من يخاف فرجينيا وولف
مجلة الفنون المسرحية
من يخاف فرجينيا وولف
الكاتب إدوارد آلبي يعرض سيكولوجية الزواج في الطبقة الوسطى الأميركية والتي وضعها تحت المجهر.
يعرض مسرح هارولد بينتر اللندني مسرحية “من يخاف فرجينيا وولف؟” للكاتب الأميركي إدوارد آلبي حتى السابع والعشرين من شهر مايو. كانت المسرحية قد فازت بجائزتي توني وحلقة النقاد بنيويورك عام 1962، ثم نالت جائزة بوليتسر إلا أن الجائزة تم سحبها لما تناولته المسرحية من مواضيع مثيرة للجدل ولغة محظورة وقتذاك.
لا تقل مسرحيات آلبي شأناً عن أعمال أرثر ميلر وتينيسي وليامز. كان فكره الدرامي قد برز على خريطة المشهد الأميركي في خمسينات القرن العشرين حين ناقشت مسرحياته صراعاً محتداً ومعاناة اجتماعية وخيبة أمل ميزت تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الأميركي، مرحلة هيأت لصخب الستينات السياسي ومطحنتها الاجتماعية.
ألاعيب سامة
في ساعات الصباح المبكرة بحرم إحدى الكليات الأميركية تدعو مارثا بروفيسورَ علم الوراثة الجديد وحرمه -نيك وهاني- لاحتساء الخمر في بيتها بالرغم من امتعاض جورج زوجها الكهل. تستهل المسرحية بهتافها السكير وهي تدلف إلى بيتها في الثانية صباحاً “يا يسوع المسيح. يا لها من مزبلة!” بعدها تسود المضيفة البهجة وتنهال علينا ضحكاتها كالمطر. يسيل النبيذ في الحلوق لتجتذب ألاعيبها السامة الزوجين الأصغر سناً.
نيك وهاني أحمقان يتفجر قلباهما بطموح الحلم الأميركي، حلم يتقلب أرقاً، لا يهدأ، وألَقه لا يلبث أن يخبو مع كل حجر عثرة. الثنائي متسلقان اجتماعيان من الدرجة الأولى يسعيان إلى استغلال بعض العلاقات الأكاديمية.
عجرفة الشباب اليافع تلوثهما، وكذا سذاجة منقطعة النظير. وجورج لا يسب نيك حين يذْكر بلسان لا مبال أن نيك يؤمن بيوطوبيا موحشة مترعة بأطفال أنابيب مثاليين. نيك على الجانب الآخر يزدريه ازدراء العالِم لمؤرخ مثل جورج!
نرى الزوجة الصغيرة يسودها الارتباك في أغلب مشاهد المسرحية، وهي الأخرى محل احتقار زوجها. لا نفقه إن كانت مهذبة حقاً أم بلهاء! ولغبائهما، تمسح مارثا بهما خشبة المسرح في خلال ثلاث ساعات هي مدة العرض ثم تُحجِّرهما أحياء كما تُحجِّر الميدوسا ضحاياها في الميثولوجيا الإغريقية.
تلاعب المنتقمين
تقارع مارثا جورج الإهانة مقابل الإهانة، ويتلاعبان بالزوجين الشابين تلاعب المنتقمين.يتسارع الأدرينالين بين المشهد والآخر أو بالأحرى بين العراك والتالي. لا ينقطع الجدل اللاذع أو بصقات السباب. وهذه الأفكوهة المترعة بالحقد والضغينة تضم مشهدين يعيبهما إحساسٌ بأنها كوميديا رخيصة لا تعدم الخشونة.
مارثا مثالٌ للتكلف المتأنق. لا تبدو كإليزابيث تايلور في النسخة الهوليوودية، بدينة الجسد مشعثة الشعر. فاتها ريعان الشباب بيد أنها لم تقع في بركة الكهولة بعد. أمَّا جورج فكان يوماً نجماً، وتاريخ حبهما يشْهد عندما تنتحب مارثا “لا بد من عقابه لارتكابه خطأ شنيعاً جارحاً مهيناً بحبه لي”. ولكنه اليوم مترهل، عنين الجسد والقلب.
والزوجة التي تسلك طريق الخيانة “واقعة في شرك الأبله، تحْمل في قلبها شيئاً اسمه الأمل”. وفي دوامة نهمها الوحشي للجنس والحياة، دوامة كما الجرح الممزق، لا تتوانى عن فعل أي شيء لشد انتباه زوجها. تتلذذ بإهانته، تستفزه عمداً بتصويب إصبع محتقر إليه، ترقص رقصاً خليعاً مع غريب على خشبة المسرح.
من يخاف الوهم
استلهم آلبي عنوان المسرحية من أغنية “من يخاف الذئب الضخم الشرير؟” بفيلم الرسوم المتحركة “السيمفونية الهزلية”. واختلفت التفسيرات حول صلة المسرحية بالكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف. شأنها شأن وولف، مارثا بلا أطفال تزدحم في ذهنها أفكار انتحارية.
سمة وولف الراديكالية والألمعية غير المعهودة غير أنك لن تخشاها. أمَّا إميلدا ستانتون في دور مارثا فقد نجحت في إيقاع الرعب في قلوبنا، كذلك لم تخف علينا هشاشتها واحتقارها لذاتها. ننبهر بأداء متدفق الحيوية لامرأة قوية لا تهاب الرجال وإن كانت في توق دائم إليهم.
يحيي المخرج جيمز ماكدونالد نسخة تطهيرية من أعظم مسرحيات آلبي. لا لكثافة ما تتمتع به من واقعية سيكولوجية تساقطت عنها الأقنعة أو لما تصبّه من نقد اجتماعي على طبقة بأكملها، ولكن لأن كل خطوة فيها تتسم بالحدة واليقظة، بل والسعار الشديد
والأرجح أن العنوان يعني “مَن يخاف الحياة بدون وهم؟”، تعترف مارثا أنها تخاف الحياة بلا وهم، ولكن جورج يغتال أحلامها وهي تشطح بعيداً عن الواقع المبرح ألماً. وبينما ننصت إلى مونولوج من السخط الطافح سكراً من طرف مارثا، يتكشف لنا أن جورج هو الآخر يبطن مكراً خبيثاً يكاد يتقرب من المؤامرة. رجل فاشل أكْرَش بظهر منحنٍ، لا يترك كأس الخمر عن عادة أو إحباط. وعلى كتفيه حمل هذا العرض في دور فذ.
تشريح بلا رحمة
إن هذه المسرحية دراسة مفصلة لديناميكية الكوارث الزوجية القبيحة. وفي تسليطها ضوءاً مشعاً على أركان خفية من العلاقات الزوجية والأبوة وماهية الصداقة، عدَّها النقاد “تشريحاً بلا رحمة لحياة الطبقة الاجتماعية الوسطى في أميركا”. ما الذي تريده تلك الطبقة بكل عنفها اللفظي وحيلها المضطربة واصطناعها للسعادة؟
لا قديسين ولا مخابيل في هذه الدراما. تُردد صدى اعتراف الشاعر البريطاني ديلان توماس أنه يدري، مثله مثل مارثا، كل شهوة وكل نكتة من نكات المراحيض، بإمكانهما استقلال الحافلات وعدّ الفكة وعبور الطرق والنطق بجمل حقيقية. “بيد أن براءتنا عميقة عمقاً متناهياً، وسرّنا المشين هو أننا لا نفقه شيئاً على الإطلاق، أمَّا سرّنا الباطني المروّع فهو أننا لا نكترث لهذا الجهل”.
تطهير اجتماعي
لقد أحيا المخرج جيمز ماكدونالد نسخة تطهيرية من أعظم مسرحيات آلبي. لا لكثافة ما تتمتع به من واقعية سيكولوجية تساقطت عنها الأقنعة أو لما تصبّه من نقد اجتماعي على طبقة بأكملها، ولكن لأن كل خطوة فيها تتسم بالحدة واليقظة، بل والسعار الشديد، كل إيماءة بلا استثناء. لا أحد مسترخٍ ولا جملة متراخية، وأخيراً تتوج الليلة ذروةٌ من المصارحة الزوجية المدمرة.
أهذا ما يراه آلبي في مؤسسة الزواج الحديث؟ مباراة ملاكمة أو نوبة من الكشف الموجع؟ المؤكد أن حِدِّة السكين تلك لا يعوزها حس من السخرية المريرة والكوميديا السوداء. إنه العداء الزوجي المذكِّر بعداء الحرب الباردة! وعلى الأسرة الأميركية نبذ أوهامها ومجابهة الحقيقة على مرارتها.
نسخة سياسية تطهيرية
تتخلل المسرحية مضامين سياسية تلقي بظلالها على حالة أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، حالة جمعت بين بحبوحة العيش وعقم الهدف. نرى الزوج يرمي جسماً متثاقلاً على كرسي يواجه الحائط ليطالع كتاب “انهيار الغرب” للفيلسوف الألماني أوزولد سبينجلر.
ويلاحظ الناقد المسرحي مايكل بيلنجتون في صحيفة “ذا جارديان” أن المسرحية ليست مجرد مثال لتأثر آلبي بالكاتب السويدي يوهان أوغست ستيرنبرغ، وإنما تحليل لحالة الاتحاد الأميركي نفسه. جورج هو الرئيس الأميركي الراحل جورج واشنطن، ومارثا هي زوجته. يعمل زوج الستينات في كلية يشير اسمها إلى الإمبراطورية الرومانية: نيو كارثيدج، وهي بلدة غزاها الرومان بعد معركة شديدة الوطأة في أيبريا، مما يوحي بالدمار المُبَيَّت.
وهناك مشهد محوري يشير إليه بيلنجتون حين يصرح عالم الإنسانيات جورج إلى عالم الوراثة نيك بأن الأميركيين يحتسون الخمر بشراهة “أحسبنا سنفْرط أيضاً في الخمر… لو بقينا على قيد الحياة”. كتب آلبي هذه السطور عام 1962 والحرب الباردة تهدد السلام الاجتماعي في أميركا، وتبدو الآن وفقاً لتحليل بيلنجتون شديدة الصلة بالواقع الأميركي تحت حكم ترامب.
------------------------------------------
المصدر : هالة صلاح الدين - العرب
0 التعليقات:
إرسال تعليق