تيموثي سبال يعود ثانية إلى المسرح بدور المتشّرد في مسرحية بنتر "الحارس"
مجلة الفنون المسرحية
-------------------------------------
المصدر : أيلاف - علي كامل
إن الدقة في اختيار ممثل في عمل بسيط وملغز في ذات الوقت هو أمر بالغ الأهمية، لذا ليس غريباً وقوع اختيار المخرج ماثيو واركوس على الممثل البريطاني تيموثي سبال للعب دور المتشّرد، الشخصية المركزية في هذه المسرحية. تيموثي سبال واحد من أفضل الممثلين البريطانيين إن لم يكن الأكثر موهبة، فقد أُشيد به بشكل واسع في الآونة الأخيرة عن أداءه المميز لدور الرسام الإنكليزي جوزيف تيرنر في الفيلم الذي حمل اسم (السيد تيرنر) وأخرجه البريطاني مايك لي عام ٢٠١٤ والذي فاز بسبع جوائز عالمية بضمنها جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي. وعُرف سبال أيضاً بدوره بيتر بيتكرو في سلسلة أفلام هاري بوتر، وكذلك أدواره في أفلام متنوعة مثل (خطاب الملك، سويني تود، الحلاق الشيطاني لشارع فليت، أبدن رجل في بريطانيا، أوليفر تويست، إطلاق النار على الماضي وعلى صديقنا المشترك وأفلام أخرى). يعود تيموثي سبال إلى المسرح بعد غياب عقدين من الزمن ليلعب دور متشرد يدعى ديفيز على خشبة مسرح «أولد ﭬك» جنبا إلى جنب مع الممثل جورج ماكاي بدور ميك ودانيال ميس بدور أستون شقيق ميك. ***
«دخلت غرفة فرأيت شخصاً واقفاً وآخر جالس، وبعد أسابيع كتبت مسرحية (الغرفة). ثم دخلت غرفة أخرى فرأيت شخصين جالسين، وبعد سنوات قليلة كتبت مسرحية (حفلة عيد الميلاد). ومن بعد تطلعتُ من خلال الباب إلى غرفة ثالثة فرأيت شخصين واقفين، ثم كتبت مسرحية (الحارس)». بهذا الإيجاز التهكمي البليغ يصف هارولد بنتر مصدر مسرحياته الكبرى الثلاث. تجري أحداث مسرحية (الحارس) في غرفة في عليّة منزل عتيق يقع شمال شرق لندن تعود ملكيته لشخص يدعى ميك. يقيم في الغرفة الخربة هذه أستون، الذي يكُّلف من قِبل شقيقه الأصغر ميك في إعادة تجديد المنزل وترميمه بحكم مهنته كنجّار سعياً لتحويله إلى شقق للإيجار. الغرفة مليئة بنثار من ألواح الخشب وقطع الحديد وعلب أصباغ وأدوات نجارة وتمثال لبوذا وأشياء أخرى لم تعد ذا فائدة. ليس ثمة شيء يحدث حقاً هنا في هذه المسرحية. ليست هناك حبكة معقدة تتضمن تحولات مفاجئة أو محيرة، ولا هياكل عظمية تتقافز من الخزائن. ما يحدث في الواقع، هو أن أستون يستضيف متشرد عجوز اسمه ديفيز (الممثل تيموثي سبال) ليبيت معه لليلة في الغرفة لعدم وجود مكان يأويه. أستون الذي لعب دوره الممثل (دانيال ميس) شخص مصاب بتلف في الدماغ نتيجة لصعقات كهربائية عولج بها قبل سنوات في إحدى المستشفيات العصبية بسبب وشاية سرّبها عمّال ورشة النجارة التي كان يعمل فيها وزبائن المقهى التي كان يرتادها، في أنه كان يحدثهم دوماً عن الكمال الروحي وصفاء رؤيته للعالم والتي فُسرت حينها على أنها مجرد هلوسات لشخص مصاب بخلل في عقله. مجازفته في استضافة هذا المتشرد في مسكن لا يعود إليه دافعها الشفقة وهاجس في إقامة صلة إنسانية بعد أن أعاقه المرض عن ذلك، فضلاً عن إحساسه إن الإثنين مطرودان ومنبوذان من العالم الخارجي. حلمه بناء سقيفة في الحديقة هي بمثابة ورشة عمل بوسعه أن يمارس به مهنته كنجّار ومزخرف منازل. ديفيز (تيموثي سبال) متشرد ومخادع يلفق قصصاً زائفة عن حياته، ويكيفها وفقاً لاحتياجاته وتبعاً لنوع تفكير الناس الذين يسعى لإقناعهم أو إثارة عواطفهم أو استغلالهم. إنه يراوغ ويتملص يكذب أو يتهرب من الحديث عن ماضيه ليتجنب كشف الحقيقة كاملة عن نفسه، مدّعياً أنه كان يخدم في المستعمرات وأنه طلّق زوجته بعد أن اكتشف أنها مومس، وأنه يكره السود واليونانيون والبولونيون لإنهم دخلاء على البلاد، وقصص أخرى. أخيراً يخبر مضّيفه أستون أنه سيمضي في اليوم التالي إلى منطقة تدعى «سدكاب» غرب لندن لجلب وثائقه الرسمية التي خبئها هناك عند أحد معارفه كما يقول، بدعوى خوفه الدائم من إمكانية السلطات في كشف هويته الحقيقية لأنه، كما يزعم، انتحل اسم شخص آخر يدعى جينكينز بعد أن سرق بطاقة ضمانه الاجتماعي التي تجيز له الحصول على المعونة الحكومية. حين يغادر أستون الغرفة متوجهاً إلى المقهى لجلب حقيبة المتشرد التي تركها هناك. يدخل ميك ليعثر على العجوز نائماً فيظن أنه لص تسلل إلى الغرفة بغياب شقيقه، فهو يعرف أن أستون ليس لديه أي صديق ليدعوه إلى الغرفة. ميك، على العكس من طباع شقيقه، شخص متقلب المزاج عصابي وذو طبع عنيف. فاقتحام شخص غريب للغرفة يشّكل بالنسبة له تهديداً له ولشقيقه ونوعاً من الاستحواذ على أملاكه، لذا يستهل هجومه بتعنيف جسدي قاس أولاً ومن ثم باستجوابات ذات طابع عدواني وسادي بالتحقق عن اسم الدخيل وهويته وماضيه، وهذا يشكل بدوره تهديداً للمتشرد. يُباغت المتشرد بهذا الخطر المفاجىء، وحين يكتشف عائدية المبنى لميك وليس لأستون، وغموض العلاقة بين الشقيقين وموضوع الصعقات الكهربائية التي تعرض لها أستون في الماضي، تنفتح شهيته نحو الاستحواذ والهيمنة على الغرفة لضمان بقاءه وأمنه من العالم الخارجي فيحاول أن يدق اسفين بين الشقيقين هدفاً في إقصاء أستون عن المشهد، محاولاً إقناعه بمشاركته شؤون المبنى، واستعداده أن يكون حارساً للمبنى معللاً ذلك باختلال عقل شقيقه أستون وعجزه عن إنجاز العمل، والأكثر من ذلك زعمه أنه يجيد فن النجارة وتزيين المنازل. ديفيز يمارس دور الوغد محاولاً تدمير الرابطة الأخوية بين الشقيقين أملاً في الاستحواذ على المكان. إلا إن نزعة التسلط والاستحواذ هما بالنسبة لميك متعة سادية في بسط نفوذه على الآخرين وإيذاءهم، وهذا الأمر يتحقق من خلال علاقته بالمتشرد، جزئياً من خلال العنف الجسدي أو من خلال استجوابه الاستفزازي المبطن بالتهديد. هنا يبدأ ميك في ممارسة لعبته المستحبة مع ديفيز، لعبة الصنارة والسمكة، مرخياً له الحبل، معززاً لديه الثقة بالنفس ومن ثم سحب الخيط فجأة وبقوة لخنقه. حين تتكشف حقيقة المتشرد أمام أستون يطلب الشقيقان منه مغادرة الغرفة رغم توسلاته عالج العرض ثيمات عدة لعل أبرزها موضوع «الهوية» وهي الثيمة الوحيدة التي تمحورت حولها جل كتابات بنتر والتي لم يعثر لها على حل وبقيت مجرد أسئلة مطروحة منفتحة على التأويل. أما الثيمة الأخرى فهي الوحدة أو العزلة وعدم التواصل، فالشخصيات الثلاثة تكاد تكون منفصلة عن بعضها البعض، فهم يحومون في عوالمهم الخاصة غير قادرين تماماً على إقامة صلات عميقة وذات مغزى فيما بينهم من جانب، ومن جانب آخر هم معزلون عن العالم خارج الغرفة لأنه يشكل بالنسبة لهم مصدر تهديد غامض ومقلق، لذا تصبح الغرفة هي بمثابة ملجأ أو رحم آمن يتقوقعون داخله، وهذا ما يفسر لماذا طلب الشقيقان من ديفيز مغادرة الغرفة، ولماذا وجد ديفيز عدم قدرته على البقاء في الغرفة شيء مرعب. ثيمة ثالثة يطرحها العرض هي الخديعة، فالشخصيات الثلاثة تمارس الخديعة، خداع النفس وخداع الآخر، وهذه لازمة تتكرر طوال العرض بتنويعات مختلفة. فديفيز يستخدم اسماً مستعاراً ويحاول إقناع نفسه بالذهاب إلى سدكاب لجلب وثائقه الرسمية، لكنه لا يفعل ذلك متذرعاً مرة بالطقس ومرة بالقاء المسؤولية على الآخرين لا على نفسه. أما أستون فهو يعتقد أن حلمه في بناء السقيفة سيؤتي بثماره عى الرغم من إعاقته العقلية وبالتالي لا يستطيع بناءها. ميك يظن أن طموحاته لحياة مهنية ناجحة تفوق مسؤوليته في رعاية أخيه المعاق عقلياً. الثلاثة في النهاية يخدعون أنفسهم بوعي أو بدونه ومن الممكن أن تتواصل حياتهم على هذا المنوال إلى ما بعد مغادرتنا قاعة العرض. لقد أبرز العرض أيضاً وبنكهة هزلية قاتمة أن الثلاثة هم ضحايا، فالمتشرد العجوز هو ضحية لمؤسسات الضمان الاجتماعي، وما سعيه للذهاب إلى سدكاب لجلب ثائقه المخبأة في مكان ما إلا لتأمين نفسه من خطر تلك القوانين. أما خوفه من مغادرة الغرفة، الذي يشكل طرده منها بمثابة إقصائه عن الوجود، فهو الذي يمنعه من الذهاب إلى سدكاب لحل معضلته. أستون، ضحية هو الآخر للمؤسسات الصحية أو ربما لصفاء روحه ورؤيته. فإرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية عنوة وإجراء عملية صعق كهربائي لدماغه، هو أشبه بعقاب لتلك الرؤية الصافية للعالم ودعوته إلى الكمال الروحي، أما السقيفة التي يعجز عن تشييدها فهي ربما ترميز إلى الدير الذي يسعى للاعتكاف فيه. أما مايك، فهو ضحية للعالم المادي وما انحسار علاقته بشقيقه إلا مظهر من مظاهر العالم النفعي الذي يقوض الصلات بين البشر، حيث الخداع والجحود والتضليل والعنف والمنفعة كلها تحل بدل الحب والثقة والحنو الإنساني. «الحارس» مسرحية مفعمة بالحديث المرح الصاخب، إلا إن دعابة بنتر الجافة والقاتمة ليست سهلة الفهم عند قراءتها من صفحات الكتاب، لكنها تنبعث لحظة تجسيدها على خشبة المسرح ومن خلال ممثلين مقتدرين في استخدامهم اللغة والصمت والوقفات. فاللغة هي أحد أمرين، إما حوار متقطع أو خطابات طويلة يحركها نظام تفكير الشخصيات. أما تشظي اللغة وإيقاعاتها فهو يتوازن هنا موسيقياً مع الوقفات المنتظمة وفترات الصمت بشكل بارع، فالصمت يتم توظيفه في هذا العرض المميز كضرورة للتركيز على الكلمات التي تُنطق أخيراً. وأحد المفاتيح الرئيسة لفهم لغة بنتر هو عدم التعويل على الكلمات التي تتفوه بها شخصياته، إنما البحث عن المعنى المتوارى خلف تلك الكلمات. .
«دخلت غرفة فرأيت شخصاً واقفاً وآخر جالس، وبعد أسابيع كتبت مسرحية (الغرفة). ثم دخلت غرفة أخرى فرأيت شخصين جالسين، وبعد سنوات قليلة كتبت مسرحية (حفلة عيد الميلاد). ومن بعد تطلعتُ من خلال الباب إلى غرفة ثالثة فرأيت شخصين واقفين، ثم كتبت مسرحية (الحارس)». بهذا الإيجاز التهكمي البليغ يصف هارولد بنتر مصدر مسرحياته الكبرى الثلاث. تجري أحداث مسرحية (الحارس) في غرفة في عليّة منزل عتيق يقع شمال شرق لندن تعود ملكيته لشخص يدعى ميك. يقيم في الغرفة الخربة هذه أستون، الذي يكُّلف من قِبل شقيقه الأصغر ميك في إعادة تجديد المنزل وترميمه بحكم مهنته كنجّار سعياً لتحويله إلى شقق للإيجار. الغرفة مليئة بنثار من ألواح الخشب وقطع الحديد وعلب أصباغ وأدوات نجارة وتمثال لبوذا وأشياء أخرى لم تعد ذا فائدة. ليس ثمة شيء يحدث حقاً هنا في هذه المسرحية. ليست هناك حبكة معقدة تتضمن تحولات مفاجئة أو محيرة، ولا هياكل عظمية تتقافز من الخزائن. ما يحدث في الواقع، هو أن أستون يستضيف متشرد عجوز اسمه ديفيز (الممثل تيموثي سبال) ليبيت معه لليلة في الغرفة لعدم وجود مكان يأويه. أستون الذي لعب دوره الممثل (دانيال ميس) شخص مصاب بتلف في الدماغ نتيجة لصعقات كهربائية عولج بها قبل سنوات في إحدى المستشفيات العصبية بسبب وشاية سرّبها عمّال ورشة النجارة التي كان يعمل فيها وزبائن المقهى التي كان يرتادها، في أنه كان يحدثهم دوماً عن الكمال الروحي وصفاء رؤيته للعالم والتي فُسرت حينها على أنها مجرد هلوسات لشخص مصاب بخلل في عقله. مجازفته في استضافة هذا المتشرد في مسكن لا يعود إليه دافعها الشفقة وهاجس في إقامة صلة إنسانية بعد أن أعاقه المرض عن ذلك، فضلاً عن إحساسه إن الإثنين مطرودان ومنبوذان من العالم الخارجي. حلمه بناء سقيفة في الحديقة هي بمثابة ورشة عمل بوسعه أن يمارس به مهنته كنجّار ومزخرف منازل. ديفيز (تيموثي سبال) متشرد ومخادع يلفق قصصاً زائفة عن حياته، ويكيفها وفقاً لاحتياجاته وتبعاً لنوع تفكير الناس الذين يسعى لإقناعهم أو إثارة عواطفهم أو استغلالهم. إنه يراوغ ويتملص يكذب أو يتهرب من الحديث عن ماضيه ليتجنب كشف الحقيقة كاملة عن نفسه، مدّعياً أنه كان يخدم في المستعمرات وأنه طلّق زوجته بعد أن اكتشف أنها مومس، وأنه يكره السود واليونانيون والبولونيون لإنهم دخلاء على البلاد، وقصص أخرى. أخيراً يخبر مضّيفه أستون أنه سيمضي في اليوم التالي إلى منطقة تدعى «سدكاب» غرب لندن لجلب وثائقه الرسمية التي خبئها هناك عند أحد معارفه كما يقول، بدعوى خوفه الدائم من إمكانية السلطات في كشف هويته الحقيقية لأنه، كما يزعم، انتحل اسم شخص آخر يدعى جينكينز بعد أن سرق بطاقة ضمانه الاجتماعي التي تجيز له الحصول على المعونة الحكومية. حين يغادر أستون الغرفة متوجهاً إلى المقهى لجلب حقيبة المتشرد التي تركها هناك. يدخل ميك ليعثر على العجوز نائماً فيظن أنه لص تسلل إلى الغرفة بغياب شقيقه، فهو يعرف أن أستون ليس لديه أي صديق ليدعوه إلى الغرفة. ميك، على العكس من طباع شقيقه، شخص متقلب المزاج عصابي وذو طبع عنيف. فاقتحام شخص غريب للغرفة يشّكل بالنسبة له تهديداً له ولشقيقه ونوعاً من الاستحواذ على أملاكه، لذا يستهل هجومه بتعنيف جسدي قاس أولاً ومن ثم باستجوابات ذات طابع عدواني وسادي بالتحقق عن اسم الدخيل وهويته وماضيه، وهذا يشكل بدوره تهديداً للمتشرد. يُباغت المتشرد بهذا الخطر المفاجىء، وحين يكتشف عائدية المبنى لميك وليس لأستون، وغموض العلاقة بين الشقيقين وموضوع الصعقات الكهربائية التي تعرض لها أستون في الماضي، تنفتح شهيته نحو الاستحواذ والهيمنة على الغرفة لضمان بقاءه وأمنه من العالم الخارجي فيحاول أن يدق اسفين بين الشقيقين هدفاً في إقصاء أستون عن المشهد، محاولاً إقناعه بمشاركته شؤون المبنى، واستعداده أن يكون حارساً للمبنى معللاً ذلك باختلال عقل شقيقه أستون وعجزه عن إنجاز العمل، والأكثر من ذلك زعمه أنه يجيد فن النجارة وتزيين المنازل. ديفيز يمارس دور الوغد محاولاً تدمير الرابطة الأخوية بين الشقيقين أملاً في الاستحواذ على المكان. إلا إن نزعة التسلط والاستحواذ هما بالنسبة لميك متعة سادية في بسط نفوذه على الآخرين وإيذاءهم، وهذا الأمر يتحقق من خلال علاقته بالمتشرد، جزئياً من خلال العنف الجسدي أو من خلال استجوابه الاستفزازي المبطن بالتهديد. هنا يبدأ ميك في ممارسة لعبته المستحبة مع ديفيز، لعبة الصنارة والسمكة، مرخياً له الحبل، معززاً لديه الثقة بالنفس ومن ثم سحب الخيط فجأة وبقوة لخنقه. حين تتكشف حقيقة المتشرد أمام أستون يطلب الشقيقان منه مغادرة الغرفة رغم توسلاته عالج العرض ثيمات عدة لعل أبرزها موضوع «الهوية» وهي الثيمة الوحيدة التي تمحورت حولها جل كتابات بنتر والتي لم يعثر لها على حل وبقيت مجرد أسئلة مطروحة منفتحة على التأويل. أما الثيمة الأخرى فهي الوحدة أو العزلة وعدم التواصل، فالشخصيات الثلاثة تكاد تكون منفصلة عن بعضها البعض، فهم يحومون في عوالمهم الخاصة غير قادرين تماماً على إقامة صلات عميقة وذات مغزى فيما بينهم من جانب، ومن جانب آخر هم معزلون عن العالم خارج الغرفة لأنه يشكل بالنسبة لهم مصدر تهديد غامض ومقلق، لذا تصبح الغرفة هي بمثابة ملجأ أو رحم آمن يتقوقعون داخله، وهذا ما يفسر لماذا طلب الشقيقان من ديفيز مغادرة الغرفة، ولماذا وجد ديفيز عدم قدرته على البقاء في الغرفة شيء مرعب. ثيمة ثالثة يطرحها العرض هي الخديعة، فالشخصيات الثلاثة تمارس الخديعة، خداع النفس وخداع الآخر، وهذه لازمة تتكرر طوال العرض بتنويعات مختلفة. فديفيز يستخدم اسماً مستعاراً ويحاول إقناع نفسه بالذهاب إلى سدكاب لجلب وثائقه الرسمية، لكنه لا يفعل ذلك متذرعاً مرة بالطقس ومرة بالقاء المسؤولية على الآخرين لا على نفسه. أما أستون فهو يعتقد أن حلمه في بناء السقيفة سيؤتي بثماره عى الرغم من إعاقته العقلية وبالتالي لا يستطيع بناءها. ميك يظن أن طموحاته لحياة مهنية ناجحة تفوق مسؤوليته في رعاية أخيه المعاق عقلياً. الثلاثة في النهاية يخدعون أنفسهم بوعي أو بدونه ومن الممكن أن تتواصل حياتهم على هذا المنوال إلى ما بعد مغادرتنا قاعة العرض. لقد أبرز العرض أيضاً وبنكهة هزلية قاتمة أن الثلاثة هم ضحايا، فالمتشرد العجوز هو ضحية لمؤسسات الضمان الاجتماعي، وما سعيه للذهاب إلى سدكاب لجلب ثائقه المخبأة في مكان ما إلا لتأمين نفسه من خطر تلك القوانين. أما خوفه من مغادرة الغرفة، الذي يشكل طرده منها بمثابة إقصائه عن الوجود، فهو الذي يمنعه من الذهاب إلى سدكاب لحل معضلته. أستون، ضحية هو الآخر للمؤسسات الصحية أو ربما لصفاء روحه ورؤيته. فإرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية عنوة وإجراء عملية صعق كهربائي لدماغه، هو أشبه بعقاب لتلك الرؤية الصافية للعالم ودعوته إلى الكمال الروحي، أما السقيفة التي يعجز عن تشييدها فهي ربما ترميز إلى الدير الذي يسعى للاعتكاف فيه. أما مايك، فهو ضحية للعالم المادي وما انحسار علاقته بشقيقه إلا مظهر من مظاهر العالم النفعي الذي يقوض الصلات بين البشر، حيث الخداع والجحود والتضليل والعنف والمنفعة كلها تحل بدل الحب والثقة والحنو الإنساني. «الحارس» مسرحية مفعمة بالحديث المرح الصاخب، إلا إن دعابة بنتر الجافة والقاتمة ليست سهلة الفهم عند قراءتها من صفحات الكتاب، لكنها تنبعث لحظة تجسيدها على خشبة المسرح ومن خلال ممثلين مقتدرين في استخدامهم اللغة والصمت والوقفات. فاللغة هي أحد أمرين، إما حوار متقطع أو خطابات طويلة يحركها نظام تفكير الشخصيات. أما تشظي اللغة وإيقاعاتها فهو يتوازن هنا موسيقياً مع الوقفات المنتظمة وفترات الصمت بشكل بارع، فالصمت يتم توظيفه في هذا العرض المميز كضرورة للتركيز على الكلمات التي تُنطق أخيراً. وأحد المفاتيح الرئيسة لفهم لغة بنتر هو عدم التعويل على الكلمات التي تتفوه بها شخصياته، إنما البحث عن المعنى المتوارى خلف تلك الكلمات. .
المصدر : أيلاف - علي كامل
0 التعليقات:
إرسال تعليق