أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأحد، 17 يونيو 2018

أنطوان أرتو وتثوير المسرح

مجلة الفنون المسرحية


أنطوان أرتو وتثوير المسرح


محمد سيف - مجلة نزوى


مقدمة
لقد حاول مسرح العشرين إعادة الاتصال مع الأصول المسرحية المزالة منها الصفة البرجوازية، والعودة إلى الأساس، انطلاقا من الثورة التي قام بها الرمزيون والسرياليون، واكتشاف الأشكال الدرامية الغريبة التي سوف تساعد على تطوير الأبحاث المسرحية، وقيادتها نحو أشكال جديدة ذات جماليات متنوعة عالية، مثل، وضع جسد الممثل على المسرح الذي صار يشبه إلى حد كبير جسد الراقص، بفضل اللعب بالإنارة الذي أعطى قيمة إلى الحركات التي يقوم بها، أثناء انتقالاته، وتعبير وجهه، وعمل المخرج الذي أصبح متفوقا، سواء في قيادة الممثل، أو في بحثه عن (تطابق الهوية)، وفقا لمنهج ستانسلافسكي، أو في تنظيم الفضاء، والإضاءة، والصوت.
وبمواجهة أندري أنطوان، تبنى جاك كوبو1 أفكار(Luguné-Po)2 مستوحيا في ذات الوقت نظريات كوردن كريك، وأدولف أبيا في محاكاتهما للبساطة، والتجريد، والأسبلة. ومع اكتشاف المسرح الشرقي من خلال قدوم فرقة مسرح بالي في عام 1931 إلى باريس، التي أثرت كثيرا على أنطوان أرتو وتركت انطباعا قويا عليه، وكذلك مسرح النو الياباني، ومسرح خيال الظل في الدراما السنسكريتية، اكتشف المسرحيون الأوروبيون لغة جديدة دعتهم لأن يعيدوا التفكير في مسرحهم وفي الوهم المستخدم فيه. وقد ابدي انبهاره هنري ميشوا في أعاجيب وثراء المسرح الصيني، في كتابه (البربري في آسيا3)، ، في حين كتب جان جينية، في نص (كيف يمكن تمثيل مسرحية الخادمتان4): لا نستطيع إلا أن نحلم بفن يتشكل من مجموعة متشابكة من الرموز العميقة النشطة، القادرة على التحدث علنا إلى الجمهور، بلغة لا تكون بالضرورة مسموعة، ولكن أن يكون فيها كل شيء حاضرا). وقارن أنطوان أرتو من جانبه، ممثلي مسرح بالي بالطلاسم الهيروغليفية الكبيرة، عندما جمع كتاباته التي كتبها في عام 1932، في كتاب (المسرح وقرينه) الصادر في عام 1938. متأثرا بالجانب الميتافيزيقي للمسرح الشرقي، مفتونا بالدم والمأساة. مناديا بمسرح القسوة الميتافيزيقية القادرة على جرح الروح، التي بفضلها قد يستعيد البشر أصولهم المقدسة. وإذا شاء المسرح أن يصبح حفلا، وفقا لأرتو، فيقتضي عليه أن يكون قاسيا مع نفسه. ودعا إلى تعزيز الإخراج والحركة، ورفض المسرح السيكولوجي والمسرح الذي يحكي قصة. وطالب بالعودة إلى الأساطير وسحر الشرق للتعبير الجريء عن أعمق النزعات المحتملة في العمل البشري. وهو ما يسميه (بمسرح القسوة) وطالب بأن يكون التمثيل متطرفا، فلا قائمة للمسرح إلا منذ اللحظة التي يبدأ فيها المستحيل. وطالب بخلق الوسائل الضرورية واللازمة لحدوث (ردود الأفعال) لدى المتفرج، لانتزاعه من خوفه الكبير ومن سكونيته وسلبيته. ورغم أن أرتو قد وضع اللبنة الأولى لكثير من الأسس التي قام عليها مسرح اللامعقول إلا أنه لم تتح له الفرصة المناسبة ليضع نظرياته موضع التنفيذ. ولكن يبقى فضل أرتو كبيرا على معظم الكتاب المسرحيين المعاصرين، الذين طوروا بدورهم ذوقهم باتجاه مسرح الصورة، كرسالة بصرية أساسية، بإعطائهم الكلمة مكانة ثانوية.
قراءة في كتاب (المسرح وقرينه) … أنطوان أرتو
سنقوم هنا بقراءة بعض فقرات كتاب (المسرح وقرينه). يعمل أرتو في هذا الكتاب، على تأسيس مسرح من شانه أن يستعيد قوته من خلال توحيد الجسم بالعقل، والمجرد بالملموس، والإنسان بالعالم. ولد أرتو في عام 1896 وتوفي في عام 1985 في مدينة مارسليا الفرنسة. وقد عانى من اضطرابات نفسية في وقت مبكر من عمره. ولم يبق لنا منه حتى يومنا هذا، إلا النظريات الأكثر راديكالية في المسرح الحديث. فهو واحد من آباء المسرح اللامعقول. انتقد في هذا الكتاب المسرح الغربي الذي بموجبه لا يركز إلا على الكلام، والعقلانية، وأعرب عن اعتقاده بأن المسرح قد فقد صحته عندما اتجه نحو الترفيه والتسلية.
يتألف كتاب (المسرح وقرينه)، من مجموعة محاضرات نشرها المؤلف، من بينها (المسرح والطاعون)، و(الإخراج والميتافيزيقيا)، ومقالات أخرى حول ( المسرح والخيمياء)، و(المسرح الشرقي والمسرح الغربي)، و(عن المسرح في بالي)، كما يشتمل على بحثين عن (مسرح القسوة) نشرهما على هيئة منفيستو أول ومنفيستو ثاني، وقد أحدثا ضجة كبيرة، مع العديد من الرسائل بين عامي 1932- 1937. يطرح أنطوان أرتو، من خلال هذه النصوص المتنوعة، أفكاره المسرحية التي هزت سبات الثقافة الغربية التي بدت له راضية عن حالة تجمدها، باعتبار (الكلمة في المسرح هي كل شيء ولا وجود لأي إمكانية خارجها)، وإن المسرح هو فرع من الأدب ونوع ثانٍ من الكلام. مقترحا رؤية أساسها الممارسة المسرحية العملية، وهذا ما خلق (نظاما نقديا هزّ التاريخ الغربي بأكمله)، مثلما يقول جاك دريد5.
تسعى نظرية أنطوان أرتو إلى التأكيد وبشكل واضح وصريح على أن النص لا يصنع مسرحا وإنما الإخراج هو الذي يعتبر الأساس الحقيقي للمسرح المعاصر. وقد ركز في أفكاره على الممثلين الذين يرسمون الفضاء بتحويلهم النص إلى حركات، ولكنه يأخذ بعين الاعتبار أيضا بالموسيقى، والصوت، والإضاءة، الاكسسوارات، والأزياء … والخ. أي إن أرتو يتعارض وبشكل قطعي مع المسرح مثلما هو في الغرب.
إن مفهوم الإخراج جديد للغاية، ويعود تأريخه إلى القرن التاسع عشر، أي إلى العصر الذي حدد فيه أندري أنطوان وظيفة الإخراج في المسرح. وقد تجاوز أرتو حدود هذه الوظيفة إلى ما هو أبعد، عندما كتب: ( لم يعد الإخراج مجرد انعكاس لنص على مسرح، بل نقطة انطلاق كل خلق مسرحي، ومن دونه فإن المسرح لا يساوي شيئا)6. إن هذا الموقف المتطرف يتضمن ثلاث نقاط رئيسية، هي:
– رفض النص
– استبدال النص باللغة المسرحية
– تجديد وظيفة المسرح من قبل الجمهور، ووضعه تحت مصطلح مسرح القسوة.
رفض النص
إن رفض النص يتم في ثلاث مراحل: نلاحظ أولا وقبل كل شيء، رفض نص المؤلف، وهذا يعني النص المكتوب، والكلام الواضح. إنه يرفض اللغة التي تعبر عن وجهة نظر الدراماتورج في فرنسا. وإذا كان يرفضها، فذلك لأن لها علاقة بعلم النفس، الذي بالنسبة لأرتو، لا يمكن أن يكون إلا غير مجدٍ. إن أرتو يعترض على مفاهيم ومعايير المسرح الغربي لأنه (من النوع الذي يعتمد على النص)، مثلما يعترض أيضا على حيوية مسرح البوليفار نفسها في ذلك الوقت، التي خلقها أندري أنطوان. وهذه هي أيضا ردود فعل جاك كوبو، الذي عمل في بداية القرن العشرين مخرجا في مختلف الفرق المسرحية. وهي أيضا نوع الأفكار التي يمكن نسبها إلى مسرح الكارتل. ومسرح الكارتل يعني تعاهد أربعة مخرجين على العمل معا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهم: شارل ديلان، لويس جوفيه، غاستون باتي، وجورج بيتوييف. وقد وحد بين هؤلاء المخرجين الأربعة اتجاه واحد كبير يقوم على أساس المعارضة الشديدة لمنهجين متطرفين: منهج المسرح التجاري الاستهلاكي، ومنهج الكلاسيكية الأكاديمية الذي دعا إليه جاك كوبو. وقد عمل هؤلاء المخرجون على نصوص كبيرة (كاعتراض على مسرح البوليفار) ولكن أيضا على بعض النصوص الحديثة لكتاب ، مثل : جان جيرودو، بول كلوديل، جان جينيه، وصموئيل بيكيت.
لقد كان أرتو يحلم بمسرح آخر، مختلف كل الاختلاف عن المسرح الفرنسي الذي كان ما زال يبحث عن التوازن بين النص والعرض، وخاصة بعد أن انضم لرواد حركة (السريالية) الذين كانوا ينددون باتخاذ مسافة عن كل ما هو (أدبي). وإذا كان أرتو قد انضم إلى الحركة السريالية، فهو سرعان ما تخلى عنها وذهب بعيدا في تفكيره الذي كان يرفض الفكر الماركسي الذي توجه نحوه بريتون. وعلاوة على ذلك، أن أرتو كان يتهم السرياليين بمهاجمتهم للغة الواضحة، والتواصل العادي، في الوقت الذي كانوا يستخدمون دائما واحدة من الاثنين.
ويشمل هذا الرفض أيضا الروائع ، فيعنون إحدى مقالاته المنشورة في الكتاب (فلننته من الروائع). إنه يرفض اللجوء إليها بشكل أبدي، ويتجه نحو الإبداع الجديد، وتجديد هذه الروائع من خلال الكتابة الجديدة، لتحريرها من تقاليد الماضي. ويتناول مسرحية (أوديب ملكا) كمثال، ليكشف عن القوى الهائمة على وجهها، وثيمة الحب المحرم بين الأم وابنها، وفكرة سخرية الطبيعة من الأخلاقيات، يقول، إن هذا النص يجسد بشكل مادي تلك القوى، وكل هذا تحت ثياب ولغة فقدت كل صلة بالإيقاع الخشن الذي كان لذلك الوقت، ولكنه يظهر أيضا أن النص لم يعد ملائما لعصرنا. إذن إن أرتو يثير المشاكل المتعلقة باللغة نفسها، التي تمثل بالنسبة له، نوع من الاتصالات المجردة تماما، والتي فقدت قوة علاقتها مع الواقع، ويوجد هناك تباين بالتأكيد بين الواقع كما هو والواقع المُعبر عنه عن طريق اللغة. يقول، يوجد في اللغة الغربية نوع من (التحجر الكلامي) وإن كلماتها (متجمدة). إنه مثل مالارميه، الذي يعتقد أن الكلمات قد فقدت قوتها الاستذكارية، وقوتها الموسيقية، وإمكانيتها على إثارة العواطف. وهما بهذه الطريقة ينضمان إلى رأي كلوديل الذي يرى أن وظيفة الشاعر هو إعطاء معنى آخر للكلمة، شأنه شأن الخالق الذي قام بتسمية الأشياء. وقد غير أرتو وجهة هذا المفهوم عندما نقله إلى المسرح، بعدما دمرّ اللغة من أجل رفضها على نحو أفضل. ويهاجم أرتو أيضا علم النفس، خاصة، عندما يكون النص مرتبطا به ارتباطا جوهريا. يقول: (إن المسرح أصبح مسرحا للقص، إنه يروي علم النفس). ويشمل هذا التأكيد مسرح عصر النهضة ومسرح بريشت. إن أرتو يريد من الرسائل المسرحية أن تتجاوز علم النفس، وأن يتوقف القارئ عن تقمص الشخصيات المحللة على خشبة المسرح. وهذا يعني أن الرسالة المسرحية في مفهومه، لها مفهوم فكري محض. وأخيرا، من أجل رفضه للغة، يعرض أرتو الإخراج، لأنه في المقام الأول، هو إخراج لنص مكتوب مسبقا (سواء كان كلاسيكيا أو حديثا). وهكذا تتميز نظريته عن جميع النصوص النظرية الأخيرة التي ظهرت في فرنسا في ذلك الوقت. كان جاك كوبو، على سبيل المثال، يبجل ويعظم مسرح المصطبات العارية théâtreux nu ، فبالنسبة له، إن المسرح يجب أن لا يكون مجرد مكان تنبثق فيه وتسيطر عليه عوالم شخصية بقدر ما هو فضاء يجب أن يتأسس على الفهم الحقيقي للعلاقة القائمة ما بين الكاتب، الممثل، والمخرج، لأن العمل المسرحي، عمل جماعي، ولا يملك المخرج فيه سلطة عظمى أو مطلقة، مثلما تم تخيل ذلك من قبل (كوردن كريك). إن جاك كابو لم يقم إلا بتجريد المسرح، من أجل جعله بسيطا، وأفضل لعمل الممثلين على النص. إن هذا المفهوم بالنسبة لأرتو بمثابة انحراف وإن المسرحة يجب أن تكون في المقام الأول بدنية.
لغة تتوجه إلى الحواس وليس إلى العقل فقط
يجب على اللغة من الآن فصاعدا أن تتوجه إلى حواس المشاهد وليس إلى عقله فقط. وينبغي على البناء الكلي للخشبة أن يخاطب المتفرج وفقا لمفهوم أرتو: الإضاءة، وعناصر الديكور، والأزياء، وإن عمل المخرج يقوم على الجمع بين هذه العناصر معا لأجل خلق لغة مسرحية جديدة. وبدل اللغة الواضحة، يفضل أرتو لغة الإشارة، مستوحيا ذلك من المسرح الشرقي الذي يستند في المقام الأول على الإشارات لأنه مسرح مشفر، مثل الكتابة الهيروغليفية. وإن عرض مادة ما فيه بمثابة عرض لفكرة: تقديم طائر في عين واحدة مغلقة هو عرض لليل. إن هذا التلاعب في الحواس والمعاني لا يأتي أو يتحقق من خلال العمل على النص، وإنما يتم بصورة مباشرة على المسرح. وإن نتائج مثل هذا العرض له قيمة تعبيرية أكبر بكثير من تلك التي تنتجها اللغة الواضحة. إن عملية اكتشاف الكلمة من خلال معناها الذي ينتج صدمة عاطفية يسمح للمشاهد بعقد علاقة مع المبدع نفسه. يقول:(علينا أن نؤمن في شعور تجدد الحياة من خلال المسرح)، وهذا هو التحدي في جميع تنظيرات أنطوان أرتو، وفي هذا المبدأ يكمن ما سيدعوه أرتو فيما بعد بمسرح القسوة. إنه يقارن المسرح بتجربة الطاعون والآثار التي يخلفها المرض على الجسد، وهذا يعني، هذيان المريض الذي ينتج انهيارا في كل أماكن جسده، وفي جميع سياقاته الاجتماعية. ويُعرف أرتو المسرح أيضا بأنه فن (مجاني)، وهو يشير هنا إلى مجانية لعب الممثل الذي يحاكي الأحداث التي تعبر عن الفوضى الاجتماعية التامة، (المُجسدة من قبل الحروب والثورات …)، وانتشار الطفح الذي نجده لدى المصابين بمرض الطاعون. وهكذا يصبح المسرح شيئا فشيئا بالنسبة للناظر إليه مكان للتفريغ العاطفي بقوة تماثل قوة الوباء. ولكي يعمق هذا المفهوم، يستخدم أرتو نظرية القديس أوغسطين الذي يعتقد أن المسرح هو خطر مثل الطاعون. ولكن الفرق بينهما هو أن الطاعون يقتل دون أن يقضي على الأعضاء، في حين أن المسرح لا يقتل، ولكنه يثير أكثر التغيرات غموضا، لا في فكر الفرد، بل في فكر شعب بأكمله. إن هذا الهذيان الأخلاقي الذي ينتجه المسرح يمكن أن يكون معديا. إن هذا المنطق يقودنا إلى مفهوم المخرج الأمريكي جون فورد الذي يفكر مثل أرتو تقريبا، باعتبار أن المسرح يكشف من خلال تطرفه العنيف عن عمق اللاشعور الفردي والجماعي المليء بالقسوة. يقول أرتو: (إن كل الأساطير العظيمة سوداء). ولا يمكن أن نتصور كل الحكايات الرائعة التي تروى للناس، خالية من المجازر، والتعذيب والدم المسكوب. إنه يشبه المسرح بالطاعون، أي إن تأثير المسرح من وجهة النظر الإنسانية، كتأثير الطاعون، يقول: ( إنه نافع، إذ يدفع البشر إلى أن يروا أنفسهم كما هم، وهكذا يسقط القناع، ويكشف الكذب، والنذالة والنفاق. إنه يكشف للجماعات عن سلطانهم القاتم، وقوتها الخفية، ويدعوها إلى أن تتخذ، أمام القدر، موقفا بطوليا ساميا، لولاه لما اتخذته أبدا). وتأخذ القسوة هنا لدى أرتو معنا خاصا، إنها شعور منفصل ونقي، وعلى المسرح أن يقدم الحياة في شموليتها، في مجملها، بكل ما تحمل من أثقال ومتاعب. ولهذا يأخذ أرتو المسرح الشرقي كنموذج، لأنه يتأسس على (الميتافيزيقيا)، على عكس المسرح الغربي الذي لا يعتمد إلا على علم النفس. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد في المسرح الشرقي لغة للكلمات، بل لغة مكتوبة من الحركات، والوقفات، والإشارات، ولكل من هذه العناصر، من وجهة نظر الفكر العامل القيمة البيانية التي تتمتع بها اللغة الأخرى. لهذا يقترح أرتو فكرة عرض شامل لا بد من بعثها.
انطلاقا من هذه المقدمة الاستعراضية لأهم مرجعيات أرتو النظرية، كيف يمكن لنا موضعة أرتو من الناحية التاريخية ومقارنته بماذا وبمن يمكن موضعته؟ وما هو تأثيره ونفوذه بعد أعوام 1930؟ (تأثيره سيكون متأخرا بعض الشيء لأنه قد تم الالتفات إلى أفكاره حقا في سنوات السبعين، على الرغم من تأثيره على أبناء جيله)، ثم أن الأفكار التي تناولها أرتو تطرح مشكلة علاقة النص بالكاتب وفي المخرج.
في مطلع الستينيات، وبعد عشر سنوات على موت أرتو، كثيرون ممن يعملون في حقل المسرح، تبنوا نظرياته وآراءه الجديدة وخاصة مؤسسي المسرح الحي جوليان بك وجوديث مالينا، Le bread and Puppet theatre، وروبير بوب ولسون، غروتوفسكي، وهكذا ظهرت وتألقت دمي ارتو الضخمة الحجم التي كان يستعملها في مسرحه، في عروض مسرح Le bread and Puppet theatre الذي يمزج بشكل قصدي وإرادي صورا وأشكالا يستعيرها من مختلف التقاليد الدينية، ابتداء من العبادات الوثنية إلى المسيحية مرورا بالميثولوجية الإغريقية (عرض Fire، عام1966) مثلما نجد دمي ارتو الضخمة أيضا، في عروض بوب ولسون (Civil Wars, 1988, Death, Destrution and Detroi, 1977)، وفي عروض تاديوز كانتور. ومع هؤلاء المبدعين المحدثين في مجال المسرح، أخذت الحركات والإيماءات، أبعادا طقسية مقدسة، مثل هذا الذي يعبر باستمرار المسرح راكضا، في عرض النظرة الأصم ، عام (1970)، لبوب ولسون. إن هؤلاء الفنانين جميعا يتعاملون مع المسرح باستمرار، مثل مكان خارق، تجربة غير مستقرة طوعا أو مثل مكان جذاب وفي نفس الوقت، خطر ويحتاج إلى المغامرة. إن جوليان بك وجوديث مالينا، اشتعلا في عرضيهما (1966، The Brig، والجنة ألان،1968) في هذا الاتجاه والمعني أيضا، أي أنهما، واجها المتفرج بصور وحشية ومتطرفة لدرجة أن ضمنا الحدث نفسه، في بعض الأحيان، بعضا منها وألصقوها بالفعل، بحيث أصبحت جزءا منه، أما غروتوفسكي (صاحب المسرح الفقير) فقد سعى في عروضه إلى خلق طقوس مسرحية حديثة مستوحاة من الطقوس الدينية القديمة، لغرض: إثارة الدهشة والإعجاب، والإيحاء، واستفزاز الطاقة العضوية للمتفرج والممثل في الكلمات والإشارات السحرية. ولم يكتف بهذا وإنما أضاف عناصر أخرى وظفها لاستفزاز الجمهور وإرغامه على المشاركة فيما يجري من أحداث (مسرحية الأمير كونستان،1962). في حين أن تاديوز كانتور، متبعا نفس الرغبة في إقحام المتفجر في كيمياء العرض من خلال تغذية عروضه بذكرياته الخاص، المعاشة منها والمتخيلة، ملتجئا في ذلك إلى القيء والرغبات التي يمكن أن يشترك فيها كل فرد من الأفراد (مسرحية الصف الميت، عام1977).
أفكار تعارض التقاليد علنا
منذ العصور القديمة، والمسرح هو في المقام الأول نص، أما الإخراج ما هو إلا تابع له، بديكوراته، وحركاته، وأزيائه … ويؤكد أرسطو على أن الإنتاجات الأدبية تتضمن بالضرورة النص، وبشكل خاص المأساة التي هي تقنية تكوين النص يحكمها المضمون والفعل. وإن الدور الذي أعطاه أرسطو إلى اللغة يعتبر غاية في الأهمية، وخاصة في المسرح، لأن اللغة هي انعكاس للكرامة. وهي تختلف عن اللغة المشتركة، وتعوض عن أوجه القصور.
إذن، أن العرض يعتبر منسقا للنص، وإن الرثاء الذي ينتج عنه لعب الممثلين، ما هو إلا مكمل له. وهناك أشياء قليلة جدا في كتاب (فن الشعر) لأرسطو حول العرض، وإن وجدت فهي تشير بشكل ظاهر إلى كونه مكملا للنص. وفي القرون الوسطى، تم تطوير حرية العرض سواء في المسرحيات الجادة (الأسرار) أو في المسرحيات الشعبية (الفارس). ومع ذلك، هناك اعتماد كامل على النص. أي أن جهود الإخراج في العصور القديمة كانت صغيرة جدا أو بالأحرى تكاد أن تكون غير موجودة.
المنظرون والمسرح
إن المقدمات التي تتناول النوع المسرحي كثيرة جدا، ولكن غالبا ما تكتب من قبل الكتاب الذين هم ليسوا من الكتاب المسرحيين، مثل: جان جاك روسو (خطابات حول العروض)، وستندال (راسين وشكسبير). إذن هناك عديد قليل جدا من المخرجين الذين نظروا للمسرح، هذا إذا استثنينا موليير، الذي هو في نفس الوقت، ممثلا، مؤلفا، ومخرجا. وفي القرن العشرين فقط أصبح المؤلفون مخرجين أيضا، وهذا يمكن ملاحظته عند بريشت وأرتو. والسبب يعود في تقديرنا إلى أن مفهوم المخرج لم يكن موجودا حتى القرن التاسع عشر. وقد كان الممثلون يتدربون على النص في الغالب مع المؤلف ولكن كان من السائد أيضا، أن مدير المسرح الذي كانت تعرض فيه المسرحية يقوم هو عادة بإخراج النص وقيادة الممثلين. ولم يبدأ التنظير للإخراج المسرحي إلا في نهاية القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد الإمبراطورية الثانية7 ، وبعدما أصبحت إبداعات الرومانسية نادرة أكثر فأكثر، وهذا مما فسح المكان والمجال إلى أعمال الفودفيل والأوبريت. ونعود إذن إلى مفهوم المسرح باعتباره حدثا، لنشير إلى أن أول شخص أراد فعلا أن يوحد جميع العناصر المسرحية هو أنطوان أرتو، وإعطائه قيمة كبيرة إلى النصوص بإخراجها إلى المسرح، وأنشأ قطيعة جذرية برفضه النص لصالح الاحتفالية في العرض. وقد اعترض المخرج جان كوبو على هذا المفهوم، باشتغاله على مفهوم (المصطبات العارية)، وتجريد المسرح من الديكور، والأزياء وتسليط الضوء على النص.
أرتو وقلق البحث عن مسرح جديد
يناقش أنطوان أرتو في كتابه (المسرح وقرينه) الذي صدر عام 1938، مسألة المسرح (الخالص). ويحتوي هذا الكتاب على خمسة عشر مقالا مكتوبا بين 1931 و1936. وإن عنوانه هو غاية من الأهمية ويحيل إلى العديد من المعاني والدلالات: المسرح وقرينه.
كتب أرتو، من الباخرة التي أقلته إلى المكسيك في 25 يناير سنة 1936 إلى )جان بولو(8 ليقول له: (أعتقد أنني وجدت العنوان المناسب لكتابي. وسيكون المسرح وقرينه، لأنه إذا كان المسرح قرينا للحياة، فالحياة قرينة بالمسرح الحقيقي)9. ومع ذلك، فعندما يستدعي أرتو القرين، فإن هذا المصطلح لا يعني انعكاسا بسيطا للواقع. يقول:( يجب أن نعتبر المسرح قرينا، لا لذلك الواقع اليومي المباشر الذي أصبح، شيئا فشيئا، مجرد صورة جامدة منه. بل قرينا لواقع آخر نموذجي، وخطير)(مجلد 4 ص 46)، وقال أيضا:( هناك ما بين المسرح والحياة فصل سخيف)(مجلد 4 ص218)، ويضيف: (إذا كان المسرح قد فقد منذ فترة طويلة كل اتصال مع الواقع، فبإمكاننا أن نحيي هذا الاتصال)(مجلد 4 ص227)، أو ( ليس الفن محاكاة للحياة، بل إن الحياة هي محاكاة لمبدأ متعال يضعنا الفن في تواصل معه)(مجلد 4 ص242). وهذا هو الشيء المعقد في أفكار أرتو، ولكن، إذا كان المسرح لا يعرض ولو جزءا بسيطا من الواقع، فماذا يشاهد المتفرج من على المسرح بعد ذلك؟ ولتوضيح هذه النقطة، لا بد لنا من مقارنة أفكار أرتو التي تتعلق في المسرح الشرقي والمسرح الغربي. لهذا نقترح أولا معرفة حدود المسرح الغربي. ثم سندرس بعد ذلك إمكانية المسرح الشرقي، لكي يتسنى لنا تحديد معنى المسرح الخالص لدى أرتو.
موقف أرتو من المسرح الغربي
نحن نعلم أن أرتو قد تأثر ببعض الثقافات الأجنبية، مثل الثقافة المكسيكية والبالية، مثلما نعلم أيضا أنه لم يتوقف عن انتقاد المسرح الغربي والإشادة بالمسرح الشرقي. ما هي عيوب المسرح الغربي؟ يجب أن نتصدى لمسألة اللغة، التي تقع في مركز بحث أرتو. إن عدم ثقته باللغة يظهر في مقدمة كتابه المسرح وقرينه: (يعني تحطيم اللغة من أجل لمس الحياة، وصنع المسرح أو صنعة ثانية)(مجلد 4 ص14). لماذا ينبغي تحطيم اللغة من أجل القيام بصنع المسرح؟ لأن اللغة لا تمتلك الخصائص المسرحية التي يبحث عنها، كيف (يترك-على الأقل- المسرح كما نعرفه في أوروبا، في مركز ثانوي كل ما هو مسرحي بحت، أي كل ما يخضع للتعبير، بالكلمات، أو إذا شئتم، كل ما لا يشتمل عليه الحوار).(مجلد 4ص35.) إن هذا الاستشهاد يوضح أن العناصر في المسرح يجب أن تكون حرة: كلام، كلمة، وحوار. ويلخص أرتو سمة المسرح الغربي في تفوق الكلمة: (الكلمة في المسرح كل شيء بالنسبة لنا، ولا وجود لأي إمكانية خارجها)(مجلد 4 ص66). إن حدود المسرح الغربي يكمن في اعتماده على الكلمة بشكل مفرط. لماذا الكلمة هي التي تقوم بتحديد وتقويض المسرح ؟ إن جاك دريدا يحلل بدقة أفكار أرتو في (مسرح القسوة، وحدود التمثيل). إنه يسمي ستة موضوعات ليس لها علاقة بمسرح القسوة. فهو يعتقد أن الجوهر العميق لمشروعه وقراره التاريخي-الميتافيزيقي، إنه أراد مًحْو التكرار بعامة: (كان التكرار هو في نظره أصل الدَّاء، ويمكن بلا شك أن ننظم قراءة كاملة لنصوصه حول هذا المحور)10. لكن الكلمة تحتوي بالفعل على تكرار الحروف، لأن الكلام ينتمي إلى النظام اللغوي الذي يجب أن يكون المعنى فيه معروفا، وأن يبقى هو نفسه. إذن، إن رفض التكرار في المسرح يكاد أن يكون مستحيلا طالما يتدخل فيه الكلام.
أنا أكتب للذين لا يقرأون ولا يكتبون
إن موقف أرتو ضد الكلمة يظهر أيضا في عملية الكتابة. وسنقدم تعريفه للحوار:( الحوار- هو شيء مكتوب وشفوي- ليس ملكا للمسرح خاصة، إنه ملك الكتاب) (المجلد 4 ص36)، ويقول في رسالة موجهة إلى كريميو 1931: (يخيل إلي أن، على المسرح-هذا الفن المستقل- إذا ما أراد أن ينبعث أو ببساطة أن يعيش، فهو عليه أن يؤكد وبوضوح، على المسافة التي تفصله عن النص وعن الكلام الخالص وعن الأدب، وجميع الوسائل الأخرى المكتوبة والمثبتة) (المجلد 4 ص102). إن عملية الكتابة تستند على وضع النص. وبالنسبة لأرتو، إن جوهر المسرح يكمن في الحركة الملائمة. ويذكر في كتاب المسرح والآلهة، الذي صدر في عام 1936: ( فالمسرح الحقيقي مثل الثقافة لم يكن مكتوبا أبدا)(المجلد 8 ص165). إن أرتو يتهم اللغة، إلى حد قوله: (أنا أكتب للذين لا يقرءون ولا يكتبون). ولكنه لا يجرؤ على التخلي عن اللغة. وبدلا من تقييد إمكانيات المسرح، إنه يحاول توسيع لغة الخشبة وإدخال لغة جديدة، مستقلة عن الكلمة قائمة بذاتها: (أقول إن خشبة المسرح مكان مادي ملموس يطلب منا أن نملأه، وأن نجعله يتكلم لغته الملموسة) (المجلد4 ص36). أين توجد هذه اللغة الجديدة التي تناسب المسرح الذي يختلف عن الكلمة؟ إن أرتو يبحث عن هذه اللغة في المسرح الشرقي.
أرتو ومسرح بالي
شاهد أرتو في عام 1931 مسرح بالي في باريس، في معرض المستعمرات. وقد أتاحت له هذه الفرصة بتعميق أفكاره المسرحية، وبشكل خاص تلك التي تتعلق في إمكانية الطعن في هيمنة الكتابة. ويحتوي كتاب (المسرح وقرينه) مقالين يخص فيهما الثقافة الشرقية: (عن المسرح في بالي)، المكتوب في عام 1931، و(المسرح الشرقي والمسرح الغربي) المكتوب في عام 1935. إن المعارضة بين المسرح الغربي والشرقي في منطق أرتو تعتبر واضحة. فالثقافة الغربية تعتمد بشكل مفرط على الكلمة، في حين تمتلك الثقافة الشرقية وسيلة أخرى للتعبير على المسرح، وهي اللغة الجسدية: (أعطانا اكتشاف مسرح بالي فكرة مادية، لا كلامية، عن المسرح، حيث إن المسرح يظل داخل حدود كل ما يمكن أن يحدث على الخشبة، بغض النظر عن النص المكتوب، في حين أن المسرح كما نفهمه في الغرب متفق مع النص ومحدد به) (المجلد 4 ص 65). إن عيون أرتو اتجهت نحو إمكانية القيام بمسرح يكون خارج النص: (كل ما أعتبره مسرحيا في المسرح، يسمى بإهمال فنا، عندما يوجد خارج النص) (المجلد 4 ص 39). وسنعرض هنا بعض التناقضات بين المسرح الشرقي والمسرح الغربي: الأول يعتمد على النزعات الميتافيزيقية، والثاني يعتمد على النزعات النفسية، والأول يعتمد على الحركات، والإشارات، والوقفات، والأصوات، التي تتكون منها لغة الإخراج والمسرح، في حين أن الثاني يعتبر الكلمة هي كل شيء. وقد سبق لنا وإن قدمنا بعض العناصر التي تعتبر (غير مسرحية): الكلام، الكلمات، والحوار. على عكس لغة المسرح الشرقي التي تتيح إمكانية إنشاء نظام جديد لا ينتمي إلى نظام الخطاب، الذي يأخذ مكانه الوحيد على خشبة المسرح، لغة شرقية نستخلصها من: ( متاهة من الحركات، والوقفات، والصرخات المنطلقة في الهواء، وبعض التحركات والخطوط المائلة التي لا تدع جزءا من الفضاء المسرحي دون أن تستخدمه، كما نستخلص معنى لغة جسمانية جديدة أساسها الإشارات لا الكلمات) (مجلد 4 ص52). إن أرتو يقدر الكفاءات البدنية المتوفرة في المسرح الشرقي، وهذه اللغة التي تحتوي على نوعين من التعبير: البصري والسمعي. إنه يفضل الشكل البصري على الكتاب في المسرح، ويستبدل الكتابة بالحركات والإشارات. وإذا جردنا المسرح من الكلمات، لم يبق أمام الممثلين إلا أن يعبروا بأجسادهم. ويتعلق الأمر هنا باستبدال اللغة الناطقة بلغة مختلفة الطبيعة، تتساوى إمكانياتها التعبيرية بلغة الكلمات: (علينا أن نعثر على نحو هذه اللغة الجديدة، الحركات مادتها ورأسها، وألفها وباؤها، إذا شئنا. وهي تبدأ من ضرورة الكلام أكثر مما تبدأ من الكلمة المكونة سلفا. وإذا تجد في الكلمة طريقا مسدودا، تعود إلى الحركة تلقائيا). (مجلد 4 ص106). إن أرتو يواجه هذا (الطريق المسدود) في محاولته لتحويل الكلمة حتى تتمكن من التعبير أكثر بعد ذلك. إنه يعيدها إلى الحركة، ويقترح عليها طريقا جديدا. ونلاحظ التعبير الذي يستخدمه عندما يقول: (علينا أن نعثر على نحو هذه اللغة الجديدة). أي إن من خلال الحركات سوف نحقق لغة لا زلنا لم نعثر على قواعدها النحوية. لهذا يلغي الرجوع إلى الكلمة ويخترع لغة بدنية لا يمكن أن تكون لها معنى خارج الفضاء المسرحي. وفيما يتعلق بالإشارات، يكتب أرتو في مقاله (الإخراج والميتافيزيقا): (إن شكل هذا الشعر الفضائي (…) يوجد في لغة الإشارات. وآمل أن تتاح لي فرصة الحديث عن الوجه الآخر للغة المسرحية الخالصة، تلك التي تفلت من الكلمة، لغة الإشارة، والحركة، والوقفة، كتلك التي في البانتوميم غير الفاسدة) (مجلد 4 ص38). إن مفهوم الإشارة عند أرتو يعتمد على اللغة البصرية التشكيلية، وليس على كونها تمثل دائما شيئا ما. فهو واقع تحت تأثير وسحر مسرح بالي، لذلك يعتبر جسد الممثلين مثل الإشارات: (إن هذا العرض الرائع يتألف من مجموعة صور مسرحية خالصة، تجعلنا نفهم لغة جديدة يبدو أنه قد تم اختراعها، ويبدو هؤلاء الممثلون، بأزيائهم الهندسية، وكأنهم حروف هيروغليفية حية ومتحركة). (مجلد 4 ص58). وفي مقال مسرح القسوة (المنفستو الأول)، يقول أرتو: ( وبما أن المسرح قد وعى هذه اللغة في الفضاء- لغة الأصوات، والصرخات، والأضواء، والكلمات التي تحاكي الصوت- عليه أن ينظمها، وبأن يجعل من الشخصيات والأشياء رموزا حقيقية). (المجلد 4 ص87). أو في المنفستو الثاني: (ويمكن أن نقول إن روح أقدم الحروف الهيروغليفية ستشرف على خلق هذه اللغة المسرحية الخالصة). (المجلد 4 ص 120). إن الكتابة الهيروغليفية ستكون بلا معنى إن كنا لا نعرف الرمز أو الشفرة. ولقد تحدث مالارميه عن راقصة واصفا حركاتها (بالكتابة الجسدية)11 ، وهنا أرتو يحول الشخصيات والأشياء إلى كتابة بلاستيكية بحتة، ذات قيمة تصويرية.
إن الشكل السمعي البديل للكلام، هو الترنيم والتعزيم. ولكن يجب أن لا ننسى أن أرتو يعتبر اللغة الواضحة لغة (غير مسرحية). ولكن اللغة السمعية ألا تعتبر هي الأخرى لغة واضحة ومحكية ؟ ويجدر الإشارة هنا إلى جانبين من جوانب اللغة الواضحة: الصوت والمعنى. إن الترنيم يشير إلى الاستخدام الخاص للصوت الذي يؤكد على مظهره الصوتي: (ولا يمكن تعريف هذه اللغة إلا بإمكانيات التعبير الديناميكي في الفضاء، وهي تناقض إمكانيات التعبير بالكلمة داخل الحوار(…) هنا تتداخل النبرات، والطريقة الخاصة التي تنطق بها الكلمة).( مجلد 4 ص 86). إن الترنيم يطور لغة موسيقية انطلاقا من النطق المستقل عن المعنى المادي للكلمات. إما التعزيم فله استخدام أيضا آخر للكلمات، يكتب أرتو: ( يعني صنع ميتافيزيقا الكلام المنطوق (…) يعني أخيرا النظر إلى الكلام على أنه سحر). (مجلد 4 ص 44).يحاول أرتو استخدام اللغة للتعبير عما لا يعبر عنه بالعادة. ويبدو أن التعزيم مثل نقطة النهاية لهذا العمل، يقول: (تستخدم هذه اللغة المسرحية الموضوعية المحسوسة في الإحاطة بالأعضاء وتثبيتها، بإحساس شرقي بحت بالتعبير. فهي تجري في الإحساس. وإذا نتخلى عن الاستخدام الغربي للكلمة، نجعل من الكلمات تعزيما. وندفع الصوت، ونستخدم ذبذباته وأنواعه). (المجلد 4 ص 88). إن التعزيم هو استخدام الكلمات التي تسمح بالتأثير بالعاطفة بقوة. وإنه لا يتوجه إلى الذهن وإنما إلى الحساسية. وهنا يجب علينا أن نتوقف عند كلمة (صوت). فالصوت لا يغادر أبدا هذا الذي يتكلم هنا الآن، على عكس الكتابة المسرحية الموجودة خارج المشهد. إن أرتو يعطي تعرفين إلى (اللغة المسرحية الخالصة)، في مقال (مسرح شرقي ومسرح غربي). وإن طبيعة عناصر اللغة الشرقية تتلخص في هذين التعريفين:
– من ناحية، تجسيدا مرئيا تشكيليا للكلمة.
– لغة كل ما يمكن أن يقال ويتم التعبير عنه على خشبة المسرح، بغض الطرف عن الكلمة، لغة كل ما يجد تعبيره في الفضاء، أو ما يمكن أن يبلغه الفضاء أو يحلله. (المجلد 4 ص 67).
إن الحركة، والترنيم، والتعزيم، هي محاولات ضد الكتابة، وضد الكلام. ولكن إذا ما تشكل المسرح من عناصر لا معنى لها سيتحول إلى فضاء غير معقول. وهذا النوع من المسرح لا يبحث عنه أرتو. فهو لا يقبل بمسرح لا يتأسس على الوظيفية الفكرية. لهذا فهو يكتب في عام 1925 منفستو في اللغة الواضحة: ( أنا أستسلم لحمى الأحلام، ولكن لاستخلاص قوانين جديدة, أنا أبحث عن التكاثر، والدقة، والعين الفكرية في الهذيان، وليس التنبؤ المقامر). (مجلد 2 ص 52). وإنه يتهم أيضا الإبداع السهل، المصنوع من اللاوعي أو المصادفة. لذلك يجب إعادة بناء مسرح جديد، مسرح خالص.
* حول المسرح الخالص
يبدو سبق لنا وإن ذكرنا ماذا يعني المسرح (الخالص). إنه يتكون من عناصر مثل: الحركة، الصراخ، والترنيم، والتعزيم، وباختصار شديد، كل ما ينتمي إلى المسرح الشرقي. وبالإضافة إلى ذلك، إن أرتو نفسه يعترف بأن في مسرح بالي، هناك إخراج مسرحي خالص. ولكن يجب أن لا نكتفي بقائمة خصائص المسرح الشرقي. ولكن كيف فعل أرتو الأوروبي، لكي يعثر على المسرح المثالي ؟
إن المسرح الخالص بالنسبة لأرتو هو مسرح قد انتهى مع اللغة، ومع الكتابة. وإن جوهره يكمن في الإخراج: (يختلط المسرح في نظري بإمكانيات إخراجه، وتنتمي هذه الإمكانيات بأكملها إلى مجال الإخراج، باعتباره لغة تتحرك في الفضاء). ( مجلد 4 ص 44). وهذا يعني إن المسرح من خلال الفضاء والحركة يوفر حقلا مميزا للإخراج.
إن الإخراج لا يحتاج إلا لفضاء واحد، وهو فضاء المسرح خارج النص. إن اللغة المسرحية هذه المرة سوف تتخلص من الكلمة من أجل بناء فضاء لغوي مستقل، وهذا الفضاء لا يحتوي إلا على عناصر مسرحية فقط، وإذا اقتبسنا عبارة دريدا: ( إعادة تأسيس فضاء مغلق يعود إلى التمثيل الأصلي)12. فسنجد أن تعبير دريدا يبدو متناقضا، لأن التمثيل يحتاج دائما إلى نموذج ينتسب إلى مكان آخر. وهنا يجد مسرح أرتو خصوصيته. ففي هذا (الفضاء المغلق) يتم تحويل الكلمة إلى (لغة المسرح الخالص)، وتبدأ في خلق معناها الخاص، الذي يعتبر مهما وبليغا مرة وإلى الأبد على الخشبة: (ولندع نقد النصوص للحمقى ونقد الأشكال لعلماء الجمال، ولنعترف بأن ما قيل لا ينبغي أن يقال، وبأن التعبير لا يستخدم مرتين، ولا يحيا مرتين، وبأن كل كلمة ينطق بها كلمة ميتة لا تؤثر إلا في اللحظة التي يتم النطق بها، وبأن الشكل المستخدم لا يستخدم، ولا يدعونا إلا إلى البحث عن شكل آخر، وبأن المسرح هو المكان الوحيد في العالم الذي لا تتكرر فيه الحركة مرتين).( مجلد 4 ص 73). فكرة أن المسرح لا يعيش إلا مرة واحدة، هي التحدي والاعتراض الكبير في تاريخ المسرح الأوربي ومسرح المحاكاة.
إن المسرح يتنبأ بتدميره، عند تنفيذه (مرة واحدة)، لأنه كما يقول أرتو: (بأن كل كلمة ينطق بها كلمة ميتة لا تؤثر إلا في اللحظة التي يتم النطق بها ). وبمجر ما تلد الكلمة، تذهب نحو الموت. ومع ذلك، إن الحياة المسرحية التي تتحقق (إلا مرة واحدة) لا تخضع إلى تدمير وحشي. وهنا يأتي موضوع الحياة والموت. ينادي أرتو في المنفستو الأول، بتحطيم اللغة من أجل ملامسة الحية. إلى جانب هذه المحاولة، يختبئ الموت دائما. ويشير آرتو في كتابه (المسرح والآلهة)، إلى التعايش بين الحياة والموت في الفضاء: ( الثقافة في الفضاء، تعني ثقافة فكر لا يكف عن التنفس والإحساس بالحياة داخل الفضاء، ويطالب بضم أجساد الفضاء إليه كموضوعات فكره نفسه، ولكن باعتبارها فكرا متمركزا وسط الفضاء، أي في نقطته الميتة). (مجلد 8 ص 164). في هذا النص، الثقافة مطابقة للمسرح. يقول أرتو على إنها حركة ذهابا وإيابا بين الحياة والموت: (إن الثقافة حركة فكرية تنتقل من الفراغ نحو الأشكال، ومن الأشكال تدخل في الفراغ، وفي الفراغ كما تدخل في الموت. أن تكون مثقفا معناه أن تحرق الأشكال لكي تربح الحياة. يتعلق الأمر بمعرفة كيف نقف مستقيمين داخل الحركة الدائمة للأشكال التي ندمرها على التوالي). (مجلد 8 ص 165). إن المسرح مثل الثقافة، إنه أحد المجالات التي نقاوم فيه التدمير المتوالي. بعد هذا الدمار، ما الذي يبقى على الخشبة ؟ لا شيء سوى مصطلح (الخالص) الذي يوحي بهذا العدم. إن أرتو يقارن المسرح بالطاعون: (والطاعون داء أسمى لأنه أزمة كاملة لا يبقى بعدها سوى الموت أو أقصى التطهير، وكذلك، المسرح، داء لأنه التوازن الأعظم الذي لا يكتسب بلا هدم). (مجلد 4 ص 341.)
في المرحلة الأخير للطاعون، يوجد (التطهير) الذي لا نتمكن من الحصول عليه إلا من الموت، من خلال تدمير له. وتأتي هنا ضرورة مقارنته بـ(الخيمياء)13، يقول أرتو في مقاله (المسرح والخيمياء): (إن العملية المسرحية التي تسعى إلى صنع الذهب (…) تذكرنا في نهاية الأمر، بالنقاء والمطلق المجرد، الذي لا يوجد بعده شيء).(مجلد 4 ص 49). وهنا تبدو المسرحة (الخالصة) مثل النقطة القصوى التي لا يوجد بعدها شيء، النقطة الأخيرة بين الحياة والموت، والمحافظة عليها والدمار. ويتوصل آرتو إلى اقتراح هذه النقطة الحاسمة من خلال تشييده لمكان مغلق توجد فيه حركة مستمرة تؤدي إلى الدمار.
إن المسرح الخالص يصنع المشهد الذي تكون فيه اللغة معناها الخاص غير القابل للاستبدال، والتكرار ابدأ. وإن محاولة خلق المسرح الخالص، في نهاية المطاف، هي بناء فضاء مغلق حيث لا يتكرر فيه شيء.
الهوامش
1 – جاك كوبو، ولد في باريس في عام 1879، وتوفي في 20 أكتوبر عام 1949، ويعتبر شخصية مهمة في عالم الفكر والفن الفرنسي في النصف الأول من القرن العشرين، وخاصة في مجال المسرح، حيث عمل كناقد مسرحي في العديد من الصحف الباريسية، وشارك مع أصدقائه الكتاب مثل أندري جيد وجان شلمبرجير، في تأسيس مجلة لانوفيل الفرنسية في عام 1908،. وأسس مسرح دو فيو- كولومب في عام 1913، وقام بإدارته لعدة سنوات.
2 – لوكن-بو، ولد في باريس 27 ديسمبر 1869 وتوفي في مدينة أفنيون في 19 يونيو 1940، وهو ممثل ومخرج ومدير المسر الفرنسي، ويعتبر مع أندري أنطوان، من ممثلي النهضة المسرحية الجدية في المسرح الباريسي في نهاية أواخر القرن التاسع عشر.
3 – البربري في آسيا، كتاب في أدب الرحلات لهنري ميشو، كتبه خلال رحلته إلى آسيا في عام 1928. وفيه يصف هذا الشاعر/الكاتب، انطباعاته في مختلف البلدان التي مرّ فيها، وسكان هذه البلدان، وثقافاتها الخاصة، بنظرة ثاقبة ولكن لا هوادة فيها، كاشفا عن روح الدعابة والاختلاف الثقافي الموجود بين هؤلاء السكان، وتلك الموجودة في أوروبا الغربية، داعيا الأوروبيين فيه للتعلم من هؤلاء الناس.
4 – الخادمتان: مسرحية للكاتب الفرنسي جان جينية، كتبها في عام 1947. وهي مسرحية مأساوية، وعنيفة، مستوحاة من وقائع مختلفة، حتى وإن كان الكاتب لا يعترف بذلك.
– جاك داريدا، الكتابة والاختلاف، (مسرح القسوة وحدود التمثيل)، ترجمة كاظم جهاد، دار نشر توبقال، المغرب سنة 188.5
6 – أنتونان آرتو، المسرح وقرينه، مسرح القسوة،دار نشر غاليمار، عام 1985، صفحة 87.
7 – الإمبراطورية الثانية، هو النظام الدستوري والسياسي الذي أنشئ في فرنسا في2 ديسمبر كانون الأول 1852، عندما لويس نابليون بونابرت، رئيس الجمهورية الفرنسية، أصبح نابليون الثالث، وإمبراطورا للفرنسيين.
– جان بولون: هو كاتب وناقد ومحرر فرنسي، ولد في ديسمبر 1884 وتوفي في باريس نوفمبر1968.8
(الطبعة إن جميع الاستشهادات الموجودة في هذا المقال، مأخوذة من أعمال أنتونان آرتو الكاملة – 9 الثانية)، دار نشر غاليمار الفرنسية. ونحن نشير إليها في النص نفسه بذكرنا لرقم المجلد ورقم الصفحة. المجلد الخامس، صفحة 196.
– جاك ديريدا، الكتابة والاختلاف، (مسرح القسوة وحدود التمثيل)، ترجمة كاظم جهاد، دار نشر توبقال، المغرب سنة 1988، 196.10
-ستيفان مالارمية، (بالية)، دار نشر غاليمار، مجموعة شعرية، 1978، صفحة 192.11
-انظر المرجع السابق، مسرح القسوة وحدود التمثيل، المرجع السابق، صفحة، 349.12
– الخيمياء، وهي الكيمياء القديمة، وكانت غايتها تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، واكتشاف علاج كلي للمرض، ووسيلة لإطالة الحياة إلا ما لا نهاية.13


السبت، 16 يونيو 2018

مهرجان دولي لمدارس المسرح والسيرك في فرنسا

مجلة الفنون المسرحية

مهرجان دولي لمدارس المسرح والسيرك في فرنسا

باريس -  العمانية:

يقام بمدينة «ليموج» الواقعة وسط غرب فرنسا المهرجان الدولي لمدارس المسرح والسيرك بحضور نحو 100 طالب كوميدي من مؤسسات في فرنسا وبوركينافاسو وسنغافورة والصين.
وتتضمن نشاطات المهرجان عرض قطع مسرحية أنتجها المشاركون ودراستها ونقاش مختلف نقاط قوتها وضعفها.
وقالت فيكتورين ساوادوغو من مدرسة «كانديما» في واغادوغو، عاصمة بوركينافاسو، إنها تطمح لأن تصبح كوميدية للتعبير عن نفسها وأنها تتمنى أن يتمكن أناس في العالم أجمع من معرفة قيمة المسرح ودوره في تشخيص ومعالجة مشاكل المجتمع.
من جانبها، قالت المخرجة البوركينابية أوديل سانكارا إن المسرح، حتى ولو كان يدرس بنفس الطريقة في بوركينافاسو وفرنسا والصين وسنغافورة، إلا أنه يتميز بخصوصيات معينة في كل واحد من هذه البلدان.
وأوضحت أن قوة المسرح تكمن في كونه يظل فنا عالميا ذا أسس موحدة تتأثر بالفضاء الجغرافي والثقافي والمعتقدات والقيم وطريقة رؤية العالم والتعامل معه في كل مجتمع على حدة.

الخطايا العشر مسلسل باحداث وشخصيات وافكار وحبكة ممسرحة

مجلة الفنون المسرحية

 الخطايا العشر مسلسل  باحداث وشخصيات وافكار  وحبكة ممسرحة

وضاء الحمداني 

نساء المسلسل نساء متنمرات ورجال المسلسل رجال ضعاف الشخصية والنفوس . المشهد الاول المسرحي عرس بثينة ووقوف اختها سارة مع امها بجنب البنت بثينة  التي  تخسر الكل بكلامها الجارح مع الكل , الا ان المشهد المثير للانتباه تكاتف الاختان والام
ورفض اللقاء مع الاب يذكرنا بمشهد مسرحية تشيخوف الاخوات الثلاث ومشهد مسرحيةبريشت الام شجاعة حيث الام وكاترينا ,  الان نحلل الشخصيات .
سعاد : امرأة متنمرة خائنة ترفض واقعها لكنها في النهاية تظهر شخصية طيبة القلب .
طيبة : امرأة اسمى على مسمى طيبة حنونة تربي  ابناءها بشرف .
سارة : اول ما تظهر متنمرة وهي مطلقة لكنها في الحقيقة طيبة وعطوفة وحنونة من الداخل 
رغم اصابتها بالسكر .
نورية : صديقة سارة وحبيبة اخيها عبد الله وهي امرأة كاذبة تبحث عن المصلحة في علاقاتها .هناء : امرأة متنمرة يظهر في فعلها الخبث وخصوصا مع عائلة طيبة وابناءها وهي امرأة خالية من المشاعر والعاطفة .
ليلي : امرأة متنمرة عديمة الشخصية غير متحكمة في افعالها تتحكم فيها هناء كلعبة تذكرنا بشخصية نورا في بيت الدمية تارة تكون لعبة وتارة ترفض واقعها فتصفق الباب وتترك زوجها.
منعم : الاب شخصية ضعيفة ينقاد وراء زوجته الاولى هناء ويكون بين يديها كطينة صلصال
تشكله هناء كيف تشاء .
ابراهيم : الابن الاكبر لطيبة شخص معتدل بارد متوازن في طبعه من الخارج لكنه عاطفي
حنون جدا من الداخل .
عبد الله : الابن الاصغر شخص متهور غير متوازن متعلم لكنه يعاشر الجهلاء فيتطبع بأطباع
الجهل والمقامرة في السباقات والحياة لكنه عاطفي تجاه امه واخواته ماعدا اخوه .
د.سلمان : شخصية ضعيفة لكنها متعلمة مثقفة تقنع جميع الناس الا اهله واقاربه يظهر خلاف مايبطن يصدق مايقال له دون ان يتحرى كامل الحقيقة من كل ابعادها المطلوبة .
عبسي : شخص معتدل متوازن عاطفي صديق مخلص وفي للاب منعم .
توفيق : اخو اماني زوجة سلمان شخص ضعيف الشخصية يتخلى عن اخته في اصعب المواقف 
واتفه الاسباب .
شخصية السفير اب سعاد : شخصية قوية رغم اعاقته بالجلوس على كرسي متحرك لكنه شخص قوي حكيم معتدل متوازن وعاطفي على كل اقاربه .
زيد : شخصية خائنة يحاول تبسيط الامور والافعال وان كانت غير مقبولة معجب بنفسه
واطلاقه الحكم التي تتماشى مع مصلحته والموقف الذي بتعرض له .
كريم : صديق ابراهيم شخص قوي متوازن عاطفي صديق مخلص وفي لصديقه محب لزوجته.
يوسف : زوج بثينة رجل ضعيف الشخصية لا يقدر ان يحكم زوجته وان يكون اسرة بضعفه
ولقوة شخصية زوجته بثينة . 
ان المسلسل باشخاصه واحداثه وافكاره وحبكته تحس بانها مسرحية اقرب للواقع وان الاحداث بشخوصها بانها شخصيات حية تعيش بيننا تمشي وتأكل وتتحرك بيننا فاظهر الممثلون براعة
فائقة في الواقعية في التمثيل والصدق في الاداء , وفي النهاية اود ان اضيف على شخصية 
عبد الله يذكرنا بمسرح العبث حينما حرق منزل ابوه الذي يرتكز هذا المسرح على العناصر الثلاث الانتحار القتل الاخطاء المؤلمة ويرى بان جميع البشر اعداءه وهم مستحقين للموت وان
السعادة لا تتحقق الا بالموت ما عدا اهله القريبين عليه فقط  كما يرى مسرح العبث ورائده كامو , ونقطة اخرى تصارع النساء حول زيد وابراهيم يذكرنا بمسرحية الاقوى لستريندبيرج
السويدي , المرأة المتنمرة امرأة صعبة الانقياد والترويض والتحكم  يتحكم فيها عوامل البيئة والواقع والاصدقاء والمجتمع .

الخميس، 14 يونيو 2018

الحصاد.. محاولة الارتكان للتراث العالمي

مجلة الفنون المسرحية

الحصاد.. محاولة الارتكان للتراث العالمي 


محمد النجار - جريدة مسرحنا


علي خشبة مسرح أوبرا ملك بالقاهرة وضمن فعاليات المهرجان الختامي لنوادي المسرح في نسخته السابعة والعشرين قدم فريق نادي مسرح سوهاج العرض المسرحي الحصاد والذي أثار جدلا مستحبا بين أوساط المتفرجين بدءا من الإعلان عنه في جدول المهرجان وحتي قبيل بدء العرض على خشبة المسرح ذلك أنه بداية عرض مسرحي قادم من صعيد مصر ويحمل توقيع فتاة )مؤلفا ومخرجا) - رضوى محمود – بل ومصممة للكريوجراف - مروة محمود – وفي هذا سعي نراه محمودا لتقلد المرأة في الصعيد وفي مصر بأثرها مكانة تستحقها في خريطة الإبداع المسرحي لأبناء الجنوب وبالعودة لاسم العرض ( الحصاد ) وبلد المنشأ ( سوهاج ) نجدنا بشكل فطري كونا أفقا لتوقع دلالات العرض المسرحي واطروحته الا ان كل التوقعات التي تم رسمها بخصوص العرض ذهبت سدي ذلك انه كالمعروف والمعتاد في تجارب  نوادي المسرح انها تجارب تحاول الخروج عن المألوف والمعتاد وتعلن بشكل اساسي عن اعتناق الحرية المطلقة في الطرح والاطروحة وبالعودة الي لحظات بدء العرض المسرحي ( الحصاد ) لنادي مسرح ( سوهاج ) والذي احتلت فيه المرأة مركز الصدارة والقيادة بل وتغلغل دورها ايضا علي مستوي التشخيص والتجسيد نجد اننا امام عرض مسرح مختلف ذلك اننا امام تكوين صخري يشبه الكهف طوال فترة التشخيص كاطار عام أطر الرؤية زمانا ومكانا تشكيلياً وافتراضيا وان تم الانتقال بالزمان والمكان باختلاف البؤر سواء كانت هذه البؤر ضوئية او باجساد الممثلين وحركة الكريوجراف والميزانسين فهو بالتبعية عرض بدأ من الكهف وعاد الي الكهف في شكل جلي واحتلت خشبة المسرح للعديد من الطاقات التشخيصية الحركية وتراجع الحوار المنطوق والملفوظ في اغلب لحظات العرض لدرجة اقرب الي الاختفاء لتحتل مكانه الحركة للتعبير عن الطرح الفكري والذي احتوي زخما وجوديا بطبيعة الحال ناتج عن الصراع الأبدي والمكرر بين الأبيض والأسود بثنائية الخير والشر التي احتلت فراغ خشبة المسرح طوال الوقت لتعلن عن أفكار مقولبة ومعلبة عن صراع الإنسان مع الآخر والسعي إلى الوصول إلى الأنا والأنا المثالية والابتعاد عن دلالات الانسحاق في الصراعات الأيدلوجية العديدة في الوقت الراهن والتي لم ينج منها أحد سواء من تمسك بمبادئه أو تخلى عنها على السواء .
جاء العرض رافضا الاستعانة بالتراث الزاخر والمتجدد لصعيد مصر ومعارضا ومشاكسا للرؤي الإبداعية العالمية المنشأ والتأثير بشكل راقص اقترب من فن الباليه حينا ومن التعبير الحركي في كل الأحيان ليعلن العرض عن ممثلة ومخرجة ومؤلفة مهمومة بقضايا وجودية مجردة أكثر من اهتمامها بقضايا الأصالة والتفرد بالانغماس في التراث المحلي فرأت بالضرورة أن الارتكان للتراث العالمي سيحقق لها رؤية الحقيقة بشكل أوضح وقول ما قد ينوء عن قوله وحمله الثقافة المحلية والإقليمية فاتجهت إلى قراءة ورؤية ثقافات الآخر وسماع موسيقاهم فاستفادت من درة الكلاسيكيات العالمية لفن البالية ( بحيرة البجع ) وأحال الصراع بين الفتاة مرتدية الملابس السوداء والفتاة مرتدية الملابس البيضاء إلى الصراع الأشهر في بحيرة البجع بين ( أوديت وأوديل ) واللافت للانتباه هو الاجتهاد الكبير الذي قامت به  أغلب الممثلات ( تحديدا ) في الإمساك بإيقاع النغم والحركة على الرغم  من ابتعادهم عن طبيعة هذه الأدوار ( ماديا ونفسيا ) فاهتمت  الكروجراف بتشكيلات اقتربت من تشكيلات الكورد باليه مع رقصات فردية وثنائية لصاحبات الرداء الأسود والأبيض.
هم مجموعة من الرجال والنساء في اللامكان يسعون إلى العمل والجد والاجتهاد لتوفير سبل العيش الكريم بالعمل ومع اقتراب الآخر ودعوته إليهم بالتكاسل والتراخي شرط سلبهم سبل الحياة وتحويلهم إلى تابعين له لا لغيره مع توفير الطعام لكل فم فرضخ البسطاء لسلب أدواتهم التي بها يكدون  ويشتغلون ليأكلوا وانتظروا المنح والعطايا من الآخر حتى إذا حاول أحدهم أن يبصرهم بخطأ تكاسلهم نهروه ولفظوه وسلبوه حياته وملابسهم فولد هذا الساعي إلى إنقاذ ذويه كطاغية ينكل بهم وسعى لاستقطاب الباليرينا ذات الرداء الأبيض وعذبها وحاول جعلها تابعه له لا للآخر المستبد بعد أن تحول هو الآخر إلى آخر وارتدي ملابسهم حتى جاء المدد والعون من الصالة بذاك الشاب المقنع الذي ما أن حاول إنقاذ فتاته ذات الملابس البيضاء ونجح تقريبا تظهر الباليرينا  ذات الملابس السوداء لتغويه فاغتوى واستقطبه فاستقطب وأصبح المقنع تابعا هو الآخر للآخر المستبعد وأهملت الفتاة البيضاء كل تلك الأحداث جسدت وشخصت بشكل حركي وعلق عليها تباعا رجل يجلس في كهفه معتنقا اليوجا منهجا مرتديا ملابس بيضاء ملمحا ويحاول أن يتعلم منه شاب دهن وجهه باللون الأسود والنص الثاني باللون الأسود ليتأرجح الشاب بين هذا وذلك وتعلن الأفكار الوجودية والآيديولوجية بشكل سردي مباشر عن طريقهم بشكل مدرسي معلنا عن الهشيم المتأرجح بين هذا وذاك وطارحا الفرضية الأكثر جدلا : هل التخلي عن الثقافة المحلية والانقياد للشكل الغربي مضمونا وفكرا هو الانسب؟ أم محاولة تطوير الخطاب المحلي للوصول إلى صيغة عالمية التأثير هو الأصلح ؟ 

الأربعاء، 13 يونيو 2018

المسرح والفلسفة وحدود الأداء

مجلة الفنون المسرحية


 المسرح والفلسفة  وحدود الأداء


ترجمة أحمد عبد الفتاح - جريدة مسرحنا 


    لقد كان مقدرا للفلسفة، وهي العلم الذي يهتم بالحقيقة والوجود وأسس المعرفة، أن تمقت المسرح، الذي يرتكز على الكذب والتظاهر والعوالم الزائفة. فلم تكن الهجمات الفلسفية على المسرح، لأنها صاحبت تاريخ الفلسفة منذ أفلاطون، متكررة فقط، بل كانت غير مفاجئة. وفي الوقت نفسه، دافع عن المسرح كثيرون من بينهم الكثير من كتاب المسرح من خلال ابتكار صورة ساخرة للفلاسفة فجسدوهم كحمقى ومشعوذين على خشبة المسرح، وهو التقليد الذي بدأ مع أرستوفانيس في مسرحية «السحب Clouds». وبالطبع يمكن اعتبار أفلاطون وأرستوفانيس ممثلين لعدم الثقة المتبادلة بين المسرح والفلسفة، عدم الثقة التي تم تعديلها من خلال التاريخ القياسي لكلا المجالين.
ولا بد من تحدي التعارض الموروث بين الفلسفة والمسرح، ويمكن أن يبدأ هذا التحدي من نشأته، بالإشارة إلى أن التعارض بين أفلاطون وأرستوفانيس يوجد في الواقع في داخل مجال المسرح، بين نوعي الدراما: حوار أفلاطون الفلسفي والكوميديا القديمة عند أرستوفانيس. وكلاهما ازدحم بالشخصيات المبتكرة التي تتكلم وتتفاعل في مختلف الظروف، وفي كل من الفرق بين الحجة المجردة والفعل التصويري scenic action المحسوس بشدة والموزع ببراعة. والشكل الدرامي الشائع المختار بواسطة هذين المؤلفين، ولو لم يكن مماثلا، فيمكن تناوله كنقطة انطلاق لاستنباط مغزى الدراما والمسرح بالنسبة لتاريخ الفلسفة – وبشكل معكوس، مغزى الفلسفة بالنسبة لتاريخ المسرح – الذي تم حجبه بواسطة الانقسام الظاهري بين المجالين. إذ يُنظر إلى الفلسفات المسرحية والمسرحيات الفلسفية باعتبارها ظواهر هامشية، عندما تُفهم على الإطلاق. ورغم ذلك، يؤكدون أنفسهم في تاريخ كلا المجالين مع بعض التكرار.
ويعد فريدريش نيتشه الفيلسوف الذي لم يبتكر فلسفة مسرحية فقط، بل تمكن أيضا من تقديم مجموعة من الأتباع، وهو تقليد كامل في الفلسفة المسرحية – وهو أمر نادر في تاريخ الفلسفة. فلم تدم عنايته بالفلسفة المسرحية وولعه بالمسرح طويلا، بداية من التراجيديا اليونانية وحتى فاجنر، رغم أن هذا الولع يمكن اعتباره أول مؤشر لمغزى المسرح في فكر نيتشة. والأقرب إلى جوهر أعماله هو اعتماده علي الشخصيات الخيالية والأقنعة مثل ديونيسيوس وزاردشت، ولكن أيضا نظريته الوهمية في القوى، التي تقوم علي مفهوم إجمالي للنزعة المسرحية. وعندما يتكلم نيتشة عن الأقنعة والأداء المسرحي والتجسيد فإنه يؤكد دائما أننا لا نفهم هذه النزعة المسرحية باعتبارها تشكيل ثانوي، وكأنه كانت هناك عوامل اكتسبت أقنعة لكي تخفي وجوهها الحقيقية. فلا توجد مقومات ثابتة وراء الفعل المسرحي، ولا يوجد ممثل بلا قناع وراء الشخصية، فقد أصبحت النزعة المسرحية هي الشرط الأساسي للحقيقة. والمسرحانية هنا في خدمة برنامج جوهري وتأسيسي مضاد: الجوهر والأرضية الصلبة – سواء كانت لغة متحولة أو مبادئ أخلاقية أو معرفة – المنتزع من تحت أقدام الفلسفة التأسيسية وازاحته لخشبة المسرح. والصادق مع مجمل المسرحانية، وهي مراحل علي طول الطريق.
فالنزعة التأسيسية المضادة أو الجوهرية المضادة هي التراث الذي يمنحه نيتشه لمختلف ورثته، بما في ذلك دراسة (جيل ديليوز (Giles Deleuze «التكرار والاختلاف Repitation and Difference»، وأيضا بيتر سلوتريك Peter Sloterdijk الذي يلقبه باسم «المفكر علي خشبة المسرح» في كتابه الذي يحمل نفس العنوان. ورغم ذلك، لم تٌستمد كل الفلسفة المسرحية في القرن العشرين من نيتشه مباشرة. فمثلا، حول والتر بنيامين دراسته للدراما التراجيدية الألمانية إلى تمرين فلسفي، واستخدم عدد من المنظرين، من بينهم فيليب لاكو - لابارث Philippe Lacoue - Labarthe وجان فرنسوا ليوتار Jean - Francois Lyotard، المفاهيم المسرحية في نظرياتهم أيضا. وبمجرد أن نلتفت إلى دور المسرحانية في فلسفة القرن التاسع عشر والقرن العشرين، نلاحظ رغم ذلك أن الفلسفة قبل نيتشة، بداية من هيجل مرورا بكيركيجارد وصولا إلى ماركس، تعتمد علي المجازات والمفاهيم المسرحية. وبعد قرون من الخصومة الواضحة، والتي تم التعبير عنها فيما يسمى التحيز المسرحي المضاد، يبدو أن المسرح والنظرية قد عادا مرة أخرى إلى أصلهما اليوناني المشترك وهو الفكر والفرجة.
وقد كان تلاقي المسرح والنظرية محسوسا في القرن العشرين في عدد من فروع العلم المختلفة. فدراسات في العلوم السياسية وعلم الاجتماع، مثل دراسة ريتشارد سانيت Richard Sannitt «سقوط الشخصية العامة the fall of the public man «تعامل مع المسرح باعتباره مثالا مفضلا لتكوين مجال العمل العام، بينما يستخدم ايرفنج جوفمان Erving Goffman في دراسة «تحليل الإطار» ما يسميه «الإطار المسرحي» كوسيلة لتنظير تنظيم الخبرة. علاوة علي ذلك، يجلب فيكتور تيرنر Victor Turner النماذج المسرحية إلى الانثروبولوجيا، أو بحسب الكيفية التي تنظر بها، يجلب الأنثروبولوجيا إلى دراسات المسرح.
ورغم ذلك، فان مجال الدراسة الذي يمثل عودة النظرية المسرحية واعتمدت عليه المجالات المسرحية الأخرى هو دراسات الأداء. فعلي الرغم من أن دراسات الأداء قد فصلت نفسها عن مفهوم المسرح، فمن الممكن أن يٌري الأداء باعتباره صيغة امتداد المسرحانية إلى مجالات أخرى. ولهذا السبب، سوف استخدمه لإثارة سؤال حدود المسرح في النظرية، وحدود مفهوم المسرحانية (أو الأداء) وهو ينظم
امتداد هذا المجال الشاب لمزيد من المجالات. ولعل كينيث بوركKenneth Burk هو الكاتب الذي يستدعي هذا الاستفسار والذي تتجاوز اهتماماته كل سلسلة دراسات الأداء بداية من المسرح الطقسي والأنثروبولوجيا وصولا إلى فلسفة اللغة وعلم الاجتماع، والذي يتم تناوله باعتباره أحد أسلاف دراسات الأداء. ولذلك، اقترح من خلال قراءة بورك التدقيق في مؤثرات المسرح داخل النظرية وهي تٌطبق علي سؤال حدود دراسات الأداء.
النزعة الدرامية عند كينيث بورك
يذكر العلم الناتج عن السرديات والأساطير التأسيسية المستوحاة دراسات الأداء في أعمال كينيث بورك، دون أن يكون قادرا علي تحديد مكانه في تشكيل المجال. فمثلا تناقش دراسة مارفن كارلسون «الأداء: مقدمة نقدية «إسهامات بورك في ثلاثة مجالات مركزية في نشأة دراسات الأداء: الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، وأداء اللغة. ويشير مؤسسو دراسات الأداء في جامعة نيويورك، وهما فيكتور تيرنر وريتشارد شيشنر، إلى بورك بشكل متكرر. وأود أن اقترح أن مركزية بورك في دراسات الأداء تكمن في حقيقة أكنه أكثر من مجرد شخص طور الشكل في الفلسفة المسرحية وأعطاها اسمها: النزعة الدرامية Dramatism. واقترح أن نقرأ بورك علي أمل فهم أفضل للشروط التنظيمية والفلسفية التي أنشئت دراسات الأداء، لأنه من خلال التوصل إلى اتفاق مع ظهور النظرية المسرحية وفلسفتها نستطيع أن نفهم الفروض الفلسفية لهذا المجال.
تصف النزعة الدرامية عند بورك التوسع التدريجي في المسرحانية التي تبدأ بالاهتمام بالتراجيديا اليونانية، وتستمر مع نظرية مسرحية للغة وعلم اجتماع التفاعل الإنساني، وتتبلور في استخدام المسرحانية كمعيار نحكم به علي تاريخ الفلسفة نفسه. وتكرست الدراسة الأولي – وهي في شكل كتاب - إلى ما سماه بروك فيما بعد النزعة الدرامية، وهي «فلسفة الشكل الأدبي The philosophy of the literary form» (1941). وفي هذه الدراسة، وأثناء فصل «قراءة الشعر» يقاطع بورك نفسه لكي يلاحظ أن «المنظور العام الذي يتضافر مع منهج تحليلنا يمكن أن يتميز باختصار بأنه نظرية في الدراما «. ونظرية الدراما هذه ليست موجهة نحو تحليل مختلف الأشكال الدرامية أو مسرحيات العصور المختلفة، بل هي نظرية في نشأة الدراما. ويواصل بورك كلامه قائلا «نقترح تناول الدراما الطقسية باعتبارها الشكل الأصيل والمحور، مع كل صور الفعل الإنساني الأخرى التي تعٌامل كمتحدث يشع من هذا المحور «. ويصدق علي هذا الاهتمام بالأصول، الإشارات إلى ظهور الدراما اليونانية من أغنية الماعز التي امتدت إلى أشكال أخري من الطقوس، وهو اهتمام مدفوع بتأثير كتاب جيمس فرايزر «الغصن الذهبي The Golden Bough، (وقد التقط شيشنر فيما بعد هذا الخيط وقدم استجابته لفرايزر وللمسرح الطقسي). ورغم ذلك يدافع بورك عن طقوس الإخصاب ورقصات المطر باعتبار أنها كامنة في البنية الزراعية الفعالة. حتى القبيلة التي تعتمد علي الخرافات يجب أن يكون لديها عدة طرق ملائمة لتحديد العقبات والفرص الحقيقية في العالم، والا لن تستطيع أن تحافظ علي نفسها. ويقول بورك ذلك وكأنه عالم أنثروبولوجي مهتم بالصورة الوظيفية للطقس والمسرح الطقسي.
ورغم ذلك، يتضح بشكل متزايد أن بورك أقل اهتماما بطقوس قبائل بعينها من المخطط المستمد من علماء الأنثروبولوجيا الأوائل، مثل فرايزر، إذ يٌفترض أن تسمح له أنماط السلوك البشري العامة والطقوس في النهاية أن يحلل كل صور الفعل الإنساني. ولعل أحد نماذجه المفضلة هو الأضحية Scapegoat، التي تربط اهتمامه بالتراجيديا اليونانية بالتاريخ (قطع رؤوس الملوك) ويربطها بسوسيولوجيا مختلف الأنساق العقابية. ولن نندهش أن نسمع أن بورك في النهاية لم يهتم بالاعتراضات التي أثيرت ضد الملائمة التاريخية لنظريته في الطقس والمسرح الطقسي، لأن ما كان يسعي ورائه هو تحديد المتغيرات – مفردة أو مجموعة من الأحداثيات، تستخدم بشكل أفضل من أجل تكامل الظواهر المدروسة بواسطة العلوم الاجتماعية. ولذلك يتجرد بورك شيئا فشيئا من موضوعات التحليل الفورية، وهو الأصل الطقسي للتراجيديا اليونانية، وينتقل إلى نظرية عامة لا تنتهي فقط بضم كل التفاعلات الإنسانية ولكن أيضا دراسة الطبيعة أيضا. إذ يقول «الخطوط العريضة لوضعنا يمكن أن تكون مدونة كالتالي:(1) لدينا الدراما والمشهد الدرامي. والدراما تتجسد أمام خلفية. (2) وصف المشهد هو دور العلوم الفيزيقية، ووصف الدراما هو دور العلوم الاجتماعية. وفي مسار هذا التوسع المتطرف في «المحور الدرامي «يذكر بورك أولا في الهامش ما سماه فيما بعد خماسية الكاتب الدرامي، وهو المخطط المسرحي القابل للتطبيق العام.
وبالنسبة لمفكر تخطيطي مثل بورك، فان النقلة من أصل التراجيديا اليونانية إلى كل مجالات الفعل الإنساني ثم إلى العلوم الطبيعية تحتاج عددا من الخطوات الوسيطة. ويتحقق هذا التوسيط بتصنيف الفعل الرمزي الذي يتنبأ ويمضي إلى ما وراء نظرية أوستن في أفعال الكلام Speech acts التي دخلت إلى مفردات دراسات الأداء في الثمانينات. إذ تٌفهم نظرية اللغة باعتبارها فعلا رمزيا بالمقارنة إلى ما يسميه بورك الدلالي المثالي the semantic ideal. والدلالي المثالي هو صياغة أوستن لفعل الكلام الاستفزازي Constative speech act، ومحاولة استخدام اللغة كوسيلة تنظيمية للحقيقة. إذ يرى بورك أن هذه المثالية الدلالية التي قدمت بوضوح بواسطة فيلسوف حلقة فيينا رودولف كرناب Rudolf Carnap الذي سعي إلى اختزال اللغة إلى مجموعة من الجمل البديهية الأولية يمكن أن تٌستنتج منها بالمنطق. ويناقش بورك هذه المثالية لكي يوضح عنفها المعياري. ومن خلال توقعه لنقد أدورنو وهوركهايمر للمنطق الوسائلي، وهجوم فوكوه علي عقلانية التنوير، يوضح بورك أن الدلالي المثالي يمكن أن يستخدم للسيطرة علي البشر بطريقة مماثلة لترخيص السيارة، بسجل محفوظ في المركز الرئيس، ومثل معايير بيرتيليون Bertillon للمجرمين المشهورين. وبالطبع يشير بورك إلى زنزانة بينتام الدائرية كمثال لأنواع التأديب والعقاب الذي يمارسه الفهم الوضعي والتصنيفي للغة.
ولمعارضة الدلالي المثالي الذي يجعل من اللغة وسيلة للتوظيف مثل سجلات الشرطة، يقترح بورك نظرية في الفعل الرمزي تنطلق من أفعال الجسم البشري، حتى عندما يتعلق الأمر بتحليل القصائد. وفيما يبدو علي الأرجح أنها عبارته المشهورة، يقول بورك إن «الفعل الرمزي هو رقص التوجه... وفي هذا التكلف في القصيدة، قد يصبح الجسم في النهاية منغمسا. فتأكيد بورك علي النطق، ورغبته في ربط فعل الكلام بالجسم ككل، هو التصحيح للدلالي المثالي الذي حاول أن يعزل اللغة عن مشهد النطق وموقفه. وقد سبق أن قدم كل من أوستن وفيتجنشتاين أساسا مماثلا، بتأكيدهما أن اللغة تكون ذات اعتبار في لحظة التجسيد التي سماها أوستن الأدائية Performativity. ورغم ذلك، في حين يتوقف أوستن عند تصنيف مختلف مواقف النطق، ينقل بورك نظرية اللغة إلى مجال الشعر والفن عموما. ولعل اهتمامه بفهم أفضل للشعر الذي يعمل في كل فعل كلام ولكن فعل الكلام الذي يضعه في مقدمة أفعال الكلام الخاصة التي تسمى الشعر. فما معنى تأمل قصيدة في إطار رقص التوجه؟.
وهنا يقترب بورك من التقاليد التي تهتم بالربط بين الجسم واللغة علي الأخص، وتحديدا نظرية الإيماءة theory of gesture. فالإيماءة هي التصنيف الذي يربط تعبير الجسم بتعبير اللغة، وبذلك يعد بملء الفراغ الذي تركته نظريات اللغة التي تقوم علي الدلالي المثالي. فمثلا، يشير بورك إلى الناقد الأدبي ر.ب.بلاكمور R.P. Blackmur الذي استخدم مصطلح الإيماءة في قراءة الشعر. لخشيته أن تتحول الإيماءة إلى مصطلح مجازي، ينتقل بورك في النهاية إلى نظرية ريتشارد بياجيت في اللغة الإيمائية التي تقدم فهما حرفيا للغة الإيمائية باعتبارها تقوم علي اختيار مجموعة من الوحدات الصوتية. ويشارك كل من باجيت وبلاكمور في تقاليد طويلة لتنظير الأصل الإيمائي للغة (عند كودلاك وفيكو وهيردر ووربرتون ورسو) والتي كانت تستخدم غالبا بواسطة كتاب الحداثة لصياغة نقدهم للمجرد واللغة غير الإيمائية (بيكيت وجويس وهوفمنستال ومالارميه). والأهم، رغم ذلك، هو حقيقة أن تصنيف الإيماءة يربط اللغة والأدب بمجال المسرح، حيث كانت تستخدم بشكل موسع بواسطة منظري وممارسي المسرح، بداية من فاجنر ومايرهولد وصولا إلى بريخت وارتو. ولذلك يدفع بورك تحليل أفعال الكلام بدقة في التوجه الذي حاول أن يتجنبه أوستن لأنه اعتبره طفيلي وشاذ، وهو تحديدا المسرح والمسرحانية.
ولكن كيف تستخدم نظرية الفعل الإيمائي الرمزي لفهم كل أشكال التفاعل الإنساني؟. يبدأ بورك بشيء مماثل لتعريف ريتشارد شيشنر للأداء بأنه «السلوك الذي يمارس مرتين «. فلكي كل حركة تصبح إيماءة فيجب أن تكون تمثيلية Representative. وهذا يعني أنها يجب أن تتكرر. فمثلا عندما يضع شخص يده علي الطاولة تعد هذه حركة فريدة، وهي فعل حقيقي، ومع ذلك سمعت رساما تعجب من هذه اللحظة «هكذا... هو وضعك المميز. إذ يصبح الفعل الفريد إيماءة وملمح توجه، إذا كان يٌرى باعتباره جزء من سلسلة تكرارات. فالإيماءة أو التوجه تؤسس كذلك صلة بين مختلف أشكال الفعل الرمزي، بداية من الإيماءات التكرارية في الحياة العادية وصولا إلى نماذج الصور وتداعي المعاني المتكررة في القصائد.والخطوة الحاسة الأخيرة في امتداد المسرحانية إلى التصنيف الفلسفي حدثت بعد ذلك بعدة سنوات، ففي دراسته «قواعد الدوافع A Grammer of Motives» (1945)، يطور بورك منهجا لقراءة كل تاريخ الفلسفة في إطار مسرحي. ويمكننا أن نتناول هذا النص باعتباره بلورة لتحوله المسرحي، لأن كل تاريخ الفلسفة نفسه يٌري بأثر رجعي من خلال عدسات مسرحية. ومما لا شك فيه أن بورك يقدم ما أشار إليه، وهو تحديدا الخماسية الدرامية dramatist pentad التي تتكون من خمسة مصطلحات أو تصنيفات بداية من الممثل عند أرسطو، والواسطة والفعل والهدف والمشهد. تقدم أربعة من هذه المصطلحات – الممثل والطاقة والفعل والهدف - مختلف المنظورات علي الحدث (الفعل)، والتصنيف الدرامي الأولي، بينما يصف المصطلح الخامس – وهو المشهد – المكان أو المجال الذي يقع فيه الحدث. ورغم ذلك يبدو أن التخطيط الدرامي يتهيأ تجاه تحليل الدراما – يمكن أن نستخدمه كما فعل أرسطو، لكي يقول إن الحدث الدرامي أهم من العامل (أو الشخصية) – فليس مقصودا أن نحلل فعلا الدراما، التي لا يزال بورك يستشهد بها كثيرا، بل بالأحرى ما يمكن أن يسمى التاريخ المسرحي للفلسفة. ويكتب بورك مستعيرا ببراعة من الرياضة: «في هذا الفصل لن يكون هدفي فقط أن ألخص وأكتب عن فلسفات الماضي. فأنا أحاول بالأحرى أن أوضح كيف أن مصطلحات أساسية بعينها يمكن أن تستخدم «لتسمية المسرحيات» في أي فلسفة وكل فلسفة. وربما لا يوجد تعريف أفضل للتحول المسرحي من افتراض أن الفلسفات المختلفة هي ذاتها تقوم علي فهم مختلف للمسرحانية، التي تجد تحت كل نسق فلسفي مسرحية.
وبمجرد أن يتم تثبيت المسرحانية في قلب الفلسفة، يصنف بورك كل فيلسوف يستحق الذكر ويحلله – أفلاطون، وأرسطو، وهوبز، وسبينوزا، وبيركلي، وهيوم، وليبينتس، وكانت، وهيجل، وماركس، وجيمس سانتيانا، وقد تطول القائمة – والذي يتميز بأي مصطلح من المصطلحات الدرامية الخمسة. فهؤلاء الفلاسفة الذين تصدروا المشهد هم فلاسفة ماديين، والذين ركزوا علي العامل (الشخصية) فلاسفة مثاليين، والذين ركزوا علي القوة هم فلاسفة عمليين، والذين استثمروا في الهدف هم فلاسفة صوفيون، والذين اهتموا بالفعل هم فلاسفة واقعيون. وبهذه الطريقة يتم استنتاج الركيزة المسرحية لأي فكرة فلسفية وتترجم إلى الخماسي. فمثلا، تصبح فكرة الذات في المثالية العامل المسرحي، بينما تصبح الشروط المادية في الماركسية المشهد. ويمكن أن يستخدم هذا التمرين في الترجمة أيضا لابراز التناقض داخل نسق فلسفي بعينه. وفي قراءة للبيان الرسمي الشيوعي، مثلا، يوضح بورك أن هناك توتر بين تفضيل الشروط المادية، بمعنى المشهد، والأمل في الفعل الثوري الذي سوف ينقل المشهد. ولذلك لا تؤسس المصطلحات الدرامية الخمسة الإطار الذي يتضح فيه تاريخ الفلسفة فقط، بل أيضا يتوظف باعتباره تصنيفات تحليلية تبرز التناقضات والمناطق العمياء في كل فلسفة.
المسرح والجدل(الديلكتيك):
لأن نزعة بورك الدرامية توظف كنوع من الفلسفة الشارحة metaphilosophy، وهي نسق لتحليل تاريخ الأنساق الفلسفية، فلا بد أن نسأل من أين استمدت هذه الفلسفة نفسها. ويجيب بورك مباشرة بقوله: «العلاقة بين الدراما والجدل(الديلكتيك) واضحة، فقد كٌتبت جدليات أفلاطون بشكل ملائم بأسلوب الدراما الطقسية. ورغم ذلك، لم يكن المصدر الرئيس لما وراء تاريخ الفلسفة عند بورك هو نزعة أفلاطون الجدلية، بل جدليات هيجل. فما ورثه بورك من هيجل هو فهم التاريخ باعتباره عملية درامية. إذ تبدأ فلسفة التاريخ عند هيجل بالتأكيد علي أن تاريخ العالم يحدث وكأنه في المسرح وينتهي بتأمل تاريخ الروح في مختلف تمثيلاتها المسرحية (schauspiele). فتاريخ العالم يتوافق مع المسرح، وأن المراحل المختلفة في تاريخ العالم هي التغيرات الكبيرة في الشاهد والشخصيات. وفي سياق مماثل، يكتب بورك قائلا: «بمساواة الدرامي بالجدلي، نملك تلقائيا أيضا منظورنا لتحليل التاريخ، والذي هو عملية درامية أيضا تتعلق بالتعارض الجدلي «. وهنا نقترب من أحد الروابط الأساسية بين الفلسفة والمسرح، وتحديدا صلة القرابة بين الجدلية والدراما. فكلاهما يصران علي تعدد الأصوات، ويثق كلاهما أن هذه التعددية سوف تولد التحول والتغير: دراما التاريخ هي التحول الذي ينبع من مواجهة المواقف غير القابلة للاختزال. وبمساعدة بورك، نستطيع أن نفهم أن رؤية هيجل للفلسفة التي تتجاوز الفلسفة اليونانية تعني أن فلسفته الجدلية ليست إلا تجريدا عاما للمسرح الحواري. ومن خلال قراءة تاريخ الفلسفة بشكل درامي، أو باستخدام مصطلحه «درامي» يعيد الفلسفة الجدلية إلى المسرح التي كانت مستمدة منها أصلا.
علي الرغم من أن بورك يربط الفلسفة بالمسرح، فان أعماله تقدم تقلبا مميزا بين اهتمام بالمسرح وميل لاستنتاج مفهوم فلسفي من المسرح. فلا يبدو أن هناك دمج سهل للمسرح والنظرية، حتى بالنسبة لفلاسفة المسرح هؤلاء. وبشكل أو بآخر، يستمد كل منظري التحول المسرحي مجازاتهم وتشبيهاتهم الرئيسية من المسرح الفعلي. استمد هيجل مجازاته من التراجيديا اليونانية، واستمدها نيتشه من ريتشارد فاجنر، واستمدها بنيامين من الباروك، واستمدها ديليوز من ارتو. ورغم ذلك، عاجلا أم آجلا، فإنهم يتحولون جميعا بعيدا عن المسرح باعتباره موضوع الاستفسار الأولي. فلم يكن عمل نيتشه المبكر حول نشأة التراجيديا نصا في مجال تاريخ المسرح، بل نصا فلسفيا تصادف أن يأخذ شكل التاريخ الإسقاطي والتأملي لتاريخ التراجيديا. وقد تأكد هذه الرؤية في حقيقة أن نيتشه انقلب علي فاجنر فيما بعد وضد المسرح أيضا، رافضا لفاجنر باستخدام مفردات مسرحية مضادة. وبالمثل كان لدراسة والتر بنيامين للمسرح في عصر الباروك هدفها النهائي في المقدمة الفلسفية الطويلة لهذا العمل، التي اقتبست من هذه الدراسة مفردات الحداثة المسرحية. علاوة علي ذلك لم يكن ديليوز يهتم كثيرا بالمسرح كمفهوم تأملي للمسرح الذي وجده في كتابات ارتو النظرية والتصريحات، والتي كانت هي نفسها في حالة تعارض مع كل الممارسة المسرحية الموجودة بالفعل.
ويبدي بورك رغم ذلك مزيدا من الاهتمام بالمسرح أكثر من هؤلاء الفلاسفة المسرحيين، ويقتبس بهوس متكرر من تاريخ الأدب الدرامي، بما في ذلك الدراما اليونانية وشكسبير وابسن. وعلي الرغم من هذه المعرفة العميقة والاهتمام بالدراما والمسرح، لم تقدم نصوص بورك نفسها كدراسات في النقد المسرحي والدرامي. إذ يفهم بورك هذا التفاعل، الذي يربط الفلسفة بالمسرح، والذي يفصلهما في نفس الوقت: «كل فلسفة من ناحية أو أخرى هي خطوة بعيدا عن الدراما. ورغم ذلك، لكي نفهم بنيته، يجب أن نتذكر دائما أنها، علي نفس المنوال خطوة بعيدا عن الدراما «. ويمكننا أن ندفع هذه الحركة المزدوجة من التجاذب والتنافر إلى أبعد من ذلك. فكلما اقتربت الفلسفة من المسرح، كان لا بد لها أن تبعد نفسها عنه لحمايتها من أن تصبح لا شيء إلا شكلا مختلفا للمسرح.
ويمكننا في هذه المرحلة أن نفهم أن استخدام نيتشه للمسرح لا يصف تحولا للفلسفة عن التحيز ضد المسرح إلى حب مكتشف حديثا له. فما يسمى تحيز أفلاطون المضاد للمسرح وتحول نيتشه تجاه المسرح هما استجابتان مختلفتان للمصاهرة المستمرة بين المسرح والنظرية التي كانت جزء من الفلسفة منذ بداية المسرحيات الفلسفية لأفلاطون. ولم تصف أعمال نيتشه تحولا كبيرا للفلسفة تجاه المسرح كموضوع للدراسة – منذ كتاب فن الشعر لأرسطو – بل كصيغة ومنهج لممارسة الفلسفة. ويمكننا بالطبع أن نجد لحظات الانجذاب إلى المسرح في النزعة الفلسفية للمسرحانية المضادة philosophical antitheatricalism، مثلما يمكن أن نجد لحظات لنقد المسرح في تحول نيتشة المسرحي. فلا يوجد فيلسوف كان فكره مرتبطا بالإشارات إلى المسرحيات والبديهيات المسرحية المجردة أكثر من بورك، ولذلك لا أحد من الذين لاحظوا بدقة أكثر إيماءة الجاذبية والنتافر بين الفلسفة والمسرح.
ويبدو أن التوتر بين المسرح كموضوع للدراسة وكنموذج تنظيري، ونقد المسرح الذي يصاحب تاريخ الفلسفة المسرحية، يفسر علاقة التشابه المستمرة بين دراسات الأداء ودراسات المسرح. وعلى الرغم من التحليلات التي أقيمت باسم دراسات الأداء استمرت في اهتمامها في الكثير من أشكال المسرح – المسرح غير التقليدي والمسرح الطقسي – فقد فصلت دراسات الأداء نفسها عن المسرح باعتباره موضوع تحليلها الأساسي أو المركزي. ويمكننا رغم ذلك أن نقول إن مصطلح الأداء قد صيغ لتعريف المجال الجديد بأنه شيء يرتبط بالمسرح ويستبعد منه في نفس الوقت. وهذا التقارب والتباعد الآني له نتائج مهمة، وهو تحديدا أن دراسات الأداء لن تستطيع أن تعرّف نفسها من خلال موضوع دراستها. ورغم ذلك، فان ما يعٌرف دراسات الأداء هو مصطلح ومنهج التحليل الذي يقوم علي مفهوم السلوك الممارس مرتين، المستمد في النهاية من التمثيل رغم أنه ليس مقصورا علي هذا المفهوم. إذ يميل وصف دراسات الأداء في اتجاه نموذج إضافي، لأن دراسات الأداء تشارك في موضوعات تحليلها مع كل تلك المجالات التي يقال إنها ترتبط بها: علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللسانيات والدراسات الأدبية والفلسفة، وحتى الاقتصاد والتكنولوجيا. فما يقدم هوية دراسات الأداء في هذا المجال المتنازع عليه لموضوعات التحليل هو بالضبط ما يسميه بورك النزعة الدرامية: إحساس بالإمكانيات الطموحة ومسرحانية أساسية لكل شيء. فكيف يمكن أن نبدأ في تأمل مثل هذه الحدود التي لا تعتمد علي تعيين حدود موضوعات الدراسة بل تعتمد علي افتراضات الأداء نفسه؟.
وفي البحث عن هذا التحديد الوظيفي، نستطيع أن نعود مرة أخرى إلى أعمال بورك، لأنه في ثنايا نظريته في النزعة الدرامية يميز حدود ما يسميه النزعة الدرامية، وما يمكن أن يمتد، رغم ذلك، لكي يضم الأداء أيضا. ولأن الوحدة الأساسية في تحليله هي الحدث، ولأن الوحدة الأساسية في الحدث هي الجسم البشري في حالة حركة هادفة، فان النزعة الدرامية هي تخطيط يعتمد علي العامل البشري، والطاقة الإنسانية والفعل البشري والهدف البشري. وهذا بالطبع ما يجب أن نتوقعه من المنهج الفلسفي المستمد من المسرح، والذي هو شكل فني يعتمد علي المؤدي البشري الحي. ونتيجة هذا الشكل من الفلسفة المسرحية هو التطور المستمر للشخصيات أو النماذج داخل فلسفة، وهو ميل إلى التشخيص personification. ويمكن أن نفهم هذا الميل التشخيصي حرفيا، لأنه عند تقديم أفكار كثير من الفلاسفة الجدليين أو الدراميين يعتمد بقوة علي النماذج أو الشخصيات الخيالية أو التاريخية ومن بينهم أفلاطون وسقراط ونابليون منوجهة نظر هيجل وزرادشت من وجهة نظر نيتشه. فعندما تعتمد الفلسفة علي التشخيص، فان الخطر الذي يتربص في الخلفية هو المجاز والشخصية (المتكلم البديل)، وتشخيص الكينونات المجردة. فهل يجب أن نفهم سقراط باعتباره صورة لمعلم لأفلاطون أو باعتباره تشخيص للفلسفة؟. وهل زرادشت نيتشه هو نموذج للإنسان الأعلي أم منفصل عنه (أم شخصية غيرملموسة منسوبة إلى نيتشه)؟.
وأجادل بأن الاعتماد علي التشخيص يؤسس حدودا للفلسفة المسرحية. وأحد طرق قياس هذا الحد هو النظر إلى تاريخ المسرح نفسه. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، جاء اعتماد المسرح علي الممثلين البشر والتشخيص في إطار زيادة الفحص الدقيق. وقد حاول عدد كبير من منظري وممارسي الطليعة والطليعة المبكرة، بداية من ادوارد جوردون كريج وفيسفولد مييرهولد وصولا إلى أوسكار شليمر وتادويش كانتور أن لا يشخصوا المسرح لكي يتخلصوا من اعتماده علي النموذج البشري. وتعلم الممثلون أن يقلدوا العرائس والأشياء والآلات عندما لا يتم استبدلهم تماما بالجمادات. وتاريخ عدم التشخيص هذا في تاريخ المسرح ترك الفلسفة المسرحية كما هي. إذ يقدم نيتشه وبنيامين وديليوز ولاكان صياغات للتحول المسرحي التي تشك في البشري والشخصي والمشخص. وفي نفس الوقت، واجهت صعوبات كبيرة. حتى عندما تم استبعاد الممثلين من المسرح واستبدلوا بالأشياء، كان يعاد تشخيص هذه الأشياء من خلال فهمها لبدائل للبشر الذين ظلوا متعلقين بهم. بالإضافة إلى ذلك، مثلما أن التمرد ضد التشخيص في المسرح هو مشروع يعاني من التعقيدات، فكذلك الحال مع محاولة التخلص من الميل إلى التشخيص من الفلسفة الدرامية. فقد كانت النزعة الدرامية عند بورك راسخة في مشكلة التشخيص وعدم التشخيص هذه. والأهم أن بورك لاحظ أن مشكلة التشخيص ارتبطت بشكل حميم بمنهجه المسرحي أو الدرامي نفسه. ففي حين يرتبط أربعة من مصطلحاته، وهم تحديدا، الفعل والحدث والطاقة والهدف، بالعنصر البشري وكذلك الميل التتشخيصي للنزعة الدرامية، فان المصطلح الخامس، وهو المشهد يتجاوز التشخيص. إذ يمكن أن يٌرى باعتباره نوع من الحد الداخلي للتشخيص الذي يبدو أنه جزء لا غنى عنه من المسرح والفلسفة المسرحية. ورغم ذلك، فان مشكلة الحد الداخلي هي أنه لا يمثل غير الشخصي الا باعتباره حدا للشخصي: فهو لا يمكن أن يسمي غير الشخصي إلا في إطار الأساس أو المشهد الذي تتجلي فيه الدراما الذاتية لأفعال البشر، والأحداث والطاقات. ولذلك يقدم بورك الاكتشاف المذهل التالي: «لذلك لدينا نوعين من المشاهد: أحدهما يسمي وظيفة داخل الخماسي، والثاني يسمى وظيفة خارج الخماسي، لأن مصطلح شديد العمومية مثل النزعة الدرامية يستدعي اللا درامي non - dramatist باعتباره نقيضه السياقي الوحيد. وحقيقة أن أحد هذين الاستخدامين يسمو بالآخر يمكن إخفائها بحقيقة أننا من خلال استطاعتنا أن نشير إما إلى جميعهم بنفس كلمة مشهد «. إذ يقود تأمل حدود تشخيص الخماسي بورك إلى مصطلح يتحدد من خلال وقوعه خارج النزعة الدرامية تماما، وهو تحديدا «اللا درامي». والشيء الممتع والمزعج في ما يتعلق بتحديد مفهوم اللا درامي، رغم ذلك، هو أنه لا يوجد فقط خارج حدود النزعة الدرامية، بل أنه في نفس الوقت جزء من النزعة الدرامية. ونتيجة هذا الحد المزدوج، ويدرك ذلك بورك بوضوح، هو لاشيء أقل من انهيار النزعة الدرامية: «في حالة الخماسي الذي قدمناه، فبعد أن أكدنا، علي سبيل المثال، علي الحاجة إلى توظيف كل المصطلحات الخمسة في مفردات دائرية الدوافع، لخصنا موقفنا بأنه درامي – وعندئذ اكتشفنا فجأة أن مصطلحنا قد انهار في عنوان جديد وأن له نقيض لادرامي باعتباره أساسه المنطقي. «
ويمكن أن تظل النزعة الدرامية نسقا أنيقا مغلق ذاتيا لأن اللا درامي قد دخل من خلال حصان طروادة المزدوج المشهد. فقد يظهر المشهد خارج الخماسي بأنه مشهد ثاني فحسب، ولكن هذا التناظر مضلل، المشهد من خارج الخماسي لا يشبه المشهد من داخله، مع أنه السياق أو النظير التي يتيح للمشهد من داخل الخماسي أن يظهر بما هو كذلك (كمشهد). واعتماد المشهد هذا علي شيء لم يعد يسمى ببساطة مشهد يقاطع العمل الأنيق للنزعة الدرامية لأنه يحمل حدودها إلى داخل قلبها.
ويستنتج بورك خلاصة من الانهيار الذي أجبرعلي ملاحظته في خماسيته الدرامية: الدرامي نفس يجب أن يكون هو نفسه له أساس في اللادرامي..ولذلك هناك نقطة يتحدد فيها منظور الكاتب الدرامي في إطار نقيضه السياقي، إذ يجب أن يمحو ذاته في فعل النطق نفسه.
وفي نهاية نزعته الدرامية يعلن بورك كذلك نوعا من الطمأنة الذاتية للنزعة الدرامية، من خلال ما يسميه «ذوبان الدراما dissolution of drama. وهذا الذوبان لا يعني أن خماسيته الدرامية خاطئة، فهي تعني فقط أنه من خلال التعامل معها ,لا يستطيع تجاهل أن الخماسي هو عملية انهيار، وأنه يجب أن يمحو ذاته في لحظة النطق”.
يمكن أن يٌفهم النقد الذاتي باعتباره ذريعة تعي النزعة الدرامية حدوده، ولا سيما ميلها إلى تجسيد غير المجسد، وهو ما سماه بورك في مناسبات متفاوتة تفعيل المشهد agentification of the scene. لأن اللا شخصي منفصل جذريا عن الانقسام بين الممثل والمشهد، فهو يقع خارج المسرح وخارج الخماسي. وبالطبع يعتمد الخماسي علي هذا اللا شخصي الذي يوجد بعيدا. وهذا المشهد الذي لا يرتبط بأي مشهد هو حد النزعة الدرامية ويدعونا بورك إلى ألا ننسى هذا الحد، حتى لو كان هذا يعني أننا يجب أن نكون دائما داخل عملية محو النزعة الدرامية. وطبقا لهذا الخط الفكري، لن تكون النزعة الدرامية محدودة بالمعنى المكاني، وكأنما كان هناك مجال واحد يمكن تطبيقه تماما عليها ومجال ثان يجب أن تبقي بعيدة عنه. فحدود الدرامية بالأحرى هي حدود منهجية ووظيفية، ونتيجة لذلك، لا يمكن أن تطبق الدرامية بشكل مريح علي أي شيء، ولا حتى المسرح. لذلك تحتاج الممارسة الأمينة للنزعة الدرامية فعل دائم من المقاطعة والتحديد الذاتي.
ويمكن أن نخلص إلى بعض النتائج من نقد بورك الذاتي القوي. إذ لا يتنبأ هنا بعدة ملامح في دراسات الأداء ويؤسس علاقة بين الفلسفة المسرحية ودراسات الأداء. بل انه يحدد لنا حتمية تأمل حدود النزعة الدرامية، التي يمكن أن نتناولها كنقطة انطلاق لتأمل حدود الأداء. وقد بدأ عدد من العلماء العمل في هذا الاتجاه. ومن بينهم جانيل رينيه Janelle Renelt وجوزيف روشJoseph Roach في كتابهما «النظرية النقدية والأداء Critical Theory and Performance» 1992، وجوديث باتلر Judith Butler في كتابها «الأجسام هي المهمة: حول الحدود المنطقية للجنسBodies that matter: the discursive limits of sex» 1993، وكتاب (بيجي فيلان Peggy Phelan) «غير الملحوظ: سياسات الأداءThe unmarked: the politics of performance «1993، وكتاب فيليب أوسلاندر Philip Auslander «الحيوية: الأداء في عالم وسائطي Liveness: performance in a mediatized world» 1999، وكتاب جون ماكينزي Jon Mckenie» أن تؤدي أو شيء آخر: من النظام إلى الأداء Perform or else: from discipline to performance» 2001. وبمختلف الوسائل، تمثل هذه النصوص روحا جديدة في النقاش المنهجي، وتأخذ علي عاتقها النصوص الكلاسيكية في هذا المجال وتحتاج أطر تنظيرية جديدة.
وهي الروح التي أثير بها سؤال حدود الأداء. فإذا تناولنا ريادة بورك، وفكرنا أن حدود الأداء لا يمكن أن تتضمن بالضرورة علي تحديدا لأهداف التحليل التي يجب أن تطبق عليها حدود الأداء نفسها. إنها تتضمن بالأحرى نقدا بالمعنى المنسوب إلى كانت، وهو تأمل حدود مفهوم الأداء (أو المسرحانية) نفسه. فمن أجل هذا المشروع، يمكن أن نحتاج أن نطور مصطلحا مضادا للأداء، مصطلحا يلعب دور المصطلح الثاني، الخارجي بشكل متطرف، ومفهوم المشهد في تأملات بورك. فما هو مشهد الأداء، وما هو مشهد ذلك المشهد، الذي يساعد تفاعل المشهد والأداء بدون أن يكون منه؟. ما الذي يمكن أن تشبهه دراسات الأداء والذي يمكن أن يمحو ذاته في لحظة نطقه والذي من شأنه أن يرسم اللا أدائي المتطرف في قلب الأداء؟
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - 
 مارتن بوشنر Martin Puchner: يعمل أستاذا للأدب الإنجليزي والأدب المقارن بحامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية. ومن أبرز أعماله: “رهاب خشبة المسرح: الحداثة والمسرحانية المضادة والدراما Stage Fright: modernism، antitheatricality and drama”.
 وهذه الدراسة من كتاب “فلسفة الأداء المسرحي: التقاطع بين المسرح والأداء والفلسفة” الذي صدر عن جامعة ميتشجان عام 2009. وهي تقع في الفصل الثاني (الصفحات41 - 54).
 تأليف : مارتن بوشنر

قراءة نقدية في مسرحيتين لإبراهيم الحــُسيني

مجلة الفنون المسرحية

 قراءة نقدية في مسرحيتين لإبراهيم الحــُسيني  

محسن العزب - جريدة مسرحنا 

أولاً : مسرحية الغواية :
 منذ أول مسرحية مطبوعة للمؤلف المسرحي الشاب / إبراهيم الحـُسيني، وهي مسرحية “ الغواية، والتي فازت بجائزة محمد تيمور الأدبية لعام 1998، وطبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2002، ومؤلفنا يختط لنفسه منهجاً محدداً وواضحاً لا يحيد عنه، الا وهو : “ مسرح الصورة التعبيرية “ ...
وفيما بين “ الغواية “، ومسرحيته الأخيرة المطبوعة “ جنة الحشاشين “، والتي صدرت عن دار “ ميريت “ للنشر عام 2008، نجد أنفسنا أمام كاتب مسرحي موهوب، يـُكـرّس موهبته تلك في الكتابة المسرحية لهذا النوع من المسرح / مسرح الصورة التعبيرية، لدرجة أنه في هذا النوع من الكتابة، نجده يكتب إرشاداته المسرحية بدقة متناهية، كذلك انتقالاته التعبيرية / الصورية بين مونولوج درامي وآخر في نفس المشهد الواحد، ... إنه نوع من الكتابة المسرحية راجع بالضرورة إلى موهبة الكاتب أولاً، ثم إلى دراسته المتعمقة للدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية ثانياً، ثم ممارسته للنقد المسرحي في الكثير من نوافذنا الإعلامية المهتمة بالمسرح ثالثاً، ومحاولاته الجادة في كتابة السيناريو أخيراً ...
إن إبراهيم الحـُسيني كمؤلف مسرحي ــ ظهرت له بعض العروض المسرحية من تأليفه سواء على خشبات مسارح الدولة أو على بعض مسارح الثقافة الجماهيرية ــ لا يترك مساحة فنية واحدة للمخرج الذي سيتصدى لإخراج عمل من تأليفه، وسيجد هذا المخرج صعوبة بالغة في إخراج هذا العمل وهذه الرؤية المكتوبة على الورق إلى النور، ومن الممكن أن تخرج هذه التجربة أو تلك إلى النور كما تصـوّرها مؤلفها إبراهيم الحـُسيني، وسيتحـوّل هذا المخرج إلى مخرج منفذ للورق الذي يعمل عليه، ولن ينجو هذا المخرج من هذا المأزق الفني إلاّ في حالة واحدة ووحيدة، وهي إذا كان متمتعاً بخيال فني مفتوح كخيال مؤلفه، وسيظهر هذا العمل أو ذلك في أبهى صوره الفنية، لتداخل الخيالين الفنيين : تأليفاً وإخراجاً مع بعضهما البعض ...
ففي مسرحية “ الغواية “ للحسينى نلحظ أن مؤلفنا غير مهتم بالبناء الدرامي الشكلي المتعارف عليه، من تقسيم عمله إلى فصول ثلاثة أو مشاهد مرقمة لفصوله الأربعة كما هومعتاد، إنه يؤسس مسارا خاصا به، فالفصل الأول معنـوّن بـ “ فصل الفـُرجة “، والفصل الثاني مـُعنـوّن بـ “ فصل النفي “، والثالث معنـوّن بـ “ فصل الثورة “، أما الرابع والأخير فمـعنـوّن بـ “ فصل الغواية “، إنه يعطى لكل فصل عنوانا معبرا عن أحداثة،وكأنه بهذا يوزع دلالات مسرحيته على هذة الفصول عبر حواراتها الغنية وإرشاداتها المؤسسة لعنصر الصورة التعبيرية، نجدة مثلا فى أول فصول مسرحيته، والمـُسمى بـ “ فصل الفـُرجة “ يصف في إرشاداته ما ستكون عليه خشبة المسرح، بدراية ودُربة عالية الجودة الفنية، إنطلاقاً من إلمامه الكامل بالعملية المسرحية ذاتها، وتحديداً على أنه ومنذ بداياته وهو يحلم بأن مسرحه سيكون هكذا، مسرحاً للصورة التعبيرية، كما لاحظ وأكـّد على ذلك د. محسن مصيلحي في مقدمته النقدية لهذه المسرحية ...
تأمل إذا وصف المؤلف لبداية مسرحيته، وجزء من الحوار الاستهلالي ـ لترى معي، أنك بإزاء مؤلف مسرحي يكتب المسرح بروحه لا بقلمه :
( موسيقى بطيئة ... أقرب إلى الإيقاع الجنائزي ... في العمق جـُمجمة بشرية كبيرة تشبه في أطرافها إناءً فرعونيا قديماً ... الجـُمجمة مـُحاطة بمجموعة سلالم حلزونية متداخلة كالمتاهة ... من داخل الجـُمجمة تظهر إضاءة خضراء مختلطة بومضات فلاشر بطيئة يصحبها تصاعد دخان يتكاثف بالتدريج ... يظهر من خلال ذلك مجموعة من الأشباح تتصارع للخروج من داخل الجمجمة ...، ... )...وهكذا

ثم يبدأ بعد ذلك الوصف حواره الدرامي، لنرى أنه لا يـُقدم مسرحية وحسب، إنما يـُقدم حياة كاملة إلا قليل على المسرح، فهو يـُقدم ويـّعالج قضايا حياتية كبيرة، وقيـّم ومباديء تكاد تكون قد اختفت وتاهت وسط زحام واقعنا المـُعاش، كالشرف والأمانة، وذلك دون الوقوع في فخ المباشرة الفجة، وعبر تقديمه أيضاً لأنماط بشرية “ دون تسمية “ تابع الحوار الإستهلالى :
بائع 1 : روبابيكيا ...
بائع 2 : روبابيكيا قديمة للبيع ...
بائع 1 : بيانو قديم ... جرامفون ... لمبة جاز ... خلخال ... طيب واحد أفندي بطربوش ...
بائع 2 : للبيع ...
بائع 1 : موظف مابيرتشيش ...
بائع 2 : للبيع ...
بائع 1 : عيل صغيـّر بيحب أبوه وأمه وبلده وماببيكدبش ...
بائع 2 : للبيع ...
......... وهكذا، يأخذنا المؤلف إلى أحداثه دون أن يـُشعرنا بزمن أو مكان ما، ويـُحيلنا إلى واقعنا المصري والعربي المـُعاصرين على حدٍ سواء، دون أدنى مباشرة أو ابتذال، مـُحدثاً فينا نوعاً من السخرية المـُـرّة على ما يحدث في واقعنا من أزمات أخلاقية ومجتمعية، ... إنه يـُناقش قضية “ العولمة “ أو “ الكوكبة “ و “ القرية الكونية الكبيرة “ بطريقته التعبيرية تلك، ... فهو يفترض أن “ العولمة “ والقطب العالمي الواحد المتمثل في “ أمريكا “ قد نالت من قيمنا النبيلة، حتى أن هذه القيم قد انقرضت ولم يعد لها وجود في هذا العالم الدرامي ومن ثم الواقعى على حـدٍ سواء ...تابع الحوار :
رجل 1 : ( للبائعين ) انتوا عــُبط ...؟!
البائعان : ( معاً ) إحنا بندوّر بجد ...
رجل 2: تبقوا عـُبط ... وعليا النعمة عـُبط ... انتوا عارفين إحنا سنة كام دلوقتي ... فوقوا ... إحنا سنة 2000 ... يعني كل حاجة اتغيـّرت ...
رجل 1 : صح ... ومابقاش فيه حد بيلف في الشوارع زيكوا كده، ويدوّر على حاجات انقرضت من زمان ...”
إن إبراهيم الحـُسيني ــ كمؤلف شاب ــ يـُقدم لنا في مسرحيته “ الغواية “ منطقاً مقلوباً، فالقيم النبيلة المتعارف عليها، هي في نظره، القيم الخطأ، لأن القيم المنحطة قد حلت محلها، وأصبحت هي السائدة في المجتمعات المنهارة بفضل “ العولمة “ ...، ومن ثم يستحدث المؤلف موقفاً مفترضاً خيالياً وتعبيرياً في الوقت ذاته، ويـُسميه “ المتحف “، متحفاً للذين ظلوا متمسكين بقيمهم النبيلة، وبمرور الأحداث يتحول “ المتحف “ إلى مـُسمى آخر هو “ جزيرة الرفض “، والتي يجب على من يدخلها أو يسكنها أن يحفظ كتاب تعاليمها ... في إشارة صريحة إلى “ العولمة “ ...
وفى هذا المتحف الذى يقيمة الكاتب، نلحظ أن منهجه في “ مسرح الصورة التعبيرية “ يتضح أكثر فأكثر، فالمتحف مليء بكل ما هو قديم من تماثيل شمعية، كانت فيما سبق من أحداث هي نفسها الأشباح التي ظهرت من داخل الجمجمة الكبيرة، كما أن “ المتحف “ به ساعة مائية لمعرفة الوقت، ويكتظ أيضا بمجموعة من الأقفاص تحوي بداخلها مجموعة من البشر مازالوا متمسكين ومحافظين على قيمهم النبيلة، إنها سلسلة من الصور المتجاورة ودوال من الرموز الدالة...
 وفي واحد من المشاهد الفانتازية، يأتي المؤلف بسائح أجنبي ومعه مرشد سياحي، بالتأكيد هذا الأخيرـ المرشد ـ ينتمي إلى المجتمع الذي يـُسقط عليه المؤلف أحداثه، وهو المجتمع العربي ...
سائح 1 : هايل ... إحنا بنحب بلدكم قوي ...
المرشد : ودلوقتي ... خلصنا من الأنتيكات والعملات القديمة ... واللي بيعود تاريخها لأبعد من تلات تلاف سنة قبل الميلاد ... ونيجي دلوقتي لأحداث خاصة في متحفنا ( يـُشير للأقفاص الموجود بها البشر ) ... وهي عبارة عن بعض النماذج البشرية التي بدأت في الانقراض أو انقرضت بالفعل من المجتمع، ومتحف في ظل النظام العولمي الجديد كان له السبق على كل متاحف العالم، في إنه قدر يقتني أكبر كمية منها .......”
 ويبدأ المرشد السياحي في عرض النماذج البشرية، فها هي “ ست شريفة “ معروضة داخل قفص، وها هو “ رجل صادق “، وآخر “ رجل أمين لا يسرق ولا يرتشي “، ورابع زوجته خانته وتم طرده من وظيفته، لأنهم اكتشفوا أن هناك فائضاً في الميزانية، وآخر يسرق ويرتشي، لكنه اكتشف عدم جدوى ذلك، فتقرر وضعه هنا داخل تلك الأقفاص، لأنه قد حاد عن الطريق الصحيح من وجهة نظرهم ...
 ومع تأكيد المؤلف على توضيح المنطق المقلوب في عالمه الدرامي هذا، يأتي نائب حاكم المدينة كي يأمر بغلق المتحف البشري هذا ــ من خلال بيان لحاكم المدينة ــ يتم فيه نفي هذه المجموعة البشرية إلى “ جزيرة الرفض “ حتى يتم ــ وكما جاء في البيان ــ “ تأهيلهم ليصبحوا قادرين وصالحين للعيش معنا داخل هذا المجتمع ...” 
وكما فعل بنا المؤلف في فصله الأول “ فصل الفـُرجة “ من توصيف دقيق لمنظره المسرحي وما شابه، يفعل بنا في فصله الثاني “ فصل النفي “، حتى نستشعر أننا بإزاء جزيرة حقيقية، فصوت الريح والماء يتناهى إلينا ... و ...و...، حتى الملابس، كان له رأيا فيها، فاللون الأزرق مثلا هو لون الملابس العسكرية لحراس الجزيرة وقد يعنى ذلك شيئا ما، وقد خصص المؤلف هذا الفصل لمجموعة الممارسات التعذيبية النفسية لهؤلاء الحراس ومن ورائهم والتى تقع على مجموعة المنفيين،
فها هو أحد حـُرّاس “ جزيرة الرفض “ يأتي بـ “ مازن “ الذي كان فيما مضى مثقفاً وكاتبا ، ليجعله أراجوزاً، أو حكاءا للحواديت رغما عنه، فيضطر “ مازن “ للحكي خوفاً من التعذيب ... وفي حكي المؤلف على لسان “ مازن “، خاصةً في حكايتة عن الرجلين والمرأة، نجد أن الفعل الدرامي لديه، في حالة استمرار وديمومة لا تنتهى، فها هو “ مازن “ في أحد حكاياته يقول :
“مازن : [ يبـدأ في الحـكي، ومع بدء الحـكي تتلاشى البقع الضوئية بالتدريج ويتم تجسيد ما يُحكى ... ] كان فيه يا سيـدي بشر وناس كتير أول ما اتخـلقـوا كـانـوا متسـاوييـن وطـول بعـض ... [ يظهــر ثلاثـة (رجـــلان وامـرأة ) يقـفـون بجــوار بعـضهـم صفـاً واحـداً ويجـسـدون كـل مـــا يُـقـال .. ] وكـانوا كمان بيحـبـوا بعـض ... فـجــأة اكـتشــف كـل واحـــد منهــم رغـبـاتـه الخـاصـة وحـُب الامتـلاك جـواه .... دارت بينهـم خـناقـة ؛ كـل واحــد عـاوز ياخـد البنـت ليـه لـوحـده ... وزادت الخـناقـة، وزادت ... زادت ودهـسوا البنت وسطيهـم، وعـلى بال ما فـاقـوا من الخـناقـة لقـيوا البنت ماتت ... بكوا ... وزاد بُـكاهم أكتر من الأول عشان دي كانت تاني بنت تموت وهمه بيتخانقوا .... [ تـُضاء بـؤرة ضـوئيـة عـلى الجـانب الآخـر من المسـرح لنجـد فتاة أخـرى جـثـة هـامـدة ... ] ومن اللحـظة دي كـرهـوا بعـض، وبقى كل واحد منهم يتنكر في زي وحش مخيف عشان يخوف التاني منه ... مرة يكون الزي ده هو قـوته، ومـرة ذكاؤه، ومرة سلاح جديد اكتشفه، ومرة فكرة جديدة أو فلوس أو أي ثـروة تمكـنه من السيطرة على عدوه .... وكانت حشايش الغابة وزهورها وشجـرهـا وحـيـوانتهـا تتـأذى كـل يـوم الصبـح بمنـظـر الخـناقـة ومنظر الدم ... ولغـاية دلـوقـتي لسه الخـناقـة شغــالـة ...”
والمتأمل للحكايه يجد فيها سردا لفكرة ظهور الحرب فى التاريخ و ما يتبع ذلك من قتل للبراءة، وفي نفس إطار المنطق المقلوب، وكمحاولة أخرى من الكاتب لللتأكيد على غرس مفهوم “ العولمة “ في الواقعين : الفني والحياتي، يأتي لنا المؤلف وعلى لسان “ رئيس الحرس “ بهذا الحوار :
“ القـُبطان : ( بغيظ ) بقول أيه أحوال الجزيرة ...؟!
رئيس الحرس : ( منتبهاً ) آه ... آسف ... ( يـُشير بيده لأحد الحـُرّاس فيجري مسرعاً خارجاً ليأتي بمجلد ضخم ) ... أحوال الجزيرة طبقاً لكتاب التعاليم بفصوله المختلفة، تسير على ما يـُرام، كل فصل بيطبق زي ما هو منصوص عليه بالظبط في الكتاب ... برنامج التأهيل بنفذه بشقيه ... شق نزع المعلومات والاعتقادات القديمة، وشق إحلال معلومات واعتقادات جديدة مكانها ... أما برامج المعيشة من إقامة وطعام وملبس وفـُسح و ... فهي مـُطبقة بالحرف الواحد، احتراماً لحقوق الإنسان، وزي ما حضرتك أوصيت في الزيارة الكريمة إللي فاتت بخصوص توجيه الأحلام وجهة مفيدة، تم حقن أطعمة وأجساد المؤهلين للحياة بما يقوم بذلك، وتم التأكد لنا من فعالية هذه الحـُقن، فبمراقبة أحلامهم اتضح لنا أنها تسير في الخط الذي نريد ...”
وكأن المؤلف وبطرحه الفكري هذا، يجعل من “ المتحف البشري “، ومن “ جزيرة الرفض “ مـُعادلاً موضوعياً لما تفعله أمريكا بمعتقليها في سجن “ جوانتانامو “ العالمي ...إنه إستشراف كاتب لما ستؤول إليه مجريات الأمور السياسيه فى العالم خاصة وأن المسرحية مكتوبة فى عام 1998م..
ومع تقدم الأحداث، يأتي لنا المؤلف بشاب ثوري اسمه “ رفيق “، ويا له من اسم له دلالته القوية والمباشرة التي تحيلك إلى فكر وأيدلوجية الاشتراكيين والشيوعيين الذين كانوا يمثلون قبل العقد التسعيني القوة الثانية الكـُبرى في العالم، وذلك قبل انهيار الاتحاد السوفييتي في العام تسعين من القرن الماضي، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامتها كقـوّة واحدة وحيدة لهذا العالم ...
وها هو الشاب “ رفيق “ ـ كما ينص الكاتب ـ “ معلقا من ذراعية فى سقف المسرح تتدلى من رقبته سلسلة حديدية، تنتهي من أسفل بكـُرة حديدية تهتز بواسطة أحد الحـُرّاس كبندول ساعة، كلما اهتزت، يدق الجرس المـُعلق في الحلقة الدائرية حول رقبته ...
رفيق : ( يصرخ كلما دقّ الجرس ) الزهق والإحساس بالاستبداد هـُمه بداية الثورة ...”
 إن إبراهيم الحـُسيني كمؤلف يـُحرك مصير شخصياته على المسرح كيفما يـُريد، ويكتب المسرح كيفما يـُريد أيضاً، وعلى حسب منهجه الذي اتبعه منذ البداية، وهو منهج : الصورة التعبيرية ... فها هو المسرح مـُضاء تماماً، ثم يقوم بإظلامه، ويـُضيء بؤرة “ رفيق “ المـُعلق في سقف المسرح ...
“رفيق : لو ها تعيش ... أفضل ليك تعيش وراسك مرفوعة ... لو اتحنيت للريح عشان تعدي ... يبقى خليك محني على طول ... بس لازم تعرف إنك بكده ميـّت حيّ، ولو كنت حيّ ....”
 إنه ــ أي المؤلف ــ وعلى لسان شخصياته يـُمهد للثورة ... فها هو فهمي “ رجل الأعمال “ والذي يشبههه المؤلف ب سيزيف “حامل الصخرة “ يقول :
“فهمي : ضهري اتحنى م الصخرة ...... وحاسس إنه لو شالها تاني ها يتقطم، أنا مش ضلع في ثورة ... أنا حاسس إني أنا الثورة ... “
وها هما البائعان اللذان جعلهما المؤلف، ومنذ نهاية فصله الأول عجوزان، يـُرددان في نهاية فصله الثاني نفس ما ردداه في نهاية فصله الأول :
“ العجوزان : نبحث عن إنسان ... يعرف كيف يكون للرفض معنى حقيقي للثورة، ويـُدرك أبعاد العالم، ويقدر أن يـُعطي طفلاً صغيراً رغيف خبز وحلماً جميلاً ... ويـُعلمه كيف يـُحب الله والأرض التي نبتّ فيها، وأن يتعهد بالسـُقيا حبـَّها وحـُبها ... نبحث ... نبحث ... نبحث ... ( يتلاشى الصوت تدريجياً حتى ينتهي تماماً ) ...” 
إنها مجموعات متراكبة من الرموز والإشارات يحركها الحسينى بمهارة وينشأ عبر تجاورها منظومته النصية الخاصة،تلك المفتوحة على الواقع، ومثلما وصف المؤلف بداية فصليه السابقين وصفاً مسرحياً دقيقاً، يصف بداية فصله الثالث “ فصل الثورة “ بنفس الدقة والعمق والدراية التي عهدناها منه ...، ثم يبدأ هذا الفصل بإنقلاب داخلي بين أفراد قيادة “ جزيرة الرفض “ ...، فها هي “ ونس “ زوجة رئيس الحرس ومحظية القبطان في الوقت نفسه، تنقلب على زوجها وتأمر الحرس بإقتيادة إلى السجن ووضعه مكان الشاب “ رفيق “، والإتيان ب “رفيق “ إلى الساحة كبديل له، ثم ترتدي هي ــ أي ونس ــ زي رئيس الحرس ...، وتبدأ “ ونس “ في إقناع المنفيين / الثوار وعن طريق “رفيق “ نفسه بأنها معهم وليست ضدهم، خاصةً “ نورا “ و “ نائلة “، وتقدم لهم مبراراتها النفسية التي تجعلها معهم وليست ضدهم كما يظهر من حوارها التالى :
“ونـــس : نورا ... أنا مش في حاجة إني أقول أنا معاكم، وأنا في حقيقة أمري ضدكم، أنا اتهنت كتير من القبطان ورجالته، وحتى من جوزي إللي بيقدمني في ورق سوليفان هدية جميلة للقبطان، وإللي أعلى منه علشان يفضل في منصبه، خلاّني كرهته وكرهت نفسي ...”
بعد ذلك يبدأ المؤلف في تغيير مسار شخصياته، فـ “ نائلة “ التي كانت فيما مضى تـُحب الشاب “ إساف “، نجدها تقع في غرام الشاب / المـُخلـّص / الثوري / رفيق ... و ...، إلى أن يتفقون فيما بينهم ــ رغم تناقضاتهم الكثيرة ــ على تشكيل وأقامة “ دولة الرفض “ في نفس المكان على “ جزيرة الرفض “ ...
“الجميع : فلتسقط دولة الكـُره والاستبداد والغـُربة، دولة الدعارة والسرقة والكذب ... دولة الفـُرجة والنفي والغواية ... ولتحيا دولة الرفض ... والثورة والحرية ... ( يكررون الجملة عـدّة مرات ) ...”
وفي موضع آخر وبالقرب من نهاية “ فصل الثورة “ يرددون جميعا : “ يسقط كتاب التعاليم ...”
وبمجرد بداية الفصل الرابع والأخير “ فصل الغواية “ تأتي إلى الجزيرة الهيئة الدولية للاشراف على تخطيط وتنظيم المدن برئاسة “ إبراهام زيفاجو “، ومعه نائبه “ ديفيد كاري “، ومندوبيّ : الثقافة والصحة،،الزراعة،... هذا هو ظاهر الهيئة الدولية، أما باطنها، فهو الاحتلال الجديد ... فهاهو مازن / الشاعر / الروائي / المثقف ... ( يدخل وعلى وجهه علامات الدهشة والاستغراب ) ليعلن للجميع :
“مازن : إلحقوا ... دول جايبين معاهم أسلحة وقنابل، ومعدات حرب كثيرة ... مش ممكن يكونوا جايين للسلام وتأسيس دولة، والكلام الفارغ ده ... دول ليهم هدف معين ...
فهمي : هدف معين ...!! تقصد أيه ...؟!
سالم : احتلال جديد ... مفهومة ... ومش عايزه توضيح ... “
... إنها معالجة القضايا العالمية الكبيرة في المسرح المصري، يأتي بها إبراهيم الحـُسيني إلينا، لكني أجدني أختلف معه في الترتيب البنائي / الشكلي لفصوله الأربعة، فبدلاً من نهايته لمسرحيته بفصل الغواية الرابع والأخير، قد يكون من الطبيعي أن تكون النهاية بالفصل الثالث المعنون بـ “ فصل الثورة “ ...، فطالما أننا بصدد مسرح، فالثورة هي النهاية وليست الغواية، الثورة هي الأمل في المستقبل سواء في المسرح أو في الحياة، وقد يكون للحسينى رأيا آخر فى أن الغواية ـ غواية الأشخاص والمجتمعات ـ هى التى تعبر عن الراهن وكذا المستقبل ...
والتأمل لشخصيات إبراهيم الحـُسيني الدرامية يجدها تـُقاوم بالفن، الموسيقى، الغناء، الحجة والبرهان، من أمثال : إساف، فهمي، وسالم / المحامي، وأخيراً مازن / المثقف، إلى أن يتم زرع الشقاق بينهم، فتصبح مثلا “ نورا “ خائنة في نظرهم، لأنها أفشت أسراراً تخص دولتهم الوليدة، وذلك لصالح الوفد الأجنبي ورئيسه “ زيفاجو “، كما أنها تشككهم في خيانة الشاب الثوري “ رفيق “ لهم ولمبادئهم أيضاً ...
“نورا : ( وهي تتألم ) اسمعوني ... ساكتين ليه ...؟! أرجوكم ... دول بيتخلصوا مني عشان اكتشفت حقيقتهم ...
رفــيـق : مش قادر أصدق ...
نورا : انت تسكت خالص ... قناع ملاك وقلب شيطان ...
ونــس : الخاين لازم يموت بالرصاص ...”
تتفشى إذا الخيانة والتأليب والقتل وتفوح رائحته بين المجموعة، بتحريض من رئيس الوفد “ زيفاجو “ ورئيسة الحرس “ ونس “، لنرى “ إساف “ الشاب الصغير / الفنان يقتل حبيبته السابقة “ نائلة “ وتنتابه حالة جنون وهذيان، ... أما “ سالم “ المحامي فنراه يرتدي ملابس بيضاء شفافة وحذاء أبيض بلون الجسد في إشارة من المؤلف إلى تغيير جلده بالإرتداد إلى الماضى السحيق ليصبح معبرا عن التاريخ والنبوءة أكثر مما يعبر عن كونه شخصية درامية : 
“ سالم : وفيهم من سيصلب لأنه فقد نسخته من كتاب التعاليم الكبير ...
( يدور فهمي ومازن داخل المكان بحثاً عن نسختيهما من كتاب التعاليم، فلا يجدا إلا نسخة واحدة يمسكاناها معاً ...
فهمي : ( متلعثماً ) مازن ... هيه دي نسختلك ...؟!
مازن : ( متلعثماً هو الآخر ) بيتهيألي ... أنا فاكر إني حطيت نسختي هنا ...
فهمي : أنا كمان فاكر إني حطيتها برضه هنا ...
( يمسح كلٍ منهما العرق المتصبب منه، فإذا به يلوث وجهه، فدفتي الكتاب مدهونتان بخليط من الألوان، مما يصل بهما إلى التشويه الكامل ... ) “
... إنه الخلط وعدم التمييز والتداخل بين الأشياء والوجوه والأفكار، وكل شيء ما من شأنه أن يجعل الإنسان مـُشوهاً ومـُشوشاً ... و ... و ... إلى أن يدخل رئيس الحرس القديم وزوج “ ونس “ ليخطف منهما الكتاب مـُدعياً أنه كتابه هو، أو بالأحرى نسخته المفقودة منه ... وبهذا الخلط وعدم الفهم، ودخول الشخصيات إلى دوائرها اللانهائية، يـُنهي المؤلف مسرحيته كما بدأها، وذلك على لساني العجوزين / البائعين، واللذين يـُحملهما مقولتيه : الفكرية والفلسفية، مستغلا بذلك تقنية “ الجروتسك “ الدرامية، وهي المبالغة الكاريكاتورية المعنية بالتضخيم في كل شيء ؛ من أداء وصورة مسرحية، وصولاً إلى التأكيد على منهجه الذي اتبعه من البداية، فها هي أصوات العجوزين / البائعين في مونولوجهما تتناهى إلينا جنباً إلى جنب مع الصورة المسرحية ومجموعة أخرى من الأصوات آتية من فضاء المسرح، نجدها جميعا تردد مع قفل الستارة : 
“ ص 1 : روبابيكيا ...
ص 2 : عرب للبيع ...
ص 3 : ناس بجد للبيع ...
ص 4 : تاريخ قديم للبيع ...
ص 5 : وتاريخ جديد برضه للبيع ...
ص 6 : وطن حقيقي للبيع ...
ص 7 : جنة تايهه مننا للبيع ...
ص 8 : طب نار بس بتاعتنا ... للبيع ...
ص 9 : كله للبيع ...”

تتمة

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption