ميديا تقتل أولادها في باريس
مجلة الفنون المسرحية
ميديا تقتل أولادها في باريس
عرض هولندي يستعيد التراجيديا اليونانية ويصعق المشاهدين إذ يقدم المؤلف سايمون ستون حبكةً وسياقاً مختلفين عن النص الأصلي.
لا يمكن أن يتلاشى الحدث التراجيدي من الذاكرة، قد يختفي ويتراجع أمام الحياة اليوميّة وتغيّر الظروف، كما يمكن السعي لتفاديه بالهرب بعيداً أو نفي شخوصه، لكن لا يمكن حذفه أو إلغاء تأثيره، هو خطأ حيويّ وديناميكيّ في نظام العالم بحيث يسهم سوء تقدير بسيط باستعادته وتكراره، فالتراجيديا حدث يخلخل تماسك أيّ بنيّة، ولا يمكن العودة إلى ما قبلها، بوصفها شرخاً في التكوين الذريّ يضرب كلّ ما يمسّه، محافظةً على احتمال حضورها، لنغدو كأننا أمام حتمية تراجيديّة لا يمكن الفكاك منها.
تشهد خشبة مسرح الأوديون في العاصمة الفرنسيّة باريس العرض الهولندي ” ميديا” المقتبس عن نص اليوناني يوربيدس من إخراج وتأليف سايمون ستون، وفيه نشاهد احتمالات أخرى للتراجيديا الشهيرة، إذ يقدم لنا ستون حبكةً وسياقاً مختلفين عن النص الأصلي، فجايسون يصبح لوكاس وميديا تصبح آنا التي خرجت من المصحّ العقلي، وتلتقي لوكاس الذي منحها فرصة أخرى بعد ما فعلته، إذ يدعوها للقاء أطفالها والتعرف على زوجته الجديدة، لتبدأ بعدها آنا بحياكة خيوط لعبة جديدة لاستعادة زوجها وأولادها، فما نشاهده على الخشبة هو احتمال فشل مخططها الأوّل وعودتها من المنفى.
الخشبة أمامنا شديدة البياض مع شاشة تعرض ما تصوّره كاميرا محمولة تلتقط تفاصل أوجه الممثلين، هذه الكاميرا تحضر بوصفها تسجّيل يوميّات مصوّرة يقوم أطفال آنا بحفظها توثيقاً لحياتهم الجديدة بعد خروج والدتهم من المصحّ، لكنها تتيح للمشاهد رصد أدق التفاصيل في الأداء، وخصوصاً تقلّبات مزاج آنا أثناء سعيها لتعيد تشكيل الأسرة من جديد.
تغوي آنا زوجها السابق، مع ذلك يتركها مرة أخرى بوصف ما حدث بينهما مجرّد خطأ، حينها يبلغ التوتر أوجه بين الاثنين، إذ تتكرر الأحداث مرة أخرى كما حدث مع ميديا/آنا قبل المصحّ، إذ يقرر لوكاس تركها والسفر للصين، لتنفجر بوجهه صارخةً بأنها ضحت بكلّ شيء لأجله، ويردّ هو أنه لن ينسى محاولتها قتله بالسّم بالرغم من تبريراتها بأنها فقط أرادته أن يكون مريضاً، هنا تتقاطع ميديا مع آنا، فبدل أن تكون آنا ساحرة هي عالمة في الأدوية، وتجيد صناعة السموم التي يمكن لها أن تنسلّ ضمن تفاصيل الحياة اليوميّة بصورة خفيّة كما نرى لاحقاً حين تقوم آنا بالقتل.
فورة الغضب هذه تعيد تفعيل التراجيديا، إذ تقرر آنا الانتقام مرة أخرى، فلا يمكن للوكاس أن يتركها مرتين، حينها يبدأ غبار أسود أشبه بسمّ بالتساقط من أعلى الخشبة، وتدريجياً أثناء رسم آنا ملامح خطتها، تبدأ الكراهية/السواد بالطغيان على الأبيض وتلويث كل المتورطين فيما يحدث مع ميديا.
تقتُل آنا بشكل واع، هي امرأة تبحث عن انتقامها وعن جدوى لما خسرته، فالجرح القديم فيها إثر ما فعله زوجها لا يمكن أن يشفى، والقتل الذي تنفّذه بكل حرص يمكن اعتباره إعادة للتوازن الناتج عن اختلاط الدماء وانحلال سرير الزوجيّة، فلوكاس خان هذا السرير وذهب لامرأة أخرى، بل إن آنا تسأل لوكاس في أول حدث بينهما عن الجنس معها، وتقارنه بالجنس مع زوجته الجديدة الذي يصفه بأنه ليس الأسوأ وليس الأفضل، وهذا ما تستخدمه آنا لاستعادته، هي تستفز رجولته وتذكّره بسريرها وبعوالم شبقيّة لا يعيشها مع زوجته الجديدة، ما يجعل آنا هي المسيطرة بالرغم من أنها تبدو ضعيفة بل وخارجة من مصحّ، هذا السبب ذاته الذي يدفع لوكاس لمسامحتها ومحاولة إعادة روابط الصداقة معها.
خيانة لوكاس تخلخل التوازن ضمن بنية التراجيديا، لا بد من ضحية ليعود التوازن، لا مزيد من الاختلاط مع أنثى غريبة، فآنا/ميديا ترى القتل بوصفه خلاصاً وتطهيراً من الغريب الذين يحاول أن يأخذ مكانها، ذاك الذي لا يمتلك سلالة بعد، فزوجة لوكاس الجديدة لم تضحّ مثلها، هي لا تمتلك ما تخسره إلا حياتها التي تأخذها آنا قبل قتل الأطفال.
تختلف عناصر نص ستون عن تلك التي نراها في النص الأصلي، فأطفال ميديا أحياء، ذوو شخصيات وأسماء، كما أن لهم دورا في دفع الحبكة، إذ فضحوا نزوة آنا ولوكاس، بعكس النص الأصلي الذي يحضر فيه أطفال ميديا بوصفهم مجرد ضحايا أو احتمالات لذبائح مستقبليّة، ما يزيد من تأثر صدمة القتل ومقدار الدهشة التي تعلو أوجه المشاهدين أثناء أداء الممثلة ميريك هيبنك وهي تسرد لزوجها كيف قتلت زوجته وتفاصيل موتها، ثم كيف وضعت الأطفال أمام التلفاز، ثم أعطتهم حبوب منوّم ليموتوا وهم يسمعون صوتها هامسة لهم “ليلة سعيدة” لتحرق بعدها المنزل، إذ من الصعب على المشاهد تمالك نفسه أثناء مشاهدته الموت المُحكم الذي نفذته آنا بخفّة، تاركة لوكاس الذي ينهار أمام منزله الذي تلتهمه النيران دون أن ينبس بكلمة، وهو يشهد تلاشي كلّ ما يمتلكه أمام عينيه.
تأثير المشهد الأخير يتضح في التصفيق الذي استمر لأكثر من 15 دقيقة في الصالة، وكأن الجمهور يصفق مثبتاً أن ما يراه مجرد أداء وتمثيل، لا بد من ضربٍ شديد على اليدين لكسر كل حسّ بالإيهام، لتفادي سؤال قد يدور بعقل الكثيرين: هل يمكن للمأساة أن تتكرر مرة أخرى بيننا كما حدث على الخشبة؟
-----------------------------------------
المصدر : عمار المأمون - جريدة العرب
0 التعليقات:
إرسال تعليق