أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأحد، 9 أبريل 2017

بذور الدراما الرافدينية في عصور ما قبل التاريخ

مجلة الفنون المسرحية

بذور الدراما الرافدينية في عصور ما قبل التاريخ 

خزعل الماجدي


   تزخر عصور ما قبل التاريخ بالكثير من الآثار واللقى التي تبدو لنا مثل مرايا متماسكة في صندوق واحد يمكن النظر إليها ، عبر زوايا متعددة ، بحيث تعطينا في كل مرة منظراً مختلفاً  وصوراً معادة التأويل وفق طريقة النظر إليها.
    وتشكل آثار وادي الرافدين منذ العصر الحجري الحديث (النيوليت) وحتى مطلع العصور التاريخية أكثر الآثار خصباً وتنوعاً في الشرق الأدنى القديم. وإذا كان البحث في الفنون المادية والمظاهر الدينية لهذه الفترة يسيراً بعض الشيء، إلا أنه يبدو مستحيلاً فيما يخص الأشكال الدرامية وجذورها هناك. ولا سبيل إلى إدراك ذلك سوى ما يمكن أن نؤوله ونعزز به تلك الشذرات الموحية هنا وهناك.
    إن الفترة الممتدة من الألف التاسع إلى الألف الرابع قبل الميلاد في العراق القديم ليست بالفترة البسيطة فهي تعادل الفترة بين ظهور سومر حتى يومنا هذا.. وهي بلا شك تحتوي على الكثير من جذور وشعيرات الحضارات العراقية القديمة، ولذلك تحرينا فيها بدقة وأمسكنا ببعض ما يمكن أن نسميه التقدمات أو الجذور الأولى للأشكال الدرامية الرافدينية.
وإذا كانت سومر تحمل بذور الحضارات التاريخية في العراق القديم والعالم القديم بأكمله فأن الثقافات أو الحضارات الزراعية والمعدنية التسع(1) التي تسبق سومر حملت، هي الأخرى، بذور الحضارة السومرية. ولولا ذلك التراتب والنقلات الحضارية المتتابعة في هذه الحضارات التسع لم تظهر نواميس الحضارة السومرية التي كانت قاعدة العصور التاريخية بأكملها.
    لقد حاولنا الاستفادة في هذا البحث من طرائق المنهج الجدلي بمعناه العام في البحث عن الجذور الدرامية الأولى في عصور ما قبل التاريخ. فقد رأينا أن العصر الحجري الحديث (النيوليتNeolithe) بثقافاته الأربع، يحتوى على بواكير مادة الأشكال الدرامية الأولى بشكلها البسيط والمرتبط بالأرض، وخصوبة التربة، والقرية الزراعية، والمرأة، والإلهة الأم والتي سادت في القسم الشمالي من العراق واعتبرنا ذلك بمثابة الأطروحة (Thesis)، ولكننا عندما انتقلنا إلى العصر الحجري المعدني (الكالكوليت Chalcolithe) بثقافاته الخمس ( مضيفين له مرحلة العصر الشبيه بالكتابي أو الشبيه بالتاريخي)(2)، وجدنا أن وظيفة الأشكال الدرامية السابقة (النيوليتية) تنقلب أو تنعكس تماماً وترتبط بأفكار جديدة، تتمحور حول استعمال المعادن، وخصوبة الماء، وظهور المدينة والمعبد، وسيطرة الرجل، وبدء الانقلاب الذكوري في الدين. وكان المسرح الواسع لكل هذه التحولات جنوب العراق (وليس شماله كما في حضارات النيوليت) وبسبب هذه المتضادات الحضارية اعتبرنا ذلك بمثابة الأطروحة المضادة (Anithesis)، وهكذا نشأت من الصراع أو الجدل بين العصرين وحضاراتهما المتضادة حركة واسعة وقوية ومركبة، شكلت المادة الثقافية للعصور التاريخية في العراق القديم والتي بدأت بسومر، واعتبرنا ذلك بمثابة التركيب (Synthesis).
    ونرى أن حركة الجدل هذه لا تشمل الجذور الدرامية فقط بل تكاد تنطبق على مجمل أنشطة ومظاهر الحضارات العراقية ما قبل التاريخية ثم التاريخية. فقد نبتت في الثقافة النيوليتية العناصر الأولى، ثم ظهرت في الثقافة الكالوليتية مضاداتها، ومن صراعهما ظهرت عناصر الثقافة السومرية التي هي برأينا نتاج صراع وجدل طويل بين الثقافات والحضارات النيوليتية والكالكوليتية بكل ما حفلتا به من تضاد وتنازع.

العصر الحجري القديم (الباليوليت)
الأصول العميقة للعمل والدين والفن
    لا تسعفنا الآثار المستخرجة في وادي الرافدين والدالة على العصر الحجري القديم (الباليوليتPaleolithe) بمشهد دقيق وواضح يشير إلى أي مظهر من المظاهر الدرامية، ولكننا وقياساً على طرق البحث الاستنتاجية نرى أن هذا العصر حفل بظهور البذور الأولى للعمل والدين والفن.
    ففي العراق القديم ظهر العصر الحجري القديم الأدنى وأدواته الحجرية الكبيرة الأشولية في (بردة بلكا) في جمجمال، أما في العصر الحجري القديم الأوسط فقد ظهرت جماعات من البشر سكنت الكهوف في العراق، وفي كهف شانيدر ظهرت في أعمق طبقاته وهي الطبقة الموستيرية ثلاثة هياكل عظمية لإنسان النياندرتال (3) الذي كان يستعمل الأدوات المتوسطة الحجم، أما الإنسان العاقل فقد ظهرت ثقافته المنتمية للعصر الحجري القديم الأعلى والتي تسمى في العراق بـ(الثقافة البرادوستية)، أما العصر الحجري الوسيط (الميزوليت) فقد ظهرت ثقافة الإنسان العاقل في العراق في كهف زرزي (الثقافة الزرزية) حيث بدأ يستعمل الأدوات الحجرية الدقيقة.
    وكان الإنسان في كل هذه العصور قد تطور بطيئاً في أعماله وثقافاته. ولا شك أنه من خلال استعمال الأدوات الحجرية للصيد تعلم العمل، ومن خلال دفن الأموات عرف ملامح الدين الأولى، ومن خلال الرسم على الصخور وأحجار الكهوف عرف الفن. وهكذا اكتملت الدوافع الأساسية لتشكل الحضارة القديمة ما قبل التاريخية.
    إن أهازيج وترانيم العمل اليومي واكتمال حنجرة الإنسان وقدرتها على التصويت والكلام والغناء وظهور أول أشكال الموسيقى البدائية المنفذة بالصوت البشري والأغصان اليابسة والعظام وجلود الحيوانات.. كانت تحصيلاً طبيعياً لعلاقة إنسان الباليوليت مع الطبيعة ومع ظهور العمل والدين والفن بأشكالها البدائية.
    هناك من يرى مثلاً أن الموسيقى البدائية الناشئة عن غناء وإنشاد الإنسان يمكن أن تنتظم وفق طريقتين، اعتماداً على سلوكه ودرجة أنفعاله النفسي أمام أجوائه وظروفه الصعبة، حيث تعمد الطريقة الأولى على "ترتيل بسيط لبعض العبارات، تاركاً للكلمات المجال لتكون مركز الاهتمام الوحيد بغية إيصال المعنى المطلوب فهو إذن أسلوبٌ لحني تولد من موسيقى تتابع مقاطع كلماته، أو أنه وليد الكلمة ويصطلح عليه بـ( لوغوجينك Logogenic) . وقد ارتبط هذا الأسلوب اللحنى مع حالات استقراره النفسي وهدوئه وراحته وإطمئنانه.(4)
أما الطريقة الثانية فتتكون مع حالات ذعره وخوفه وهياجه وتوتره حيث تنطلق العبارات والكلمات والمقاطع منه متلاحقة بعنف بالغ القوة على شكل أنطلاقات عنيفة حيث تقل أهمية المعاني وتزداد أهمية التعبيرات الصوتية ويسمى هذا الأسلوب بـ(الأسلوب العاطفي أوالمرضي Pathogenic). وقد نشأ بين هذين النوعين الأسلوب اللحنى أو المثير (Melogenic) الذي استقل عن أسلوب الكلمة الأول وأسلوب العاطفة الثاني واعتمد على اللحن(5).
    وتصلح هذه التقسيمات لأي عصر حجري متواتر في مراحله، لأنها تعتمد على كلام الإنسان وأصواته وصراخه ورقصه وحركاته. ويمكن بالإضافة على ذلك استنتاج أن الإنسان في هذا العصر وفق عقيدته الدينية المرتبطة بالحيوان تأثر بالحيوان واعتبره تجلياً من تجليات (المقدس). وهكذا كان تقليد حركات الحيوان بمثابة شكل من أشكال التقديس والعبادة. وكذلك كانت طقوس صيد الحيوان وذبحه ودفنه واستخدام بعض أعضائه مثل القرون والجماجم والجلد والصوف والشعر كأزياء تنكرية كمحاكاة له، وقد كان ينبوعاً ثراً للعقائد اللاحقة.
    وفي هذه المرحلة التي ساد فيها السحر ورافقاها صيد الحيوان وتقديسه في الوقت نفسه، يمكننا أن نؤكد ظهور المكياج الأول وتخطيط وجه وجسم الإنسان، وخصوصاً عند زعيم القوم أو الشامان(6) الذي كان الكاهن والساحر والزعيم بغية تميزه عن غيره وزيادة في هيبة الطقوس السحرية والدينية ومن ضمنها الرقص وتقليد حركات الحيوانات، لقد كانت هذه العناصر التي تغرق في هيولي دينية وروحية بدائية هي التي اعطت البذور الأولى للطقوس الدينية ذات الطابع الدرامي والتي ظهرت واضحة في العصور اللاحقة.

العصر الحجري الحديث (النيوليت)
أشكال الدراما الأولى
    بعد أكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان واستقرار الإنسان ونشوء القرى والتجمعات الفلاحية حصل تحول نوعي في الطقوس والممارسات الدينية النيوليتية، فقد شدّها جميعاً إلى مركز واحد جوهر أساسي هو الإخصاب وظهور الإلهة الأم الممثلة لخصب الأرض.
وظهرت من خلال الممارسات الزراعية والدينية مجموعة من الطقوس التي يمكن عدّها بمثابة الأشكال الدرامية الأولى رغم أنها تحمل رسالة ثقافية عامة وهذه الطقوس هي:
1.   عبادة الإلهة الأم: طقوس التشبيه والمحاكاة
    أفرزت الزراعة ديانة الخصب النيوليتية التي كانت تستند بالأساس إلى عبادة الإلهة الأم، فحينما كان الرجل منشغلاً بصيد الطرائد وجمع القوت كانت المرأة الملازمة لأبنائها تقضي وقتها في جمع الحبوب ثم توصلت إلى تكثيره عن طريق دفن الحبوب في الأرض من أجل خزنه في بداية الأمر، لكنها فوجئت أن هذه الحبوب أنتجت نباتات تحمل أضعاف تلك الحبوب وهكذا تهيأ للمرأة القيام بأعظم اكتشاف في التاريخ وهو اكتشاف الزراعة. وقد قام الإنسان والرجل بصفة خاصة بربط عملية التكاثر عن طريق الزراعة بالمرأة فقط لأنه كان يعتقد أن قدرتها الخاصة بالولادة هي التي تجعلها مؤهلة للزراعة. ولم يكن الرجل آنذاك يعرف دوره في حمل المرأة، إذ من أين له معرفة ذلك طالما أن انتفاخ بطن المرأة وظهور بوادر الحمل ثم الولادة يأتي بعد شهور من الاتصال الجنسي بالمرأة..!!

  
الإلهة الأم في حضارة حسونة

    هكذا أصبحت القداسة تحيط بالمرأة، وكان لا بد من تصور قوة خصبة في الكون على شكل أنثى. ولأن الإنسان طابق بين المرأة والأرض، فلذلك نراه حصر القوة الإخصابية في الكون بالدمى الطينية المصنوعة على شكل امرأة وبالطبع كان شكل هذه الدمى على صورة المرأة البدينة المعافاة الخصيبة الحامل التي هي رديفة الأرض الخصبة المثمرة.
    هكذا ارتفعت الأم إلى مرتبة الألوهية وأصبحت الإلهة الأم لاحقاً تبدو وكأنها سبب إخصاب الأرض في العقيدة الدينية.

    إن الإنسان العراقي القديم قام أولاً بتشبيه الأرض بالمرأة البدينة ذات الأعضاء الجنسية الكبيرة كإلهة كبرى، بدلاً من الحيوان المقدس الذي سيطر على العبادة في العصر الحجري القديم. ثم قام الإنسان بعد ذلك بمحاكاة هذه الإلهة فأصبحت المرأة زعيمة القوم وكانت صفاتها بالضرورة القوة والخصب والصحة لأنها تناظر الإلهة الأم، وظهرت طقوس العبادة التي تحاكيها أيضاً.
    إن فعلي التشبيه والمحاكاة يحملان جوهر الدراما.. ونرى كذلك أن عبادة الإلهة الأم جرى في العصر النيوليتي في العراء وكانت الأرض التي يريد الإنسان زراعتها مسرحاً لها بالدرجة الأساس ولذلك كانت تماثيلها المخروطية الشكل ذات النهاية المدببة السفلى تُنبّت في الأرض أثناء عمليات الزراعة، أما التماثيل الهرمية الشكل ذات النهاية اسفلى المسطحة فكانت توجد في القرى والبيوت تبركاً بالإلهة الأم، وكانت هذه العبادة تشتمل على طقوس مختلفة تختلط معها الكثير من العناصر الدرامية والفنية والغنائية.

2.   المصارعة كطقس ديني درامي
    لم تكن المصارعة في العصور ما قبل التاريخية نشاطاً رياضياً بل ارتبطت جذورها البعيدة بالحياة الدينية.
    إن المرأة التي تزعمت النشاط الإجتماعي والسياسي والديني في الثقافات النيوليتية الشمالية في وادي الرافدين كانت تختار زوجها أو ضجيعها عن طريق إجراء منافسة قوى بين الرجال الأشداء ليكون الزوج جديراً بالمرأة الزعيمة.
    وكانت مسابقات المصارعة بين الرجال تجري كل عام قبل طقس الزواج المقدس الديني، حيث يتم زواج المرأة الزعيمة باعتبارها ممثلة للإلهة الأم من الرجل القوي المنتصر في المصارعة، وبزواجها هذا يُشار إلى إخصاب الطبيعة.
    إنه لمما يلفت الانتباه أن مشاهد المصارعة في الأعمال النحتية والتشكيلية تظهر في العصر السومري القديم (حوالي 2500-2235 ق.م) ثم تزول في العصور اللاحقة وهذا يدل على أن طقس المصارعة كان يمتد بجذوره إلى فترة قديمة أبعد من هذا التاريخ بكثير.
ويرى الدكتور (فوزي رشيد) أن المصارعة كانت جزءاً من طقوس استنزال المطر في شمال العراق حيث "توحي لنا بأن رياضة المصارعة في العراق كانت تمثل في أغلب الظن الأختبار الذي يختار من خلاله الكاهن الذي يأخذ على عاتقه مهمة استنزال المطر والذي يكون كذلك عريّساً في الزواج المقدس."(7)
    إن صفات الشباب والحيوية والسمنة هي التي تجمع بين العريس والمصارع وتشير إلى ما تمتاز به الإلهة الأم البدينة المخصبة، ولأن الزواج المقدس كان يحصل في ربيع كل عام لذلك كان سرعان ما يفشل الكاهن المصارع العريّس في الاختبارات القادمة لظهور رجل أقوى يليق بالكاهنة العليا الممثلة للإلهة الأم.
   

    ويذكرنا هذا الأمر بفكرة (الغصن الذهبي) في عبادة (ديانا) في نيمي حيث يتمكن الشخص الذي يكسر هذا الغصن من شجرة محرمة من منازلة الكاهن فإذا استطاع قتله فإنه سيحصل على لقب (ملك الغابة). وكانت ديانا تقوم بدور الإلهة الأم في هذه الشعيرة.(8)
    ويرى (فرويد) أن جذور هذا الطقس تكمن في تقاليد القردة العليا التي نزح منها الإنسان حيث القرد الأقوى الأعظم هو الذي يسيطر على إناث مجموعته حتى يتهيأ له قرد أقوى منه يقوم بقتله ويحتل مكانه.(9)
    إن هذه الجذور البعيدة توضح بما لا يقبل الشك أن طقس المصارعة يقوم على أساس ديني غذائي جنسي قبل أن يكون رياضة وأنه كان ،ذات يوم، شكلاً درامياً بما يحتويه من صراع ونظّارة ومشاهدين يشاهدونه وروح ديني يعطيه عمقاً طقسياً، وهذه ،من وجهة نظرنا ،تشكل جوهر الدراما وأحدى جذورها الأهم في العراق القديم.
    إن مشاهدة المصارعة الحرة التي نتعرف عليها بكثافة في العصر الروماني مترافقة مع الأعياد والاحتفالات الشعبية تمتد بجذورها إلى عصور قديمة جداً وربما إلى العصر النيوليتي الشمالي الذي يمكن أن يكون تقليداً تطورت صيغته عبر العصور، وتنوعت أساليبه وأغراضه كلما تقدمنا في التاريخ حتى تحول إلى مجرد رياضة حرة فقدت جذورها الدينية وتحولت إلى ممارسات دنيوية تدخل في إطار الألعاب الرياضية القديمة.
3.   استنزال المطر (الاستسقاء): الرقص الديني
    كشفت لنا الثقافة النيوليتية الشمالية وخصوصاً في سامراء في حدود الألف الخامس قبل الميلاد عن مجموعة من الآثار الدالة على ظهور طقس استنزال المطر (الاستسقاء). لعلّ أهمها ذلك الطبق الخزفي الذي تظهر عليه أربع نساء متقابلات تتطاير شعورهن من اليسار إلى اليمين (باتجاه عقرب الساعة) وهنّ في مظهر عار يؤدين رقصة واضحة أساسها نثر الشعور باتجاه الشرق (أنظر الشكل في بداية الفصل والشكل 3)، ويشكل مظهر النسوة وشعورهن ما يشبه الصليب المعقوف أو رمز السواستيكا الذي هو رمز الخصب الأنثوي الذي تمثله المرأة في نهاية عصر النيوليت ويجسد هنا علاقة المرأة بالخصب توسلاً بالمطر الذي هو أساس الزراعة في منطقة مثل منطقة سامراء التي تقع جنوب الخط المطري في وادي الرافدين.
وقد انتشر هذا الرمز انتشاراً واسعاً في العالم القديم انطلاقاً من وادي الرافدين حيث نجده وقد ترسخ في الحضارات الآرية ليدل على الخصب حتى جاءت النازية فاعتبرته رمز التفوق الآري وصار مع ممارساتها العنصري رمزاً للخراب والدمار.
  
الإلهة الأم السمكة ورمز الصليب المعقوف (سواستيكا ) الدال على الخصب الانثوي/ سامراء 6000ق.م

    إن النساء العاريات الأربع محاطات بثمان عقارب تسير وراء بعضها من اليسار إلى اليمين. وهذا ما يعزز علاقة المرأة بالإلهة الأم التي كان بعض رموزها العقرب والأفعى، فقد كانت الأفعى نموذجاً للتكامل الأنثوي عندما تضع ذيلها في فمها وتشكل الأوربورس الأول الذي خرج منه الكون، أما العقرب فقد كانت طريقة تفقيس البيوض التي في جسدها عن طريق شق العقارب الصغيرة لظهرها، نموذجاً فريداً للإلهة الأم التي كان أبناؤها يفترسونها بعد الولادة مضحية بحياتها. وكذلك رمزَ الإنسان الرافديني للإلهة الأم بالسمكة التي تظهر في الأواني الخزفية بدلاً من العقرب. وربما شكلت الجداء رمز السواستيكا بقرونها.
    إن هذه الآثار كلها تدل على أن ترميزة الاستسقاء هي السواستيكا أو الصليب المعقوف التي كانت منتشرة في ثقافة سامراء، وذلك لأن إنسان الحجري الحديث عندما هبط قليلاً جنوب مواقعه الأولى في (ملفعات) و(جرمو) و(الصوان) اكتشف أن الماء يعوزه في الزراعة وكان المطر هو المصدر الأول للمياه لأنه لم يكن قد عرف بعد السيطرة على مياه الأنهار والاستفادة منها في الزراعة.
    ولكن سامراء كانت جنوب خط الأمطار ولذلك تتذبذب فيها موجات المطر دون نظام معين ومن الأفضل القيام بطقوس سحرية لإسقاط هذه الأمطار، وتكاد رقصة نثر الشعور هذه أن تكون مثالاً جيداً لتطبيق قانون السحر الأول الذي هو القانون التشابهي حيث العلل المتشابهة تعطي نتائج متشابهة، فالنساء الأربع اللائي ينثرن شعورهن يقمن بتحريك الهواء والغبار في هذا الجزء من العالم (حيث يجري الطقس) مما يؤدي وفق القانون السحري إلى تحريك هواء العالم كله. وهو ما يجلب الغيوم ويجعلها تمطر خصوصاً أن المرأة هي التي تؤدي هذا، والغيوم والأمطار والمرأة كلها عناصر خصب.
    إن طقس الاستسقاء السحري هذا هو طقس درامي في جوهره لأنه يقوم على صراع  الخصوبة (المرأة وشعرها) مع الجفاف وتذبذب نزول المطر، ثم أن فيه عمقاً دينياً واضحاً، ولا شك أنه كان يجري تحت رعاية الكهنة (أو الكاهنات) والناس الذين يشكلون النظارة والذين يترقبون الطقس ويعيشون فيه.
    إن ما يؤكد هذه الحقيقة العثور على قطعتين خزفيتين أخريتين من سامراء أيضاً تشمل كل واحدة أربع راقصات متشابكات الأيدي يؤدين رقصة تكاد تشبه الدبكة العربية المعروفة، رجّح أغلب الباحثين أنها رقصة استسقاء أيضاً.
    ويذهب الدكتور (فوزي رشيد) إلى أن طقس الاستسقاء هذا هو جذر أعياد الأكيتو السومرية والبابلية ويدلل على ذلك من خلال العلامات المسمارية التي كُتبت بها كلمة (أكيتو) والتي تدل على تفسيرها على الاستسقاء حيث "أن أقدم صيغة لكلمة أكيتو جاءتنا بحدود 2400 ق.م على شكل (آ- كي- تي)، العلامة (آ) تعني الماء ومجازاً المطر و(كي) تعني الأرض و(تي) فعل بمعنى يقرّب، فيكون بذلك معنى الكلمة كاملاً (تقريب الماء إلى الأرض أي الاستسقاء"(10)
    إن طقس الاستسقاء الذي عرفنا أصله لم يبق على حاله في العصور اللاحقة وبعد أن أصبح الري في جنوب العراق عماد الزراعة، فهو لوحده أصبح ممارسة فنية تقليدية فقدت جذورها السحرية والدينية في حين ظهر طقس الأكيتو بشكل مركّب ومختلف تماماً، وهكذا ظل من بقايا ذكرى الاستسقاء النيوليتي ذلك الرقص الذي تمارسه النسوة أو الرجال ونلاحظ اليوم أن رقصات النساء ناثرات الشعور في فنون الريف العراقي ورقصات النساء والرجال المتلازمين الأيدي في فنون الريف والبادية العراقية هي بقايا ذلك الطقس السحري والديني القديم.

4.   الزواج المقدس: الاحتفال الدرامي الأول
    الزواج المقدس هو الطقس والعيد الأكبر في الديانة النيوليثية الشمالية حيث تقع المرأة الكاهنة في مركزه وهي تمثل الإلهة الأم استمراراً وتكريساً للدور العظيم الذي اكتسبته المرأة بعد الزراعة حيث مثّلت قوة خصب الأرض. ورغم أننا لا نملك الكثير من الآثار والوثائق التي تشرح لنا طبيعة هذا الزواج إلا أننا يمكن أن نستنتج أن زعامة المرأة للمجتمع الزراعي فرضت ظهور طقوس تأتي مع بداية كل سنة ربيعية يتم فيها زواج الزعيمة الممثلة بالكاهنة العليا من الزوج الذي اختارته من طقس المصارعة ليكون ترميزاً لإخصاب الأرض باعتبارها أنثى الأرض ورمزاً لها.
    وتشير لنا تقاليد الزواج المقدس السومرية إلى الكثير من الجذور القديمة له فهو زواجٌ إلهي بالدرجة الأولى ثم زواج ملكي يقوم به الملك والملكة وتقوم الكاهنة العليا بدور الزوجة الإلهة، ويمكننا الاستنتاج أن الكاهن الأعلى هو الذي كان يقوم بدور الزوج ولكنه لا يقوم بدور الإله بل هو القوي الساحر المؤثر الذي يجيد ممارسة الطقوس الدينية والذي يجب أن يدافع عن موقعه هذا مع بداية كل سنة بالمنافسة مع الرجال الجدد الذين يحاولون جمع صفاته وغالباً ما يتم هذا عن طريق المنافسة بالمبارزة والمصارعة وغيرها.....
    إن هذا الطقس كان يجرى وسط الزرع مع بداية الربيع وكان الناس يشاركون به، وكانت الملكة تقوم بدور تمثيلي درامي عن الإلهة الأم، وكان الكاهن يقوم بدور تمثيلي درامي على أنه قرينها.. فهو طقسٌ يشاهده نظّارة وله عمق ديني وفيه صراع وانتصار الخصوبة على أيام الشتاء القاسية.. إنه ترميز لصراع الفصول الذي كان ينتج أدباً وفناً وديناً شفاهياً متداولاً كما يقول بذلك الناقد (نوثروب فراي).

العصر الحجري المعدني (الكالكوليت)
انقلاب وظيفة الطقوس
    نرجّح أن الرجل، في العصر الحجري المعدني، قام بدور جديد وبثورة تشبه الثورة الزراعية في أهميتها وهي اكتشافه للمعادن، وقد ظلّ طيلة العصر الحجري الحديث تابعاً لهيمنة المرأة.
بعد أن أصبح (الصيد والرعي) وظيفة تقاليدية للرجل تقع على هامش الزراعة كان لا بد له من القيام بدور جديد خصوصاً بعد أن بدأ يتعرف على دوره الحقيقي في الإنجاب وبالتالي دور المطر في الزراعة (ولا شك أنه طابق بين وظيفة المني والمطر).. وهكذا وجد الرجل القوي ضالته في حجارة المعادن الخام التي قام بتطويعها واستخلاص المعادن منها، فالثورة الكالكوليتية ثورة رجولية نتج عنها فيما بعد مفردات دينية جديدة كثيرة، فقد حلت المدينة محل القرية وظهر المعبد مركزاً للمدينة وظهرت الحرف والعمارة والتجارة وتميزت الحياة الاجتماعية وازداد الدين تركيباً وبدأت العقيدة الدينية تزحزح دور المرأة المركزي فظهر الإله الأب والإله الإبن بجوار الإلهة الأم "وأصبح أب السماء في أهمية الربة الأم الأرض، وغالباً ما أصبح الناس يتصورون المطر في كثير من معتقداتهم على أنه المني الخصب لأب السماء ويرى العلماء أن سبب هذه التغيرات يرجع على أن الرجال قد اقتلعوا الأساس الاقتصادي لمكانة المرأة، فلم يقتصر الأمر على جعل الفلاحة عمل الرجال بل تمّ أيضاً حرمان النساء من دورهن في الحرف الأخرى فقد اخترع رجال المدن مثلاً عجلة كانت وسيلة أكثر فاعلية لصناعة القدور وأصبحوا في أكثر الحالات تقريباً صنّاع أدوات الحرف،،(11)
    وهكذا بدأ المشهد بالتغير تماماً وكأن اكتشاف المعادن كان مفتاحاً لقلب المشهد وتغيير رموزه وأصبح الأساس الاجتماعي الجديد مغايراً لما كان عليه في النيوليت فإذا كانت الأم مركز الأسرة فالرجل الآن مركز الأسرة وتوسّع مفهوم الأسرة اجتماعياً لتتكون أسرة جماعية هي القبيلة أو الجماعة المنحدرة من أب واحد وهكذا حل مفهوم القبيلة محل الأسرة (دون أن يلغيه) وأصبح الرجل زعيم القبيلة بالإضافة إلى كونه ربّ الأسرة الأول.
    إن الانقلاب الذكوري الذي أحدثه عصر الكالكوليت بكل ثقافاته (حلف، أريدو، العبيد، الوركاء،جمدت نصر) كان متواتراً سريعاً وسبب انقلاباً لكل مفاهيم العصر النيوليتي الشمالي، ولنتأمل ما حصل من انقلاب في وظائف الطقوس الدينية الدرامية التي أتينا على ذكرها في العصر النيوليتي:
1.   تغير مركز الإلهة الأم ولم يعد الوحيد في مقامه الديني بل شاركها الإله الأب والإله الإبن (الإله الذكر) وظهرت تماثيل الثور والثور الوحشي وذكور الماعز والأغنام، ففي ثقافة العبيد ظهر الإله الذكر يحمل عموداً صغيراً وظهرت الإلهة الأم وهي تحمل إبنها، كما أن شكل الإلهة الأم بدأ يميل إلى النحافة وبدأت المبالغات في رسم ونحت الأعضاء الجنسية تقل بل أن أجسام الذكور والإناث لم تعد تختلف إلا قليلاً، ومع اقتراب العصور التاريخية أصبح الإله الذكر في المركز وتعددت حوله آلهة كثيرة من الذكور والإثاث وأصبح لكل إله وظيفة محددة، ولم تعد الإلهة الأم تحتفظ بكل الوظائف، وهذا يعني أن مجال التمثيل والمحاكاة أتسع.. وأصبحت الطبيعة تتمثل بعدد كبير من الآلهة وازداد عدد كهان الآلهة.
           
                           
    إن محاكاة الآلهة أصبحت أكثر حضوراً من خلال الشعائر  الدينية والمنحوتات والأشكال الفنية والطقوس الدرامية، ولعلّ الخيال الرافديني الكالكوليتي ابتكر آنذاك أساطير خاصة حملت جوهر صراع واضح لكل إله ممثلاً بما يرمز إليه. ويمكن أن تكون هذه الفترة حاسمة في بلورة صيغة ما من صيغ الأسطورة الرافدينية الأم حول دور المرأة الذي يهمِّش الأم ويرفّع دور البنت أو العذارء وهو ما نلمحه لاحقاً في أسطورة (إنانا) وهبوطها على العالم السفلي.. ولعل هذه الأسطورة كانت تستعاد درامياً سنوياً بوقائع مشحونة بالعنف والحب معاً مع قدوم الربيع أو رأس السنة أو في احتفالات كهنية خاصة.
2.   عندما تغير مركز الإلهة الأم لم يعد هناك من ضرورة لإقامة سباقات مصارعة لاختيار الرجل القوي الذي يشارك الإلهة الأم أو الأنثى، بل لعلّ ا لذكر القوي كان يفرض نفسه بقوة من خلال مشاركته المرأة الحكم والمركزية، حتى اكتمل الانقلاب الذكوري بأن أصبح الرجل هو الملك الوحيد وكانت زوجته هي الملكة التي تتمتع بامتيازاته هو قبل كل شيء.. وبذلك فقدت المصارعة جذرها الديني وتحولت إلى رياضة عادية تقام في الاحتفالات أو الأعياد أولا لا تقام، أي أن هذا الطقس تحوّل من طقس ديني إلى ممارسة دنيوية وبذلك أكتسب صفة أخرى واندرج ضمن نشاطات الأعياد والأفراح والرياضة.
3.   إما طقس الاستسقاء الذي كان يجري لاستنزال المطر فقد فقد، هو الآخر، مبرره وأصبح الاعتماد، في الزراعة، على الري لا على المطر، ولذلك نجد أن الصيغة اللاحقة لكلمة (أكيتي) أي استنزال المطر تحولت واستقرت علامة الـ(أ) من علامة تدل على المطر على علامة تدل على الجهد والعمل والساعد. حيث أصبح العمل وشق القنوات وبناء السدود هو الأساس في الثقافات الكالكوليتية الجنوبية، وبذلك فقد الاستسقاء بعده الديني الروحي والعملي وتحولت مظاهره الرقصية على عمل فني أصبح يؤديه الناس الذين كانوا يقيمون على تخوم المدن والذين يمتازون بالترحال وهم الغجر والبدو، وتشير رقصات نثر الشعور والدبكات التي كانت أساس طقس الاستسقاء إلى رقصات ما زالت حتى يومنا هذا يمارسها الغجر والبدو، على التوالي، دون أن يعلموا هم ومن حولهم أن هذه الرقصات ذات جذور دينية غارقة في القدم.
4.   لا شك أن طقوس الزواج المقدس في هذه المرحلة شهدت تغيرات كثيرة فيما يخص مركز الكاهنة التي تمثل الإلهة الأم، ومركز الملك الذي أصبح يمثل الإله الأب، فقد مال هذا الطقس إلى الجانب السياسي أكثر من ميله إلى جذره الديني القديم. إلا أن هذا التحول لم يُحسم تماماً إلا مع مجيء الأكديين.
    ونرجح أيضاً أن طقوس تتويج الملك والزواج المقدس كانت ذكورية فقد أصبح الأمر معكوساً، وكان يتم اختيار الملكة عن طريق الكهانة فقد كانت عملية انخراط النساء في الرتب الدينية وتدرجهن فيه هو الذي يعطي لواحدة منهن وهي (الكاهنة العليا) الحق في الاقتران الموسمي بالملك.. وهكذا حلّت، في طقوس الزواج المقدس، الكهانة الدينية محل المصارعة بالنسبة للرجل اختباراً لاختيار قرينة الملك.
    ونرجّح أيضاً أن عقيدة نزول الإله الذكر إلى العالم السفلي وحلول الجدب ظهرت في هذه المرحلة لتشكل طقساً ذكرياً آخر وهو طقس الحزن الجماعي الذي يبدأ بعد موت الإله ونزوله إلى العالم الأسفل وهو ما ستشير إليه بوضوح المثولوجيا السومرية لاحقاً.
    إننا إجمالاً نودّ القول أن الطقوس الدينية الدرامية أصبحت في العصر الكالكوليتي تميل إلى أن تكون طقوساً دنيوية درامية.. ومن هذه الطقوس الدينية الدرامية ستنشأ الأشكال الدرامية في العصور التاريخية فقد أصبح الجذر الديني المتماسك بعيداً ضعيفاً واصبح بالامكان استعمال الطقوس المنحدرة من ذلك الماضي البعيد في اتجاهات أخرى. والمهم أن خلخلةً حصلت في وظائف ثم في أشكال الطقوس الدينية القديمة وسيتيح هذا الجدل الفرصة لنشوء أشكال درامية جديدة.


العصور التاريخية
الأعياد كدراما احتفالية كبرى
    يمكننا القول أن المرحلة التاريخية التي ابتدأت مع الكتابة شهدت في وادي الرافدين ظهور نمط درامي مركّب (ديني ودنيوي) في الوقت نفسه وهو: العيد. أما المسرح بالمفهوم المتعارف عليه فلم يظهر إلاّ مع الأغريق.
    وهكذا نرى أن الأعياد كانت حاضنة كبرى للدراما المسرحية التي تفتحت زهورها لاحقاً مع مجيء الأغريق، أما الشرق، قبل القرن السادس قبل الميلاد، فلم يشهد إلاّ ظهور الأعياد التي كانت تتضمن شحنات ولمحات درامية أدت فيما بعد إلى تفجّر فن المسرح.
    ظهرت الأعياد مع العصور التاريخية وكانت "كلمة عيد في اللغة السومرية هي Ezzen وتعني الفرصة والاحتفال الذي لا يتبط بوقت محدد من أوقات السنة، أما كلمة عيد في اللغة الأكدية فهي Isinnu ولها صيغة أخرى Issinnu وتعني كلمة Isinnu العيد الدوري الموقوت وقد استعمل الأكديون لفظة Um sinnu والتي تعني يوم العيد"(12)



    ونحن نرى أن كلمة (سنة) العربية مشتقة من الجذر السومري القديم (إيزن) أو (إيسن) لأن العيد كان مرتبطاً برأس السنة وهكذا يكون عيد رأس السنة أهم الأعياد قاطبة في وادي الرافدين.
    إن الأعياد تعد أهم شكل درامي في الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، ونرى أنها لم تتطور إلى الشكل المسرحي المألوف الذي نراه في اليونان.. أي أن المسرح بالمفهوم المتعارف عليه لم يظهر مطلقاً في وادي الرافدين (ولا حتى في وادي النيل).. بل كانت هناك نشاطات درامية احتفالية تشكِّل الأعياد شكلها الأوسع والأكمل.
    أن الأعياد وخصوصاً عيد (الأكيتو) هي الدراما الجماعية العفوية الكبرى التي كان الجميع يمارسها ويشاهدها في الوقت نفسه، وكان يقوم بأدوارها الرئيسية عدد كبير من رجال الدين والكهنة الكبار والملك والملكة، وكانت ذات وجهين: وجه ديني طقسي روحي يذكّر بالجذور النيوليتية لها، ووجه دنيوي فني مادي يذكّر ابلجذور الكالكوليتية لها. ومن دمج هذين المظهرين ظهرت الأعياد التاريخية الرافدينية باعتبارها البؤرة التي تجمع جميع أشكال الدراما الرافدينية ولكنها ظلت أسيرة شكلها الجمعي وأعرافها الخاصة بها، ولم تفرز على حدةٍ ما يمكن أن نسميه بجرأة بـ(المسرح العراقي القديم).

    إن عيد الأكيتو في جوهره مناسبة مثولوجية تطبيقية لاستعادة أساطير نشوء الكون والآلهة والإنسان وكانت الطقوس التي تجري فيه طقوس تأمل في الخليقة الأولى من جهة وطقوس عمل لإحراق وإلغاء الذنوب والخطايا من جهة أخرى وبما أن العام الجديد هو إعادة تعيين للنشكونية، فإنه يقتضي استعادة الزمن لبدايته أي بعث الزمن البدئي، الزمن النقي.. ذلك الذي كان يوجد في فترة الخلق ولهذا السبب، وبمناسبة العام الجديد، تجري التطهيرات لطرد الذنوب والشياطين أو ببساطة كبش المحرقة.(13)
    إن المسرح الشرقي القديم (العراقي والمصري والشامي) لم يكن مسرحاً بالمعنى الدقيق للكلمة لأنه لم يكن دنيوياً بل كان دينياً تتفاعل فيه الأساطير والطقوس لأداء دور ديني محدد. بل أن الطقوس نفسها كانت وسيلة لاستعادة الأساطير النشكونية الأولى وليس العكس. في حين أن الطقس في المسرح الدنيوي هو أحد أهم أهداف المسرح.
    أن أسطورة الخليقة البابلية (إينوما إليش) كانت تستعاد درامياً وكانت الطقوس هي العمل الحقيقي في الأعياد. أما الأسطورة فغاية يراد منها التذكير بدليل أنها تُتلى عندما تُمثل أحداثها "وفي الواقع إن المعركة بين تيامت ومردوخ كان يوحى لها بصراع بين مجموعتين من الممثلين، صراع احتفالي يوجد أيضاً لدى الحيثيين، ودائماً في نطاق سيناريو مأساوي للعام الجديد، لدى المصريين وفي رأس شمرا.. إلخ وكانت المعركة بين مجموعتين من المحتلين تكرر المرور من العماء إلى الكون وكانت تحيّن النشكونية. فالحادث الأسطوري يصبح حاضراً..(14).
    أن أية طقوس دينية أو أساطير أو شعائر أو أحداث صراع كبرى تصلح لأن تكون مادة درامية تمثل على حدة، ولكن ذلك لم يحصل بل بقيت كل هذه الأشياء لصيقةً بمشيمتها الدينية بشكل خاص ولم تنفصل كأجنّة مسرحية خاصة، وقد ظلّ حال التراث الدرامي الديني الاحتفالي في الشرق كله في هذا الإطار ومثال ذلك مصر والهند والصين وبلاد الشام ولم يحصل مثل هذا التطور النوعيّ إلاّ في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان عندما انفصلت الاحتفالات الدرامية عن الطقوس الدينية وتحولت إلى فن قائم بذاته هو: المسرح. ولنتذكر معاً أن مثل هذه الأعياد في اليونان كانت هي المادة الي أنفصل منها المسرح وظهرت لاحقاً منه تقاليد التمثيل والكتابة والإخراج الخاصة بالمسرح، ألم تكن أعياد الاحتفال بديونزيوس هي البذرة التي ظهرت منها شجرة المسرح الأغريقي، ومن هو (ديونيزيوس)؟ أليس هو ذاته (دموزي) السومري أو (تموز) البابلي أو (أدونيس) السوري أو (أوزيريس) المصري!! بل أن الكوميديا تحديداً كانت تقابل أعياد الفرح وزواج تموز من عشتار أيام الحصاد والربيع، وأن التراجيديا تحديداً كانت تقابل مآتم الحزن الجماعي على موت تموز وذهابه إلى العالم الأسفل أيام البذار والخريف وهو ما يحتاج إلى وقفة طويلة وبحث مفصل.
* * *
    لو راقبنا إجمالاً تطور النواة الدينية الدرامية منذ بداية العصر النيوليتي لوجدنا أن هذه النواة تتمثل منذ الألف الثامن ق.م في عبادة الإلهة الأم حيث عناصر الدراما في التشبيه والمحاكاة موجودة ضمناً في هذه العبادة، وكلما اقتربنا من نهاية هذا العصر وتحديداً في الألف السادس قبل الميلاد في سامراء نجد أن هذه العبادة تزداد كثافة وطقسية ويمثلها بالدرجة الأساس طقوس الزواج المقدس الذي ترافقت معه وشحنته طقوس أخرى ذات طبيعة درامية كالمصارعة والاستسقاء لتكون النواة الدينية الدرامية لنهايات العصر النيوليتي.
    وما أن حلّ عصر الكالكوليت حتى انقلبت العبادة والأفكار والعادات وحصل انقلاب مماثل في وظائف الطقوس الدينية فكان أن أنعكس ذلك واضحاً على الأشكال الدرامية النازحة من عصر النيوليت، وقد ظهر ذلك بشكل واسع مع قدوم العصور التاريخية حيث انفصل طقس المصارعة وتحول إلى رياضة بسبب فقدان مبرره الديني وانفصل كذلك طقس الاستسقاء لنفس السبب وتحوّل إلى نمط من الرقص الغجري والبدوي. (أنظر الشكل التخطيطي).



    أما عيد الأكيتو فقد أصبح الاحتفالية الدرامية الكبرى حيث هضم في داخله جميع الأشكال الدرامية السابقة في وحدة وسياق لا نظير لهما. ولم يمنع هذا من ظهور متدرج لأنماط من الدراما الطقسية البسيطة متمثلة في إعادة تشخيص نزول إنانا للعالم الأسفل.
أما على مستوى النصوص فنلمح فكرة الدراما المعبَّر عنها بالصراع في الملاحم والأساطير من ناحية وفي فنيين حواريين أدبيين (لا مسرحيين) من ناحية أخرى وهما (أدب البلبال) وهو أدب المحاورات بين أثنين أو الديالوج و(أدب الأدمندوكا) وهو أدب المناظرات والمفاخرات بين متقابلين. وقد ظهرت نصوص عديدة من كليهما في الأدب السومري والبابلي، ولم تُمثل هذه النصوص أو تنتج أدباً مسرحياً بل ظلت أدباً حوارياَ محضاً.

الهوامش والمراجع
(1)   الحضارات التسع في وادي الرافدين هي حضارات العصر الحجري الحديث الخمس (جرمو، الصوان، حسونة ، سامراء) والتي استغرقت (8000-4900) ق.م أي ما يقرب ثلاثة آلاف سنة، وحضارات العصر الحجري النحاسي (الكالكوليت)ومعهاالعصر الشبيه بالتاريخي الخمس(حلف، أريدو، العبيد، الوركاء، جمدت نصر) والتي استغرقت (4900-2900) ق.م أي الفا سنة. وتقع كل هذه الحضارات التسع في نهاية عصور ما قبل التاريخ.
(2)   العصر الشبيه بالكتابي أو الشبيه بالتاريخي (البرتولتريت) يمتد لحوالي 200 سنة (3100-2900) ق.م ويشمل مرحلتين هما (الوركاء الثانية، جمدت نصر) وهو مرحلة انتقالية بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية بسبب ظهور أول أشكال الكتابة الصورية.
(3)   انظر الرويشدي، سعدي: الكهوف في الشرق الأدنى. مجلة سومر/ المجلد 25ج1،ج2، 1969. مديرية الآثار العامة-بغداد.ص260
(4)   فريد، طارق حسون: تاريخ الفنون الموسيقية. جامعة بغداد. بيت الحكمة. بغداد 1990 ص36.
(5)   فريد، طارق حسون: المرجع السابق. ص38.
(6)   شامان (shaman) هو اصطلاح كان يطلق في الأصل، بين قبائل سيبيريا الرحل، على كل ما كان يزاول تطبيب المرضى، ثم انتشر فصار يطلق على التطبيب في كافة مجتمعات القط الشمالي ثم أصبح دالاً على الطبيب الساحر.
(7)   رشيد، فوزي: من هم السومريون. مجلة آفاق عربية. السنة السادسة العدد (12) آب 1981 ص86.
(8)   انظر فيزر، سيرجيمس: الغصن الذهبي (دراسة في السحر والدين) ج1 ترجمة د.أحمد أبو زيد. الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. القاهرة 1971. ص73.
(9)   انظر فروي، سيغموند: الطوطم والتابو. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة للنشر. بيروت 1982
(10)           رشيد، فوزي: من هم السومريون. مجلة آفاق عربية. السنة السادسة العدد  (12) آب 1981 ص85.
(11)           رايلي، كافين: الغرب والعالم. سلسلة عالم المعرفة الكويتية رقم (90) ص 61-62.
(12)           النعيمي، راجحة خضر: أعياد رأس السنة البابلية. مجلة سومر ج1 المجلد 46، 1989-1990 ص112.
(13)           إلياد، مرسيا: المقدس والمدنس. ترجمة عبد الهادي عباس المحامي، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع ط1 1988 ص63.
(14)           المرجع السابق .


المسرح التسجيلي في مصر: توثيق الحادثة الواقعية ومسرحتها

مجلة الفنون المسرحية

المسرح التسجيلي في مصر: توثيق الحادثة الواقعية ومسرحتها


د. حسن عطية 

مما لا ريب فيه أننا سنلتقي اليوم بكم وافر من الدراسات الجادة حول تاريخ ونظريات المسرح التسجيلي وتجليات افكاره وتقنياته بفضاء المسرح خلال نصف القرن الفائت من الزمان، تأكيداً على الجذور، وتفتيشاً عن التجاوزات، وقد فضلت في مداخلتي هنا ان اقف عند حضور المسرح التسجيلي او الوثائقي في مرأة المسرح العربي بمصر، متوقفاً عند ابرز من كتب وترجم وتحاور حول رؤيته وأعماله، ومتمهلا عند نموذجه في كتابة نص مسرحي مصري، يوثق فيه ما حدث من اهانة للعقل الانساني وللضمير البشري في سجن ابو غريب بالعراق، مستفيداً في ذلك بكل ما طرحه هذا المسرح من أفكار وما قدمه من تجليات، وما تطور به في مساره الطويل منذ ستينيات القرن الماضي، حينما بدأ نتعرف في مصر على المسرح التسجيلي، بقلم الشاعر والكاتب والمترجم واستاذ الطب البيطري د, «يسرى خميس»، حينما قام في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بعرض وترجمة ومناقشة ابرز ما طرحه فارس هذا المسرح الكاتب الالماني «بيتر فايس»، وفي عام واحد؛ هو عام 1967 المرير، قرأنا في مارس من هذا العام، وفي سلسلة (المسرح العالمي) مسرحية «بيتر فايس» الهيرة (اضطهاد واغتيال جان بول مارا كعرض قدمه نزلاء مصحة شارنتون) والشهيرة ب (مارا/صاد) اختصارا والتي كتبها صاحبها قبل ذلك بأربعة اعوام فقط، وقبل ان ينصرم العام، وفي ديسمبر، طالعنا على صفحات مجلة (الآداب) البيروتية مسرحيته الأخرى (انشودة غول لوزيتانيا) المعروفة باسم (انشودة انغولا) او (الغول) فقط كما عرضت بالقاهرة من اخراج المخرج المسرحي احمد زكي.

ومنذ ان ترجم د. «يسرى خميس» هذين النصين في ستينيات القرن الماضي، ورغم كل التيارات المسرحية التي وفدت الينا من تعبيرية وعبثية لما بعد حداثية اليوم، ما زال للمسرح التسجيلي حضوره الطاغي في مناقشاتنا، فهو ابرز هذه الاتجاهات المتعلقة بعلاقة الفن بمتغيرات الواقع الراهن والماضي معا، ليس بهدف توثيق ما يحدث في الأمس القريب او البعيد بصورة فنية، وانما سعيا للكشف عن القوانين التي تحكم الحدث، والحقائق المختبئة خلف تفاصيله.

ان نموذجنا الذي نتوقف عنده هنا هو نص مسرحية (المسلخ) الذي كتبه د. «يسري خميس» عن مذابح العراقيين على يد المحتل وقواته من مرتزقة (البالك ووتر) وأتباعه من العملاء الوطنيين، خلال الغزو الاميركي للعراق عام 2003، انما يعيد طرح القضية التي أثيرت وتثار دائماً حول قدرة المسرح التسجيلي على البقاء والخلود، فاذا ما كان هذا المسرح مؤسسا على فعل توقيق الحاضر، ورصد تفاصيله الآتية، وتحليل وقائعه المعيشية، فما هي امكانياته في البقاء ومخاطبة أزمنة أخرى وجماهير قادمة في المستقبل؟

فحينما كتب «فاس» مسرحيته (مارا/صاد)، ستينيات القرن الماضي، كان هذا العقد يصطخب بالثورات الوطنية التي اجتاحت العالم، وصاغت رموزها التي كانت صورها ايقونات لفعل التحرر من قوى الاحتلال السياسي والاقتصادي، كصورة الثوري المناضل خارج الأنظمة «تشي غيفارا»، الذي عادت صوره اليوم معلقة برقاب شباب وعلى جدران بيوتهم وأسطح موبايلاتهم مثيرة الدهشة حول جيل لم يعش ولم يعرف هذا المناضل الذي ترك كرسي الوزارة ليموت بغابات بوليفيا وسط الثائرين!!. غير ان هذه الثورات الوطنية، التي نشدت الحرية لمجموع الشعب، أجلت في مسيرتها التقدمية وفعلها في تحقيق العدالة الاجتماعية تحقيق حق الفرد في ان يكون حراً في ذاته، وفي ان يعبر عن ذاتيته هذه بحرية قد تنفق وقد تختلف مع حرية الجماعة، والتي تملك بقوتها الخاصة اكتساح الفرد وهرسه في طريقها، لذا نشأ الصراع الفلسفي والاقتصادي بين حرية الفرد المطلقة وحرية المجموع الكاملة، وسعى «بيتر فايس» لصياغة هذا الصراع دراميا في مسرحيته المذكورة، عائدا بنا لتاريخ اوروبا الذي يعرفه، منطلقا من شخصية «جان بول مارا» كنموذج ثوري من نماذج الثورة البورجوازية الفرنسية، والمؤمن بضرورة تحقيق الحرية الكلية لجماعة المجتمع، في مقابل شخصية «المركيز دي صاد» الساعي لتحقيق حريته الفردية، بغض النظر عن حرية المجتمع الذي يعيش فيه، ومنطلقا مسرحيا من زيارة تقوم بها مجموعة من الارستقراطيين لمصلحة (شارنتون) العقلية، والتي تقدم لهم عرضا مسرحيا، يقوم به بعض المرضى من تأليف واخراج المركيز دي صاد، المعتزل بذات المصحة، ويتمحور الحدث الدرامي حول الزعيم المغدور به من زعماء الثورة الفرنسية «جان بول مارا»، والمغتال بيد «شارلوت كوردي»، طارحا طوال مسيرة العرض المسرحي مناقشة جادة حول العلاقات بين السياسة والجنس والعنف، مركزاً على ذلك التضاد بين الحرية الفردية والحرية المجتمعية.

دخائل الشخصيات

وبالجدل بين الموقفين المدعومين بأقوال موثقة للشخصيتين الحقيقتين تاريخياً، وان لم يلتقيا ابدا الا في فضاء مسرحه المتخيل، وبتصور تحقق ذلك اللقاء في مصحة تزدحم بالشخصيات الحقيقية والمتخيلة، وتبيح بطبيعتها، كمصحة عقلية، ان تكشف عن دخائل الشخصيات المتحدثة والفاعلة في حركة الدراما التسجيلية، وتجعلنا نتعاطف مع هذه الشخصيات المتألمة من أجل ذاتها ومجتمعها وانسانيتها، يترك «فايس» للمتلقى المحتوى الدلالي للمسرحية ليستخلصه دون مباشرة من ذلك التعانق بين الموقفين، الذي يقف هو شخصيا موقف الحائر بينهما، لذا يعلن انه كالواقف بين مقعدين، لا يعرف بالضبط على أيهما يجلس، وربما كان يأمل في أن يجد له، مع البشرية، يوماً مقعداً ثالثاً يجلس عليه محققاً التناغم بين حرية الفرد وحرية المجتمع، فلا معنى لحرية فردية وسط مجتمع يعاني القهر والذل والانغلاق، ولا معنى لحرية مجتمعية تسحق حرية الفرد في أن يكون باختياره ذاتاً مبدعاً داخل هذا النسيج الجمعي المتحرر. لهذا إمتزج ما هو تسجيلي (آني) بما هو مستمر و(خالد) بهذا الطرح لموضوع التناقض بين رؤيتين للعالم، أطاحت واحدة منها بالأخرى منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، من دون أن تنجح في إبادتها، ومن دون أن تحقق للحالمين بحلم الحرية الفردية يوتوبيا العدالة الاجتماعية، بل وحق هذا الفرد الحر في أن يتعلم ويعالج ويعمل ويتزوج بصورة تحمي كرامته من الهرس تحت أقدام عجلة «آدم سميث» الاقتصادية.

لهذا ترك هذا النص واتجاهه بصمات واضحة على المسرح العالمي عامة، والمسرح العربي في مصر، خاصة في هذه الفترة الحرجة ما بين عامي 1867 و1973م، فحاول «عبدالرحمن الشرقاوي» الاستفادة من تقنيات المسرح التسجيلي في مسرحيته (وطني عكا) الدائرة حول القضية الفلسطينية، وظهرت المسرحية السياسية الوثائقية (النار والزيتون) لـ«ألفريد فرج» على المسرح القومي، مثيرة جدلاً حاداً في الساحة الفنية حول علاقة المسرح بقضايا الواقع الساخنة، خاصة القضية الفلسطينية، والتي أشعلت حركة المقاومة للفلسطينيين أنفسهم، وتماست مع حركات التحرر الثورية التي اجتاحت العالم خلال عقد الستينات، وتشابكت مع توجهات الأنظمة العربية المتباينة، والتي كانت تحاول أن تلملم أطراف ثوبها الممزق منذ هزيمة 67، وترتق الثوب بأفكار محافظة، وبتراجع عربي خافت الصوت عن ثورية الخمسينات وأوائل الستينات، فبدت المقاومة الفلسطينية وقتذاك شعلة تضيء للثوري المجروح طريق الخلاص، وتزيل الأقنعة عن المتقاعسين والمرتدين عن الخط الثوري، خاصة ومعارك الاستزاف ضد العدو الصهيوني في سيناء المحتلة قد حققت نتائجها المرجوة منها، والشارع يغلي بالرغبة في «إزالة آثار العدوان» بالقوة التي تحقق بها.

وظلت القضية الفلسطينية قابعة في عمق المسرح التسجيلي، فكتب اللبناني «عصام محفوظ» مسرحية بعنوان يماثل في طوله مسرحية «فايس» وهو (لماذا رفض سرحان بشارة سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟)، كما كتب «يسري الجندي» مسرحيته (ماذا حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر؟). غير أن الزمن تغير، واختصر الصراع العربي/ الإسرائيلي، الى خلاف فلسطيني/ إسرائيلي حول «أراض محتلة»، وفي عمقه برز صراع فلسطيني/ فلسطيني مثيراً للشقاق بين الثوار، وارتفع الاحتلال الأميركي للعراق ليحتل مكان الصدارة جانبه، وأحياناً أقوى منه لتشابك قوى دولية على الأرض العراقية، وانفجرت ذات يوم فضيحة سجن «أبو غريب»، وانفعلنا كلنا بها، وانتفض الشاعر بقلب المسرحي د. «يسري خميس»، وأرتج عقله غير مصدق لما يراه على شاشة التلفاز، عبر متابعة دؤوبة لكل ما انفجرت عليه هذه الحادثة التي جرت في زمن الصراخ بحقوق الإنسان في الحياة والمقاومة، وتبلورت الفكرة خلال أبرز متابعاته لأسرار ما حدث، وبخاصة متابعته اليومية لأكثر من عامين (2004 و2005) حتى الانتهاء من كتابة المسرحية منتصف عام 2006 لباب (أزمة السجون العراقية) على موقع BBC arabic.com بالإنترنت، ومشاهدته المواجهة المباشرة على «قناة الجزيرة» الفضائية مع البريجيدير جنرال جانيس كاربنسكي BG janis Karpinski قائد اللواء 800 للشرطة العسكرية الأميركية والمسؤولة آنذاك عن إدارة سجون العراق ومن بينها سجن (أبو غريب)، وكذلك المواجهة المباشرة على «قناة الجزيرة» الفضائية مع السيد «عبدالجبار العزاوي» أشهر المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، الذي تحولت صورته وهو مغطى الرأس بكيس أسود، فاتحاً ذراعية كالمسيح لتلقي الصدمات الكهربائية، الى رمز للفضيحة التاريخية. فضلاً عن الصور التي نشرها الصحافي الأميركي «سيمور هيرش» Seymour Hersh في مجلة (ذي نيويوركر) New Yorker Magazine وتناقلتها كل صحف ومجلات العالم، والوقائع المريرة التي نشرها في كتابه (القيادة الأميركية العمياء أو الطريق من 11 سبتمبر الى سجن أبو غريب). فجاءت مسرحيته هذه، التي إنتهى من كتابتها في صيف 2006، لتكون توثيقاً لهولوكست أميركي وقع ذات يوم على الإنسان العربي، غير القادر حتى على إثبات تدمير إنسانيته تحت نعال الأميركان.

التقرير الرسمي

ولأنها مسرحية تسجيلية كان لا بد وأن تعتمد ـ الى جانب المتابعة الحية المستمرة ـ على التقرير الرسمي للتحقيق الذي قام به ماجور جنرال «أنطونيو تاجوبا» MG Antonio M. Taguba لتقصي الحقئق في أحداث سجن (أبو غريب) ببغداد في يناير 2004، والواقع في 53 صفحة، والذي خلص فيه الى حدوث «وقائع متعددة لانتهاكات إجرامية سادية وجنسية واضحة». في السجون العراقية، ومنها سجن (أبو غريب)، الذي نشرت صوره وصارت صوره كالأيقونات الدالة على فظاعة الاحتلال، ونص (تقرير تاجوبا) على «إن المحتجزين في سجن أبو غريب في بغداد أجبروا على ارتكاب ممارسات جنسية وتعرضوا للتهديد بالتعذيب وللاغتصاب أو مهاجمتهم بالكلاب وتم إخفاؤهم عن الزيارات التي يقوم بها الصليب الأحمر «في خرق للقانون الدولي».

تعيدنا هذه الصياغة الدرامية لوقائع حدثت بالفعل للسؤال الجوهري الذي طرحناه في بداية مداخلتنا هذه حول قدرة المسرح التسجيلي على البقاء والخلود، ككل تيارات المسرح الخالدة من الإغريق حتى اليوم، إذا ما كانت طبيعته البنائية مؤسسة على فعل توثيق الحاضر، ورصد تفاصيله التي تدخل مع الزمن حقل التاريخ؟

فمن المسلم به أن الدراما المسرحية، وغيرها من فنون الدراما المرئية، تقوم على مبدأ إعادة صياغة الفعل الواقعي، ماضياً كان أم آنياً، في بناء جمالي يتأسس داخل السياق الاجتماعي القائم، ويستهدف التأثير في المجتمع الحي، فيخاطب جمهوراً يعرفه، ويكون حاضراً في هذه البناء الجمالي بزمنه وقيمه ورؤيته للعالم؛ شاء مبدعه أو تصور أنه ينفلت منه لعوالم فانتازية يبتدع معها أفعالاً خيالية سابحة في سماوات طوباوية، فحتى الفعل المتخيل له قاعدته الواقعية، ويصاغ لغاية واقعية، والمدن الفاضلة ما هي إلا موقفاً نقدياً من الواقع الراهن.

إذن فالإبداع في مجال المسرح التسجيلي، يمنح الوثيقة بعدها الجمالي، ويحول الراهن الزائل لمستمر خالد، ويحضر التاريخ فيصير بفضاء المسرح واقعاً معاشاً، وذلك لأن الفعل في حقل الدراما حاضر بطبيعته، لا يروى بلسان (راو) خبير كما في حقول التاريخ والسياسة، ولا يحكى بلسان (سارد) يعرف كل شيء عن موضوعه وشخصياته كما في حقل الرواية والقصة، بل هو يحدث الآن ويسير حتى نهايته أمامنا، خلال سويعات قليلة يتتبع عبرها المتلقي مسار الفعل ومصير المتعلقين به، ويتفاعل معهما بوجدان مشتعل وعقل يقظ، ويقتطف في النهاية الفكرة المبثوثة عبر هذا العمل بأكمله. وهي في جوهرها رسالة موجهة للجمهور المشاهد اليوم، وحاملة رؤية المبدع له فيما يتعلق بقضاياها التي يعيشها، وينتظر من الفنان أن يشاركه الرأي فيها، باعتباره مثقفاً فاعلاً في مجتمعه، تعلم و تثقف وخبر الحياة، لا ليدفن رأسه في رمال الأمس، بل ليلعب دوره في تنوير عقل المجتمع والعمل على تغيير واقعه الى ما هو أفضل.

النص الدرامي في المسرح التسجيلي هو توثيق جمالي لوقائع حياتية، ومسرحة فنية لأحداث وقعت في الماضي البعيد أو القريب، يأخذ من هذه الوقائع الحياتية ارتباطها الوثيق بلحظتها الزمنية، ويأخذ من الدراما قدرتها على الخلود والتجدد من كل زمن تقدم فيه، وكمكل مجتمع تخاطبه، ومن ثم سيظل المسرح التسجيلي قادراً على البقاء، طالما قابعاً في حقل المسرح، مستخدماً أدواته الجمالية لتواصل مع جمهور أتى إليه لا لكي يتلقى درساً في السياسة أو محاضرة تاريخية، بل لكي يتحاور مع مسرح ساخن وثائر ومثير للجدل.

----------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصدر :  الندوة الفكرية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الحادية والعشرين

الجمعة، 7 أبريل 2017

التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث

مجلة الفنون المسرحية

التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث

د . جبار جودي العُبُودي 


إن التطور الحاصل في حقل الفنون المسرحية من الناحية التقنية والتكنولوجية لم يكن بمعزل عن التطورات التقنية في جميع المجالات الحياتية الإنسانية، لكن مايميّز التكنولوجيات في حقل الفنون هو ارتباطها بجانبين مختلفين أحدهما هو الجانب النفعي الذي يحقق المنفعة الاستعمالية الخالصة، وهو يسير باتجاه مكاسب الاختراعات الصناعية والالكترونية، وهذا الأمر يكون بطبيعة الحال مرتبطاً بالجانب الحياتي والمعيشي بشكل عام، أما الشق الثاني فإنه على درجة كبيرة من الأهمية، وذلك لارتباط التكنولوجيات بالجوانب الحسية والجمالية في حقل الفنون عامةً ومجال المسرح خاصة، فعلى سبيل المثال، عندما نقوم بتغيير أحد فيدرات الإضاءة المبرمجة لأحد المشاهد، فإن الإيقاع التكنولوجي التقني لهذا التغيير ينعكس جمالياً وفنياً وفكرياً على خشبة المسرح عن طريق صنع عوالم خيالية متكاملة في الفضاء المسرحي للتعبير عن مختلف الثيمات المقصودة، كذلك فإن رفع وخفض الديكورات في المشاهد المسرحية مرتبط بالجانب التكنولوجي للمسرح، لكن عند تنفيذ ذلك، فإنه سوف يسهم بتحقيق مديات جمالية وحسية مرتبطة بالجانب الفكري للشكل والمضمون فوق الخشبة، إذ تسهم التكنولوجيات كعمليات تنفيذية أدائية آلية في تحـــقيــــق جماليات غير مسبوقة على مستوى عالٍ من الإتقان يشترك بها خيال الفنان ورؤاه المتميزة .
قد يتبادر الى الذهن التصور الذي يقول بأن التكنولوجيا هي معطى تقني آلي، وهذا بطبيعة الحال فرض عياني، لكن الصور المتحققة باستخدامات هذا المعطى، تفرز خطاً مستقلاً للجمالية والفكر والتأمل، إذ " شهدت الساحة الفنية نوعاً من السحر التكنولوجي على خشبة المسرح (..) ظهر بوضوح أن أفضل النتائج يمكن الحصول عليها عندما تنجح التكنولوجيا في التحول من الترقيع الى التجميل "(1) ، أي أن تكون تدخلاتها جمالية خالصة وليست عيالاً على العـــــــمل الفني أو مقحمةً فيه، لذلك استثمر العديد من فناني المسرح الحديث الجانب التكنولوجي في المسرح لإبراز رؤاهم الجمالية وعرضها بطرق مختلفة أسهمت في تكوينها تقنية التصورات الذهنية الإبداعية مشفوعة بالاستخدام التكنولوجي الأمثل للمهارات والخامات والمعدّات، حتى أصبحت تقنيات المسرح تشابه (جراب الحاوي) أو صندوق الساحر الذي يستدعي كل الغرائب من خلاله، إذ ان "تعبير تقنيات حديثة يبدو وكأنه جراب توضع فيه كل الأشياء ويرمز الى الشيء الجديد الذي يبدو أنه من التقنيات "(2) ، هذه التقنيات هي التي تسهم، بالاستخدامات الصحيحة لها ، في اثراء الشكل الفني المعبّر في عالم الفن المسرحي، فالمسرح ماعاد تقديمات تقليدية لمؤدٍ يحفظ دوره ويلقيه على مسامع الجمهور في مقدمة المسرح، بل أصبح ساحة للتنافس الشديد في جذب المتفرج من عوالم السينما والتلفزيون والمنافسة لهما من ناحية الإمكانات التكنولوجية التي تزيد من غنى العوالم الفنية المسرحية.
التقنيات الحديثة عندما تستخدم لخدمة المسرح، فإنها تأتي برؤى جديدة وآليات جديدة ، فالتقنيات تنمّي فكرة الخوارق باستدعائها للخيال الذي يحلّق في غير المألوف وغير المتوَقّع، كذلك لم تعد هذه التقنيات ضرورية لتقديم العرض المسرحي فحسب، بل تقوم بتوفير إمكانات جديدة لإتاحة الرؤية الخيالية سواء بالنسبة للمشاهد أو الممثلين (3) ، فالعرض المسرحي هو صناعة عوالم أخرى تختلف عن الواقع المحيط أو تشابهه، انها عوالم خاصة مصنوعة بحرفنة عالية، وبذوق الفنان وحسه الجمالي الأصيل وبخيالاته التي تصل الى أفق متقدمة في التجربة الإنسانية، إذ يقودنا العرض المسرحي الى " استكشاف كيفية تحوّل الخيال، أو مايفوق الخيال الى واقع، وهو يدفعنا الى استكشاف العلاقة بين الواقع وبين الصور المختلفة التي نعرف من خلالها هذا الواقع (..) العرض المسرحي مجال غريب لانألفه، يشبه عوالم الأحلام "(4) ، هذه العوالم تشخص الى الوجود وفق خيالات الفنان التي بدأت التكنولوجيا بتحقيقها ، فما كان سابقاً يشبه المعجزات في إمكانية تحققه أصبح الآن وبفضل التكنولوجيا المتقدمة، يتحقق بضغطة اصبع واحدة، وخصوصاً في مجال الضوء الذي يتم التحكم به الكترونياً عن طريق المكسرات الحاسوبية البرمجية الحديثة.
أما على صعيد التصورات الفكرية، فلقد أدرك كل من آبيا وكريغ، أن قابلية المسرح للتجريد تفوق كافة الإمكانات الفنية على صعيد البناء الذهني للتركيبات الصورية والمشهدية فيه، فالتجريد له القدرة على امكانية فرز بيئات خيالية أو واقعية لاتشابه في طبيعتها الواقع بالنسبة للمنظر المسرحي أو مستوى التخيّل عن طريق الإيحاء، إذ يوفّر التجريد توظيفه للمكان كمقابل مرئي للأحداث، ولقد كانت ( إضاءة الكهرباء ) هي الأداة المهمة والرئيسة في تحقيق هذا التغيير المهم في الخارطة المسرحية العالمية، إذ عن طريق استغلال مساحة الأداء الثلاثية الأبعاد وتوظيف الإمكانات التشكيلية للضوء، تلك الإمكانات اللا نهائية في تنويع وتركيز وضبط وتوجيه مصادره وحدّتها ونعومتها أضحت بديلة عن التكاليف الباهضة لإقامة المناظر المسرحية الضخمة، إذ بدأ المصممون يوظفون المساحات والعلاقات مابين المكان المضاء والمظلم ومابين الممثل والصورة المتخيلة للشكل والمضمون، إذ أدرك كل من آبيا وكريغ قوة الإضاءة الكبيرة في تشكيل المكان وتنويع فضاء العرض(5) .
لقد سعى فنانو المسرح منذ الإغريق الى الوقت الحالي، في إيجاد سبل مناسبة وطرق وأساليب عمل كفيلة بإيصال الأفكار والصور المتَخَيّلة الى المتلقي في العرض المسرحي عن طريق استخدام التكنولوجيات المختلفة والتي كانت سابقاً تدخل في باب الآلات البسيطة، أما الآن وفي خضم الإيقاع المتسارع للمتغيرات الكونية، أضحت التقنيات التكنولوجية من الحيوية بمكان، إذ لايمكننا تصوّر عرض مسرحي في الوقت الحالي بلا تكنولوجيات الضوء والصوت والمؤثرات البصرية، والكثير من الممكنات التي أتاحتها أجهزة الحاسوب في نقل الصورة .
(1) أنطونيو بيتزو: المسرح والعالم الرقمي، تر أماني فوزي حبشي ، القاهرة : (وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي) ، 2007 ، ص32 .
(2) لوسيل جاربانياني وبيير موريللي: المسرح والتقنيات الحديثة ، تر نادية كامل ، القاهرة : ( وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي)، 2007 ، ص248 .
(3) يُنظر: المصدر السابق ، ص7 و ص15 .
(4) جوليان هلتون: نظرية العرض المسرحي، تر نهاد صليحة ، الشارقة.

------------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

سامي عبد الحميد المفتاح الذهبي لحداثة المسرح العراقي

مجلة الفنون المسرحية

سامي عبد الحميد المفتاح الذهبي لحداثة المسرح العراقي

صلاح القصب 

أزمنة مضيئة كانت تشعّ كفوتونات ضوئية رسمت خارطة كبرى لحداثة قائمة على معادلات زمنية، هذه الخارطة التي صمّمها المخرج سامي عبد الحميد، سمحت لتجاربه الإخراجية أن تتنوع كهارمين موسيقي في الارسال، وماذا تريد مخيلته أن ترسم وماذا يريد أن يرسله عبر مستويات آليات بث صوري اعتمد شفرات النص كمنطلق لمتحولات ومتغيرات، فالبعد الجمالي في تجاربه لم يكن نتيجة بل هدفاً لتحقيق علاقة الفنان – الذات الداخلية بالمحيط الكوني، ولا يرى أن هناك انغلاقات وحجباً تفصل المخرج عن العالم الموضوعي أو عالم الظواهر.  
لذا فإن تجارب معلمنا الكبير سامي عبد الحميد، ترفض التجريد الخالص، كما أنه لا يراهن ماهية الشكل كقيمة منفردة ولا بتلك الثنائيات بل تجاوزها الى انشاء كوني بلاستيكي للإمساك بالمعنى الخلاق، لأنه لا يعتقد أن الاهتزازات والإيقاع وعلاقات الشكل يمكنها أن تغمر المخيلة بأصداء الواقع ولا يريد أن يعبر بتجاربه الإخراجية عبر الرمز والمجان والاستعارات البصرية. بل استعادة مخيلة الشعر وفوتونات اللوحة التشكيلية وحركة الرليف النحتي ليرسم تضاريس جديدة لمسرح عراقي، يشع كقوة الفيزياء الضوئية لخطاب عرض مسرحي داخل مساحات التحديث التي تجعل من المسرح فوتوناً ضوئياً يسمو بفضاءات جمالية كقوة موج بصري، لذا فإن اعماله الخالدة نمت وتأسست في محيطيها الانساني والثقافي، وتفاعلت مع حقول الترددات الموجية الحداثوية لمسارات عالمية كانت معادلات موجية تدرك كينونتها الجمالية. اعماله تجولت في مدن عالم المسرح لمعادلات جديدة تشكلت في فضاءات مختلفة في حقول ومدن وتضاريس أشرتها، الشر له رأسان. هاملت عربياً . وانتيكون بيت برناد البا. الحيوانات الزجاجية، القرد الكثيف الشعر، عطيل في المطبخ، تموز يقرع الناقوس والخادمات، انتظار كودو، المفتاح، وكم من أعمال أخرى خالدة. الخارطة الإخراجية اشبه بالخرائط المعمارية للعصر الباروكي وقوة العمارة شكلاً، وهندسة أشبه بمعمارية قصر فرساي الخالد واقتربت من الاكتشافات الهندسية الجديدة في تصميم العمارة التي هندستها وصمّمتها المعمارية الخالدة زها حديد لإنشاء مكون معماري بصري جديد، تجاربه خلخلت أفق التوقع عند المتلقي كما جعل من تجاربه أن تمتلك روح العصر وثقافته. 
سامي عبد الحميد رمز وطني وثقافي كبير شكل خارطة جمالية لمسرح عراقي حداثوي شكّل مدناً جمالية ترتقي لعلو ومجد عالمي، تجاربه عرفت كيف تتعاقب خارج الاستنساخ والتكرار انها قوة انبثاق للحلم لترددات، لموج، للون، لمساحة، لفضاءات الكتلة وقوة التكوين وقوة السحر، كانت حضوراً مزدوجاً حضور الابداع وحضور طاقته (كمخرج) حداثوي خلاق، منجزه الفني حقول كمية هي الاقرب الى معادلات اشتغلت لتحقيق مركب فني مبهر لمعادل خلق ابداعي، تجربته الاخراجية الممتدة الى اكثر من نصف قرن اشتغلت ضمن مستويات الطاقة للمركب (الفني – العرض) والتي اشتغلت ضمن قراءات التحليل لماهية العرض كمركب يحدد البلاستيكا التشكيلية كخطاب جمالي، كشكل حسي للعرض وهو انشائيات الوحدة السينوغرافية في فيزيائية العرض بصرياً .
طاقة الرمز الكبير سامي عبد الحميد تحركت ضمن مستويات المركب الادائي، فكان ممثلاً كبيراً ممثلاً استثنائياً وكانت طاقته الادائية انشاءً فضائياً مركباً، فكان اداؤه لشخصية، لير، والتي استقبلها الجمهور تصفيقاً لمدة اكثر من خمس واربعين دقيقة، كان ساحراً في أدائه للخال فاينا والشقيقات الثلاث، واغنية التم والمتنبي. كانت قراءاته كممثل قراءة تحليلية جديدة في اسلوبية الاداء كان اشبه  بالساحر اشبه بالمهندس المعماري اشبه بالروائي بالشاعر بالتشكيلي بالموسيقي، ادائه كان فيضاً من الطاقة لرؤيا جديدة للمكون الادائي بتداخل الموجات الصوتية والجسدية ليصل إلى طاقة الفكر إلى النشوة الجمالية إلى أبعد حدود الطاقة لتحقيق حالة الانبهار في كل لحظات الاداء. 
أداؤه كان يمتلك كل الجزيئيات وتفاصيلها كان الممثل المفكر الذي يمتلك فلسفة وفسلجة الجسد بكل جزيئياته وتفاصيله، ان يفكر ومن خلاله أن يكون تفكيره آنياً تنبعث منه الحرارة المتحركة والمتغيرة باستمرار، هذا الاداء ليس فعلاً داخلياً انما هو شيء يمكن أن تتحسسه وتراه عن قرب، كما يمكن أن نحس حرارة انفعالاته المصمّمة بقصدية مركزة مثل هذا المركب الأدائي ليس سهلاً، لأنه يركز على وجود الممثل المفكر التشكيلي الذي يرسم الجسد وطاقة الموج الأدائي كما في مسرحية لير والشقيقات الثلاث والخال نانيا، سامي عبد الحميد رسم اداء الممثل الحر المتحرر من خوفه.
الكبير سامي عبد الحميد ظاهرة من الصعوبة أن تتكرر، لأنها تحتاج آزمنة، انه الطاقة الخالدة كطاقة تلك الموجات الخالدة، انه المفكر والباحث والمترجم والاكاديمي والممثل والمخرج، إنه الأب الروحي لكل الأجيال، انه طاقة الحداثة وطاقة التجريب، انه الموج المشعّ، سامي عبد الحميد المفتاح الذهبي لمسرحنا العراقي.

-----------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 


كلية الفنون الجميلة في ديالى تقدم عرضا مسرحياً

مجلة الفنون المسرحية

كلية الفنون الجميلة في ديالى تقدم عرضا مسرحياً

قدمت كلية الفنون الجميلة في ديالى وبالتعاون مع منظمة المسرحيين العراقيين عروضاً مسرحياً وعلى قاعة الملتقى الثقافي في كلية الهندسة ضمن فعاليات مهرجان ايام ديالى المسرحية
 اذ قدمت مسرحية قضية ظل الحمار اعداد واخراج د. أبراهيم نعمة وتمثيل نخبة من فناني محافظة ديالى التي تناولت موضوع الجهل والتخلف اللذان يؤديان إلى انتشار الخرافة والفساد والظلم، وانعدام  فرص التكافؤ بين أبناء المجتمع الواحد، إذ يصعب تحقيق النمو الاقتصادي والثقافي، فالجهل عدو الإنسان لأنه كثيرا ما يؤدي به إلى الهلاك. واهمية العقل في بناء الانسان بشكل حضاري ويساهم في تطوير المجتمع .








---------------------------------------
المصدر : كلية الفنون الجميلة في ديالى 

أيمن زيدان ينجح في إدخال السعادة إلى جمهور المسرح رغم المآسي السورية والأخطار المحدقة!

مجلة الفنون المسرحية

أيمن زيدان ينجح في إدخال السعادة إلى جمهور المسرح رغم المآسي السورية والأخطار المحدقة!


رغم كثافة القذائف التي ألقيت على مدينة دمشق في الساعات الثمان والأربعين الماضية ، تابع الجمهور السوري عرضا مسرحيا مهما من إخراج الفنان السوري أيمن زيدان ، وقد تم العرض على خشبة مسرح الحمراء ..

وكان العرض مسرحية “اختطاف” التي أخرجها الفنان السوري أيمن زيدان، وhgjd عرضت منذ أسبوعين على خشبة مسرح الحمراء وسط المدينة ، وقد مدد عرضها إلى العاشر من شهر نيسان الحالي رغم الحالة الأمنية التي تعيشها شوارع المدينة التي تتعرض لقذائف الهاون !..
وقد نجح الفنان أيمن زيدان في إدخال الحيوية للمسرح الذي يمضي معظم أيام السنة باردا دون أي صوت أو حيوية مسرحية، وقد تبدى ذلك واضحا من كثافة الحضور التي غطت مقاعد الصالة في كل أيام العرض ..
وتحكي مسرحية ” اختطاف ” التي اقتبس الفنان زيدان أحداثها عن نص للمسرحي الإيطالي داريوفو يحاكي حادثة اختطاف الألوية الحمراء لرئيس وزراء إيطاليا عام 1978 من أجل الإفراج عن ثلاثة من الإرهابيين، إلا أن الحكومة رفضت التفاوض والمقايضة فما كان من المنظمة إلا أن أعدمته..
هذه الحادثة المأساوية ، كانت مفتاحا لأحداث مسرحية كوميدية بنى عليها الممثلون السوريون ببراعة نجحت في إدخال السعادة على الجمهور الذي عرف بمحبته للفنان زيدان مخرج العرض ..

-----------------------------------------
المصدر : هاشتاغ سيريا

الخميس، 6 أبريل 2017

غنام غنام يقدم مونودراما "سأموت في المنفى" في متحف محمود درويش

الموهبة وحدها العيار الذي يفرض نفسه ...مسرح مركز الابداع بوابة عبور النجوم للجمهور

مجلة الفنون المسرحية


الموهبة وحدها العيار الذي يفرض نفسه ...مسرح مركز الابداع بوابة عبور النجوم للجمهور 

كتبت / علا احمد حلمي 

نجح  نجاحا ساحقا مشروع  " الاستوديو " الذي يقدمه مسرح الابداع الفني  التابع لصندوق التنمية الثقافية والمسرحية  
 والذي يستعد  خلال ايام تخريج الدفعة الرابعة  من " استوديو المواهب "  من  خلال  عرض مسرحي  
فعلي مدار ١٤ عاما  من النجاح استطاع  مشروع الاستوديو تقديم العديد  من الاسماء اللامعة  التي اشتهرت 
علي الساحة الفنية المسرحية المصرية  
اذ يدرس الطلبة  التي يتم اختيار الاكفاء منهم بغض النظر  عن العمر والمؤهل  ويتم استبعاد ابناء الفنانين الذين لا يملكون الموهبة  فيدرس الطلبة الغناء والالقاء والاستعراض والاخراج والسلوكيات يوميا علي مدار ثلاث سنوات  ويتقدم لهذا المشروع اعداد ضخمة  ومن يقع عليه الاختيار يدرس في هذا المشروع مقابل اسعار ليست بالكثير 
ومن اشهر العروض المسرحية نتاج ورشة التمثيل والارتجال  بمشروع   الاستوديو  مسرحية " قهوة سادة "  حيث قدمت علي مدار  ٣٦٥  ليلة عرض مسرحي  وشاهدها اكثر من ٤٥  الف متفرج  ومن اشهر الفنانين الذين  تخرجوا من مركز الابداع بيومي فؤاد  ونضال الشافعي  وهشام اسماعيل  وايمان السيد ومحمد فراج ومحمدممدوح  وامير صلاح ومحمد ثروت  ونجوم مسرح مصر 

أنطونيو وكليوباترة يزوران شكسبير في ستراتفورد

مجلة الفنون المسرحية

أنطونيو وكليوباترة يزوران شكسبير في ستراتفورد


المخرج إقبال خان يعود بتراجيديا الحب والسلطة عبر مسرحيته 'أنطونيو وكليوباترة' التي تتسم بالروح العنيف والإبهار.

في مسقط رأس شكسبير، ببلدة ستراتفورد-ابون-آيفون وعلى خشبة فرقة شكسبير الملكية تم افتتاح تراجيديا شكسبير الخالدة “أنطونيو وكليوباترة”. سوف يتواصل عرض الدراما حتى السابع من سبتمبر القادم وستعرضها دور السينما البريطانية في عرض حي في الرابع والعشرين من شهر مايو القادم.

يلتقط مخرج المسرحية إقبال خان خيوط القصة بعد اغتيال يوليوس قيصر وتربُّع أنطونيو على السلطة. أنطونيو، المنتفخة أوداجه من فرط الزهو، يرمي حينذاك بخيوط الإمبراطورية في سبيل حياة من اللهو واللذة مع كليوباترة.

ولتمكُّن الحب من كل حواسه تنبذه ألمعيته العسكرية ويفضي الغرام إلى الخاتمة التراجيدية المحتومة. تلك القصة التي أهلكها الشعراء وكتاب المسرح على مدار عقود. ماذا في جعبة خان إذن ليعرضه في عام 2017؟ وكيف تتباين النسخة الشكسبيرية عن نسختنا هذه؟


لا نلمح أثراً عصرياً للعهد الحالي

نسخة عتيقة

اتسمت نسخة خان بالروع العنيف والإبهار، فقد أجاد استخدام أدواته من موسيقى مهيبة وإضاءة تطرح ظلالاً موحية وملابس فخيمة رغم تقشف ميزانية المسرح الملكي. كما جاء ديكور روبرت إنز هوبكنز خلاقاً، فقد أحسن استغلال المساحات مستغلاً خشبة المسرح كمنصة وميدان عمومي وحفرة عميقة بل وغرفة بخار تلمّ شمل القادة العظماء.

ومع أن خان أعاد سرد القصة سرداً اعتباطياً دون احترام كامل للترتيب الزمني تبدّت، بمعنى ما، كزاوية منمّقة ضاربة في العتق للمسرحية المكتوبة منذ مئات السنوات، وكأنما يعتبرها “وثيقة تاريخية” مثلما أشار الناقد المسرحي مايكل بيلنجتون، وكأن الاثنين، خان وشكسبير نهلا من المصدر نفسه في تأليف المسرحية، أي فصل “حياة مارك أنطونيو” من كتاب “حيوات أنبل اليونانيين والرومان” للمؤرخ اليوناني بلوتارخ.


رؤية تاريخية مهلهلة

المعيب أننا لا نلمح في المسرحية أثراً عصرياً للعهد الحالي، لا التكنيك ولا الحبكة، والأهم أنها لا تقدِّم لنا رؤية عميقة لمفهوم السلطة وقيمتها في القرن الحادي والعشرين.

كانت المسرحية حين كتبها شكسبير أطول من أن تحويها خشبة المسرح، ولم تزل مع خان واسعة القماشة منتزعة السياق. تُهنا في ثناياها ومتاهتها الدائرية فكان وكأننا نشهد فصلاً ونصفا من مسرحية لم نطالع منها إلا سطوراً معدودة رغم أننا قضينا نحو ساعتين ونصف داخل هذا المسرح.

ولكن ما أخذه خان وما تركه أمر ولا ريب مختلف عليه. فالعديد من كتّاب المسرح المعاصرين يختزلون شكسبير لحد الإخلال. إذ لا يثقون بما يمكن أن نُطلِق عليه النصوص “المُدمَجة”، وهي نصوص رقَّعها كتّابها ترقيعاً أخرق من نسخ أو مراجعات سابقة.

ومثله مثل شكسبير يظْهر خان مولعاً بالتناقص بين الفن الشعري والطبيعة في عهد جيمز الأول. ولعلّ الفرق بينه وبين شكسبير في التناول هو أن شكسبير وجد شكلاً جماليا يجمع بين فوضى الطبيعة في إطار التاريخ على حين كان خان معنياً بالامتداد المحض للتجربة ذاتها، فجاءت مسرحيته لتخفي في طياتها أشكالاً درامية تدعو إلى تهمة اللاشكل!

غالباً ما يستسهل إقبال التعامل مع كلاسيكيات شكسبير على مسرحه إلا أنه أحياناً ما يجد من مادته ما يستحق إلقاء ضوء جديد مثلما كان الحال مع مسرحيتيه “جعجعة بلا طحن” عام 2012 و”عطيل” عام 2015.

يتعاطى في مسرحيّتنا هذه مع حالة العشق بتعاطف مبالغ فيه. يناقش أعداء القائد الروماني ما شاء لهم النقاش سلوكَ أنطونيو “عديم الرجولة” في صحبة ملكة النيل، يتفجّع فيلو الجندي الروماني بدرعه الجلدي ونبراته المتكلّفة التي صبغت مونولوجات المسرحية بـأسرها، “وسوف تشهدون فيه عاموداً ثلاثياً يدْعم العالم، ولكنه يتحول إلى أحمق المومس”. والأحمق هو أنطونيو ولا شك الذي يقوم بدوره بافتعال خطابي الممثل البريطاني أنطوني بيرن.

خان يكاد يهمل الجانب السياسي من حياة كليوبترة. بل إنه يرسمها ذات مرة ساذجة سياسياً، "أواه يا عهد الغرارة حين كنت خرقاء في أحكامي، باردة الدماء"
ولكن كليوباترة ليست مومساً وإنما سياسية ترفض الانضواء تحت لواء الرجل، امرأة ذات “تنوع لا نهائي” مثلما ينعتها إنوباربص صديق أنطونيو الصدوق بحروف متقطعة.

يرى المجتمعُ البطريركي المرأةَ القوية شائنةً يرمقها بعين الشك ويرميها بالالتواء. فهي عشيقة تارة ومخادعة تارة أخرى، ومَن مثْلها لن تجمع ولا محالة بين الطهر الأخلاقي والصلابة. الحق أن كليوباترة اليوم تتقطع بين الفينة والأخرى بين الغيرة القاتلة والوسواس الأعمى. تتمحور حول ذاتها المجنونة وتقفز من العنف العشوائي إلى نبرات الحب الخفيضة في ثوان.

وربما كان السبيل الوحيد لرجُل الأمس ورجل اليوم إلى امتلاك السلطة هو أن يبصرها من زاوية الشبق والشهوانية. وقد جعل خان ساحلَ البحر معبّراً عن حياة بوهيمية أخذ بأسبابها القائد الروماني وملكة مصر، فكان الموقع الكائن على خلفية من السّماوات الزرقاء موقع شعَر فيه العشوائي بالحميمية والجامح بالفن.

تحكي جوزيت سايمون، الحاصلة على رتبة الإمبراطورية البريطانية من الملكة إليزابيث والتي لعبت دور كليوباترة باقتدار، أن أحد أساتذتها نصحها ألا تعلِّق آمالاً عالية على العمل في فرقة شكسبير الملكية، ثم أردف مفسراً “للونها الكاريبي”.

وقد كان من المفهوم وقتذاك حثّه لها على البراغماتية، إذ لم تقم ممثلة سمراء حتى ذلك الحين بلعب دور البطولة في أيّ مسرحية لشكسبير بالفرقة الملكية.


كليوباترة أفريقية

كليوباترة هنا سمراء البشرة لا قمحية فنتوه في أصلها وفصلها، وإنما سمراء بجدائل خشنة، سمرتها تلتمع بالتضاد مع رداء ملكي ذهبي اللون. الواقع أن ملكة مصر لم تجر في عروقها نقطة دم مصرية، وإنما كانت يونانية من مقدونيا.

ومنذ جسدت الإنكليزية البيضاء بيجي أشكروفت دور كليوباترة في نسخة المخرج الإنكليزي جلين بيام في الخمسينات من القرن العشرين، لم نر كليوباترة إجزوتيكية ببشرة سفعتها الشمس في عرض كبير مثل هذا العرض، وذلك بالرغم من قدرة العاطفة والبلاغة الدرامية على تحدي الحقيقة والتاريخ ذاته.

نسختنا هذه طالها “التصحيح السياسي” تتحدى عينيّ إليزابيث تيلور البنفسجية وتستدعي قصيدة الشاعر الأسترالي كلايف جيمز “حيث يلتقي البحر بالصحراء” الذي يقحم فيها عدة أبيات عن عبد كادح -ربما لم تعد منه جدوى- قذفته إحدى السفن والعشيقان يلهوان في ماء البحر:

“سبح أنطونيو وكليوباترة بمرسى مطروح في مياه ضحلة، زرقاء اللون صافيته/تخيَّل الرمال النظيفة، بلا مهملات، بلا زجاجات بلاستيك أو فضلات من العلب/لا شيء طرحته المراكب على الإطلاق/عدا جثة بين الفينة والأخرى/عدا جثة عَبْد مستعمَل مرمي من مطبخ سفينة”.


آثر خان في عمله تحاشي الجدل السياسي

روما تتهاوى

يكاد خان يهمل الجانب السياسي من حياة كليوبترة. بل إنه يرسمها ذات مرة ساذجة سياسياً، “أواه يا عهد الغرارة حين كنتُ خرقاء في أحكامي، باردة الدماء”. وكثيراً ما نصطدم بها مراهِقة تغلبها النزوة، شبقة في إيروتيكيتها، تحاول بلا كلل اغتصاب عيون الجميع نحوها.

الحق أنها كانت ماكرة مكر الرجال في ثكنات الحرب كما في المعترك السياسي. وقد فات خان أن يذكر أن رخاء عمّ على يديها، تلك المرأة التي يتلون صوتها بالسلطة الساحقة تارة وبهدهدة خفيضة تارة أخرى. وفي الأغلب أهمل أن ينتقد إضاعة الزوجين لمملكتيهما، بل وإضاعة فرصة أكيدة لإحلال السلام على شعبيهما. هل عدِما أيّ طموح أو حكمة؟ الثابت أن أنطونيو على الأقل تنازعته الحسرة والندم على إمبراطورية راحت منه وهو في سكرة الحب.

يتفجّع خان مرّ التفجع على عشيقين راحا ضحية للهوى. تنفض الأحداث وهما يخوضان علاقة جسدية أخيرة هرباً من الشيخوخة والموت. ينبس أنطونيو بلهجة المستبدّ العتيد وهو يتباهى بفحولته الجنسية في رداء روماني فضفاض أمام الدرجات الرخامية للمباني الرومانية العامة، “دع روما تذوب في نهر تايبر، وقنطرة الإمبراطورية مترامية الأطراف تتهاوى: هنا مكاني”.


تحاشي السياسي الملغوم

لعل خان آثر تحاشي الجدل السياسي الملغوم وتفاصيل التكتيكات الحربية، واختار أن يلقي أغلب شباكه -عدا حوار هنا أو هناك- على حبائل الغرام. انتهى بأن خاض الاثنان مصيراً أعمى من الانتحار. والقيصر يؤكد “سيدفنها أنطونيو حبيبها، فلا قبر على وجه الأرض يسعه أن يطوِّق زوجين في مثل هذه الشهرة”.

وبعدها، وبمنهج متثاقل مسلوب الإيقاع على اقتضابه، أطلعنا خان على التبعات المهلكة لإمبراطورية تتفسّخ أمام أعيننا في حال من الشغب والفتنة. ينتهج شيئاً من المثالية السياسية وهو يذكر كيف قضى الاثنان على مسيرتهما التي انتهت بزحف أوكتافيوس على مصر ليتلاشى عهد البطالمة ويحكم أوكتافيوس العالم الروماني بلا منافس.

وفيما بين صخب الجياد وأبّهة أروقة القصور، والشعارات السياسية تتساقط، ينكشف الوجه الحقيقي للمستبد، ونلفي في هذه المسرحية تذكرة كلاسيكية من جعبة شكسبير بأن ألاعيب مجلس الشيوخ ومكائده والتفات القائد عن كرسي الحكم وشواغله، ولو في سبيل الحب، قد يقضي على أمّة ويعرِّض أجيالاً متتابعة لا تسْلم من البراءة إلى حرب ضروس.

----------------------------------------------------
المصدر : هالة صلاح الدين -  العرب 

'ضجيج وحنين' مونو دراما مسرحية تروي مآسي العصر

مجلة الفنون المسرحية


'ضجيج وحنين' مونو دراما مسرحية تروي مآسي العصر

يقدم صناع العرض المسرحي “ضجيج وحنين” مساحة جديدة للمسرح الراقص، وهو الذي ولد على يدي المسرحي السوري أبوخليل القباني منذ ما يزيد عن المئة عام بين سوريا ومصر، وفي العرض حكايات عن الحنين وخيبات الأمل التي يمكن أن تتعرض لها إنسانة، فتواجه عقبات في حياتها تجعلها في منعطفات قاسية، لتصل إلى نهايات مأساوية خطيرة.

حنين إلى الماضي وترقب للحظات حب يتحولان إلى جريمة اغتصاب، تدفع ثمنها امرأة وحيدة، يصل بها قهرها الداخلي إلى محاولة الانتحار بعد أن فشلت كل محاولات استحضار الحنين إلى الطفولة بفعل شيء ما، ذاك هو تقريبا ملخص العرض المسرحي السوري الراقص "ضجيج وحنين" المنتج من قبل المسرح القومي في سوريا.

وقالت راما الأحمر، الفنانة التي أدت تمثيلا ورقصا الدور الوحيد في العرض، الذي صمم رقصاته محمد شباط "كان فرصة لي لكي أجسد دورا تمثيليا، بعد ظهوري أكثر من مرة كفنانة في فن الرقص"، وتمنت أن يتابع الجمهورُ العرضَ بأدق تفاصيله، كونه يحكي عن مكنونات امرأة قاست الكثير في حياتها، وأكدت أنها قدمت جهدا مضاعفا في عرضها المسرحي الأول، مع نخبة من الفنانين الذين قدموا لها كامل خبرتهم في سبيل إخراج العرض على الشكل الأمثل.

وقال معتز ملاطيه لي مؤلف المسرحية ومخرجها “في الزمن الغريب الذي نعيشه، وغربة وبلادة الروح اللتين نعاني منهما نتيجة ما يحدث في واقعنا ومجتمعنا، أردت في المسرحية إعادة طرح أسئلة قديمة، ووخز جبل الجليد الكامن فينا والمنسي.. هنالك أشياء جميلة في ماضينا، نحن إليها، لكنها محاطة بالضجيج والفوضى، ولا بد من امتلاك سبيل للوصول إليها”.

العرض عده المتابعون خطوة جريئة في تقديم الجديد والمختلف في مسيرة الفن المسرحي السوري
واعتمد العرض المسرحي على الحركة الموقعة على موسيقى خاصة وضعها أثيل حمدان عميد المعهد العالي للموسيقى بدمشق سابقا، وعازف آلة التشيللو في الفرقة الوطنية السيمفونية، وفي ظهور منفرد لممثلة واحدة استغرق كل زمن العرض “مونو دراما”، وهو شكل جديد لم يعتد المسرح السوري تقديمه في عروضه السابقة، فما اعتبره البعض “مونو دانس” في هذا العرض المسرحي هو برأيهم خطوة جريئة في تقديم الجديد والمختلف في مسيرة الفن المسرحي السوري.

وعن هذه الفكرة والطرح ومقدار تقبل الجمهور لها يقول ملاطيه لي “ما قدمناه ليس عرضا راقصا، بل مسرح راقص، فهناك شخصية وأحداث تتصاعد للوصول إلى مكان ما، والجمهور هو الذي سيتفاعل مع هذه الأحداث وينسجم معها بطريقته وتجاوبه، أما مسألة تقبل الجمهور لهكذا عروض فالموضوع مرتبط بالتكرار والتعود، فكل جديد لا بد أن يرفض أولا، لكنه مع الوقت يصير واقعا ومطلوبا، وتاريخ المسرح السوري يثبت ذلك”.

ويضيف “كثيرة هي الأفكار الجديدة التي قدمت، بعضها بقي والآخر لم يبق، لكن الجمهور يجب أن يعرض عليه المختلف والجديد، طبعا الحقيقي منهما، لكي يعرف أن هنالك مسرحا وأفكارا إبداعية جديدة ستقدم، ومن خلال التكرار في برمجة العروض سوف يتعود عليها وتصبح من متطلباته الفنية، هذا ما عودنا عليه الجمهور في المسرح”.

والفنان معتز ملاطيه لي هو أحد أهم المبدعين في فن الرقص في سوريا، يشغل الآن منصب رئيس قسم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية، درس فن الرقص في تشيكيا وعاد إلى سوريا عام 1990، وتحصل على شهادة مصمم رقص دولي من أميركا عام 1994.

وتسلم ملاطيه لي العديد من الفرق، منها فرقة “زنوبيا” التي قدم معها العديد من ورشات العمل في سوريا، وأسس فرقة “جمرة للرقص الحديث”، ثم فرقة “باتا للمسرح الإيمائي الراقص” في براغ، كما كان مشرفا على دورات الباليه في المعهد العالي للفنون المسرحية، وشارك في العديد من المهرجانات العربية والدولية كمصمم للرقص، وأقام ورشات العمل في الرقص الحديث في براغ ودمشق ومصر، وله مشاركات في أكثر من خمسين عملا مسرحيا كمصمم للرقص أو مخرج أو ممثل يؤدي رقصات تعبيرية، علاوة على مساهماته في مشاركات في فن الأوبريت الخاصة بالأطفال، وكذلك في العديد من الأعمال التلفزيونية المختلفة

---------------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب 

'الجسد الشعري' تقنيات التحكم في الجسد وضبط الحركة والإيقاع

مجلة الفنون المسرحية

'الجسد الشعري' تقنيات التحكم في الجسد وضبط الحركة والإيقاع

مازالت وضعية الممثل في المجتمع تثير الكثير من الجدل، فالبعض يراه معيباً ولا أخلاقياً، والبعض الآخر يرى فيه تجسيدا للحلم الاستعراضي، بأن يكون الشخص محط الأنظار سواء على الشاشة أو على خشبة المسرح، وبعيداً عن المظهر الحسن أو الغريب أو الأداء المفتعل أو الواقعي، مهنة التمثيل ليست وحياً ولها أنبياؤها، هي وليدة العمل والتدريب المستمر، وهناك مدارس مختلفة لها كلّ منها تطوّر أدوات الممثل الجسديّة والنفسيّة ليصل حد الاحتراف.

تقنيات التمثيل لا تعني مجرد حفظ الدور المفترض والقيام بالحركات المطلوبة والمبالغات الجسدية، فتطوير التمثيل كفن ومهنة لطالما كان هاجس العاملين في المسرح من منظرين وممثلين على حد سواء، في المنطقة العربيّة وعلى الصعيد العالمي وخصوصاً إنتاجات هوليوود التي تشتهر بـ”الواقعية النفسيّة” الطاغية على باقي التقنيات بوصفها محاكاة دقيقة للواقع.

إذ تأسست التقنية في روسيا على يد قسطنطين ستانسلافسكي ثم انتقلت إلى أميركا في بدايات القرن الماضي، مقدّمة لنا جيلا من الروّاد والمبدعين تركوا بصمة لا تنسى في تاريخ التمثيل، كروبرت دي نيرو ومارلون براندو وإليا كازان وآل باتشينو، والذين يعتبرون تجسيداً لمنهج الواقعية النفسية وتقنياته في إعداد جسد الممثل وطبيعته النفسية والعاطفيّة.

منهجية مغايرة

مهنة التمثيل من أصعب المهن وبالرغم من أن الكثير يحلم بها لكن الوصول للاحتراف يبتعد عن الموهبة والوحي
بالرغم من شهرة الواقعية النفسيّة إلا أن هناك مناهج أخرى تقترح تقنيات مغايرة ومقاربات مختلفة لتمارين الجسد والاستعداد النفسي والعاطفي، ومؤخراً أعادت دار أكت سود الفرنسية طباعة كتاب المخرج والممثل والمنظر المسرحي جاك لوكوك بعنوان “الجسد الشّعري”، والمترجم للإنكليزية أيضاً بعنوان “الجسد المتحرك”، والذي لم تعرفه المكتبة العربية المسرحيّة حتى الآن، فلوكوك يقدّم تقنيات الارتجال واللعب وبناء الحكاية عبر مقاربات تختلف عن تلك المعتادة في معاهد التمثيل في المنطقة.

يرى لوكوك أن كتابه هذا تعليمي لا فقط في مجال المسرح، بل يمكن أن يساعد أيضاً الأشخاص العاديين والمهتمين والعالمين بمجال الاستعراض بأن يتحكموا في أجسادهم لضبط حركاتهم وإيقاعها، فالمنهج الذي يقترحه يمتد لسنتين، يبدأ بـ”سيكولوجيا الحياة الصامتة” مروراً بالتمرينات الجسدية والقناع لتنتهي بضبط مفاهيم الكوميديا والتراجيديا والمهرجين والكوميديا دي لارتي، التي يتضح تأثره بها بسبب عمله في إيطاليا كمخرج وممثل مع عدد من الفرق المسرحيّة.

المنهج حسب تعبير لوكوك يدور حول ثلاثة محاور لإعداد الممثل، الأولى هي إتقان مهارات الجسد عبر ما يسمى “الأكروبات الدرامي”، بحيث تتطور مهارات الممثل الجسدية بما يفترض مبررات منطقية لها حسب الحالة المفروضة، وإلا هي مجرد حركات مجانية لا فائدة منها ولو كانت متقنة كالمهارة الرياضية، وهذه التبريرات الدرامية تبدأ من رمشة العين حتى الحركات المعقدة المرتبطة بالدور.

المحور الثاني هو القناع، وبصورة أدق القناع المحايد، الذي يتيح للممثل بناء الشخصية وحركاتها وانفعالاتها العاطفية بناء على التجربة الجسدية والحسيّة، ثم الارتجال، بوصفه التقنية المرتبطة بـ”إعادة اللعب”، وإعادة خلق الأدوار والمواقف والتخلص من التأثيرات والحركات المجانية من جهة وبناء المتماسك للدور من جهة أخرى، وذلك عبر سلسة من الألعاب المرتبطة بالصمت أولا ليدخل بعدها الكلام والتبريرات المرتبطة بالصوت واللفظ والمعنى.


كتاب تعليمي لكل من يرغب في امتهان التمثيل

يقدّم لوكوك في الكتاب بنية مفاهيمية متامسكة إلى جانب سلسلة من التعليمات العملية المرتبطة بفن التمثيل، وخصوصاً أنه يؤكد أن تقنيات “اللعب” لا ترتبط بجنسية أو لغة أو بنية جسدية معينة، بل هي تمارين عاطفية وجسدية للوصول إلى الصيغة الخاصة بالتعبير، إذ يختلف عن ستانسلافسكي في بناء الممثل، بوصفه يحرره من سطوة المسرح وكل الاعتبارات السابقة، وهذا ما يتضح في تقنيات القناع المحايد، واللعبة الشهيرة التي ابتدعها، وهي أن يستيقظ أحدهم واضعا قناعاً محايداً وينظر في المرأة، فما سيكون رد فعله الأول؟


اللعب والتأمل

حقيقة لا يمكن التكهن بما سيكون رد الفعل الأول، وخصوصاً أن القناع المحايد لا يحمل أي قيمة عاطفية، إذ يترك الممثل كصفحة بيضاء دون جنس أو تاريخ أو معرفه مسبقة، لنراه محدقاً في المرآة، منفصلاً عن ذاته من جهة، عمّا حوله لغياب الخبرة الجسدية مع المحيط إثر الحياد، فما يقترحه لوكوك أشبه بعملية تطهير، لتحرير الجسد من التراكمات العاطفية والفكرية التي قد يمتلكها الممثل، ليدخل الدور المفترض دون أيّ اعتبارات مسبقة.

فالانعتاق الذي يمنحه القناع لصاحبه يترك مساحة اللعب بفطرته الأولى، بوصفه يسبق أنظمة التفكير وبنى المعنى التي يمتلكها الممثل لا الشخصية، وهذا ما يجعل لوكوك يحددّ أنواع الأقنعة المختلفة، الوظيفية منها والعاطفية كالقناع التراجيدي أو الكوميدي، والتي تفترض في تكوينها أنظمة معينة من الاستجابات العاطفية والوظائف الجسديّة.

في نهاية الكتاب نقرأ المفاهيم التي يبني على أساسها لوكوك موضوعات المسرح الرئيسية وكيفية مقاربتها حسب وجهة نظره، كالتراجيديا والكوميديا وتقنيات عمل المهرج والمخبول، مقدماً عددا من الألعاب والتقنيات المرتبطة بعكس هذه الموضوعات جسدياً ومفاهيمياً بالاعتماد على الجسد أولاً وتقنيات الارتجال المرتبطة بالمعنى والتماسك الدرامي، بحيث لا يبدو أداء الممثل منفلتا أو مبالغاً به.

يسعى جاك لوكوك إلى جعل الممثل كرضيع ما إن يلامس الأرض حتى يبدأ في اكتشاف الحركات قبل أن يفرض عليه كيف ومتى يتحرك في كل مرة بعكس ستانسلافسكي الذي يفترض بنى وتقنيات مسبقة للحركة “الواقعية” ومبرّراتها النفسيّة المسبقة.


--------------------------------------------
المصدر : عمار المأمون - جريدة  العرب 

ممثلون يؤكدون لمجلة الفنون المسرحية: "من المنبع إلى الجسر" جاء تكريما لصناع المسرح في الجزائر

الأربعاء، 5 أبريل 2017

تكريم الفنان المسرحي المصري الغائب الحاضر " كرم مطاوع " في مهرجان شرم الشيخ لمسرح الشباب

العراق تخرج طاقتها الابداعية بالعرض المسرحي " موت صالح للشرب " علي شواطئ شرم الشيخ بمصر اثناء اشتراكها في افتتاح مهرجان شرم الشيخ الدولي للشباب

"الفضاءات المفتوحة" على مائدة مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح

"التوظيف التربوي والفني لشخصية الراوي في عروض مسرح الطفل " في رسالة ماجستير

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption