" لعبة البداية والنهاية" في سجل د.صلاح القصب / د.عقيل مهدي
مجلة الفنون المسرحية
يقف اليوم د. صلاح القصب متأملاً ماضيه الحياتي والمسرحي . فقد كان قبل اليوم , منذ أكثر من ثلاثة عقود , مخرجاً ,بعد ان قدم آنذاك في الثمانينات من القرن الماضي الى العراق من (رومانيا ) ليجد نفسه في فضاء الحرب , مساقا الى مالا تشتهيه نفسه , ولا وعيه.
تشبثت روحه في الحياة , ودافع قدر المستطاع عن وجوده القلق , ولاذ بحيل اللاشعور كلها , ليبقى حياً , قادرا على تقديم عروض مسرحية , تجريبية , شاهد قرائنها في " بوخارست " أو " وأرشو " لكن باجتهاد عراقي خاص .
ورث المسرح في العراق , مواقف نقدية , متصلبة , نمطية , تارة بحجة الحفاظ على تراث المسرح العالمي بأصوله الحقيقية , وأخرى , تتعامل مع الجديد بروح الاحتفاء الطائش , والترحيب بما يطيح بالهالة الأبوية (البطرياركية) تحت ذرائع شتى , للتنفيس عن اضطرابها , وكراهيتها !
قد يغبط صلاح اليوم , صلاح الأمس , في زمن الحرب , حيث ارتبط بزملائه المخرجين عقيل مهدي , وشفيق المهدي , في أكاديمية الفنون الجميلة آنذاك , الذين يشاطرونه هم التجريب , والابتكار , والتطلع الى الحرية الإبداعية , بعيدا عن آلة الدمار الماحقة , التي يقودها مارس اله الحروب , في عالمنا المعاصر.
كان يستطيع ان يجمع في إخراجه لتلك العروض , أكثر الأسماء شهرة من الممثلين , والتقنيين , ويلوذ بحمى شعراء ينظرون , أو نقاد , وصحفيين , وأكاديميين يسعفون, وكأنه يستغيث بقوة الوعي الثقافي , لصد هجوم الجهل , والعنجهية , والدمار.
استطاع بطبعه الودود ان يفل حديد المؤسسة الرسمية الصارمة , أمثال مؤسسة السينما والمسرح واكاديمية الفنون الجميلة والمنظمات العمالية , والشبابية , وان يمرر مشروعه بطريقة غاية في الذكاء , مقدرا ردود الأفعال السلبية , وحاسباً لها ألف حساب , وبطريقة " تداولية " تجعل حتى خصومه من المثقفين هؤلاء ! في حيص بيص .
في زمن تجد فيه الناس , يتقمصون ما شاء لهم الهوى . من لبوس وادوار تتوزع مابين القاتم والوردي , كان صلاح ينظر بهلع الى غرف مقفلة , أشبه بمكان " سارتري " في جلسة سرية , أينما أرسل طرفه !
فالأحلام الفنية , وصبوات التجريب , والتأمل في حضارة الغرب , ومنه الغرب الشرقي مثل : رومانيا , حيث كان يدرس فيها الإخراج , كانت تحفزه على محاكاتها بجرأة فنان , وجد الأرض أمامه , مثل زملاءه , محروقة مسرحياً , فاجتهدوا لمُداراتها . فلقد ضيعت الحرب , جهود الرواد المسرحيين , وبات إبراهيم جلال , وجاسم العبودي , وجعفر السعدي من يوتوبيا الماضي , الذي أفل , وانطفأت قناديله , بتعتيم ليل بهيم , تتحشرج فيه الانفجارات , وتتوزعه المقابر , والخرائب , وضياع الأوطان . ويتسقط ارواحه المنتفعون الأراذل.
اليوم أصبح الماضي المسرحي الذي أنجزه صلاح , يضغط على يومه . لكنه في أثناء الحرب كان المستقبل يضغط عليه , بثقل مشاريع قادمة.
وبمثل ما تقذف " الراجمات " من ذخائر محرقة , وبمثل ما تدك حشوات المدافع العابرة للحدود , الأرض دكاً , وتهرس الناس بعشوائية غرائبية لا مبالية.
بات صلاح , مع زملائه الذين نذروا أنفسهم دفاعا عن الثقافة المسرحية , في صرح الأكاديمية , من الحريصين على روح العصر , والتواصل مع المنجز المسرحي العالمي الحديث.
زملاء قد يقتربون منه , أو يبتعدون عنه في تجاربهم الفنية (الإخراجية ) الخاصة , لكنهم جميعا كثفوا من البعد الاشاري والإيمائي ,وهم يتطلعون الى مستقبل وطني معافى , ومضيء , من خلال عوالم المسرح , وفضاءاته المفتوحة على الحداثة والتجديد.
سأل مرة ناقد انجليزي , المؤلف " الان ايكبورن "
•ألا تخاف من نجاحك ؟
•نعم , ولكن لا حيلة لي في ذلك . وعندما انظر الى نفسي الآن , اشعر انه لا أمل لي في ان أنافس الكاتب الذي كنته قبل عامين , أو ثلاثة . )
صلاح في أولى تجاربه " قدم" عرضا عن " جلجامش " , مصورا ببعض لقطات , وهو يركض لاهثاً باحثا عن الخلود , وكانت تقنية متواضعة إنتاجيا لكنها أثارت حفيظة نقاد الصحافة , وبعض المتخصصين في المسرح , لتطاولها – كما ظنوا – على مقدسات الكلمة , التي تبخرت في هذا العمل ! تحت هذيان الصورة.
وقفنا نحن , حينذاك , لنعزز من المغايرة للمألوف , ولكن بحرص , وحذر , من اجل ان نفتح لأنفسنا , ورؤانا الإخراجية , فضاءً مبتكرا آخر , يقطع أغلال محاكاة الحياة , بتلك المنطقية " الواقعية " , التي ما كانت " فنية " بل تكرارا للواقع الموضوعي , بطريقة باردة , ساكنة , او حين تهيج تصبح واقعية مختلة , ميلودرامية , لا ترضي الذوق الجمالي السليم , بل تتوافق مع عادات شائخة بغيضة .
يقف اليوم صلاح , موقفا جديداً , " راديكالياً " لينقلب على تجربته التطبيقية السابقة.
وهو اليوم حاملا للقب أكاديمي , أستاذ متمرس , يريد ان يثير زوبعة مغايرة , لما قدمه من عروض , تحت عنوان عريض : مسرح الصورة.
في مقابلة لصلاح في التلفزيون التونسي , انعقد لسان المخرج المسرحي التونسي (المنصف السيوسي) , وهو يرى الى صلاح , يبعثر ارثه المسرحي , ويبشر بمسرح آخر , يتعامل مع " الفيزياء الكمية " هذه المرة ! ويتخلى , أو يتبرأ من مسرح الصورة ! ويدعو الى الفيزياء الكمية في المسرح , ربما فات هذا اللقاء , تأشير حقيقة ان فيزياء صلاح , هي غير فيزياء ما بعد انشتاين , وعلماء الفيزياء الكمية كما عند (بلانك) ونظرائه .
تراه , أي صلاح , يتدفق مع مويجات الطاقة , والكتلة , والاتجاه , والتذبذب , والتشظي , مأخوذاً بكلمات شعرية , يحسبها معادلا موضوعيا , لعصر جديد , سوف تنتهي فيه الحضارة , والثقافة , وسوف لن تقوم قائمة لمسرح أو رقص أو تشكيل .
فالكتل الصلدة , ستذوب , وتنحل , مثل انحلال جسد هاملت الذي قال :
ليت هذا الجسد الصلب , يذوب وينحل الى قطرات من ندى .
----------------------------------
مصدر : جريدة المدى
0 التعليقات:
إرسال تعليق