ثنائية الحياة والموت في عروض المسرح العراقي / سعد عزيز عبدالصاحب
مدونة مجلة الفنون المسرحية
مدخل
تعتبر ثنائية الحياة والموت من أقدم الثنائيات في الوجود،فهي جوهر كينونة الإنسان في ماضيه وحاضره، وتمثل نقيضين متعالقين،الحياة بواقعها النسبي وكيفياتها المتباينة
والموت بحتميته وغيبيته وحقيقته المطلقة ومنذ التراجيديا الاغريقية واثر هذه الثنائية فيها وما افرزته من خوف وشفقة (ارسطوية) على مصير البطل التراجيدي وما تناولته الثقافة البشرية عبر تاريخها الطويل الجدلية الحياة والموت بمختلف انماطها وتصوراتها وتجلياتها الفنية في ضوء القصائد والملاحم الشعرية، والتنويعات الدرامية والإخراجية لهذه الموضوعة خصوصا بعد عام 2003 في بلادنا، حيث ازدادت حدة الصراع وأصبحت أكثر عنفا على الصعيدين الاجتماعي والسياسي مما اعطى وفرة لتجسيد وتبني هذه الثنائية وعكسها في الاشكال والمضامين الدرامية اخراجيا بشكل شكلَّ ظاهرة حرية بالدراسة والبحث، حيث سادت الاشكال الميتافيزيقية واصبح اللامرئي مجسدا عبر الميزانسينات الحركية والمقترحات السينوغرافية التي تتفاعل مع الموضوعة الدرامية التي احتفت بالماورائي والطيفي والشبحي والروحي على حساب المادي والمتمظهر، وشكلت ثنائية الحياة والموت مرتكزا فلسفيا ودراميا للمخرج العراقي بتحركها في دائرة الوجود والحضور كفعل اساس في خطاب العرض العراقي المعاصر المتباين في البث ونسبية التكيف..
وشهدت الحركة المسرحية (اخراجيا) حراكا كبيرا في طبيعة الانساق المتحكمة في انتاجها وتقديمها كمنجزات فنية حاضرة في دائرة التلقي والاستهلاك الجمالي اذ لم تعد ثنائية الحياة والموت شكلا تقليديا منمطا على الصعيد الاخراجي ولا يمكن توليده، وانما عكست مدى التحول في قيمة الحياة والموت لدى المنتج الفني المحلي بثنائية الحضور والغياب، الوجود والعدم، في تناسل درامي اخراجي (شكلي ومضموني) مستمر،عكس مستوى (الهيول) الاجتماعي والنفسي، الذي تصطدم به الذاكرة الفنية المحلية من مشاهد مؤسية يوميا، انتجت واقعا اخراجيا ميتافيزيقيا (غرائبيا) في خطاب العرض، لا يحفل بالمألوف والمنطقي والتقليدي، انما يهيم في تحويل (الشخصية) الدرامية و(الفضاء) الى روحين هائمين يبحثان عن خلاصهما من الواقع الارضي واليومي الاغترابي، تائقتين في نفس اللحظة الى العودة اليه لحل احجياته وطلاسمه واسئلته الملحة، فمفهوم (الموت) لم يعد هو النهاية التراجيدية المأساوية لحياة الشخصية في الفهم الاخراجي المعاصر لها، وانما هو عتبة وتوطئة للدخول في آتون عوالم اخرى تنفتح على خطاب سري ومضمر،يتفجر وينزاح عندما تنعتق الروح (الدرامية) من غلافها (الجسد) … ويصبح ما هو مسكوت عنه ومقصي في الحياة متحولا وحاضرا بشكل تداع حر وصيرورة جدلية واعية تحاكم وتقضي وتصدر الاحكام فيما بعد الموت، ولرصد حركة هذه الظاهرة (الثنائية) وكيفياتها على مستوى الشكل الاخراجي(نص العرض) في تجارب بلادنا المسرحية تبرز الاسئلة الحاكمة الاتية :
1 ـ ما هي الدلالات الشكلية التي انطوت عليها ثنائية الحياة والموت بتمظهرها في العمل الفني؟
2 ـ هل يشكل مفهوم الحضور والغياب دائرة تفعيل لاشتغالات المخرج المسرحي بصدد مفهومي الحياة والموت؟
3 ـ ما الكيفيات التي اثرى بها المتغير الايديولوجي (الفكري) النص البصري على اساس صياغته بحيث ينحرف فيه الشكل عن دلالاته المباشرة بصدد ثنائية الحياة والموت؟
المبحث الاول: دلالات ثنائية الحياة والموت في الحقل المسرحي
أ- دلالات ثنائية الحياة والموت في المسرح القديم:
يمكن الاشارة الى المسرح الاغريقي بوصفه مسرحا يعتمد على فكرة (الخطيئة) وتبعاتها على الشخصيات الدرامية بوصف (ربات الانتقام) (الارينيات) هن من يحق لهن الفصل في من يعاقب ويعفى عنه، من يذهب الى الجحيم ا والى النعيم وفي جدل الثنائية تطل علينا مسرحية (حاملات القرابين) لـ (اسخيلوس) كاحد العاملات الهامة في تجسيد ثنائية الحياة والموت، حيث يشكل شبح (كليتمنسترا) بعد مقتلها على يد (اورستس) بعدا غيبيا لحياة ما بعد الموت بحضور الاله (ابولو) لتوقظ الهات السخط من نومهن، فيطالبن بفريستهن (كليتمنسترا) التي خانت زوجها (اغاممنون) بينما يحاول (ابولو) حماية من لجا اليه (1) ويمكن اعتبار مسرحية (اياس) لـ(سوفوكليس) واحدة من المسرحيات التي توكد فكرة ان الحياة حلم وما نحن سوى اخيلة وكل الاحياء مجرد اخيلة لا حقائق، بمعنى ان الحقيقة الموضوعية هي في العالم الاخر،في حياة ما بعد الموت، حيث تتكشف الاقنعة وتسفر الوجوه عن مضمراتها ومسكوتاتها،وتسرد المسرحية قصة البطل (اياس) الذي كان يعتقد بان من حقه ان يحظى بامتلاك اسلحة (اخيل)،غير ان هذه الاسلحة اعطيت لـ(اودسيوس) فاصيب كبرياء (اياس) بجرح عميق فخرج في الليل وقتل (اجاممنون) و (منييلاوس) اذ ظنهما السبب فيما لحق به من اهانة فغضبت الالهة (اثينا) لذلك التصرف الذي يدل على الكبرياء الجامحة فخرجت من الاوليمب فاطفأت نور عقله واصابته بالجنون .. لينتحر اياس في النهاية وتذهب روحه الى العالم السفلي (2)، وفي انفتاحه المتاخر على الموضوعات الميتافيزيقية بعيدا عن اهتمامه بالثيمات الاجتماعية قدم (يوربيدس).
مسرحية (الكستس) والتي تدخل في اطار ثنائية الحياة والموت ولكن من جانب اجتماعي , حيث تتناول المسرحية اسطورة قديمة تتحدث عن (ادميتوس) ملك (تساليا) وعدته الاقدار بفضل وساطة (ابولو) بان الموت سيخطئه بعض الوقت اذا هو استطاع فقط ان يجد اشخاصا هم على استعداد للذهاب الى العالم السفلي بدلا منه،وفي نذالة تامة ينتقل (ادميتوس) من قريب الى اخر يلتمس العون على ما وعد به .. فلم يجد مطلبه الا في زوجته (الكستيس) الوفية التي تنذر نفسها من اجله،ويمكن اعتبار ثيمة المسرحية ترتبط بالارتياب في صدق النوايا الطيبة من خلال حدث كبير هو الموت (3) ..
ومن المهم الاشارة هنا الى ان المسرح الاغريقي كان يجعل من الالهة طرفا في الصراع الدرامي مع البشر لتذوب الحواجز والحجب بين العوالم،فنرى الالهة تحاور البشر على الارض اذ تنزل لهم،ومن النادر ان يصعدوا هم اليها،لذا من القليل جدا يمكن تمييز عدد من المسرحيات الاغريقية التي تنتقل شخوصها من عالم الحياة الى عالم الموت وما وراءه (4)والسبب ايضا راجع الى كون المثولوجيا الاغريقية احتفت بالحوار والجدل الارضي الذي يطور ويدعم الحياة ونالت من الالهة وناقشت طروحاتها العلوية والغيبية ..
فالتراجيدي يكمن في فعل الانسان وتاثير الخطيئة على مسارات حياته .. لتقديم قيمة اخلاقية تستند لفعل الخير الذي يجعل من الحياة شيئا هادئا ورخيا … على الرغم من وجود الالهة وحضور الميتافيزيقي والغيبي الا ان المسرحيات الاغريقية هي مسرحيات مادية بالنتيجة .. تحفل بالجانب الاجتماعي والنفسي للانسان وهذا ما جعل (برتولدبرشت) عندما بحث في المسرح الاغريقي لتطوير مسرحه (الملحمي) وجد ضالته في الالهة الاغريقية التي تنزل الى الارض وتحاور الانسان،وهذا ما حققه هو دراميا في مسرحية (الانسان الطيب في ستزوان) من لحظة هبوط الالهة الى الارض وحوارها مع (شن تي) فالاساس في المسرحيات الاغريقية هو الحياة .. والموت هو وسيلة لادامة الحياة .
الهوامش:
(1) ينظر : جورج تومسن،اسخيلوس واثينا،تر: صالح جواد الكاظم،بغداد،(منشوراتوزارة الاعلام،1975)،ص327
(2) ينظر: فيتوباندولفي،تاريخ المسرح،الجزء الاول،تر : الاب الياس زحلاوي،دمشق (مطبع وزارة الثقافة ،1979)
ص118
(3) فيتوبانولفي،تاريخ المسرح ج1،مصدر سابق،ص182
(4) ينظر : الارديس نيكول،المسرحية العالمية ج1،تر: عبد الله عبد الحافظ متولي،بغداد : (منشورات وزارة التعليم
العالي – الجامعة المستنصرية) 1986،ص44







0 التعليقات:
إرسال تعليق