تجريبية طريقة ستانسلافسكي
مجلة الفنون المسرحية
تجريبية طريقة ستانسلافسكي
حميد عبد المجيد مال الله
ان تجريبية منهج قسطنطين ستانسلافسكي، يعززها مسعاه المتواصل الى استكشاف الجديد لتطوير المنهج طوال عقود ثلاثة من زمن القيصرية؛ وتواصــــلت حتى الستالينية نهاية الثلاثينيات. الرصد المتأني لخطو المنهج حتى شيخوخة منظره، يكشف الإتقان في التصميمات التجريبية المتواترة التي أطفأتـها الشيخوخة في خطواتها الأخيرة.
لم يكن العدد الغفير من أتباع ستانسلافسكي هم التلاميذ الحقيقيون له! حسب ايجينوباربا. بل كان الفنان الشكلاني مايرهولد هو التلميذ الحقيقي له! فقد أعد وكوّن نفسه معه، ومن ثم قام بإتمام تجربته بل وأثر على معلمه، وألهمه طريقة الأفعال الفيزياوية. إن عظمة منهج ستانسلافسكي أنه رفع (الممثل) الى مستوى (النموذج) في منهج (الواقعية الاشتراكية)، بينما كان قبل ثورة اكتوبر 1917 (صورة مثلى للذاتية البرجوازية) أداءً وتلقياً.
يشير الناقد المسرحي أريك بنتلي الى ما يؤكد هذا الرأي في كتابه (المسرح الحديث – ترجمة محمد عزيز رفعت) بقوله: "حينما اندثر جمهور ستانسلافسكي من أبناء الطبقة المثقفة الراقية أيام القيصرية في روسيا. حلّ محلّه جمهور نظارة من فلاحين وجهلة، خلال السنوات الأولى من عهد النظام السوفيتي. فلم يرتح هذا المدير الأرستقراطي – أول الأمر، لكنه مالبث أن تضاعف سروره واغتباطه بتجاوب هذا الجمهور، وشــدة يقظة وحرارة إقباله حينما كانت تمثل مسرحية (بستان الكرز) لتشيخوف.
أدرك هذا المخرج الكبير أن النظريات والتقنيات ستصاب بالجمود والتحجّر في الأزمنة القادمة ما لم تنمَّ وتطور، فانه ستستقر في المتاحف. لذا من أجل أن لا يدع نفسه تتقوقع، عمل على نص (طرطوف) وكان يقول للممثلين المحترفين (لا أريد أن أقوم بتعليمكم كيف يتم تمثيل هذا الدور وذاك. بل أريد أن تتعلموا كيف – يتم التمثيل) وهكذا فإن دور المخرج – المرشد هو شق طريق يسير عليه الممثل.
لذا لم يكن مايرهولد مقلّداً لمعلمه، كما لم يكن بعيداً عن تجربته بل كان هناك تداخل وتباعد بينهما، شكل صورة لتلك العلاقة الجدلية التي لم تفهم، ولم تعكس بشكل دقيق لنا، فقد بقي القارئ والمتابع والعامل في المسرح العربي – على حدّ تعبير المعرب قاسم البياتي – مقتصرين في معرفتهم، ولسنين طويلة على التجربة والمنهج وكأنهما شيء ثابت انتهى بنتائج مدرسية جامدة.
الحقيقة ان ذلك المبدع لم يرضَ عن نفسه، ولم ينتهي الى نتائج جامدة. فلقد تظاهر بالمرض في السنين الخمس الأخيرة من حياته، كي يفلت من قبضة (ثقافة) الدكتاتور ستالين. ووضع كل تجربته في مناقشة جديدة، وعمله على نص مولير ليس من أجل إخراجه مع ممثلين محترفين اجتمعوا حوله، بل من أجل إعادة النظر بالنتائج التي وصل إليها في حينها في نهجه الراقي المؤسس على (الواقعية النفسية). وجرب عندها طريقة (الأفعال الفيزياوية) التي فتحت أمامه أفق اقترابه من تجربة تلميذه مايرهولد.
وحسب المخرج المعاصر باربا (ان علم المسرح لا يزال حتى دون ثورته الكوبرنكية! يبدو ان الناس لا تزال تدور حول الأرض الثابتة لعالم المحور والأيديولوجية المسرحية! وليس تلك الأخيرة هي التي تدور حول الناس الذين أنجبوا كل ذلك من حياتهم الحقيقية الملموسة..) ان المسرحيين العظام ستانسلافسكي، مايرهولد، برخت، آرتو، أنجزوا مسرحاً مختلفاً وغير مألوف حسب نظريات عصرهم... أما الآن فيتولد مسرح آخر يستجيب لمتطلبات مغايرة بأساليب مغايرة عن السابق.وابلغ مثال : الفارق بين " الطريقة " في بدايتها، ثم موقف مبدعها في شيخوخته منها.
المنهجيات المسرحية السابقة والآنية والآتية تتجاوز بعضها. هكذا عمل المخرجون / المرشدون من بعد ستانسلافسكي. لقد رفض مايرهولد مصطلح (الميرهولدية) لأنه استنبأ بتخطيها مستقبلاً..
طرح باربا أسئلة المسرح في اصولها مخاطباً فرقته (فرقة اودن – واودن اسم إله)... ماهو أصلي؟ من هم أجدادي؟ من حيث المهنة الى حد طوطم ستانسلافسكي.. ولي جدود آخرين : مايرهولد، فاختناكوف، كوبو، ازنشتاين، كوردن كريج واخته أدي كريج فهي جدتي وجدتكم. ولي شقيق كبير واحد : غروتوفسكي. أن ما تركوه (إرث الأجداد الذي لا ينسى).
وبعد كتاب (إعداد الممثل) لستانسلافسكي – حسب مراجع الكتاب دريني خشبة (أول كتاب عملي نحو التمثيل وقواعده و دروسه، التي لايمكن أن يتمكن ممثل من فنه المسرحي إلاّ اذا وعاها، وحرص على دراستها دراسة عميقة تطبيقية) هذا الكتاب فكَّر المؤلف في كتابته قبل قرن، في عام 1906 وعرفه المسرحيون العرب بعد أن ترجمه د. محمد زكي العشماوي ومحمود مرسي كمرجع للمسرحيين وطلبة الفن.. والنسخة المتداولة الآن تحمل رقم الإيداع بدار الكتب بتاريخ 1973 دون إشارة الى طبعات سابقة.
في نقده للمنهج، أي منهج يؤكد يوكليرمان (انه صياغة مقننة لتكنيك الممثل) الاّ ان ستانسلافسكي دحض في تأكيد بالغ أية محاولة لتقنين منهجه.. وذلك في حديث له مع ممثلي ومخرجي فرقته (فرقة مسرح الفن في موسكو) عام 1938 قبل موته بسنتين. وأعلن انه (ليس ثمة محل للسؤال عن منهجي ومنهجك، وانما هناك منهج واحد فقط : الطبـيعة الأصلية الحية الخلاقة...) واستطرد (يجب أن نتذكر ان هذا الذي يسمى بالمنهج، لا يستمر في حالة ثبات، بل يتغير كلّ يوم...) راجع (دافيد ماجرشاك من مقدمة كتاب : فن المسرح لستانسلافسكي ترجمة لويس بقطر – وزارة الثقافة – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر – القاهرة 1968. نموذج في السياق : عندما التحقت المخرجة العراقية روناك شوقي بمعهد غيتس في موسكو، سألها أحد الأساتذة 0 هل تعرفين قاسم محمد؟ انه أحسن طلاب المعهد...) عندها ملأني الفخر – تقول روناك – وقلت إنه استاذي الذي علمني كيف أخرج من هيمنة ستانسلافسكي الى حدّ الجنون... حدّ المتعة.. والفرح .
------------------------------------------------
المصدر :جريدة طريق الشعب العدد 150 السنة 73 الخميس 27 آذار 2008
0 التعليقات:
إرسال تعليق