم لخطى مدروسة موزعة على عدّة نقاط حركية تتشكل منها نوعاً من وسيلة تعبيرية موشومة بتشكيلات كوريغرافية قوية حسيّاً، وبما يكفي بصرياً لتكوين رؤية فنية متوازنة. لتكون ضمن نوتات تحمل طابعاً تعبيرياً تصويرياً وانطباعياً صارخاً، يتصف بدراما بصرية ذات علامات ادائية تتجانس معها الريشة والألوان التي تظهر خفايا وابعاد كوريغرافية تولد من وحي الامتزاج الحسّي عند الفنان، ويستطيع من حيث يتراءى له خلق فضاءات واسعة. لتوضيح الهدف بالإيماء والايحاء والحركة المبنية على التأثيرات البصرية، وما يتشكل من لوحات مستقلة يمكن لكل منها أن تكون موضوعاً للوحة يرسمها فنان بريشة كوريغرافية، تضم في طياتها المفاهيم العامّة للشكل الفني، ومميزاته التصميمية لخلق تنوعات في الاداء الحركي إن كان بالجسد المؤدي أو باللون وأطواله الموجية الذي يتخذ صفة درامية مقترنة بالفضاء التخيّلي. إن على خشبة مسرح أو على خامة اللوحة، كما في اوبرا "قصة الحي الغربي" التي تروي قصة "روميو وجوليت" على وقع ايقاعات لاتينية وموسيقى "ليونارد برينشتاين"، المخاطبة للحس والعقل، فالترجمة البصرية من خلال الكوريغرافيا وتنوعاتها المؤثرة على خلق التجانس الذي تتأثر بها الريشة والألوان المتلاحمة مع بعضها على مساحة محدودة، فينحصر المشهد وفق قياسات لها أطرها البصرية والجمالية النابعة ببساطة من مزاجية التصميم الكوريغرافي في التشكيل والمسرح وروحية الانتقال من حال الى حال كما في لوحات الفنان "جبر علوان"، ببعدها التشكيلي والكوريغرافي من حيث حركة الجسد في فضاء اللوحة، وما ينتج عنها من تجانس لوني أو ارتباط كلّي بالنقاط وتوزيعها على مساحة اللوحة. لتنطلق ألوانه وفق ايقاعات تجسد اهمية التصميم الكوريغرافي في الفن التشكيلي. اضافة الى التغيرات الهندسية والبصرية بحرفيتها المعقدة التي تشكل عدّة تحديات فاعلة في الكوريغرافيا المبتكرة للوحة . 
تتخطى الاشكال الكوريغرافية كل ما هو متوقع تشكيلياً، حتّى في الاسلوب التكعيبي كما في لوحة "بابلو بيكاسو" التي تمثل اعادة تركيب الانسان وفق رؤيته خاصة لوحات الرقص، لكن تبقى التسميات التشكيلية غير مفيدة في كشف الغموض الحقيقي الناتج عن تساؤلات لا يمكن استكشافها ما لم تتكاتف الخطوط المنحنية، الدائري اللولبي، والمائل ..إلخ. لأنها تشي بالوعي التقني المتدفق من الايقاع اللوني الداخلي، المتأثر به الفنان أو المصمم المنبهر بالمساحة، والتقسيمات المدروسة بين الفراغات المؤدية الى خلق الحرية للتعبير عن الحركة، بما يتناسب مع الرقصة الموسيقية أو اللونية، وبمهارات حسابية دقيقة، لكل مفردة ضوئية أو لونية أو نقطة ينتج عنها انعكاسات بصرية تؤدي دورها الفعّال على قماشة اللوحة أو على المسرح أو حتى عبر العدسة الفوتوغرافية" كما في مسرحية "دون كيخوت" ولوحات الفنان العراقي "جبر علوان" ليحاكي الظل الحركة، ويبقى الضوء لعبة الابيض المخفي لجمع الطاقة البصرية وفق حركة الضوء، وبرشاقة للإبقاء على دهشة العين وقوة التشكل الكوريغرافي في التصميم التشكيلي وقدرته على خلق جماليات ايحائية وغير مباشرة، تؤسس لتأثيرات ترتكز على ابعاد المساحة وتطويرها. لتستقطب الحواس وتفتح فضاءات التخيل على مصاريعها، فتتكيف اللوحة تبعاً للتاويلات والاستنتاجات التي تحملها ريشة الفنان وفق الكوريغرافيا ومنهج الصياغة، لرسم الرقصات النابعة من المنطق الكوريغرافي الذي بات يشكل الحقائق الجمالية وقوانينها التي تعزز قيمة التناضح التشكيلي بين اللوحة والكوريغرافيا وسحر الرقص المشبع بفهم الحركة، وبتفاعل شديد تتناضح من خلاله الحركة والألوان والضوء والظل والخط والشكل. لتتشكل بنية اللوحة من الكوريغرافيا وتضافرها البصري في خلق مضامين تشكيلية تتفرع عنها المفاهيم الفنية الأخرى. 
تتخطى الكوريغرافيا أبعاد المادة اللونية في اللوحة التشكيلية وتعبر مجال الفن وجوانبه المتعددة كالوحدات الحركية الصغيرة ، ومنها الى أنماط التكوين التي تنطوي على اهمية المكان والزمان، والنقاط المتصلة والمنفصلة. اذ تستند الريشة الى الاحساس الكلّي بمجموع الشخوص، والتفكر بالمسافات الفاصلة عبر الحركة ونشأة تعدد الأشكال على الخامة. لإبراز الاصول الشكلية في تشكيل تتناغم معه الحركة البصرية، وبتخيلات لإيقاعات الالوان وتعدد اصواتها في تزامن تنصهر معه الرؤية التي تنقلنا الى مساحة اللوحة . هذا الفن الكوريغرافي في التشكيل هو المنهج المكاني والزماني الذي تتكرر فيه المفردة الايقاعية للحركة في الشكل البصري والمكمل للمنهج الفني بكوريغرافيته وتشكيله، وتطوره ويدعونا إلى التفكر في فضاء الحركة والنمط التكويني الراقص في اللوحة.

الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

كركلا.. مجنون بالإبداع ولغة الجسد

مجلة الفنون المسرحية


كركلا.. مجنون بالإبداع ولغة الجسد


حمزة عليان - القبس


أهمية «كركلا» تأتي من كونه من أهم الفرق المسرحية العالمية التي تتعاطى لغة الجسد، مثل فرقتي البولشوي (الروسية) وبيجار (الفرنسية). واختياره {وجهاً في الأحداث} لأنه، وللمرة الأولى، سيقدم عرض «إبحار في الزمن على طريق الحرير» على مسرح مركز جابر الأحمد الثقافي.

■ رغم عالمية فرقة عبدالحليم كركلا ورؤيته للفن من منظور الجسد ورسالته في أن يتعرف العالم على ثقافة أهل الشرق (من منطلق أننا نسير معكم ولسنا خلفكم)، فإنه ما زال يحرص على أن يصطحب معه «كنزين» حيث يحط رحاله: «الربعة» (أي الخيمة ذات الــ12 عموداً)، و«العباءة» (بما ترمز إليه من قيم الولاء).
■ عندما يقف عبدالحليم كركلا على المسرح ويرمي على الضيف «عباءته»، فهذا تقليد سار عليه، ويعني به عباءة الولاء للضيف وللشرف العربي والضيافة، فقد أمضى حياته بحثاً عن القيم الإنسانية ذات الأبعاد الجمالية لإحياء مسرح عربي معاصر.
■ هذا الرجل «مجنون بالإبداع» وصف أطلقه عليه أحد معاصريه، فلا خليفة له؛ يسبق الآخرين برؤيته، وعلى المسرح يطير بثلاثة أجنحة: نجله (ايفان)، وابنته (أليسار)، وشقيقه عميد الفرقة (عمر).
■ دخل في منافسة الكبار عبر استخدام التكنولوجيا البصرية وما يعرف بــ«الكوريغرافيا»، إيفان، أدخل الحداثة إلى المسرح وطور في العمل، استعان بالمنهج المعتمد في الغرب، فالعمل عنده لا يقتصر على مهارة الراقصين وعظمة اللحن انما هو مجموعة متكاملة، تبدأ من المسمار إلى الاضاءة باعتبارها جزءاً أساسياً من لعبة المسرح، حيث يقضي قبل وقوفه امام الجمهور مدة ستة أشهر ليرسم كل شيء على الكمبيوتر، أما «أليسار» فتتولى مهمة تدريب الراقصين وبتوجيهات «الاستاذ» في حين ان عمر، وهو الأخ الأكبر لعبدالحليم «عميد الفرقة» يبقى الراقص الأساسي على المسرح وصاحب الباع الطويل في العلاقات الاجتماعية.
■ يرى الجسد بحركته، يقضي 3 سنوات يرسم عمله بعقله. يتدخل مع الملحنين بكل نوتة، هو من يطلب ادخال النوتة مع حركة هذا الجسد أو ذاك يكتب النوتات الموسيقية، يرسم الثياب التي يختارها وشكل الأزرار والألوان ونوعية القماش… قبل أن يخرج العمل إلى العلن.
■ كانت القاعدة ان كل من ظهر على مسرح الرحابنة يوظف كديكور للفنانة الكبيرة فيروز، فعندما تذهب لمشاهدة اي مسرحية للكبار، أمثال صباح او فيروز، لا ترى غيرهما المغني بالصف الاول والراقص في آخر المسرح، غير مرئي باستثناء اصوات الحركة التي يؤديها. جاء عبدالحليم كركلا وقلب الصورة والمشهد معاً، اخذ على عاتقه تغيير هذا المفهوم، وصار في كل مسرحياته الجسد وحركاته في المقدمة.
■ أعطى عبدالحليم كركلا اهمية للبعد العربي، وعينه على منافسة المسرح العالمي، فقد نجح بتعريف الغرب على الثقافة الشرقية، حمل التراث العربي والجسد العربي وتكلم بلغة لندن ونيويورك وسيدني.
■ صارت فرقته التي تحمل اسمه، مقرونة بثقافة الجسد العربي Oriental dance اي انه وضع مسرح كركلا في مصاف الفرق الاولى التي تتكلم تلك اللغة، اراد ان يوصل إلى العالم انه باستطاعتنا ان ننافسه بالثقافة التي نمتلكها، ثقافة اهل الشرق، فهنا جسد يتحرك على انواع الموسيقى.
■ أمين على تراث الرحابنة، فقد عمل معهم في الستينات، وبعد وفاة عاصي بقي محافظاً على صلته بهم ومشاركته في رقصاتهم، ولغاية اليوم يبدي حرصاً شديداً على إشراك هدى وجوزيف عازار وايلي شويري بأعماله الاستعراضية، لكنه طور هذا المسرح الذي نشأ فيه وبدل الكثير من مفاهيمه وأدواته.
■ في مسرحه خصوصية عبدالحليم كركلا… اينما يذهب ينقل الديكور الخاص به، تقوم الفرقة بتغيير الثياب التي ترتديها بواقع خمس الى سبع مرات اثناء العرض، يذهب بنفسه الى الجزائر والهند وافغانستان ليختار القماش الذي يناسبه، لديه بصمة اصبع كما يقال، يعرف نوع القماش، وعيناه على كيفية ترتيب الالوان وتجانسها.. وفي احد اعماله ألبس سيمون عبيد عباءة وزنها 20 كيلوغراما، وكانت حدثاً متفرداً!

السيرة الذاتية
● عبدالحليم كركلا.
● مؤسس مسرح وفرقة كركلا.
● مواليد «بعلبك» – لبنان، عمره فوق الـ85 سنة.
● بدأ حياته أستاذ رياضة بدنية بعد تخرجه من دار المعلمين في بيروت، ونال بطولة لبنان في لعبة الزانة (القفز فوق حاجز مرتفع بواسطة العصا) كما نال بطولات في سباق الـ100 و400 متر وفي القفز العالي.
● درس علوم المسرح الراقص وتاريخه في لندن وباريس بين عامي 1962 و1966 وتابع دراسة علم الفولكلور العالمي في فرنسا.
● عام 1968 أسس فرقة كركلا اللبنانية وضمت في بداياتها 14 عضواً لتصبح اليوم 150 راقصاً وراقصة.
● مسرحية «اليوم بكرا ومبارح» كانت أولى أعماله الفنية عام 1972، ووصلت الى أكثر من 20 عملاً فنياً خاصاً به.
● متزوج ولديه إيفان وأليسار.
● نال وفرقته عدة أوسمة ونياشين من ملوك ورؤساء عرب، ومن مؤسسات ثقافية عالمية.

كيف يقضي يومه
مازال يمارس الرياضة اليومية، مشي وركض لمدة 3 ساعات، يتناول وجبته الرئيسية من الجوز واللوز والبندق والفستق النيء والمشمش المجفف والشاي البعلبكي بدون سكر، ثم يكمل يومه بالذهاب الى مسرحه لتدريب الفرقة على الرقص واعمال اخرى.

مصممة الرقصات
أليسار كركلا، تعمل على تصميم الرقصات، حائزة شهادة الماجستير في الفن المسرحي الراقص من جامعة كاليفورنيا، أسست فرقتها الراقصة الحديثة للتدريب.

الانطلاقة والتأسيس
جمع تراث بادية الشام وبعلبك، حيث مسقط رأسه، وخروجه الى الدنيا وسط تلك الهياكل العظيمة وفي بيئة شاعرية استمدها من والده الذي كان شاعراً شعبياً، لينشئ فرقة تتألف من مجموعة اشخاص بأواخر الخمسينيات، ثم يؤسس مسرح كركلا ويعمل على تطوير الدبكة اللبنانية الى جسد يتكلم لغة عالمية.

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

ما المقصود بمصطلح (ميتا مسرح)؟

مجلة الفنون المسرحية

ما المقصود بمصطلح (ميتا مسرح)؟

سامي عبد الحميد - المدى 



في الآونة الأخيرة أدعى أحد المسرحيين العراقيين الشباب بأنه يبتدع (الميتا مسرح) وراح يبشر به، وعند تفحصنا لعروضه المسرحية، وجدنا انتماءها إلى ما يسمّى (مسرح الجسد) أو (الرقص الدرامي) فلماذا إذن أدعى هذا المسرح المجتهد والمجدد ذلك الادعاء؟ ذلك هو الذي دفعني إلى أن أرجع إلى مرجع موثوق ليعرفني معنى (ميتا ثياتر). 
الميتا ثياتر – هو الدراما أو العرض المسرحي الذي يعكس ذات الممثل ومنزلته كفنان في المجتمع. وتتمثل تلك الانعكاسية أما بنص المؤلف المسرحي عندئذ نسميها (ميتا دراما) أو في الإنتاج المسرحي الذي يتولاه المخرج والمصمّم وفي كلتا الحالتين تظهر جماليات الذات وفقاً للشروط الفنية والميتا فيزيقية وفي اعمال تبتعد عن الواقعية، وأوضح مثال لها بدعة (المسرح داخل المسرح) كما في مسرحية (هاملت) لشكسبير، عندما يستدعي الأمير هاملت فرقة مسرحية لتقدم تمثيلية أمام عمه وامه تتناول حدثاً يشابه حدث اغتيال أبيه. ومثل ذلك التوجه يقترب مما يسمّى (التمسرح) أي تقديم صورة مسرحية للواقع ، صورة متخيلة وليست شريحة من الواقع. وكانت التمثيلية المقدّمة في مسرحية (هاملت) تعبيراً عن ذات الأمير نفسه. وهذا بالضبط ما تعنيه كلمة (تمسرح) وقد سار المسرح الأغريقي القديم الاتجاه نفسه، وما من شك في أن شكسبير قد اهتم بالتسطيح المظهري، ويظهر ذلك في مسرحيته (العاصفة) حيث يعلق (بروسبيرو) على انجذابه للسحر المسرحي. ولا عجب بأن تلك المسرحية فضّلها المخرجون المحدثون على غيرها ومنهم (سترهلر) الذي قام عام 1978 بصهر النص والإخراج باهتمامه بالصنعة الاخراجية والسينوغرافية. وكانت الشخصيات ذات الوعي الذاتي الدرامي واضحة في مسرحيات الدراميين الإسبان المحدثين، إذ قام البعض منهم بضمّ انشغالهم بالفن الباروكي وصنعته الى ثيمات لا ترتبط جمالياً بما هو تقليدي وكان (كالديرون) منهم، حيث كتب مسرحيته (الحياة حلم) عام 1929 وبذلك تم اعتباره المبشّر لنشر الميتا ثياتر في مسرح الحداثة.
في عصر علم النفس فإن الانشغال بآليات الذاتية يفترض صيغاً مختلفة، فالمدرسة الطبيعية تهتم بعروض آليات الايهام المسرحي، واستكشف (سترندبرغ) امكانية المسرح في عكس العمليات الذاتية في (مسرحية حلم) عام 1907 وفيها تنبع الحبكة والسينوغرافيا من اللا وعي للحالم / المؤلف في ثلاثيته المتكونة من (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) و(لكل انسان طريقته) و(الليلة نرتجل) يبني (بيرانديلو) مكونات احداثه المسرحية وشخصياته بمقابل المؤلفين، والممثلين بمقابل الشخصيات، والممثلين بمقابل المتفرجين.
ما يربط (ميتا ثياتر) للقرن السادس عشر مع (ميتا ثياتر) أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هو افتراضات النظام المتماسك للقيم الاجتماعية التي يمكن مقارنتها بالحقل المسرحي، وبكلمة أخرى فإن (التمسرح) كمصطلح مجازي، يستلزم أن تكون الحياة نفسها مثبتة على خشبة المسرح وبإطار محدد. وهذا يعني غياب مثل تلك المحددات الاجتماعية التي تمثل نماذج الميتاثياتر لما بعد الحرب العالمية الثانية، فإذا كانت المراوغة المجازية تكمن في لب اليأس اللامعقول، فإن الكشف عن الإمكانات التفسيرية هو لباقة انتاجاتها والتي يمكن رؤيتها في ميتا ثياتر كل من (يونسكو) و(جينيه) و(بيكيت) كان غموض المعنى قد تم تطبيقه في التجريب الشكلي للميتا ثياتر في مسرح ما بعد الحداثة لكل من المخرجين (ويلسون) و(فورمان) و(لوكوم) و(باوش) و(الوبيج) وكان النشاط الفردي في فن الاداء متخذاً جسد الكاتب المسرحي والممثل الموقع الكامل للتمسرح مفترضاً أن الميتا ثياتر قد حوّل موقعه كمجار، ليصبح اسلوباً تمثيلياً رئيسياً لا يتحدد بحدود النطاق المسرحي.
وإذا كان هذا المسرحي العراقي يريد من عروضه أن يعبّر عن ذاته ويكشف عن مركزه الفني الى جمهوره، عندئذٍ سيكون من جملة مبتدعي الميتا ثياتر.



الخميس، 19 أكتوبر 2017

بيان وتبيين .. عن المخرج فاروق صبري

مجلة الفنون المسرحية

بيان وتبيين .. عن المخرج فاروق صبري 

*عادل البطوسى :

مرة أخرى ـ وهي مهما جرى أخيرة ـ أجدني مضطراً لإقحامكم ــ أيها الأحباء ــ وإقتحام سكينة حضراتكم ــ يا أهل المسرح الأنقياء ــ بالجديد مما جرى بين الورى في أمرٍ وجدت نفسي مدفوعاً للسباحة في "أطيابه" ومجبراً لإدراج بعض الحقائق التي بالتأكيد تدخل في سياق الهم المسرحي العام ـ وليس الخاص ـ خاصة وأن هذا الـ (مسكين) لا يزال يواصل تصرُّفاته الصبيانية وسلوكه الذي أربأ بنفسي أن أصفه على حقيقة واقعه، ويقتحم خصوصيَّة أصدقائي عبر (الخاص) بإدعاءاتٍ ومهاتراتٍ وأساليب غير سويَّة، وأوجز لعنايتكم أيها الكرام هذه الحقائق في ثلاث نقاطٍ طوال هنَّ :
(1) حين إفترى عليَّ المسكين المدعو "فاروق صبري" في سياق بحثه عن دورٍ بإدعاءاتٍ باطلةٍ ومزاعمٍ كاذبةٍ تهدف لتشويه سمعتي ــ عمداً وقصداً وحقداً وضغينةً وبهتاناً ـ في العديد من المنابر بتوصيفاتٍ مؤسفةٍ وبشكلٍ أقل ما يوصف به أنه غير مُتَّزن ـ ولن أقول "غير أخلاقي" تأدُّباً ـ وهو الذي يستخدم ألفاظاً لا تليق بمن يعمل في مجالٍ راقٍ حد السباب المُطلق بلا رادع ولا وازع حد أنه ـ عفواً ـ بأسلوبٍ لا يليق بمرحلته العمريَّة تفرَّغ لإقتحام خصوصيَّات المئات من أصدقائي الأفاضل الذين لا يعرفونه ـ وصديقاتي الفضليات ـ عبر الخاص بالفيسبوك ــ بخزعبلاته المعطوبة ــ ورغم ما أصابني من أضرارٍ معنوية ومادية فإني قد إلتزمت الصمت طوال ثلاث سنوات وفوضت أمري إلى الله، حتى وجدته بعدما أعلن مزاعمه بدعمٍ وإيعازٍ من أشخاصٍ أعرفهم جيداً ـ ولا أجد أهمية لذكر أسمائهم ـ يسارع وينشر نصاً ــ لغيره ــ بعنوان "أسئلة الجلاد والضحية" على أحد المواقع الإلكترونيَّة وكان ذلك من منطلق أي نصٍ مكتوبٍ بهدف تأكيد مزاعمه الواهية وادعاءاته الخائبة ـ التي لا تنطلي على مُنصف ولا يناصرها إلا مُغرض ـ ونشر النص بأحد المواقع الإلكترونية بتاريخ 31/10/2014م عقب صدور "ياراجويا" مطبوعة بشهر تقريباً أي قبل ثلاث سنواتٍ على وجه التقريب، وهو الذي أقرَّ واعترف بنفسه على صفحته بتاريخ 3/3/2015م أنه قرأ "ياراجويا قبل طباعتها" إذن قرأها قبل إصدارها بشهورٍ عديدة، فقد أرسلها إليه أحدهم ــ أو إحداهن ــ مثلما تم إرسالها ــ عبرهما أو أحدهما ــ "مخطوطة" ـ لناقدٍ عربيٍّ ليهاجمها، وتأكَّد لي أن الناقد "الأكاديمي" إطلع عليها "مخطوطة" من قوله في سياق مقاله "الهجومي" الذي قام الموقع الإلكتروني القاهري "الخاص" بنشره ثم "أعاد نشره" (يقول المؤلف ص:8) وهذه الصفحة بالكتاب المطبوع بها إضاءة كريمة كتبها أستاذنا "فائق حميصي" في سياق إضاءاتٍ رائعاتٍ لنخبةٍ من أشهر المبدعين العرب ـ والمبدعات ـ والنص يبدأ من ص : 38 في الكتاب المطبوع، ولن أذكر ـ أيضاً ـ أسماء الثلاثة : ــ الذي أوغَر صدره وشجَّعه وكتب له ضدي ــ التي زَغرَدَت وغرَّدت ونشرت له وأيَّدته ـ الناقد الذي ورَّطوه في الموضوع ..!!!
(2) عقب إصداري (بياني الأول) ونشره في أكثر من موقعٍ إلكترونيٍّ وعلى صفحتي صباح الجمعة 21/7/2007م وقلت فيه أن فكرة "البوستر الدعائي الأول" لعرضه مأخوذة من التصميم المنشور بالصفحة الأولى من نصي "ياراجويا" والتي صمَّمته لنا الفنانة اللبنانية "شانتال" سارع (المسكين) بتغيير "البوستر الدعائي الأول" ـ أحتفظ به ـ لشكلٍ آخر ـ أحتفظ به أيضاً ـ ونشر فجر السبت 22/7/2007م التصميم المختلف وتعمَّد أن يكتب فوقه : البوستر الأول للعرض، ليس هذا وحسب بل والمذهل أنه قام ـ فجأةً ـ بتغيير إسم النص الذي يشتغل عليه والذي أشرت بعاليه أني طالعته في صورته الأولى من "أسئلة الجلاد والضحية" إلى "مانيكانات" أي "دمى" ـ وشتان ما بين العنوانين في الإيحاء والمحاور الدرامية ـ وفي هذا نهل ـ وتأدُّباً لن أقول سرق ـ من رؤيتي الإخراجية ورؤايا السينوغرافية المدرجة بدقةٍ في سياق نصين لي لأن "الدُّمى" هي شخوص مسرحيتي الشعرية "الدُّمى" المطبوعة عام 2005م والتي حصلت بها على جائزة الدولة المصريَّة 2006/2007م في المسرح الشعري، وهي ـ أيضاًـ السياق السينوغرافي والدرامي والشخوص في نصي المونودرامي الشعري "المزدوج" الأول في تاريخ المسرح (ياراجويا) وهو بدوره قائم على "الدمي" ـ ولعله إستبدل توصيف "الدمى" بالمرادف "مانيكانات" حتى لا يكون النهل ـ وتأدُّباً لن أقول السطو ـ مفضوحاً، مع الوضع في الإعتبار أن "ياراجويا" وصلته "مخطوطة" بإعترافه حيث كتب على صفحته كما أشرت آنفاً، وإجمالاً "ياراجويا" طبعت 9/9/2014م وعرضه "مانيكانات" عرض يوم 26/7/ 2017م أي بعد 12 سنة من صدور مسرحيتي الشعرية "الدمى" وثلاث سنوات من صدور "ياراجويا" وباعترافه يكون قد قرأها قبل الطباعة بشهورٍ عديدة، ولا نغفل الفترة الزمنية التي عكفت فيها على كتابة "ياراجويا" والتي قد تمتد لأكثر من عامٍ كامل، وعلى الرغم من ذلك ولأنه "مسكين" جاءت رؤاه متضاربة وهي القائمة أساساً على خواءٍ وعدم دراسةٍ، وفشل فشلاً ذريعاً ـ كما فشل غيره من قبل ــ لأن الراسخ هو أن ما ينفع الناس هو الأبقى خاصة حين يكون قائماً على درايةٍ بمنطلقات وثوابت التجريب وتطبيقه مشهدياً ونصياً بوعيٍ شاملٍ وكاملٍ وهذا ما فعلته لأني رغم كل ما جرى منه ومن غيره ـ سرَّاً وعلانيَّةً ـ فإني لم أتوقَّف ـ بفضل الله ـ عند هذه المعوِّقات وواصلت مشروعي المونودرامي الشعري الهادف لتحديث الإطار المونودرامي وتطبيقاته النصيَّة وأطلقت ـ بنعمة الله وتوفيقه ـ في فترةٍ وجيزةٍ المصطلحات النقديَّة الجديدة وكتبت نصاً مونودرامياً شعرياً مواكباً لكل مصطلح (المزدوجة / ياراجويا ــ الثلاثية / دزديموليا ــ المركَّبة / موناريتا ــ الوثائقيَّة / كليوبطره) ـ فضلا عن المونودراما الشعرية التقليدية "كشتن" ـ ولم يبق سوى مصطلح واحد "الأوبرالية" والتطبيق النصي له وأعمل عليه حالياً ليكتمل المشروع بمشيئة الله تماماً ..
 (3) الثابت هو أن ذاك "المسكين" سعى ـ هباءً ـ بنهله من الروافد السينوغرافية والرؤى الإخراجية التي أدرجتها تفصيلاً في "الدمى / ياراجويا" لتأكيد مزاعمه الخائبة ـ والتي ثبت كذبهاـ والتي سبق وأن أعلنها متباكياً ومستنجداً بكيان "الهيئة العربية للمسرح" منصاعاً لنصيحة "زعيم" الذين دعَّموه ـ والواضح من الأسلوب انه هو الذي كتب له أيضا أو أملاه ــ ورغم أن هذه سرقة رؤيويَّة وسينوغرافيَّة ودراميَّة واضحة ومتعمَّدة فإني بكل أريحيَّةٍ وهدوءٍ لن أتهمه بسرقة الفكرة أو السطو أو اللصوصيَّة، لأني أيقن تماماً أنه يقصد من هذه الإضافات والتغيرات المتعمَّدة مقارنة بالنص الذي قرأته في صورته الأولى مقصداً مراوغاً داعماً لمزاعمه السابقة عن السبق في الفكرة وليته ما فعل لأنه بذلك طرح عرضاً مهلهلاً مرتَّقاً وسأكتفي بشاهدين رائعين ودليلين دامغين لذلك :

ـــــ أصدر الفنان العراقي الشهير "رائد محسن" بياناًـ طالعته بتاريخ الجمعة 28/7/2017م على صفحة المبدع العراقي الجميل "ماجد لفتة العابد" ـ لام فيه السيد وزير الثقافة العراقي لوماً شديد اللهجة لدعمه عرض ذاك "المسكين" مؤكداً فشله، وبغض النظر عن المآخذ الخاصة التي لا تدخل في سياق ما نحن فيه هنا فما يعنينا منه هذا الحديث الذي خاطب به الفنان "رائد محسن" معالي الوزير، قال ( كان الأجدى بك أن تأتي بمخرجٍ يعرف طريقه بالمسرح ... أمَّا أن تدعِّم "مسكين بسيط" كان طلاب معهد الفنون يضحكون على عرضه يوم أمس لأنه بلا موهبة) فبالله عليكم أيها الأنقياء : كيف لمثل هذا "المسكين" الذي بلا فكر أن يأخذ منه أحد فكراً، كيف ..؟! والجدير بالإشارة ـ هنا ـ للوقوف عند أخلاقيَّاته أنه بعد أن أصدر الفنان "رائد محسن" بيانه وصفه "المسكين" على صفحته بلفظٍ لا تليق وبعد أن نصحه أصدقاؤه حذف المنشور كله ..!!! 




ـــــ وفي نفس اليوم الجمعة 28/7/2017م كتب المخرج والناقد المسرحي العراقي المعروف "حاتم عودة" 

على صفحته وموقعه "الخشبة" منتقداً العرض في جوانب عديدة منها مشهد "المضاجعة" الذي قال أنه (كان له الفعل الأكبر في الإشمئزاز والتقزُّز حيث تحوَّل إلى فعلٍ جنسيٍّ مكشوفٍ وعارٍ عن الحَجْبْ) وأشياء أخرى يعنينا منها هنا ما تفضَّل عنايته بكتابته عما يسميه المخرج "المونودراما التعاقبية" والتي جعل هذا "المسكين" بغرابةٍ مذهلةٍ وضجيجٍ رديءٍ كل ما هو حداثي وجديد مُستقىً منها حتى لو لم يُطَّلع عليها أساساً بغض النظر عن التسويف بالسبق التأريخي(!!!) فقد تساءل المبدع "حاتم عودة" عن جدواها في عمل كهذا؟ وأكد قائلاً ( بصراحة لم أر لها نفعاً بل ربما العكس .. فقد أثقلت العرض وأربكته ولأنها "غير مدروسة بتيقن" فأنها قد أصبحت عبارة عن مسرحيتي مونودراما منفصلتين عن بعضهما وكان من الممكن تقديم واحدة فقط)  مؤكداً (وعلى هذا فإننا نرى إن "المونودراما المتعاقبة" لم تتوفَّر على معطياتٍ حقيقية بإمكانها أن تثبت وجودها على أرض الواقع الفكري للبحث المسرحي) وأرى أنا ـ بدوري ـ أن ذلك لأنه لا علاقة له بالفكر التحديثي المسرحي المونودرامي رغم ما "يطنطن" بإنجازه من أعمالٍ وأنه كما قال لي أحد النقاد العرب الأفاضل "حالة ثابتة" لا تحمل لا فكراً ولا مقومات للتطوير وربما ينبغي هنا ـ إذا سمحتم لي ـ القول أن تجربتي ـ والحمد لله ـ هي الأكثر ثقلاً وفكراً وإبداعاً وعمقا لأن الذي يطلق المصطلحات عن دراسةٍ هو الذي يطلق المصطلح مع التطبيق النصي له بوعي ودراسةٍ شديدين ويواصل مشروعه بمصطلحاتٍ حداثية ونصوصٍ جديدة مواكبة للتطوير الذي يطمح له بعون الله ..  
وانتهاءً ـ ودون عودة لهذا الموضوع مرة أخرى مطلقاً ـإن شاء الله ــ مهما تطاول هذا (المسكين) ومارس مهاتراته الصبيانيَّة التي لا أريد أن أصفها بمسمياتها الحقيقية تأدُّباً ـــ أقول : لم يبق سوى أن أكرر التأكيد على أني حرصت على تجنُّب أي رشق لفظيٍّ فهذا ليس أسلوبي ـ لأني ببساطةٍ لا أجيد ذلك ـ بل أنا أسامحه بمحبةٍ لا رياء فيها وأسامح كل من جاء الإدِّعاء على هواه، فخطَّط وكتب ونشر له ووالاه ـ لأني ـ والحمد لله ـ تربيت تربيةً حسنة جداً تجعلني أحرص على إحترامي لنفسي وأنأى بها عن المهاترات والصغائر والأساليب (الساقطة) لتحقيق مآرب أو مغانم، وأربأ بها ـ أيضاً ـ تأدُّباً واحتراماً لذاتي أن أملأ الدنيا ضجيجاً بعباراتٍ بعيدة كل البعد عن لغة الإنتماء لفنٍّ شديد الرقي إبداعاً وإنسانيةً ألا وهو فن المسرح ..!!!!!

*شاعر ومؤلف مسرحي



الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

السياسة واللغة المسرحية

مجلة الفنون المسرحية


السياسة واللغة المسرحية

ادهم ابراهيم 

لسنا هنا في مجال الخوض باللغة كمفهوم علمي ، ولا بالسياسة العامة . . ولكننا
نتطرق الى اللغة واللهجة التي تمثل الفعل المباشر للممثل على خشبة المسرح
ان اللغة المسرحية واسعة حيث هناك لغة النص الادبي . ثم اللغة الفنية للمخرج اي الطريقة التي يراها المخرج للنص الادبي لكي يحولها الى مسرحية . ولغة الممثل وهي التي تتعلق بالحركات الايمائية وطريقة تلفظه للعبارة لنقلها الى المتفرج او المتلقي . والتي يجب ان تتصف بالوضوح لنقل المعنى او الفكرة المطلوبة الى المشاهد . ويقول جورج اورويل ان الكتابة الغامضة هي دليل النفاق . وكان يعتمد على العمل السياسي المباشر والواضح للرواية

ان ما دفعني للحديث عن هذا الموضوع هو تصريح احدى الممثلات العراقيات من جيل السبعينيات والثمانينيات من ان النظام السابق كان يمنعهم من تقديم عروض مسرحية بلهجة المدن العراقية الجنوبية
ان هذا الموضوع مهم جدا ويتعلق بسياسة الدولة من ناحية اللغة او حتى اللهجة . اي كيف تتعامل الحكومة مع هذه اللغة او اللهجة المحلية . ويرتبط مفهوم سياسة اللغة ، بلغة المخاطبات الحكومية اولا . ثم تبني هذه اللغة او اللهجة من قبل السياسيين لضمان التواصل مع الجمهور لفهم السياسة المتبعة بسهولة ويسر . وكذلك استخدامها في المجالات الاجتماعية والثقافية العامة ومنها المسرحية

في دول العالم اجمع هناك لهجة معينة ينظر اليها على انها شكلا متطورا او صحيحا للمخاطبة وخصوصا في المجالات الثقافية والمسرحية
ويحضرني هنا اهل مدينة باريس ، العاصمة الفرنسية الذين ينظرون باستنكار او عدم ارتياح عندما يسمعون لهجة مغايرة للهجتهم وخصوصا اهل مرسيليا او بعض المدن الجنوبية الذين يلفظون الراء راء” وليس بحرف الغاء ( غ) وهم يعتبرون انفسهم اكثر تحضرا ومدنية من الاخرين
كما وجدت في هولندا ان هناك كثير من اللهجات حسب الاقاليم او المحافظات . حتى اصدرت وزارة التعليم منشورا يدعو المدارس الى حث اولياء امور التلاميذ للتحدث باللهجة الشائعة في بيوتهم لتسهيل عملية التدريس وتفهم الطلاب للدروس . ولتحقيق التواصل الاجتماعي والانسجام بين الطلاب في المدارس

لقد حصل خلاف كبير حول استخدام اللغة الفصحى او العامية في العروض المسرحية . وقد ذهب فريق الى تبني اللغة العامية القريبة من الفصحى
والغاية من كل هذه الاراء هو تحقيق اكبر قدر من الانتشار والشهرة التي يطمح اليها كل مسرحي . وتوسيع الرقعة الجغرافية لعرض المسرحيات على اكبر عدد ممكن من الجمهور وصولا الى المسرح العالمي . وتعتبر اللغة من اهم المحددات في هذا المجال
اننا نشاهد احيانا مسرحيات من المحافظات ولكننا على سبيل المثال لانفهم المسرحية باللهجة الموصلية او باللهجة الريفية لمحافظة ميسان . ولذلك تكون مثل هذه المسرحيات محلية لاتحقق الانتشار المنشود لها . واذا اراد المخرج عرض مسرحية ذات بيئة ريفية فبامكانه استخدام بعض الكلمات الدارجة المعروفة وعلى نطاق ضيق حتى لايخل بموضوع وهدف المسرحية

ان النظام السابق قد امتد على سنوات طويلة تجاوزت الثلاثين عاما . وكان هناك علماء ومسرحيين ومخرجين وفنانين معاصرين اسهموا اسهامات ممتازة في تقدم وحداثة العلم والادب والفن . ولايمكن وصم تلك الفترة بانها فترة بعثية او صدامية مرفوضة . ولا يمكن اعتبار كل الانجازات السابقة على انها فاشلة او مظللة او تسييسها . لان المجتمع يتطور ويتقدم بذاته ، اضافة الى تشجيع الدولة لهذا النمط من التطور والتقدم
ان التأكيد على عدم استعمال اللهجة الريفية في المسرحيات العراقية هي فكرة صائبة للاسباب التي اوردناها . واهمها تسهيل التواصل مع الجمهور بلغة مفهومة وتحقيق الانتشار المطلوب . وان الفنانة التي انحازت الى لهجتها المحلية قد جانبت الصواب . وربما ارادت ان تظهر نفسها بمظهر المضطهد من النظام السابق كوسيلة من وسائل المحاباة للنظام الجديد الذي لم يتميز باي دور خلاق سواء في الثقافة العامة او المسرحية . لا بل انه عمل ويعمل دوما على اشاعة تحريم الفن والمسرح على اعتبار انه مفسدة للشباب وذلك للظهور بمظهر حامي التدين وهو ابعد مايكون عن الدين الحقيقي

ان اللغة او اللهجة الشائعة المستخدمة في المسرحيات بالاضافة الى انها تسهم في توسيع وانتشار نطاق المشاهدة المسرحية . فانها تعتبر ايضا عاملا مهما للوحدة الوطنية لاي دولة من الدول ولعل اللهجة البغدادية هي اكثر اللهجات العراقية فهما للجمهور العراقي لكون بغداد تمثل العاصمة التي تتواجد فيها الحكومة والمؤسسات التعليمية والفنية الكبيرة وكذلك تتوافر فيها التقنيات المسرحية والوسائل المتقدمة في العروض . اضافة الى توفر دور العرض والمسارح على نطاق واسع

وخلاصة القول ان استخدام اللهجة البغدادية في المسرحيات العراقية تعد من عوامل الجذب والانتشار على عكس اللهجات العراقية المحلية الاخرى التي تسبب ارباكا وتحول دون وصول الفكرة او المغزى من المسرحية الى المتلقي وتقف عائقا امام تمتع الجمهور بالعمل المسرحي

السبت، 7 أكتوبر 2017

عناصر الشخصية المسرحية المؤثرة / محسن النصار

مجلة الفنون المسرحية


عناصر الشخصية المسرحية المؤثرة 

محسن النصار 


على الرغم من اجماع أغلب النقاد والكتاب على ان تأثير الشخيص المسرحي يتأتى دائما مما تفعله الشخصية نفسها في سياق الفعل والخطاب الدرامي ,فاننا لانستطيع ان نغفل اهمية العناصر او الوسائل الأخرى في تأثير الشخصية سواء كان تأثيرا فرديا او تأثيرا نمطيا لأننا نستطيع أن نرى من خلال المقومات والأبعاد المختلفة للشخصية المسرحية ونتحقق من أنسجامها , ودلالات الدوافع التي تحركها في ما يجري من أفعال وتصرفات ,وما ينتج عن ذلك من صراعات او خلافات بينها وبين الشخصيات الأخرى ,ويمكن تحديد عناصر ومقومات وتأثيرات الشخصية المسرحية بمراجعة النصوص المسرحية العالمية منها والعربية وأعتمادا على بعض المصادر التي درست الشخصية المسرحية وحددت ملامحها الأساسية كمقومات الشخصية وأبعادها وعناصرها وساتناول عناصر الشخصية ويمكن تحديدها بالعناصر الأساسية والعناصر الثانوية ..
فالعناصرالأساسية في عملية التشخيص هو ( التشخيص بالفعل ) وهو التشخيص الماثل بالفعل الذي تقو م به الشخصية من خلال تصرفاتها وسلوكها وحركتها ومواقفها في الأزمات وردود الأفعال ,وخارج الأزمات لأن جوهر الدراما هو تمثيل فعل ما ,فان هذا العنصر هو من أبرز عناصر التشخيص في في الخطاب المسرحي الدرامي , وعلية لابد من توافر صلة معقولة بين الشخصية والفعل , ولعل افضل وسيلة لمعالجة مشكلة العلاقة بينهما هي وسيلة الدوافع التي تحتم على الكاتب المسرحي الناجح والمبدع ,ان يأتي الفعل في ضوء وطبائع الشخصية ورغباتها ومشاعرها وغرائزها وقواها العقلية والتفكيرية ومن اشهر عناصر التشخيص بالفعل في المسرح العالمي , تشخيص الكاتب المسرحي العالمي وليم شكسبير لشخصية ياغو في مسرحية عطيل ,وماكبث ,والملك لير ,وكريولانس ,وهاملت .
وهنالك عنصر اساسي آخر في عملية التشخيص وهو ( التشخيص بالفكر ) .
وهو عنصر أساسي في الكشف عن الشخصية من خلال أفكارها وأطلاعنا على أدق اسرارها ومسالكها العقلية ,ورؤيتها للعالم من خلال مواجهتها لجميع المواقف والتحديات ولأزمات ودخولها في نقاشات مع الشخصيات الأخرى ويبرز هذا العنصر التشخيصي الفكري في المسرحيات الفلسفية والمسرحيات الكلاسيكية , ومسرحيات وليم شكسبير .
وأما العناصر الثانوية التي تساهم في عملية التشخيص هي ( التشخيص بالرأي , والتشخيص بالمظهر ,والتشخيص بالكلام ,والتشخيص بالمونولوج ).
فالتشخيص بالرأي هو عنصر ثانوي يحاول أماطة اللثام عن الشخصية من خلال ماتطرحه الشخصيات الأخرى عنها من آراء وأنطباعات وملاحظات ووصف لطبائعها وأبعادها النفسية والأجتماعية والطبيعية والفكرية 
وقد أكد الناقد مارتن أسلن ان ( هذا النوع من التشخيص المنقول لايجدي نفعا ,بل انه من اكثر الأخطاء تكرارا التي يقترفها كتاب المسرح الطموحون ,وغير المجربين ).(1)
وأما (التشخيص بالمظهر ) وهوالعنصر الثانوي الذي يعرفنا بمظهر الشخصية ,الشكل والبنية والقوام , ويوفر لنا معلومات كثيرة لفهمها وتحليل مزاجها وطبيعتها ومكانتها الأجتماعية .
واما عنصر (التشخيص بالكلام )وهو عنصر ثاني يساهم في بناء عملية التشخيص المسرحي من خلال الكشف عن بعض جوانب الشخصية من خلال الصوت (عمقه ,ومداه ,وحجمه ,واتساعه )الذي يميزها عن غيرها من الشخصيات ,فضلا عما يقوله هذا الصوت ( وترتبط هذه في التشخيص ارتباطا وثيقا بالوصف الجسماني ,فطبيعة الصوت ,ونوع الكلام الذي تنطق به الشخصية يوحيان لنا بالصفات التي تتحلى بها الشخصية من ذكاء او بلادة ,او رقة في الأحساس او تبلد فيه ,اوسعة في الخيال ,اوضيق فية )(2).
واما العنصر الثانوي ( التشخيص بالمونولوج ) هو العنصر الثانوي الذي يتيح للشخصية ان تفصح عن دخيلة نفسها لتكشف عن مشاعرها الباطنية , وافكارها وعواطفها ,وكانها تفكر بصوت مسموع , ويلجا أغلب الكتاب المسرحين الى هذا العنصر في التشخيص حينما تجد الشخصية نفسها تحت وطأة انفعال او ازمة عنيفة تسيطر على فكرها ووجدانها الى موقف حافل بالصراعات والأحداث والتي يجب ان يطلع عليها المتلقي ,ومن اشهر المونولوجات مونولوج هامات (أكون او لاأكون , ذلك هو السؤال )ومنولوج ( آه آه ليت هذا الجسد الصلد يذوب وينحل قطرات من ندى ) .
وقد أزداد شيوع هذا العنصر التشخيصي في المسرح مع ظهور مدرسة التحليل النفسي التي أمدت وزودت كتاب المسرح بمعلومات هائلة عن التركيب الشعوري والاشعوري للشخصية الأنسانية , والتداعي الحر للهواجس والأحاسيس والرغبات المكبوته , وكان المذهب التعبيري من أبرز الحركات ,الى جانب المذهب السوريالي .
ويقول اوسكار وايلد ( ان الشئ الوحيد الذي يعرفه الأنسان حق المعرفة عن الطبيعة البشرية هو انها تتحول وتتبدل والنظم التي تفشل هي تلك التي تعتمد على ثبات الطبيعة البشرية وليس على نموها وتطورها )(3)
.ومن هنا فأن عملية التشخيص المسرحي لها اهميتها الكبيرة والمؤثرة في الشخصية المسرحية وتفرض على الكاتب الامسرحي الألتزام بمقولة التغيير ونمو الكائن الأنساني ,فالشخصية لابد ان ينتابها تغير اساس في بنيتها وهي تدخل في سلسلة من المواقف والصراعات والأزمات .

المراجع
(1) كتاب تشريح الدراما - تأليف مارتن اسلن - ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت . –اصدار العراق –بغداد 
(2) ميليت –وجيرالد ىيدس بنتلي – كتاب فن المسرحية – ترجمة صديقي حطاب – اصدار دار الثقافة –بيروت 
(3) لاجوس اجري – كتاب فن كتابة المسرحية – ترجمة دريني خشبة – القاهرة

الأربعاء، 4 أكتوبر 2017

على خشبة مسرح!

مجلة الفنون المسرحية

على خشبة مسرح!

فهد عافت

ـ فيما لو بدأت فرقة مسرحية عرضها، ثلاثة ممثلين على خشبة المسرح، ولكن مقاعد الصالة كلها فارغة باستثناء مقعد يجلس عليه رجل واحد، هو كل جمهور ليلة العرض هذه، تُرى ما الذي يمكن لممثلي المسرح تَمَنِّيه، أنْ يكونَ الرجل متفرّجاً، أم ناقداً صحفيّاً، أم رجل أعمال يفكّر في فتح شركة إنتاج ويبحث عن وجوه شابّة؟!

ـ الممثل الذي تكون أعلى أمنياته أن يكون الرجل متفرِّجاً، هو أقرب الممثلين الثلاثة إلى الفن، لا بأس أن تكون الأمنيات الأُخرى حاضرة، غير أنه وفيما لو كانت أمنيّته المُهَيْمِنَة، هي أن يكون الرجل الوحيد في الصالة متفرِّجاً، فهذه أُمنية فنّان حقيقي، حتى وإن خانته الموهبة والقُدُرَات، ويا لمصيبة من لا يتوافق حلمه مع إمكانياته، في هذه الحالة سيعيش وَرْطَة كبيرة، قد تؤدي به إلى الجنون، أو إلى التوبة عن الفن وتحريم التمثيل والمطالبة بحرق ستائر المسارح وأخشابها!

ـ إنّ واحدةً من أهم أسباب التّطرّف، فيما أظن، أن تكون لدى إنسان ما، رغبة مُلِحَّة، أمنيّة صادقة، شغف وعشق حقيقي، في أن يكون شيئاً ما، شيئاً مُحَدّداً تماماً، ثمّ حين يبدأ طريقه فيه تتكشف له مقادير الخذلان من قُدراته ومواهبه فيه.

ـ الممثِّل الذي سَبَحَتْ أمانيه، في بحر أن يكون ذلك الرجل ناقداً صحفيّاً، إنّما أراد الشهرة، وطلب الشهرة ليس عيباً في حد ذاته، لكنه حين يكون الرغبة الوحيدة الأكيدة، حين يكون الأمنيّة الأكثر تسلّطاً، فلا يقترب منها سواها إلا على بعد أميال، فإنها تشكّل إما الطغيان إن هي تحقّقَتْ، وإما حسرة الحقد والكراهية والاتّهامات الباطلة للناس والمجتمع إنْ هي لم تتحقّق، ولربّما انتقل صاحبها من خانة الحسرات الحاقدة إلى خانة الكفر والإلحاد، يُلبِس ذلك بتنطّع فلسفي يتوكَّأ على عناوين فاقعة، لا يخشى سوى من انكشاف زيفها، وتبيان خيبة الطِّلاء على وجهها.

ـ الممثِّل المسرحي الذي تأكد له أن جمهور عرضه المسرحي ليس سوى رجل وحيد، فتمنّى أن يكون هذا الرجل منتجاً يفكّر في التعاقد معه، لعرض مسرحي جديد، يكون أكثر الممثلين الثلاثة واقعيّةً، وأطمعهم بالوظيفة! إنه حتماً أقل طموحاً مما يستوجبه العمل الفنّي، غير أنه أقل الثلاثة عُرْضَةً للتأثُّر بالنقد والفقد، ولأن الأرزاق بأمر الله تنفتح من كل باب، وما إن يُغلق باب حتى يفتح الله ألف باب، فإن مثل هذه النوعية من الناس تعيش بسلام أكثر من غيرها، وحتى ضجيجها يظل هادئاً، فهو ضجيج طارئ ومؤقّت على الدوام، مشكلة هذا النوع من الناس أنه لا يمكن له أن يكون خَلّاقاً، وهو أقل مُبادَرَة مما يمكن له تقديم جديد للحياة في شكلها وفي معناها، هو في أفضل حالاته واحتمالاته: أكثر من آلَة وأقلّ من عَالَة.

ـ وليوسف وهبي جُمْلَة شكسبيريّة، شهيرة: "ما الدنيا إلّا مسرح كبير".

-------------------------------------------
المصدر : الرياضية  

هل يتجه المسرح المعاصر إلى السينمائية؟

مجلة الفنون المسرحية

هل يتجه المسرح المعاصر إلى السينمائية؟
يبقى التيار الرئيسي معتمداً على مزيج من الآداب والفنون

*رياض عصمت - الشرق الأوسط 

لا شك أن زمننا الراهن هو زمن التعددية في الفنون الدرامية، ولا شك أن الدراما استفادت من بقية الفنون استفادة متزايدة، سواء كنا نتحدث عن المسرح أو الفن التشكيلي أو الموسيقى أو السينما. لذلك، لا بد أن يستسلم المتفرج المعاصر لفكرة ضرورة تنوع وتعددية المدارس والاتجاهات والتيارات في الفنون الدرامية، وإلا فإنه سيصبح خارج إطار الزمن. علينا أيضاً أن نتقبل فكرة أن لكل نمط من الفن الدرامي جمهوره، وأنه لا يحق لأحد فرض نمط واحد في الدراما، تراجيدياً كان أم كوميدياً، سياسياً كان أم ترفيهياً، تاريخياً كان أم واقعياً، تقليدياً كان أم حداثياً. ويا حبذا لو يتعلم السياسيون الديمقراطية من حكمة الآداب والفنون!

ولا شك أن صدارة العنصر الأدبي بدأت بالتناقص في دراما النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثالثة، ليبرز دور المشهدية البصرية. لكن الأمر ما لبث أن بلغ حداً متطرفاً حاول قتل الكلمة كلياً، والاستعاضة عنها بالإيماء والرقص والموسيقى والغناء والتشكيل والسينما والكومبيوتر. وهناك مقاربات كثيرة ألغت النص المؤلف مسبقاً، واستعاضت عنه بنص وليد للبروفات، يسهم في توليفه الممثلون تحت قيادة مخرج، وربما بمساعدة مصمم السينوغرافيا. الفكرة بحد ذاتها طليعية وذات فوائد، لكن الإسراف فيها يؤدي لتسميم لفن المسرح برمته، وإلغاء لماضيه العريق. الاتجاه الأصح هو ألا تستغني الدراما عن تيارها الأساسي في الكلام، إنما تعمل على إضفاء المزيد من الاستمتاع «السمع - بصري»، عبر مشهدية مسرحية تضيف إلى الحوار عنصري الجسد والتكنولوجيا. إن رفد التيار الرئيس بالتجريب أمر مشروع، بل مطلوب لتجديد دماء المسرح في العروق الهرمة، كما برهنت تجارب عدة فيما أطلق عليه اسم «المسرح التشكيلي»، في بولندا وفرنسا على وجه الخصوص، أو في التجارب الرائدة للفنان المسرحي الأميركي جورج كوتس؛ وجميعها اعتمد منهج الحداثة والتجريد الجمالي في التشكيل والإضاءة والصوت، واستغنى كلياً أو جزئياً عن نصوص الحوار. والحق يقال، إن هناك تفرعين لمسرح التفاعل والتقاطع ما بين الفنون: أحدهما جسدي محض، والثاني تقني محض في استخدامه المكثف لوسائل الاتصال المعاصرة. والاتجاهان وليدا ما أطلق عليه اسم «مسرح المخرج»، وهو تيار شاع منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، مستلهماً بعض كبار المسرحيين العالميين الرواد، مثل غوردن كريغ، وأدولف آبيا، وماكس راينهارت ومايرهولد. ويعمد المخرج من هذا التيار إلى تفكيك النص، ثم إعادة بنائه من جديد على أساس بصري، ويتحرك الممثلون كدمى معبرة جسدياً عن جمالية ومعنى اللوحات الدرامية المرسومة بدقة من قبل مخرج ملهم. وقد استفاد مخرجون لامعون من هذه التجارب الرائدة، ومنهم يوري لوبيموف (روسيا)، وبيتر شتاين (ألمانيا)، وروجيه بلانشون (فرنسا)، وسواهم. كما نشأ عنها نظريات وممارسات بيتر بروك وجيرزي غروتوفسكي وجوزيف تشيكن ويوجينيو باربا في «المسرح الفقير»، وسط فراغ مسرحي متقشف، يملأه حضور طقسي جسدي للممثل، بعرض احتفالي تستخدم فيه الأقنعة والهياكل العملاقة أحياناً كثيرة. اليوم، نجد أسماء عدة لامعة، نذكر منها: جوليا تيمور، وسيمون ماكبارني، وكيتي ميتشل، وريماس توميناس، وديمتري كريموف.

ماذا كان موقفنا في أقطار العالم العربي من كل هذا؟ بالتأكيد، لم يكن ممكناً الانغلاق على الذات. توزع شرف الريادة بين المغربي الطيب الصديقي، والتونسي المنصف السويسي، واللبنانيين منير أبو الدبس وريمون جبارة ويعقوب الشدراوي، والمصريين سعد أردش وكرم مطاوع وأحمد زكي، والسوري فواز الساجر، والعراقيين إبراهيم جلال وسامي عبد الحميد ويوسف العاني وقاسم محمد. بعد ذلك بمرحلة زمانية، وجدت مساهمات لاحقة متباينة الاتجاهات التجريبية، من طليعية التوانسة الفاضل الجعايبي ومحمد إدريس وتوفيق الجبالي وعز الدين قنون والفاضل الجزيري، إلى حداثية العراقيين صلاح قصب وجواد الأسدي، إلى رؤى انتصار عبد الفتاح وحسن الجريتلي، وجميعها حاولت المزج بين الأصالة والحداثة.

تلك جميعاً نباتات انبثقت من أرض خصبة، تنتمي في أعماقها إلى ملكوت الشعر، وإن كانت تستخدم لغة النثر، أو حتى لغة الصمت.

اتجهت معظم التيارات المسرحية التجريبية إلى استلهام الفن التشكيلي والموسيقى، وكثيراً ما استخدمت مصطلحات مثل «المسرحية / المعرض»، و«المسرحية / الكونشرتو»، بل وصل الأمر إلى ما هو أبعد من التصوير الواقعي أو التعبيري، ليلامس السيريالية، وليبلغ أحياناً حد التجريد المسرحي. كذلك فعلت العروض المسرحية المتأثرة بالموسيقى والرقص، بحيث إن الحركة والتعبير الجسدي صارا طاغيين أحياناً كثيرة على دلالات المعنى.

يبقى التيار الرئيسي للمسرح معتمداً على مزيج من الآداب والفنون، يعمل في انسجام وتنسيق وتآلف داخل كل عملٍ حسب طبيعته وطرازه الدرامي. وتظل الحبكة والحوار دعامتين أساسيتين للدراما، كما أن الديكور والإضاءة والأزياء والموسيقى جميعها عناصر تسهم إسهاماً خلاقاً في تجسيد الدراما. الجميع يعرف أن السينما تأثرت في بداياتها بالمسرح في أوجه كثيرة، لكنني أود أن أضيف أن المسرح تأثر خفية بالسينما أيضاً، ليس من إدماج بعض العروض السينمائية في العرض المسرحي، وإنما من خلال استلهام البناء الدرامي السينمائي نفسه في المسرح، وسريان هذا من التأليف إلى الإخراج والسينوغرافيا، وصولاً إلى فن الأداء.

وفي عصرنا الراهن، إذن، أصبحت السينما الملهم الأكبر للمسرح. فمن ناحية، نجد مخرجي سينما عالميين تفوقوا مسرحياً، ومنهم إنغمار برغمان، وأندريه فايدا، وفرانكو زيفريللي، وباتريس شيرو. كما نجد بعض كبار مخرجي المسرح نحوا إلى إبداع أفلام قيمة، ومنهم أورسون وِلز، لورنس أوليفييه، بيتر بروك وكينيث براناه. ربما كان الأهم أن النص المسرحي في عصرنا بدأ ينحو نحو استلهام السيناريو السينمائي من حيث البناء والحبكة، متحدياً إمكانات المسرح المحدودة، التي أنجبت ما يسمى «لغة المسرح»، واعتمدت على التقشف في الديكور.

وفي السنوات الأربع الماضية، أتيحت لي في الولايات المتحدة الأميركية فرصة حضور كثير من نماذج ما أطلق عليه اسم «NT - Live»، وهو برنامج ينقل تلفزيونياً بقالب فني بعض أشهر المسرحيات البريطانية من إنتاج «المسرح القومي البريطاني» أو سواه من الفرق، ويعرضها على الشاشات السينمائية الكبيرة لجمهور يقتني البطاقات مسبقاً بإقبال لافت للنظر. أذكر من بين هذه العروض التي شاهدتها، وذلك على سبيل المثال، وليس الحصر: «هاملت» من بطولة بنيدكت كامبرباتش، و«كوريولانوس» من بطولة توم هيدلستون، و«سالومي»، و«حلم ليلة صيف»، و«منظر من الجسر»، وسواها.

ولا يتناقض اتجاه التأثر بالسينما كثيراً مع نظرية بروك في اعتبار أية مساحة فارغة مجالاً متاحاً للتمثيل، أو نظرية غروتوفسكي حول المسرح الطقسي المتقشف، ولا نظرية باربا حول «المقايضة» بين ثقافتين متباينتين. نحن لا نتحدث هنا عن إدماج العرض السينمائي بالمسرح، كما كان الأمر في تجارب بسكاتور وراينهارت، التي أثرت بعمق على نظرية وممارسة برشت، وإنما نتحدث عن مسرحٍ ذي بنية سينمائية الطابع. هناك مسرحيات كلاسيكية ومعاصرة يزداد توهجها في زماننا تقوم أساساً على استلهام السيناريو السينمائي، أو الاستفادة من الصور البصرية. نذكر منها على سبيل المثال، مسرحية وليم شكسبير «هاملت»، ومسرحية إدموند روستان «سيرانو دو برجراك»، ومسرحية برتولد برشت «غاليليو»، ومسرحية فرانك فيديكند «يقظة الربيع»، ومسرحية جورج بوشنر «دانتون»، ومسرحية آرثر شنيتسلر «الدائرة»، فضلاً عن كثير من أعمال الميوزيكال، مثل: «شبح الأوبرا»، و«المسيح نجم عالمي»، و«البؤساء»، و«أوليفر»، و«إيفيتا».

وهناك نماذج عربية تأثرت أو طمحت إلى مجاراة السينما، نذكر منها مسرحية ألفريد فرج «الزير سالم»، ومسرحية محمود دياب «باب الفتوح»، ومسرحية عبد الرحمن الشرقاوي «الحسين ثائراً وشهيداً»، ومسرحية الدكتور سلطان القاسمي «الواقع.. صورة طبق الأصل»، ومسرحية محفوظ عبد الرحمن «حفلة على الخازوق»، ومسرحية سعد الله ونوس «منمنمات تاريخية»، ومسرحية ممدوح عدوان «سفر برلك»، ومسرحية كاتب هذه السطور «عبلة وعنتر»، وقد قدمت جميع هذه النصوص المتفاوتة بين التراجيديا والكوميديا بنجاح على خشبات المسرح.

وتعود بدايات التأثر المسرحي بالسينما إلى كتابين رائدين للمخرج السينمائي العظيم سيرغي آيزنشتين، هما «الحس السينمائي» و«الشكل السينمائي»، وكلاهما يتحدث عن جماليات الدراما عموماً من قبل فنان ممارس، كان له شرف الريادة في استكشاف قدرات المونتاج على التأثير العاطفي في المشاهد. وتجرأ آيزنشتين، الذي اشتهر بأفلامه المصورة بالأسود والأبيض، على التحدث باستفاضة عن الأهمية التعبيرية للألوان في السينما. وبالتالي، ليس المونتاج وحده، ولا الفلاش - باك، هما ما يميزان «المسرح السينمائي»، بل استخدام مبهر للتكنولوجيا في السينما. والواقع، منذ زمن آيزنشتين، ظهرت تجارب مسرحية كثيرة في مختلف أرجاء العالم، واحتفي ببعضها في مهرجانات عالمية كبيرة، مثل: «أفينيون» و«إدنبره» و«برلين»، استلهمت روح السينما وتكوينها أفضل استلهام، وانتقل تأثير السينما إلى المسرح، بحيث إن السينوغرافيا كانت بطل عرض الميوزيكال البريطاني «المرأة ذات الرداء الأبيض»، عن رواية ويلكي كولينز الشهيرة، ومن إخراج تريفور نن. وفي عصرنا الراهن، تصدق مقولة «المسرح سينمائي الطابع»، كما كان هناك في عصر مضى «السينما مسرحية الطابع»؛ وهذا المزيج السحري هو ما سيكوِّن مسرح المستقبل.

* كاتب سوري مقيم في الولايات المتحدة

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption