المسرح الانتقائي في تجربة سامي عبد الحميد / عبد الخالق كيطان
مجلة الفنون المسرحية
في الكثير من الأحاديث الجانبية مع الأستاذ سامي وجدته يركز على مفهوم يسميه: المسرح الانتقائي، وفي حوار طويل معه أجريته قبل سنوات أشار الأستاذ سامي الى تجربته باعتبارها رائدة في هذا المجال، وأذكر أنه تحدث عن تجربة الفنان الراحل عوني كرومي بالصيغة ذاتها... واليوم، يعود الأستاذ للحديث عن المسرح الانتقائي في كتابه الجديد: نحو مسرح حي (بغداد 2006)... فما هو المسرح الانتقائي في فكر سامي عبد الحميد؟
يرى الأستاذ عبد الحميد أن الانتقائية تدعو إلى تعدد الابتكارات وإلى توسيع الخيال وفسح المجال للتجريب، وفسح المجال للتبسيط والاختزال وللتحول من التخصيص إلى التعميم. ويواصل حديثه بالقول أن الانتقائية تحرر المخرج من قيود البناية المسرحية التقليدية.
وهو في مقاله الموسوم: الانتقائية هي الأرجح (الفصل الثاني من الكتاب) يقرر سلفاً، كما هو واضح من العنوان بأن المنهج الانتقائي الذي يدعو إليه يطلق العنان لابداع الفنان مما يجعله يتنفس أنسام الحرية، وهي جملة شعاراتية لا تؤسس حقيقة للمشروع الذي يريده هو شخصياً بالرغم من سياحته القصيرة على تجارب مخرجين أجانب عدهم البحث ضمن الرؤية الانتقائية..
يريد الفنان عبد الحميد بدعوته هذه التقعيد لتجربته الممتدة على مدى أكثر من نصف قرن، وهو المخرج المجرب الذي جالت مسرحياته المناهج المختلفة ولم تستقر على منهج بعينه، وهو في مقاله الطويل يذهب إلى المقارنة مع تجربة الفنان الدكتور صلاح القصب، صاحب مسرح الصورة المشهور، باعتبارها تجربة أسلوبية ثابتة.. ونحن نعرف أن الأسلوب يؤدي إلى النمط والنمط معناه قبر التجريبي.
لقد تعامل الأستاذ عبد الحميد مع نصوص أجنبية وعربية ومحلية مختلفة، وكان في كل تجربة جديدة له يريد ابتكار رؤية إخراجية تناسب الظرف السياسي العراقي المشحون طيلة القرن الماضي، فهو كالماشي على حقول جمر، فتراه يوماً يميل إلى الواقعية، ومرة إلى التعبيرية ومرة إلى الرمز والكلاسيكية وهكذا.. وعلى صعيد التمثيل أيضاً كانت اسهاماته تتقلب حسب الأدوار التي يلعبها، وإذا كان الأمر مقبولاً بدرجة كبيرة في فن الممثل، على اعتبار أن الممثل صانع أوجه ماهر، فأنه لأمر مختلف حقاً في الإخراج، من دون أن نسقط في فخ الترويج للأسلوب الثابت المكرر.
لا تعني الانتقائية في تقديرنا التقافز بين المناهج المختلفة، بل تعني مطابقة العروض للضرورات، وقد نختلف في توصيف الضرورات، ولكننا سنتفق حتماً في أن لكل عرض، انتقائي بلغة عبد الحميد، شروطاً وظروفاً محيطة ما يبعد العمل عن فكرة المسرحة لصالح أفكار أخرى.. فعبد الحميد مثلاً عندما يشتغل مع طلبة الأكاديمية هو ليسه الذي يعمل مع المحترفين في الفرقة القومية، وعندما يقوم بإخراج مسرحية حدث موسمي هو ليس عبد الحميد الذي يقلقه مشروع مسرحية فيستغرق من وقته وفكره وجهده الكثير.. هكذا يبدو تنقله بين الأشكال المسرحية في الكثير من الأحيان محاولة للإمساك بشكل عصي ومستفز، وبالضرورة خاضع لاشتراطات ما حولية..
تجربة مثل تجربة الفنان عبد الحميد، وعلى هذه الرقعة الزمنية الطويلة، وبكل معاصرتها لأجيال من التجارب والاتجاهات المسرحية المختلفة ليست بالنتيجة تجربة عابثة أو غير مدروسة، فهو حينما يقدم عملاً بتوقيع مؤلف جديد، أو شاب، مبتدئ في المسرح، فإن النزعة التربوية هي التي تتحكم بعمل من هذا النوع، وعبد الحميد، كما نعرف هو أستاذ الدراما في أكاديمية الفنون الجميلة على مدى عقود، فما يمكن تسميته بالمهنة(التدريس) يقع في صلب يومياته التي اعتاد عليها هذا العمر الطويل.. وهذا ما قصدناه قبل سطور في حديثنا عن مطابقة الضرورات.
الأمر نفسه ينطبق على المخرج عندما يخوض في تجربة مختبر مسرحي مع مجموعة من المجربين، تراه في مثل العروض التي تنتجها تلك المختبرات يفكر بعقلية مجرب شبابي لا يأبه كثيراً للمتلقي واشتراطاته، ولا لتنظيرات النقاد واشتراطاتهم.. هنا أيضاً يكون عبد الحميد قاصداً في تجربته مطابقة الضرورات.
هل على المخرج المسرحي في ضوء ذلك أن يكون انتقائياً؟؟
إن جوهر ما يدعو إليه الأستاذ سامي عبد الحميد يقع في ضرورة أن لا يتوقف المخرج المسرحي عند مشروع بعينه، بل عليه أن يتنقل في عروضه بين المناهج والرؤى الإخراجية التي تطابق ضرورات تلك العروض.. ولا يؤمن الأستاذ بالعروض التي يخضعها مخرجوها إلى رؤية قبلية مما يمنحها سمة التكرار، كما يعتقد.
والأسلوب الثابت يؤدي إلى التكرار، هذا صحيح جداً، ولكننا لا نستطيع الإمساك بهذا الأسلوب في تجارب متحركة كما هي الحال في تجارب صلاح القصب، التي أرادها عبد الحميد نموذجاً لنمطية الأسلوب مقابل لا نمطيته عن الانتقائيين، ولو كانت تجارب القصب نمطية لما غامر أستاذنا، مثلاً، وشارك في الكثير منها ممثلاً برؤيته الشخصية التي جاءت لتكمل رؤى المخرج..
إن ما يمكن اعتماده مثلاً للنمط المميت بالمعنى الذي يريده عبد الحميد ينطبق على العشرات من النماذج المسرحية العراقية التي لا يذكر منها اليوم سوى تجربة واحدة أو تجربتين لافتتين، كما هي الحال مع الراحل عوني كرومي.. وبعيداً عن لغة الرثائيات الرخيصة وقريباً من الدقة العلمية فإن أثر كرومي المسرحي لا يتجاوز مسرحية: الإنسان الطيب، وترنيمة الكرسي الهزاز، ومحاولات أخرى لم تستطع بمجملها أن تؤسس لها خطاً إخراجياً يستطيع أن ينتج متأثرين على أقل تقدير.. يبدو أثر الدكتور عوني كبيراً في طلبته وزملائه من جهات أخرى، التدريس مثلاً، وجوانب حياتية شجية ليس مكانها هذا المقال.
وإذ يعتقد الأستاذ سامي بأن تجربة عوني كرومي الإخراجية كانت انتقائية فلأن الأخير تنقل هو الآخر بين أكثر من منهج وأسلوب، ولكن اليوم، ونحن على وشك إسدال الستار على العقد الأول من القرن الواحد والعشرين فإننا نستطيع وبهدوء أن نذهب بتلك العروض إلى المتحف من دون عناء يذكر في الوقت الذي نكثر فيه من الجدال بخصوص تجارب صلاح القصب الواقعة في النمط الذي أشار إليه الأستاذ عبد الحميد..والسؤال الآن: هل ينطبق ما ذكرناه على تجربة الفقيد عوني كرومي على تجربة الأستاذ سامي عبد الحميد؟
نستطيع الإجابة بوضوح شديد بأن الأمر مختلف كلياً.. لقد ظلت أعمال الأستاذ سامي المتناقضة في أشكالها تعبر عن تجريبية عراقية حائرة طبعت حياة العراقيين، وأقصد الحيرة، طوال أكثر من نصف قرن بسبب التقلبات السياسية العراقية المجنونة والتي دفع ثمنها العراقيون بمختلف شرائحهم، وبالتالي فإن ما نراه اليوم، على سبيل المثال من عقم في المشروع الثقافي العراقي هو بلا شك نتيجة حيرة العقود الماضية.. حيرة لم يفلت منها عقل كبير مثل عقل الأستاذ عبد الحميد، ما دفعه للبحث عن مناطق أخرى لتحقيق أحلامه المسرحية الكبرى فكانت إسهاماته المؤثرة في مجالات: البحث، التدريس، النقد، التنظير، التمثيل والإخراج المسرحي.. وذلك لم يتحقق لمخرج مسرحي عراقي كما تحقق لعبد الحميد دون سواه سواء من جيل الريادة الأول أو الثاني أو أجيال ما بعد الريادة.
تنقلات عبد الحميد بين المناهج المسرحية وفق هذا التصور كانت ضرورية بالنسبة للأجيال التالية من المخرجين، فهي تنقلات كانت بمثابة تنقلات جنود المشاة بحثاً عن حقول الألغام من أجل تمهيد الطرق لأرتال من الجنود القادمين.. كان سامي عبد الحميد يحاول في تجاربه المختلفة أن يكتشف ضمن منطق الضرورات آنف الذكر مناطق جديدة لم تكتشف من قبله، ولعل تجارب من قبيل: هاملت عربياً، المفتاح، تموز يقرع الناقوس، بيت برناردا ألبا، ثورة الزنج، إلى إشعار آخر، عطيل في المطبخ ألخ تعد اليوم علامات مهمة في تاريخ مسرحنا العراقي، وكل علامة من تلك العلامات كانت قد اشتغلت، ضمن نظم الأداء الصوري الإخراجي، على أشكال ورؤى قد تكون متناقضة، وهي كذلك حقاً، ولكن ما يربطها جميعاً هو ذلك الإصرار القوي عند الأستاذ عبد الحميد في العيش على الخشبة، لا جوارها، ولا أمامها، ولا خلفها... بل على الخشبة فقط.
----------------------------------------
المصدر : الشبكة العراقية
0 التعليقات:
إرسال تعليق