أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الاثنين، 21 مارس 2016

التجريب والتطور الفكري والايديولوجي في المسرح العراقي / د.عقيل مهدي يوسف

مجلة الفنون المسرحية

توطئة
مر مسرحنا العراقي بمخاض معقد من التأثر الانفعالي في محاولة تقليد الفرق المسرحية الاجنبية الوافدة من غير عدة فنية، او دراسة متعمقة بأبعاد هذه الظاهرة الجمالية – الاجتماعية، نحاول في مبحثنا هنا ان نشير الى علامات التحول المسرحي، وبروز تيارات فنية واتجاهات تجريبية هنا وهناك، عند هذا المؤلف او المخرج، او ذاك، وكان للمؤلف والمخرج دورا قياديا في تمكين الممثلين من مهنتهم، واستثمار مواهبهم بطريقة خلاقة.
ولا ننسى الفاعلية الابداعية لمصممي المناظر المسرحية، امثال: كاظم حيدر وفاضل كزار ونجم حيدر، او ازياء امتثال الطائي وموسيقى طارق حسون فريد، وجيش الحرفيين المبدعين الذين ساهموا بصياغة عروض عراقية ترتقي من مرحلة مسرحية الى اخرى.
وجدنا ضرورة الاختزال في تأثير الطابع الفكري الفني، والبعد الايدلوجي، عبر التطرق الى ابرز خطوط التجريب المسرحي في العالم، ليتسنى لنا الاقتراب بشكل ملموس من تطور الفكر الدرامي ومعرفة كيفية مستوى المنجز المحلي للنص، وربطه بجذوره الاجتماعية، وما ذهبت اليه العروض التجريبية من اهداف واجراءات، وكذلك بروز الظاهرة (النسوية) المسرحية وما يقابل ذلك من نكوص في عروض المسرح المسمى بالتجاري، وهو نمط استهلاكي عابر، لنختم مدخلنا هذا، بضرورة توفر فنون المسرح على الشروط الجمالية.
اولا: التجريب عالميا
يقوم "االتجريب" على "اظهار" عالم مسرحي مبتكر، الى حيز الوجود، ليراهن على جدارته المستقبلية. فهو خروج عن "الماألوف"، و"رحلة الى المجهول"، حسب ـ جيمز رووز ـ اي يقوم ابداعيا على غير مثال.
قد يكون العمل في (الاخراج) تجريبيا، لانه لا يعتمد (الكلمة)، بل يخوض في تشكيل كتل تجريدية، او يكرس جوهر العلاقة بين الممثل والمشاهد، او يحوّل المدركات الخفية الى اشياء مرئية. وحتى على صعيد (النص) حاول كتاب امثال "بكيت" و "بنتر" استنطاق "الصمت" عن اشياء لا يتحدث عنها الناس عادة، أو نصادف في المسرح رؤية حلمية للحياة، تنجز بكثافة الومضة الشعرية، لتحتفل بغبطة الحواس، كالذي نتمتع به في الرقص المسرحي عند "مارثا جريم" وكأنه ذبذبات قلب بشري يثير فينا انثيالا صوريا من دواخلنا.
وكان "بروك" يبحث في مسرحه عن مذاق خاص، يشرك معه (جمهور) الصالة، لعالم اخر، سريع ومتوهج، ولا تتم هذه التجربة ـ حسب فرانز مارك ـ الا بتهشيم "مرآة" الحياة اليومية، لكي نحقق المواجهة ضدها. لان المسرح يخلق لدينا، ادراكا حسيا، اكثر كثافة، مصنوعا من "مادة" عالمنا الخاص، برؤى تجسد خيالاتنا، واحلامنا.
يثور التجريب على "التقنيات" المسرحية القديمة، ويجيب عن اسئلة تخص فن الممثل، وآلية العرض الحديثة ومثاليته وماديته، منذ محاولة "الفريد جاري" في مسرحيته (اوبو ملكا) عام 1896، القصدية، لتقديم لعبته المسرحية بدون التجريب، كما يصر!ح "برخت"تتراخى التجربة المسرحية، لذلك اختار تجريبيا، فاجنر الموسيقى، وكريج شعرية الفضاء، وآبين الاضاءة، ومايرخولد آلية الحركة، وبروك المساحة الخالية، وجوليان بيك، التعبير الجهدي، وآرتو رؤى لا شعورية، وكوبو اللاديكور، وتايروف اللاواقعية.
تعايش سلميا في تجربة المسرح العراقي، الكاتب يوسف العاني بين القديم والجديد في فن المسرح، وكان التأثير الحاسم على تقديمه مسرحيا كبار المخرجين منهم الاساتذة: ابراهيم جلال، جاسم العبودي، سامي عبد الحميد، وقاسم محمد، ومن الجيل التالي: عقيل مهدي (في مسرحية يوسف العاني يغني)، وفاضل خليل.
فضلا عما تحصّله العاني من افكار، حين وجوده في المانيا الشرقية، ومشاهداته لعروض "برتولد برخت"، وهناك اكتشف، ان برخت يقدّم (الكلمة) لوظيفتها السياسية والاجتماعية، وتأثيرها النقدي والفكري لدى (المتلقي).
اما المخرجون، العراقيون، فانهم تفاعلوا مع حوارات العاني، وبعضهم انحاز اليها تماما، وبعضهم وجدها قابلة للجدل مع لغة فن العرض المسرحي بوصفه (مؤسلبا) اي ان النظام البصري لعناصر الرؤية والفرجة المسرحية، يعيد انتاج الواقع ولا يحاكيه حرفيا، كما فعل ـ على سبيل المثال ـ "مايرخولد"، المخرج الروسي الذي وظف (المجاز) الفني في عروض واقعية، انزاحت عن ثوابتها القارة، والمعهودة للجمهور.
ثانيا: تطور "الفكر الدرامي" في العراق
لعبت "الثيمة" السياسية والاجتماعية دورا رئيسا في المسرح العراقي، نجدها عند كتاب المسرح منذ مرحلة مبكرة وحتى اليوم، وكأنها تشكل "المحتوى" الرئيس لديهم، والعنصر المولِّد الاساس "للبنية الدرامية" ويعنى بالثيم: (الموضوعة) الفكرة والمفهوم من: (حب، موت، حياة، وطبيعة..)، وهي "مفهومات" اتخذت اشكالا متنوعة عند التجربة الكتابية، مثل: المواطن البسيط، والمسحوق، والمهمش عند (يوسف العاني)، ويشاطره كذلك طه سالم، وعادل كاظم، وجليل القيسي، ومحي الدين زنكنة، وسواهم، ويقابلهم رجالات السلطة، ورموزها.
ودخلت "الثيمة" الصراعية هذه في "الايديولوجيا" القائمة على اصطدام ارادات ومواقف متباينة حول "موضوع" محدد، لتشكل احد انساق الفكر الدرامي لدى الكاتب نفسه، في نتاجاته الفنية (الدرامية) وتسوّغ له عند "التطبيق"، استراتيجية اختيار الشخصية، والموضوع ، وطبيعة الحوار والفعل.
ثالثا: التجريب على مستوى (النص) الدرامي المحلي
حين نتفحص تجربة المؤلفين المسرحيين، نجد لديهم (قيمـ)ـا خاصة بهم، تتعلق بانتمائهم الى مجموعة معينة من الناس، ويشتركون بمرجعية (ايديولوجية) يسارية وثورية سواء في مواقفهم من العالم، او في تأويلاتهم له، وهم يحللون في نصوصهم طبيعة المجتمع العراقي، حسب تناضد اطواره التاريخية، هم ينحازون غالبا الى المستضعفين في الصراع، لا الى المتحكمين.. والى الوطنيين لا الى المستعمرين.
من الناحية النظرية، تتطابق (الفكرة) مع حركة في العقل، تتحصل عليها من "التجربة" وما تحتمه علينا قوانين الطبيعة من تقلب فصولها، صيفا وشتاء، حرّا وبردا، وبذلك تكون الفكرة عامة حسب منظور (ديكارت) او تكوينا حسب مفهوم (كانط)، (كلية) لان الفطرة والقبليات تتحكم فيها، كالاخلاقيات ومنها الدينية، والاحساس بالعدالة، وهي متعاليات على التجربة. ويعرف (التفكير) thought بانه إعمال العقل في (المعلوم) للوصول الى (المجهول).
و(الفكر) هو تأمل، وحكم، اما (المعرفة) فهي تحتك مع العالم والناس، بشكل مباشر، او مع (النتاج الفني) اي انها: عملية، ونشاط، وانتاج.
في الفن يكون الفكراقرب الى الرؤية الحدسية وليس الى النزعة المنطقية، ويكون نوعيا متفردا وليس عاما، بخلاف موضوعية الفكر الصارمة، وبذلك تتحول الفكرة "idea" الى "فهم" متفاعل مع حركة شعورية وتجربة انسانية عاطفية، وجدانية معاشة، اي تذهب الى بعد معرفي، وليس الى تصورات مجردة.
يؤكد الناقد الانجليزي (ك ـ تاينان) انه في كلّ جيل يكتشف العالم طريقة جديدة واسلوبا مبتكرا (لحكاية التاريخ)، وللفن المسرحي قواعد حرفية ووسائل عاطفية ـ جمالية وموهبة ومهارة قادرة على سرد حكايا (درامية)، من منطلق العصر الراهن.
رابعا: المسرح ظاهرة اجتماعية
منذ زمن مبكر، انتقل "العاني" من الاطار الاجتماعي ومشكلاته الخاصة في نصوصه الدرامية، الى ملحمية "برخت" التي باتت "مغامرة" على مستوى "الافكار" الثورية النقدية، وعلى مستوى "اللغة الجديدة" في فنون المسرح التي تشترط فعالية المتفرج ومشاركته في صنع خطاب العرض، في تجربة المسرح المحلي العراقي.
بخلاف "العاني" حاول "طه سالم" التعامل مع مسرح "العبث"، والانتقال به من "العدمية" الى ضرب من وجودية، فيها لمسة تفاؤلية، وتحرك "عادل كاظم" على رقعة وجودية عبثية، مقرونة بطبيعة الفرد (الحاكم) من ناحية، والفرد (الخصم) من ناحية ثانية، وعلى خلفية من "بانوراما" اجتماعية مسحوقة ومنبوذة، لكنها "تثور" غريزيا على الظلم.
هنا نجد ان كلّ مؤلف درامي، تسلح بأيديولوجيته، وافكاره الفنية، ليقدم رؤية جديدة عن الواقع المعاش "العراقي" من منظور اسطوري وتاريخي او مجتمعي يخص البيئة المحلية، وعاداتها ورموزها، لكنه يقرن ذلك بمحاولة التبشير بعالم جديد مغاير، صادم.
خامسا: العروض التجريبية
لقد شكلت الدراما نواة (للمخرجين) العراقيين، امثال ابراهيم جلال، سليم الجزائري، جاسم العبودي، سامي عبد الحميد، بدري حسون، قاسم محمد، ومحسن العزاوي، لكي يكونوا في "طليعة" المخرجين الذين فتحوا سبلا ابداعية فيها معاناة وطنية خاصة في التعامل مع الارث المسرحي التجريبي العالمي، وبذلك يمكن تسميتهم بـ (التقليديين – التجريبيين)، لانهم خضعوا بهذا الشكل او ذاك لمرجعيات اجنبية، يتعادل فيها الموروث المسرحي مع محاولات "تجريبية" تتمرد على بعض ثوابته، وتعيد انتاج "اللعبة" المسرحية بطريقة مستحدثة فيها بعد فولكلوري عربي عراقي، وفيه مكنة وحرفة اخراجية مجتهدة وطنيا لكنها متفاعلة بالكامل مع فرضيات المسرح العالمي المتطور، ومقترحاته وتأويلاته وحلوله.
لكنه يتحكم بها بتخيله وبقدرته الحرّة على الاختيار والتطبيق كالذي حققه جيل من "الاكاديميين" بعد تأهيلهم في دول متقدمة مسرحيا، في الشرق والغرب، امثال: عوني، القصب، عقيل، شفيق، عواطف، وهيثم وغيرهم.
سادسا: النسوية والتجريب
انطلق التجريب عراقيا من "النص" ثم من "المعمار" الخارجي، ثم من اداء الممثل وخطة المخرج والتشكيل السينوغرافي، واخيرا من علاقة الجمهور بالممثل. وجسّد "افكاره" من خلال "الميزانسين الحركي"، والتوزيع المكاني والضوئي واللوني والايقاعي والصوتي.
ولعبت (النسوية) دورا رائدا، متطورا في الفكر والفن، في الايديولوجيا وتجسيدها الابداعي، في تمييز الشفرة البايولوجية، من البعد الثقافي والحضاري لحرية المرأة وعدالة قضيتها الشرعية، وتذكر (جليان هانا) في كتابها: (الفكر النسوي والمسرح): "ان الرجال يولدون في عالم يسمح لهم بتنظيم حياتهم بخط متصاعد، احادي منتظم، وتقوم تجربة النساء في اساسها على التعدد والتقاطع والتعارض".
ويفخر مسرحنا العراقي بابداعات المرأة الكاتبة والمخرجة والممثلة، ومصممة الازياء والماكياج والاضاءة، وبحضورية تأثيرها في عروض تتركز فيها الازمنة فيما "يحدث" الان من تحديات وطرق مواجهتها لصنع مستقبلها الحر.
وثمة عروض (ابتكارية) وتجريبية تخص مسرح الصورة، والسيرة الافتراضية، ونتائج (الورش) المسرحية، والمسرح التعبيري والراقص، والصامت، ولكل منها أطر فلسفية وفكرية وايديولوجية خاصة لاسيما لدى المخرجين الشباب.
سابعا: المسرح التجاري
هو انشطة تظاهرية تقوم جوهريا على تسقيط منهجي (للثقافة) المسرحية بتعويض جماليات المسرح من حيث الانسجام والايقاع والتضاد.... في الحوار، والمشهد والصوت، في الفكر والمعرفة والايديولوجيا. وهو نشاط يتناقض مع العقل والحساسية والمخيلة، لانهم يقدمون عالما "وهميا" خاويا، وليس عالما فنيا حقيقيا قابلا للتحقق والنمو.
وضعت التجربة المسرحية العراقية في سياق نموها الابداعي، تقاليد ومبادئ تخص العالم النسوي والطفولة، والاباء والبنين، والصراعات الاقليمية والدولية، والحروب الكونية، لتقترح عوالم محتملة من منطلق فلسفي ـ فكري او من تجارب جمالية ـ حدسية، وشروط فنية تفرز العروض المسرحية الجادة من الهزيلة، والتقليدية من التجريبية الحية المنفتحة على حاجات مجتمعية جديدة وافاق روحية فنية.
ثامنا: ويبقى المسرح فعلا جماليا
اليوم، يرصد المسرح "الصراع" بين نوارس دجلة البيضاء والرايات السوداء، ويخوض بين الولادات والتقتيل الجماعي، بين افعال الحب وخنادق المرتزقة، بين روعة الجمال وسياسة القبح، من اجل ثورة مسرحية مستدامة تصنعها الاجيال القادمة.
يقول (باسترناك): (... ان المفكرين لا ينطقون بالحقيقة "الاخيرة" بل بالحقيقة التي "قبلها".)، وتطبيقيا يزيد الفن المسرحي في غنى الفكر الاجتماعي، ويسمو بطبائع الجمهور، ويفكك الازمات، ويحلّ عقد الاحتقانات الطائفية والعرقية والمناطقية، ويعمق الحس الوطني والاخلاقي. فالانفعال في المسرح هو باب المعرفة ويتحقق من خلال الرؤى والاحلام والبراءة الصافية، مع معرفة رصينة. وبوسع المرء الا يكون "فنانا" لكنه مجبر على ان يكون "مواطنا"، فالجميل ـ حسب هيجل- يثير في نفوسنا الشعور بالفرح والحب، ويستحق منا العراق هذا الحب، والمسرح استعارة فنية لموقف الانسان من الحياة، واتجاهه "الفكري" هو الذي يحرك القاطرة الفنية بكاملها.

--------------------------------
"الثقافة الجديدة" العدد 370


0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption