مجلة الفنون المسرحية
مسرح محي الدين زنكنه ـ مسرحية الفصل الواحد أنموذجا ... قراءة تقويمية
صباح الانباري - النور
العنونة
شاء الباحث غنام محمد خضر أن يبدأ عنوان كتابه بمفردة (مسرح)، وهي مفردة ذات دلالة عامة لا يغير من عموميتها إلصاقها باسم الكاتب المسرحي محي الدين زنكنه فهي تعني أن غناما سيتناول داخل متن كتابه مسرح محي الدين زنكنه بكليته ،المقروء منه والمنظور، لكنه خلافا لما أرادته العنونة اكتفى بالنصوص المقروءة حسب، مخالفا بذلك دلالة ثريا كتابه ومفتاح قارئه لمعرفة ما سيقرأ داخل الكتاب وهو الخطأ عينه الذي وقع فيه (البناء الدرامي).هذا من جهة، ومن جهة أخرى اختارت العنونة مسرحية الفصل الواحد لتكون أنموذجا والأدق هو أن يتم اختيار الأنموذج من جنس الشئ نفسه ولهذا نجد ضرورة استبدال مفردة (مسرح) بمفردة (مسرحيات) ليكون الأنموذج مختارا منها فيأخذ الكتاب والحالة هذه عنوانه الصحيح (مسرحيات محي الدين زنكنه ـ مسرحية الفصل الواحد أنموذجا).
على سبيل التقديم
ابتدأ د.فائق مصطفى تقديمه لكتاب غنام محمد خضر الموسوم بـ(محي الدين زنكنه ـ مسرحية الفصل الواحد أنموذجا) بإلقاء أضواء خاطفة على تاريخ المسرحية في العراق مؤكدا على أن البابليين عرفوا:
" نوعا من التمثيل المنظم في أعياد رأس السنة البابلية يدور على موت الإله (مردوك) ثم عودته ثانية الى الحياة"
ليقفز من هذه الاحتفالية قفزة طويلة الى العهد العباسي الذي عرف كما يذكر
" فنونا مختلفة قامت على أكتاف بعض الرواد والقصاصين وتبلورت في ما يسمى ( مسرح الحكواتي ) "
ومن اجل الدقة والموضوعية نقول أن ما اعتبره د.فائق مصطفى بدايات للمسرح في العراق لم تكن إلا نشاطات وطقوس وممارسات كرنفالية يمكن عدها ضمن الفعاليات والنشاطات والتظاهرات شبه المسرحية أو ما قبل المسرحية التي لم يتسن لها التحول بشكل طبيعي، أو بقفزة نوعية الى المسرح الدرامي فهي إذن نشاطات منقطعة الصلة بالمسرح، وهي، وأشكال أخرى غيرها ـ لم يذكرها د. فائق مصطفى، وعدها، "شكلا من أشكال المسرح لأن المسرح ليس شكلا واحدا هو شكل المسرح الغربي "ـ ظلت ثابتة في قوالبها الجامدة وممثلة لمرحلتها كما أكد الباحثان د. جميل نصيف التكريتي في كتابه (المسرح العربي ريادة وتأسيس)، والأستاذ محمد غباشي الذي استنتج وجود "صعوبة منهجية في تسمية التظاهرات الدرامية السابقة مسرحاً بالمعنى المحدد للمسرح رغم احتواء بعضها على ألف باء المسرح كالممثلين والجمهور والنص والملابس والديكور والأصح اعتبارها محاولات مسرحية أو أشكالا درامية فطرية كانت نتاج شروطها التاريخية ولم يكن بإمكانها أن تتحرر من بيئتها أو تتجاوز شروطها التاريخية لتصل الى المستوى الدرامي الذي بلغه المسرح الإغريقي مثلا " وهنا لا نريد غمط جهد المبدعين من كتاب المسرح وناشطيه الذين قاموا بمحاولات كبيرة وجادة في تأصيل المسرح العربي كالمبدع الكبير قاسم محمد في تراثياته المسرحية والمبدع الكبير عبد الكريم برشيد في احتفالياته المسرحية. وذهب د.فائق الى أكثر من هذا حين أكد على أن:
" طائفة من النقاد والباحثين المبهورين بالحضارة الغربية لا يرون للمسرح إلا شكله الغربي، لهذا نجدهم ينكرون وجود المسرح في الثقافة الإسلامية القديمة"
وهذا قول مجاف للحقيقة ولا يستند على أدلة واضحة إلا إذا اعتبرنا تلك التظاهرات مسرحا حقيقيا، وهي لم تكن كذلك لفطريتها وعدم تجاوزها لمرحلتها وعدم استجابتها للشروط التاريخية والاجتماعية التي أدت في بلدان أخرى الى ظهور المسرح وتناميه وتطوره. لقد نسي د.فائق مصطفى أن الإسلام لا يقوم على أساس وجود تناقضات بين إرادة الإنسان وإرادة الله كما هو حال الديانات القديمة وهذا يعد بحد ذاته سببا كبيرا حال دون ظهور المسرح في العصر الإسلامي كما أن الثقافة الإسلامية نظرت الى اغلب الفنون على أنها بدعة و ضلالة مآلها النار وقد كانت التعزية الاستثناء الذي كسر القاعدة ،فيما بعد، مع أن التعزية حالها حال التظاهرات الدرامية الأخرى لم تتحول الى المسرح وظلت جذرا لم ينمو له ساق ولا أوراق، وهذا رأي تبناه الأستاذ سامي عبد الحميد في معرض تناوله لمسببات عدم ظهور المسرح وتطوره في الأدب العربي الى جانب رأيه أن الشعر الغنائي عند العرب قد استحوذ على مساحة كبيرة جدا من اهتماماتهم الفنية والأدبية حد أنهم لم يفكروا بفن آخر غيره كالمسرح على سبيل المثال.
وعلى سبيل التقديم أيضا يذكر د.فائق مصطفى أن:
"القس حنا حبش الذي ألف ثلاث كوميديات يعود تاريخها الى عام 1880لاجل ذلك لقب برائد المسرح الحديث في العراق"
ولأن د. فائق لم يطلع على هذه النصوص الثلاثة لذا اعتبرها (كوميديات) فعلاً وفي حقيقة الأمر أن مؤلفها حنا حبش قد كتبها بشكل بعيد كل البعد عن الكوميديا ،ولكن أغلب الظن أنه تأثّر بكوميديات (موليير) معتقدا أن كل ما يكتب في المسرح يمكن أن تطلق عليه هذه التسمية، ولمزيد من المعلومات سأقوم بنشر صورة المخطوطة كاملة في موقعي الشخصي على الشبكة العنكبوتية، بعد ان نشرت المسرحية الأولى منها وهي بعنوان (كوميديا يوسف الحسن) في موقع (مسرحيون)، ليتسنى للدارسين والباحثين الإطلاع عليها واعتمادها كوثيقة ،لا غبار، عليها من وثائق المسرح العراقي.
ويختتم د.فائق مصطفى سبيل تقديمه مبينا أهمية كتاب (مسرح محي الدين زنكنه ـ مسرحية الفصل الواحد أنموذجا) في نقطتين:
" أما الأولى فتكمن في دراسته ومعالجته لنوع متميز من أنواع المسرحية ، اعني مسرحية الفصل الواحد التي تتناول موضوعات صغيرة تسهل معالجتها في زمن قصير وشخصيات وأمكنة محددة "
وهذه لا تنطبق على أي من مسرحيات زنكنه ذات الفصل الواحد لان زنكنه لم يكتب في هذا النوع على وفق المنظور التقليدي لهذا النوع من المسرحيات، ففي مسرحياته ذات الفصل الواحد تتسع رقعة الزمان والمكان لتشتمل على أزمان أخرى وأمكنة أخرى وتنويعات مختلفة في وحدة الموضوع، وهذا حال المسرحيات المحدثة التي تتخطى حاجز الزمان والمكان عبر تقنيات الكتابة والإخراج. ثم أن موضوعاتها ليست صغيرة تسهل معالجتها في زمن قصير وان مراجعة سريعة لنصوصه ذوات الفصل الواحد تثبت ما ذهبنا اليه. إن زنكنه على وجه التحديد لا يطرق الموضوعات السهلة في نصوصه ولا يتقيد بقصر زمن النص حتى في مونودرامياته التي تتجاوز مساحة المونودراما واستطراداتها بقدر كبير جدا كما في مسرحيته (تكلم يا حجر). ولي أن اسأل د. فائق هنا عن سبب اعتباره مسرحية الفصل الواحد نوعا متميزا، وبماذا تتميز عن مسرحيات الفصلين أو الفصول الثلاثة غير ما ذكر من الوحدات الثلاث وسهولة تناول الموضوعات؟.
المقدمة و التمهيد
نخرج من (على سبيل التقديم) لندخل في (مقدمة) الباحث غنام محمد خضر التي ابتدأها بتعريف المسرحية معتبرا إياها جنسا "من الأجناس الأدبية النثرية" ناسفاً بهذا الاعتبار المسرحيات الشعرية، التي ما يزال بعض كتابنا ينولون على منوالها حتى وقتنا هذا ومنهم،على سبيل المثال لا الحصر، الكاتب المسرحي علي عقله عرسان والكاتب المسرحي عبد الفتاح رواس قلعه جي ،الذي هجرها أخيرا، فضلا عن استبعاده أن تكون المسرحية جنسا فنيا تمّ تجنيسه أدبيا بمرور الوقت. ويتخذ الباحث من مسرحية الفصل الواحد أساسا تقييميا لدراسة مسرحيات زنكنه و لهذا رأيناه يؤكد على أن الانباري لم يتناول في كتابه (البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه) مسرحية الفصل الواحد، ويبدو لي أن غنام لم يطلع على (البناء الدرامي) بشكل دقيق وارتضى لنفسه أطلاق أحكام غير عادلة ولا صحيحة عن هذا الكتاب ولنا أن نسأله هنا: ماذا تعتبر مسرحية (السر) التي تناولتها في كتابك، وهي أول مسرحية تناولها (البناء الدرامي) بالنقد؟ وماذا تعتبر مسرحية (العلبة الحجرية) ومسرحية (لمن الزهور) ومسرحية (حكاية صديقين) ومسرحية (مساء السلامة) أليست هذه كلها مسرحيات فصل واحد؟ أليست هذه خمس مسرحيات من مجموع ثمان تناولها (البناء الدرامي)؟.ولماذا ينبغي على (البناء الدرامي أن يعلن انه تناول ذوات الفصل الواحد ليستأثر بميزة مزعومة في زمن لم تعد الفصول ميزة؟
ولم يسلم من التقييم هذا طالب الماجستير وليد مانع داغر الجنابي إذ يقول غنام عن رسالته الموسومة بـ (البناء الفكري والفني في مسرحيات محي الدين زنكنه) أنها:
"لم تخصص للمسرحية ذات الفصل الواحد أيضا"
ليستأثر بالسبق في تناولها مع أن زنكنه نفسه لم يفكر وهو ينجز مشروعه في كتابة أي نص أن يكون في فصل واحد أو أكثر من ذلك مؤمنا أن النص يفرض هذا عليه من داخله وان المعالجة هي التي تفرض أو تفترض مساحة النص.ويقول الأستاذ غنام عن (البناء الدرامي) أيضا انه:
" شكل خللا منهجيا إيراد معلومات كثيرة عن قصص زنكنه ورواياته، لأن الكتاب لا يدور على أدب زنكنه كله وإنما يدور على جانب منه فحسب هو ما يخص مسرحياته"
وهنا اسأل الباحث عن حجم المعلومات الكثيرة التي وردت في الكتاب وخصصت لقصص زنكنه ورواياته ولكي أوفر عليه الوقت والجهد أدون هذه الفقرة من كتاب (البناء الدرامي/سيرة قلم مداده نسغ الحياة) ص10:
"....وان هذه الشخصية الجديدة هي التي خلقت مجموعة ( كتابات تطمح أن تكون قصصا) و سائر مسرحياته ورواياته " ثم أأكد على هذا من خلال تضمين ما ورد بهذا الصدد على لسان ناقدين هما الكبير علي جواد الطاهر والأستاذ حسب الله يحيى. وأسوق هذين السطرين من ص11 :
لقد حرم زنكنه،منذ طفولته، من حرية التعبير عن ذاته بسبب ظروف ذاتية وموضوعية، فمنح تلك الحرية لشخوص قصصه ورواياته ومسرحياته
ثم أقارن بين المسرحية عنده وبين القصة قائلا :
"أما في القصة فانه يقوم بتغليب قواعدها وشروطها..بمعنى انه يطوع عناصر الدراما لبلورة خطابه القصصي وبهذا تكون القصة،عنده، أكثر ميلا الى السردية منها الى الدراما كما في قصة (الشمس الشمس ،اضطراب في ألوان النهار)"
إن هذه الـ،(أما) تشير الى ما قلته عن المسرحية ولا مجال لذكره في هذه الصفحات . وفي معرض تناولي للحوار وردت الجمل الآتية:
"فنحن في القصة أو في المسرحية لا نحتاج الى أن نجعل الشخصية تقول كل شئ"
"إن الحوار في القصة القصيرة وحتى في الرواية لا ينبغي أن يأخذ إيقاعاً مغايراً لإيقاع السرد و إلا بدت القصة أو الرواية مليئة بالإيقاعات غير المتناغمة مع خطها العام"
وفي السياق نفسه أتناول واحدة من قصصه المسكونة بالدراما مستنتجا منها أن زنكنه
"يفهم ،وهذا مهم جدا الكيفيات التي تعمل على نقل هذه العناصر وتحويلها الى حيز آخر بغية تغليب حركية الفعل على سكونية السرد"
وأضرب مثالا تطبيقيا على هذا بقصة (السد..تحطم ثانية) والذي يوضح لمن يعيد النظر فيه أنه متخصص بالجانب الدرامي في هذه القصة ولم يتناولها بكونها قصة حسب وهذا كله يعني أنني لم أذكر مفردة قصة إلا لأبين علاقتها الدرامية بمسرحيات زنكنه. أما عن الرواية فقد وردت هذه الفقرة الختامية اليتيمة :
"إن زنكنه وعلى الرغم من كون المسرح هاجسه وشاغله الأول ،يدخر جزءً من طاقته الإبداعية لكتابة الرواية بين آونة وأخرى"
ثم اسمي الروايات التي كتبها وما كتب عنها وكل هذا ضمن موضوعة (سيرة مبدع مداده نسغ الحياة) فإذا كانت هذه المعلومات على الرغم من ارتباطها بالمنجز المسرحي فائضة من الناحية المنهجية كما يدعي مؤلف الكتاب فأولى بنا أن نغادر عقم المنهجيات وقيودها وسقمها ومحدداتها القسرية.
وبعد المقدمة يأتي التمهيد لدراسة مسرحية الفصل الواحد من حيث طبيعتها وخصائصها، وفيه وجدت الباحث، وبسبب كون دراسته هذه هي في الأصل رسالة ماجستير أشرف عليها د.فائق مصطفى عام 2005 ، قد تعكّز كثيرا على مقولات نقاد المسرح ومنظريه، وهذا التزام منهجي ثقيل جعله ،على مدى خمس صفحات تمهيدية، يتعكّز على تنصيص خمس وعشرين مقولة ضاعت بينها مقولاته الخاصة وتحولت من وجهة النظر الخاصة الى مجرد آليات لعرض تلك المقولات. كما أن أغلبها تمت مناقشته وتحديثه من قبل نقاد محدثين ومنها ،على سبيل المثال لا الحصر، اعتبار المسرحية ذات الفصل الواحد مجرد "تمثيلية قصيرة" في الوقت الذي صار مصطلح التمثيلية رهناً بجنس فني محدد لا يلتقي والمسرحية إلا في كونهما تعتمدان التمثيل والتشخيص حسب. ومن اجل الدقة والموضوعية نورد هنا الكيفية التي حدد على وفقها الكاتب تمهيده لمسرحية الفصل الواحد، وحجم الجهد الذي بذله من اجل ذلك.
بعد الفقرة الأولى مباشرة يقول الباحث:
(تتميز المسرحية ذات الفصل الواحد بـ ) ثم يورد بعد الـ (بـ) تنصيصا من معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية و كما يأتي:
"الحادثة الفردية، أو الحوادث المركزة وبالتفاصيل القليلة ،والحوار الحي، والشخصيات المحدودة والذروة القريبة من النهاية، دون استراحة وتغيير كثير في المناظر . كما تتميز ـ وهذا مهم ـ بوحدة الأثر العام"
وفي الفقرة التي بعدها يقول :
(المسرحية ذات الفصل الواحد نوع من الكتابة النثرية) ثم يورد التنصيص الآتي من مجلة الأديب :
"يماثل فن القصة القصيرة، ولا يختلف عنها إلا في كون القصة تعتمد السرد ، في حين تعتمد المسرحية على الدراما الجدلية"
اختصارا وعلى هذا المنوال يختتم الباحث تمهيده كما يأتي:
(أما النهاية فتحدد لنا مدى نجاح أو إخفاق المسرحية، وبما أن المسرحية ذات الفصل الواحد تركز على حالة إنسانية واحدة ، فالنهاية ينبغي أن) ويورد التنصيص الآتي:
"تكون قصيرة بل اقصر من البداية. وهي عادة ما تتكون من كلام أو اثنين أو أحيانا من حركة إيحائية تعبر بصورة مؤثرة عن ردود الفعل العاطفية للشخصيات"
لينهي استنتاجه الأخير قائلا:
(وبهذا نقول ان الحبكة في المسرحية ذات الفصل الواحد، إنما تجئ مختلفة عن حبكة المسرحيات الطويلة، من حيث القصر في سلسلة الأحداث وتطورها من البداية، ثم الذروة وحتى النهاية أو الانفراج.)
فإذا كانت الدراسة المنهجية تفرض على الطالب ركن وجهات نظره وراء كواليسها فان تقديم الدراسة بكتاب مطبوع مسألة لا تخضع لإرادة المنهجيات بل لما يريده الكاتب حسب. وكان الأجدر به أن يعيد كتابة تمهيده من جديد بعيدا عن الموجهات المنهجية الصارمة وقيودها الرسمية لنلمس جهده الشخصي وهذا هو الأكثر أهمية في التأليف.
الفصل الأول ـ المسرحية
بعد التقديم والمقدمة والتمهيد يأتي الفصل الأول بعنوان (المسرحية) ليدخلنا الباحث في مدخل جديد، وما أكثر المداخل في كتابه، يتناول فيه هذه المرة تاريخ المسرحية في القرن الخامس (ق م) ويتوقف هذا التاريخ عند حدود معرفة الطليان بوحدتي الزمان والمكان. وبسرعة وعجالة يلقي الكاتب أضواءه الخجول على لغة المأساة وشخصياتها ثم يستنتج في نهاية مدخله القصير ما يأتي:
"وبعد هذه النقاط التي حددها أرسطو من خلال تعريفه للمأساة أصبح هناك منهج يسير عليه كتاب المسرحية في بناء المسرحية، عرف باسم (البناء التقليدي للمسرحية أو البناء الارسطي"
ولا ندري لماذا اقتصر المدخل على القرن الخامس (ق م) حسب؟ وما علاقة ذلك القرن بمسرح محي الدين زنكنه ؟ وما حاجتنا لمدخل مثل هذا في كتاب مخصص لمسرحيات زنكنه؟ وهنا أعود لألقي تبعة هذا المدخل على كون الدراسة هي في الأصل رسالة ماجستير خضعت لإرادة المشرفين عليها ،والتزمت بالمحددات المنهجية للبحث حتى وإن كانت ،هذه المحددات، لا تؤدي وظيفة محددة.
المبحث الأول ـ الحبكة والصراع
ومن مدخل (المسرحية) الى مدخل (الحبكة) وتعريفاتها المختلفة حيث يقوم الباحث بنقل تعريفات ووجهات نظر من سبقوه في العصور القديمة دون أن يخرج منها بتعريف ذي طبيعة استنتاجية. ومن تناوله للحبكة بشكل عام ينتقل الى الحبكة في مسرحيات محي الدين زنكنه، ويضرب مثالا على ذلك مسرحية (هو هي هو) ويقوم بشكل تطبيقي ،وللمرة الأولى، بتحديد مفاصل الحبكة ومساراتها وتصادم تلك المسارات في حبكة متماسكة مشتملة على قانون الوحدات الثلاث على حد قول الباحث. وفي النصف الثاني من مبحث الحبكة يتناول الباحث علاقة الموضوع بالحبكة فيقدم شرحا تقريريا لنص مسرحية (السر) ثم يعود ليعرض بعض جوانب النص (الموضوع) ليتوصل الى وجود علاقة وثيقة بينهما وكان الأفضل أن يوضح مسارات الحبكة فقط دون الدخول بتفاصيل الموضوع كي نرى الكيفية التي على وفقها تصادمت تلك المسارات داخل النص ،وكيف أن الحبكة حتمت ضرورة فرض هذا التصادم بشكل طبيعي.
إن حبكة أي نص مسرحي جيد تعتمد على خبرة كاتبه فقط، وكاتب مثل زنكنه لا يحتاج الى أن يفكر بالحبكة ومساراتها كثيرا لأنه يتحكم بها من خلال خزينه التقني والمعرفي(الإبداعي). هنا يتخلص الباحث من الاستشهاد والتنصيص لينفرد صوته في الشرح والتحليل والتأويل.
وكما وضع الباحث مدخلا لمبحث الحبكة فانه فعل الشئ نفسه مع مبحث الصراع الذي قسمه على صراع خارجي وآخر داخلي .يقول مفتتحا المدخل أن:
"المسرحية جنس أدبي يقوم على الصراع"
وحقيقة الأمر أن المسرحية جنس فني، تكتب لتمثل من على خشبة المسرح، ولم تأخذ شكلها الأدبي المعروف إلا بعد أن قام برنادشو بكتابة مسرحياته كتابة أدبية بعد أن لاحظ أن فرصة مشاهدتها من على الخشبة وانتشارها فرصة ضئيلة. وفي تطور لاحق صار كتاب المسرحية يهتمون بالجانب الأدبي اهتماما متزايدا ًخاصة بعد أن صارت فرص القراءة أكثر من فرص المشاهدة، وقد أدى هذا الى كتابة مئات النصوص المسرحية القابلة للقراءة الأدبية من على الورق، والمشاهدة الحية من على خشبة المسرح. كما أدت هذه الأدبية الى وقوع عدد من كتاب المسرح في شركها الذي جعل أمر تنفيذ نصوصهم على الخشبة مستبعدا بشكل كبير.ويضرب الكاتب مثالا على الصراع الخارجي بمسرحية زنكنه (هو.هي .هو) زاعما أن القضية في حقيقتها هي :
"قضية الصراع بين الشك واليقين، أو الشرق والغرب ، أو الماضي والمستقبل"
وهذا زعم غير دقيق لأن قضية الصراع تدور ،فقط، حول مسألة الشك واليقين ولا علاقة للشرق والغرب بها لا من قريب ولا من بعيد، وليس ثمة ما يدل على غربية (جلال) وشرقية (دلير) فكلاهما يفهم الأمر بشكل متعقل وباتزان وواقعية. ولو استمر الكاتب على إبراز الصراع بهيئة هجوم ودفاع ،فقط، لكان قد حقق اقتراباً أكثر من جوهره الذي خطط له زنكنه بدربة ودراية عاليتين. وقد أحسن الباحث في تأويله لدلالة الزهور والأشجار وارتباطهما بحياة الشخصية لكنه يعود ليجعل المسألة ثانية بين الشرق والغرب إذ يقول أن:
"مريم تحلم بالانتماء الى الغرب، أما (دلير) فيتمسك بالشرق وبالماضي الأصيل ولهذا حصل افتراق بين مريم ودلير"
ان سلوك (مريم) وتصرفاتها المبنية على أساس سوء ظنها بالآخر، سواء أكان هذا الآخر زوجها السابق أو حبيبها اللاحق، وانطلاقا من حبها وتمسكها الجنوني غير المتوازن بابنتها (شلير) لا يعني إلا وجود خلل في حياتها أدى الى اضطراب شخصيتها والى عدم تمييزها بين أمرين أهونهما أكثراهما قسوة عليها. وهذا كله سلوك لا ينتمي في مظهره العام أو الخاص الى الغرب. وليست في النص ثمة أية إشارة الى هذا وفقط أراد الباحث التأويل بلا دليل سوى ما يراه أو ما يظنه مناسبا لهذه الحالة. لقد تذرع الكاتب ببنيتي "التحرر والاستقلال" للاستدلال على غربية (مريم) وكأن المرأة الشرقية لا تتحرر إلا على وفق الطريقة الغربية حسب، وهذا فهم غير منطقي ولا معقول وإسقاط ،لا مبرر له، لسلوك مألوف على آخر غير مألوف إذا أخذنا واقع الشخصية ،داخل النص، بنظر الاعتبار.
ويذهب الباحث الى أبعد من هذا عندما يزعم أن (دلير) قد انتصر على (جلال)
" انه انتصار الماضي ضد الدخيل ومرض شلير هو مرض الواقع والانحدار الحاصل وكل مرض زائل إذا كان الماضي أصيلا"
وهذا تخبط في التفسير واضطراب في التأويل لأن جلالا ليس دخيلا على حياة دلير فالمرأة أحبته وأرادت أن يكون لها زوجا وأبا لابنتها وهو متفهم لهذه الحالة ولم يقحم نفسه في قضية البنت مع أبيها لأنه يفهم فهما موضوعيا أن الصغيرة هي ابنته من الناحية الشرعية والإنسانية وبالتالي مرض الطفلة لم يكن مرض الواقع لان الواقع عبر عن نفسه من خلال السلوك العام للشخصيات الثلاث وهذا كله ينفي مسألة الدخيل والأصيل نفيا تاما لان القضية تكمن في تراكمية الشكوك واضطراب اليقين والانزلاق وراء الوساوس والأوهام لامرأة متعلقة بطفلتها بعد ان حرمت نفسها من الرجل الذي كان الى جانبها على الدوام.
إن الصراع في هذه المسرحية ،حسب ما أراه، يبدأ إشارياً من عنونتها (هو.هي.هو) فالشخصيات الثلاث غيّب زنكنه أسماءها من العنونة ،بشكل مقصود، محولاً إياها الى معادلة تشي بطبيعة الصراع الذي يواجهنا داخل متن المسرحية والذي تشكل (هي) بؤرته بينما يشكل (هو) و(هو) الآخر طرفيه.(هي) هدف الطرفين الذين يعملان من اجل الوصول إليه. وبين هذا وذاك تدخل (هي) في صراع معهما ليكون الصراع العام مركبا من الأطراف الثلاثة ومتداخلا بينهم ولا وجود لصراع الطرفين (هو) و (هو) مع بعضهما لوجود الفاصلة (هي) بينهما وبهذا يكون زنكنه قد عمل ،بخبرة لا تنقصه، على بيان مسار الصراع وشكله العام ابتداءً من ثريا نصه المسرحي وهذا أمر مهم للغاية.
أما بالنسبة للصراع الداخلي فيضرب الباحث مثالا على ذلك بمسرحيتي زنكنه (مع الفجر جاء، مع الفجر راح) و(العلبة الحجرية) وقد جاء تعليق الباحث على الصراع في هاتين المسرحيتين مقتضبا فتجنب بهذا الاقتضاب الوقوع بالأخطاء التقييمية. وهنا أود أن أشير الى ضرورة تصحيح اسم الناقد (ملفون ماكس) الذي ورد في التنصيص المرقم (46) وصحيحه (ميلتون ماركس) كي يكون التنصيص دقيقا لا لبس فيه. وبهذا التصحيح نكون قد انتهينا من مطالعة المبحث الأول المتضمن على بنيتي الحبكة والصراع لننتقل الى المبحث الثاني المتضمن على الشخصيات الرئيسة والثانوية.
المبحث الثاني ـ الشخصيات
وفي مدخل هذا المبحث كما في المداخل السابقة يسقط الباحث ضحية أقوال نقاد المسرح ودارسيه فهو يربط الأقوال ببضع كلمات من عندياته وفي النتيجة يفقد المدخل هوية كاتبه، وتراني أشدد على هذه النقطة المهمة لأنها وردت في كتاب مطبوع وتجاوزت كونها دراسة مقدمة لنيل شهادة الماجستير منذ عام 2005.ولا أظن الكاتب أدخل عليها التعديلات اللازمة والمتوائمة مع طبيعة الكتب النقدية المطبوعة. ومن الملاحظ أيضا أن الباحث اعتمد في تحديده للشخصية المقنعة بأبعادها الطبيعية والنفسية والاجتماعية على غيره من الكتاب ولم يأت بأي جديد في موضوعة الشخصية.ويقسم الباحث الوظائف على مجموعتين:
"أولا : الشخصيات الرئيسة
ثانيا : الشخصيات الثانوية"
في الشخصيات الرئيسة يتعكز الكاتب منذ البدء على ما قاله الأستاذ إبراهيم حمادة في وصفه الشخصية الرئيسة بأنها:
"الممثل الأول الذي كان يلعب الدور القيادي في الدراما الإغريقية ،ثم يلعب أدوارا أخرى في نفس المسرحية. أما الآن فهو الشخصية التي تلعب الدور الأساسي في المسرحية"
وهذا قول ضعيف لأن المسرحية الواحدة قد تتضمن على عدة شخصيات رئيسة تتقاسم الأدوار الأساسية كما تتضمن على عدة شخصيات ثانوية تتقاسم الأدوار الثانوية وهذا التقسيم غير مقتصر على النص المكتوب حسب بل وعلى العرض أيضا لهذا لم أجد ضرورة لعبارة إبراهيم حمادة "المسرحية كنص مكتوب" ولعل جملة الباحث التي ذكرها بهذا الخصوص:
"كلما كانت الشخصيات متكافئة في القوة كان الصراع أقوى"
فيها ما يعزز فكرة وجود أكثر من شخصية رئيسة في المسرحية وقد يصل الأمر حد انتصار الشخصية الثانية (الشريرة) على الشخصية الأولى(الخيرة) وهذا النوع من الشخصيات هو الذي يستأثر بمساحات كبيرة في أغلب نصوص زنكنه باستثناء شخصياته المحورية.
وفي مفتتح حديث الباحث عن البطل الغائب يتعكز ثانية على ما قاله الأستاذ حمادة في الوقت الذي كان يمكن أن يكتفي بما قاله هو عن هذا البطل وهو قول واف وكاف حسب ما نراه. ويضرب مثالا على ذلك بمسرحية زنكنه (الأشواك) وبطلها الغائب (نوري) الذي اعتبره في الوقت نفسه بطلا محوريا من خلال تأثيره على سير أحداث المسرحية كلها وهذا استنتاج سليم.وعودة للشخصيات الأساسية نقول أن شخصية الدكتور، وشخصية صابر، وشخصية سهام هي في حقيقة الأمر شخصيات أساسية شكلت ثلاثة أقطاب متكافئة قادت المسرحية الى نهايتها.
وفي مفتتح حديثه عن البطل المثقف يتعكز على مقولة د. محمد عابد الجابري ويضيف من عندياته أنه:
"ينتمي الى الطبقة المثقفة في المجتمع كما يمثل تلك الطبقة من خلال طرح معاناتها ومشكلاتها"
وهنا سقط من حيث لا يدري بخطأ واضح عندما اعتبر أن المثقفين يشكلون طبقة واحدة لأنهم في حقيقة الأمر يمثلون فئة اجتماعية لا تكون متجانسة بالضرورة ولأن التجانس قانون الطبقات لذا من الخطـأ أن نطلق هذا المصطلح على أية فئة اجتماعية.ويضرب لنا مثالا على ذلك بمسرحية زنكنه (موت فنان) والفنان هنا ينظر الى الجمال نظرة مثالية خالصة أدت ،حال اكتشافه لما يسئ الى مثالية وطهر الجمال، الى سقوطه ميتا، وبسقوطه تكون المثالية قد سقطت أيضا بينما ظل الواقع قائما. إن هذه المسرحية لا تعكس بالضرورة صراع القيم الجديدة مع القديمة كما زعم الباحث ،على لسان غيره، وإنما تقوم على مصادمة بواعث شخصيتين مختلفتين الأولى تنطلق ،في فهما لما يدور حولها، من سموها الذاتي ونبلها الأخلاقي، والثانية تنطلق من إحساسها بوطأة واقعها الاقتصادي القاسي عليها.ويستنتج الكاتب أن:
"التصارع بين القيم الشريفة والنبيلة والقيم غير الأخلاقية ،يعكس لنا وعي الكاتب لأزمات المجتمع"
وهذا استنتاج غير دقيق إذا أخذنا بنظر الاعتبار ظروف الشخصية الثانية والتي َتبيّن لنا من خلالها مسببات جنوح المرأة الى المقايضة بجمالها.
وجريا على عادة الباحث نطالع ،في مفتتح قوله عن الشخصية الثانوية تنصيصا يحدد دورها في المسرحية بأن:
"يكون ظهورها على خشبة المسرح أقل من ظهور الشخصية الرئيسة"
وهذا تحديد ضعيف ولا يصح مع بعض الأعمال المسرحية فلو أخذنا مسرحية زنكنه (الأشواك) مثالا لوجدنا أن الشخصية الثانوية (المرأة) قد ظهرت على خشبة المسرح في الوقت الذي لم تظهر فيه الشخصية الرئيسة (نوري) على خشبة المسرح إطلاقا.ويكمل تنصيصه القائل أن:
"الشخصية الثانوية ذات موقف ثابت لا يتغير مع تغير الأحداث، إذن فان الشخصية الثانوية تكون ملازمة لحالة واحدة"
وفي واقع الحال أن حالة الشخصيات ،الرئيسة منها والثانوية، يتغير على وفق التغيرات التي تطرأ على أحداث المسرحية (تكتيكياً) ولا وجود لحالة ثابتة لا في الحياة ولا في المسرح. فالحياة على هذه الأرض ،كما قيل في الماضي، معناها التغير والكمال معناه كثرة التغير.
المبحث الثالث ـ الحوار
في هذا المبحث يتخلى الباحث عن كتابة مدخل له خلافا لعادته التي سار عليها في المبحثين السابقين مستعيرا تعريف الحوار من الأستاذ عبد العزيز حمودة القائل ان الحوار هو:
"أداة لتقديم حدث درامي الى الجمهور دون وسيط، هو الوعاء الذي يختاره، أو يرغم عليه الكاتب المسرحي لتقديم حدث درامي يصور صراعا إراديا بين ارادتين تحاول كل منهما كسر الأخرى وهزيمتها"
وبعد التعريف يستنتج ان:
"ما يميز المسرحية بوصفها - جنسا أدبيا - عن القصة والرواية هو الحوار لأن القصة والرواية تستخدمان الوصف والتحليل وهذا يكون عن طريق السرد، أما المسرحية فتعتمد اعتمادا كليا على الحوار"
ضاربا عرض الحائط أن الرواية والقصة قد تستخدمان الحوار ،كما هو الحال في أغلب قصص وروايات زنكنه، بتقنية يقصد منها إيصال أو توثيق مجريات حالة ما من حالات الشخصية المتحاورة. وإن كان ثمة فرق بين الحوارين فان ذلك الفرق يكمن في أن الحوار في القصة والرواية مقروء بينما يكون في المسرحية منطوقاً وهذا هو عين ما ذكرته في (البناء الدرامي) في الصفحة (13). ثم ينتقل بنا الى موضوعة الحوار في مسرحيات زنكنه ذات الفصل الواحد زاعما انه:
"جاء في أغلبها مطابقا لخصائص المسرحية ذات الفصل الواحد من حيث قصر الحوار وكثافته ثم من حيث وظائفه الدرامية"
ويضرب لنا مثلا على ذلك ما دار بين (الحارس) وبين (مسعود) من مسرحية (الشبيه) ناسيا أو متناسيا أن لمسعود هذا حوارات طويلة أو غير قصيرة كحواراته في الصفحة 242 و 243 الخ..وهذا يعني أن زنكنه لا يحدد استخدامه للحوار ،طولا وقصرا، على وفق المحددات التقليدية لأنه يؤمن أن نصوصه تبتكر محدداتها الخاصة التي طالما حفزت في نفوس المخرجين ،من أجيال مختلفة، رغبة العمل على إخراجها.ولا يقتصر هذا على مسرحيات زنكنه ذات الفصل الواحد حسب بل ويتعداه الى مسرحياته الطويلة أيضا.
وضمن موضوعة الحوار واللغة يتناول الباحث اللغة الفصيحة والعامية. وبعد طول شرح وكثرة تنصيص واستشهاد بنصوص يخرج بخلاصة مفادها أن:
النماذج التي استشهد بها كشفت عن أن لغة زنكنه جاءت خالية من التعقيدات والجمل الاعتراضية والشرطية الطويلة. وهنا أود أن أضيف أن زنكنه كتب واحدة من مسرحياته باللهجة العامية وهي مسرحية (الإجازة) التي قدمتها في بعقوبة فرقة نقابة الفنانين، وفي السليمانية فرقة المسرح الطليعي.
ويرى الباحث في موضوعة الحوار والصورة أن المؤلف المسرحي يمكن بوساطة الصورة أن:
"يعبر عن طبيعة الألفاظ، ويكشف عن علاقات جديدة كي تصبح اللغة مشخصة المعنى"
فالصورة عنده كما يقول جيرار جينيت:"هي أية هيئة تثيرها الكلمات الشعرية بالذهن شريطة أن تكون هذه الهيئة معبرة وموحية في آن"
ويضيف مستنتجاً:
"إذن يأتي استعمال الصورة الفنية في المسرحية النثرية ، وسيلة للإدراك العميق والمشاعر العميقة وتجسيد مواقف مهمة في المسرحية فتأتي الصور مكثفة لكنها تحمل معان عميقة"
أن الباحث هنا تناول صورة الملفوظ المسرحي ،فقط، من منطلق أدبي بحت، وأهمل الصورة المسرحية باعتبارها بنية أساسية من بنى النص المقروء والعرض المنظور وقدرة تلقيها ذهنيا في حالة القراءة وبصريا في حالة المشاهدة. هذه الصورة لا تثيرها (الكلمات الشعرية) أو (شاعرية الكلمات) لأنها تتشكل جماليا داخل منظومة العمل الدرامية نفسها، وعلى أساسها يمكن الوصول الى تفسير وتأويل ما تعرضه صور المسرحية ككل متكامل (جشتالت).ولا تخفى على أحد تجربة تناول الأعمال المسرحية نقديا من خلال منظومتها الصورية. الصورة إذن قيمة جمالية أو وحدة قيمية لمعرفة ما تروم إليه أية مسرحية متكاملة وهي ليست حكرا على مسرح دون آخر ،كمسرح الصورة على سبيل المثال، لأن القاعدة العامة فيها بنيت على أساس عدم وجود مسرح بلا صورة.
الفصل الثاني ـ المسرحية التجريبية
في مدخل )المسرحية التجريبية( قدم لنا الباحث تعريف النقاد، والمنظرين للمسرحية التجريبية وألقى الأضواء على تاريخها زاعما أنها:
"ظهرت حديثا على أيدي مجموعة من الكتاب الغرب أمثال بريخت، وبيراندللو، وبيكت وغيرهم "
ثم يستنتج بعد التعريف أننا:
"نستطيع القول ان التجريب يعني الاختلاف عن الأشكال والتقاليد المتوارثة"
وهذا الاستنتاج مأخوذ من كتاب هدى وصفي (التجريب في المسرح المصري).
وعلى النطاق العربي حصر التجريب أول الأمر بالرواية ثم بعد ذلك بالقصة القصيرة إبان ستينات القرن الماضي كما أشار الى ظهوره في المسرحية العربية والعراقية .ومن الأمور التي ساهمت في بلورة فكرة التجريب ،على حد زعم الباحث، ترجمة العديد من المسرحيات التجريبية الغربية.
الباحث في هذا الفصل، كما في الفصل السابق، ظل معتمدا اعتمادا كبيرا على مقولات غيره، ولم يخرج من معمعة (العبث) باستنتاج خاص من عندياته. وقد استخدم ،كعادته، الكثير من المراجع والمصادر المهمة التي درست مسرح العبث بشكل تفصيلي والتي نقل عنها ولم يأخذ عصارتها أو يمزج تلك العصارة مع ما لديه من أفكار في الموضوع نفسه .ما يهمنا ،في هذا المبحث، هو تعامله مع نص زنكنه الذي درسه كأنموذج متأثر بهذا التيار المسرحي إذ يقول:
"إننا لاحظنا كيف تأثر هذا الكاتب بمن سبقه من كتاب مسرح العبث وسار على نهجهم في مواضع عدة"
لاصقا بزنكنه تهمة التأثر والسير على نهج من سبقوه من كتاب مسرح العبث وكأن زنكنه كاتب مبتدئ مهيأ للتأثر بهذا المنهج أو ذاك فيسير ،من حيث لا يدري، عليه ،ومع كل ما لكتاب العبث من أهمية وقدرة عالية وشهرة واسعة ونجومية هائلة و..و ..الخ لا يمكن ان يسقط كاتب مثل زنكنه في مسقط التأثر بغيره. لنقل، بشكل سليم، انه أخذ من مسرح العبث ما يلائم نصه وتجربته الجديدة مطوعا إياه لخدمة نهجه الخاص وهذا هو ما فطن إليه ،قبلنا، الناقد الكبير ياسين النصير.وهذا هو عين ما فعله زنكنه مع المناهج الأخرى. إنه وهو يطوع هذه المناهج لمشروعه الإبداعي، لا يريد أن يعلن عن نفسه ككاتب ضمن هذا المنهج أو ذاك لأن ما يفعله ،فقط، هو تطويعها لمنهجه الذي عرف به ككاتب من طراز خاص.
لقد حاول الباحث في تناوله لنص زنكنه (صراخ الصمت الأخرس) أن يستدل على عبثيته من خلال الشخصيات ذاكرا أن زنكنه عمل على:
"أن لا يطلق عليهما أسماء معروفة ويكتفي في التمييز بينها بأن يعطي كلا منها رقما هي (الأول والثاني)، مجاريا بذلك العبثيين في تحويل الإنسان الى رقم"
وهنا أود أن أوضح مسألتين: الأولى هي أن منح الشخصية رقما لا اسما ليس من باب تهميشها بل من اجل منحها صفة عامة فالأول هو كل شخص يحمل الصفات والمواصفات نفسها وكذلك الثاني والثالث..الخ وهذه الطريقة في التسمية غير مقتصرة على كتاب العبث دون غيرهم وسيجد الباحث ،إن أراد، عشرات النصوص التي استخدمت الترقيم بدل الأسماء ولم تكن أيا منها مسرحية عبثية فضلا عن أن مسرحية (في انتظار غودو) ،وهي الأشهر بين النصوص العبثية، لم تستخدم الترقيم بدل الأسماء إذ أطلق الكاتب على شخوص المسرحية أسماء من قبيل استراغون وفلاديمير.أما المسألة الثانية فتكمن في أن كتاب العبث واللامعقول لم يحولوا الشخوص الى مجرد أرقام بل وضّحوا أن الحياة ما بعد الحرب ،في أوربا، هي التي حولت الإنسان الى رقم حسب. وكذلك الحال مع زنكنه الذي اسقط تبعة ذلك على مجمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية المتردية في عالمنا العربي. في عالمنا ،دوما، ثمة عوامل مشتركة أو محبطات مشتركة كاليأس والسأم والضجر واللاجدوى والانتظار وان الكتابة عن أي من هذه المحبطات لا يعني تأثر كاتب ما بطرائق تناولها فألبير كامو ،على سبيل المثال لا الحصر،استنتج أن السأم هو "محصّلة لفعل الانتظار، وكلاهما نتاج واحد لانهيار العقل والجسد معاً سببه الروتين والعادة،" كما انه فطن الى لا جدوى الحياة فكتب واحدة من أهم أعماله (أسطورة سيزيف) فهل يعني هذا أن كاتبا مثل كامو قد تأثّر بغيره أو أثّر على غيره من كتاب العبث واللامعقول؟! التأثير يحدّث في حالة عدم اكتمال التجربة الإبداعية، وعدم بلوغها حد التفرد حسب.
وعودة الى نص زنكنه (صراخ الصمت الأخرس) نجد أنه اختار اللامعقول لأن ما يحدث على ارض الواقع العربي غير معقول بالمرة وغير إنساني وغير قابل للتصديق ومناقض تماما لما تروجه وسائل الإعلام في كل مكان.إن تلك الوسائل تقول بغنى الناس وتخمتهم، وفي واقع الحال أنهم يعانون من الجوع حد بحثهم عن اللقمة في المزابل. وتقول بسمو أنظمتنا عن الرذيلة وهي مغرقة في الرذائل وتقول بديمقراطيتها وهي مؤسسة على الخوف والترهيب. وربما هذا هو ما شجع مخرجا كبيرا كالراحل المبدع عوني كرومي على إخراج هذه المسرحية مبينا أن حجم المأساة التي يعيشها الناس في هذا الزمان أكبر من الحد المعقول.ولذلك نراه قد وضع على خشبة المسرح عشرات الأجهزة الإعلامية التي يتوسطها مقعد المرافق الصحية في إشارة الى ما تفعله تلك الوسائل بطرق قذرة جدا.ومن ثم فان المسرحية تلقي علينا أسئلتها الآتية :لماذا لا نكافح الجوع بدل ترك الجياع مجبرين على سرقة لقمة تفضي بهم الى قطع أيديهم ومن ثم أرجلهم؟ ولماذا لا يمنح الجائع حق الجهر بجوعه؟ ولماذا يخاف الناس البوح بمعاناتهم وهم يعيشون ضمن أنظمة تدعي الديمقراطية ولماذا ..ولماذا..وتكثر الأسئلة وتتناسل من داخل النص الى خارجه لتشتمل على مفاصل أخرى من حياتنا المضجرة. ولكل هذا ومن اجله اختار زنكنه هذا الشكل ليصب فيه فكرته عن (صراخ الصمت الأخرس).
في مبحث المونودراما يستعرض الباحث أصل المصطلح المشكّل من مفردتي mono و drama وأهم الترجمات له فمنهم من ترجمه على انه (دراما الممثل الواحد) 0ne man showومنهم من ترجمه على أنه (المسرح الفردي) mono actor ومنهم من استحدث تسمية عربية له بدمج مفردتي (مسرحية) و (وحيد) لتصبحا (مسرحيد).وعلى الرغم من اختلاف التسمية إلا أن المعنى المراد من وراء هذه التسميات هو المسرحية التي يقوم بتمثيلها ممثل واحد. ويتفق الباحث مع الرأي القائل:
" إن بذورها وجدت منذ الدراما الأولى، ونلمحها في المشاهد التي كان البطل فيها في المسرحيات اليونانية القديمة ينفرد بالحديث مدة طويلة بينما ينصت الجميع له في صمت حتى ينتهي"
إن هذه البذرة يجب أن لا نعوّل عليها كثيرا لأنها ليست سوى نشاط درامي سابق لجنس المونودراما، وإن الظروف التي أدت إلى ظهور الممثل في المسرح الإغريقي كانت نابعة من الحاجة الماسة إليه. حاجة لم تتوقف عند حدود الممثل الواحد بل تعدته إلى اثنين وثلاث حتى أخذت المسرحية شكلها التقليدي. كما أنها افتقدت إلى أهم ميزات المونودراما ألا وهي أزمة الشخصية الوحيدة، فالأزمة في النصوص الإغريقية يتداخل فيها ما هو فردي مع ما هو جماعي ومن أمثلة ذلك مسرحية (اوديب ملكا) إذ تتداخل فيها أزمة اوديب (البحث عن السر) مع أزمة الشعب المنكوب (جراء ذلك السر).المسألة هنا أشبه بمن يريد أن يثبت أن المسرح عندنا تشكل من النشاطات ما قبل المسرحية التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة. وبغض النظر عن كل مميزات المونودراما الحديثة تبقى ميزة استبعادها القسري للآخر هي من أشد ما تؤاخذ عليه.وهي لهذا تحاول التخفيف من حدة هذه المؤاخذة عن طريق احضار الآخر أو ما يعوّض عنه داخلها كما هو الحال في مونودراما زنكنه الموسومة بـ (تكلم يا حجر) إذ تظهر على المسرح شخصيتان على الرغم من أن الشخصية الثانية تظل صامتة إلى نهاية المسرحية فضلا عن استخدامه للصوت الحي لشخصية نسمعها ولا تظهر على خشبة الأحداث. أما في مسرحية (مساء السلامة أيها الزنوج البيض) فان زنكنه يستخدم ما يعوّض عن الآخر كالحضور الافتراضي للزوجة وغيرها. ثم أن المسألة في النهاية ليست مسألة "خرق أحادية الصوت " حسب ،بل هي التعويض الفني عن الآخر الذي غيبه النص.
في ختام هذا المبحث يستنتج الباحث:
"أن هاتين المسرحيتين متشابهتان من حيث الموضوع "
ولا أعرف من أين جاء الباحث بهذا الاستنتاج غير الدقيق فلا تشابه بين الموضوعين ولا تشابه حتى بين الفكرتين والشخصيتين.
وعلى المنوال نفسه يتناول الباحث موضوعة المسرح الملحمي بالشرح والاستشهاد ومن ثم الانتقال الى ملحمية مسرحيات زنكنه التي يضرب لنا مثالا عليها بمسرحية (حكاية صديقين) ثم ليختتم دراسته باستنتاج عام مسك الختام فيه دعوة وجهها للإفادة:
"من هذه المسرحيات في تدريس مادة (العربية العامة) المقررة في كليات جامعاتنا،كنصوص أدبية"
نتمنى أن نكون قد حققنا ،بهذه القراءة، إضاءة الجوانب التي خفي بعضها عن باحثنا المثابر غنام محمد خضر أو التي فاته ذكرها في زحمة عنوانات مباحثه وموضوعاتها الكثيرة.وأن نكون قد وفينا ولو بجزء يسير من استحقاق كبير لكاتبنا المبدع الكبير محي الدين زنكنه علينا: كمتابعين، ونقاد، ومبدعين.