*الثنائيات في نص مسرحية " المئذنــــــــة"
مجلة الفنون المسرحية
*الثنائيات في نص مسرحية " المئذنــــــــة"
*الثنائيات في نص مسرحية " المئذنــــــــة"
جاسم عاصي
يعتمد نص (المئذنة) المسرحي على ثنائيات، تلعب دورا ً مركزيا ً وهي (الفتاة /الشاب، المئذنة / النعش) وبالتالي يكونه ناتج هذه الثنائيات الصراع بين (الموت الحياة، الوجود و لا جدواه). وهذا لم يكن متأتيا ً من فراغ، بقدر ما هو ناتج جدلية الحياة، وحصرا ً
في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي على العراق. وقبل أن ندخل في حراك النص الداخلي، لابد من التطرق إلى معطيات هذه الفترة التي كان للهوس السياسي، والفوضى في الحياة، وتفتت الكثير من القيّم، وخراب العلاقات الاجتماعية، وزيادة الجريمة والموت المجاني. مقابل عدم اكتراث البطل السياسي بكل ما يدور في الواقع. إزاء كل هذا تشكـّلت ظاهرة تباين بين موقفين أو صورتين في الوجود. أي هناك منتهَك ومنتهِك، وهناك غير مبال بهذا الانتهاك. كذلك شيوع نمط من الحرية التي تـُفرغ البطون والعقول، لصالح المصالح السياسية وتمرير المشاريعها الفئوية وتغييب مصلحة الإنسان. لعلنا نغالي في ما نطرح، غير أننا بهذا نجوّز لنموذج (علي لفتة سعيد) في نصه هذا أن يكون حاصل تحصيل لكل هذا المكوّن، فهو مثقف وكاتب قصة، وله إحساس خاص ومرهف إزاء ما يجري، ذلك لأنه يعتبر نفسه جزء من المكوّن، وعليه مسؤوليات. في هذا نرى أنه ليس النموذج الوجودي الذي يركن إلى زاوية، رافضا ً كل شيء، بل أننا نجده محاورا ً للفتاة ولشبح الأب. فالسمة الأساسية له، هي القلق والتشكيك. متوصلا ً بالسلوك العملي، أن ما يجري حوله مثبط لعزيمته ومصادر لحريته في التفكير والعمل. من هذا توقف مشروعه في الكتابة. هذا الحراك ينم عن التعطيل لفعل الكتابة التي يراها نموذجه الأساس في الحياة، فالكتابة هي الطريق الأسلم لتقويم الحياة، وأرخنة الوقائع. فهو القائل:
( المعنى أجمل لأن طريق الكلمة أقصر وأمضى )
ولغرض متابعة التطورات الحاصلة في بنية الحوار بين الشاب والفتاة، كذلك بين الشاب والأب، علينا متابعة التطورات على مجريات النص. إن البناء الهرمي للنص، واضح، وحسم أمر القلق من بعد حضور شبح الأب، يوصل الشاب إلى سلوك رفض الموقف السلبي كما سنرى.
المئذنة رمز للعليّات كما هي في الأديان والمعتقدات القديمة، فكما هو الجبل، تكون المئذنة باعتبارها آخر المبتكرات الطقسية في تاريخ الأديان، إذ سبقتها الزقورات والأبراج. فالإنسان حين يحاول حسم أمره أمام اشتباك الحياة، لابد من أن يتوفر على صلة بالسماء حيث الرب. لذا فابتكار العليّات معتقد كونه السبيل للتقرب إلى الرب، وعلى العليّات كانت تقام المحارق وتقديم القرابين للرب، كما فعل النبي (إبراهيم) وهو يحاول نحر ولده إسماعيل قربانا ً للرب باعتباره الولد البكر. من هذا يرى نموذج النص، إن التعلق بالمئذنة سبيل التقرب إلى الحس الذاتي الروحي في إدامة الصلة بالسماء ومن ثم الرب. لذا جعلها معادل موضوعي وطرف في الثنائية إزاء النعش المتواجد على خشبة المسرح. أي أن الرمز مقابل الموت، لأن النموذج أدرك أن ثوابته قد تزعزعت، فهو بطل سلبي في الوجود، فهو إما يركن للموت بدلالة النعش، أو يميل إلى المئذنة حيث الخلاص من القلق. إنه يضع المئذنة كرمز خلاص وإيمان، أو العودة إلى الإيمان الروحي.
لعل بدء مجريات النص، تبدأ من زمن متوقف برأي النموذج. حيث الإشارة إلى ساعة الحائط المتوقفة، وتقويم ممزق يـُشير إلى الشهر الرابع من عام 2003. هذه التشكيلة الوصفية للمكان دليل على بدء الحدث المسرحي. بمعنى ثمة محددات زمانية تؤشر ما سوف يجري في النص بدلالة التغيير. إن إحساس النموذج المسبق بتعطيل الحياة، يوفر لنا صورته وهو على حال من الوعي، بدليل تنبؤه بما يجري. وأرى أنه يتوجب عليه خلق موقف واضح، لأنه يقرأ المستقبل، إذ لا يقع فريسة لمجرياته:
( لا أحد يصدقني.. يصدق تنبؤاتي وأنت أمام هذا الخراب، الخراب في كل شيء،
حتى بتنا لا نعرف من أين يأتي الخراب )
واضح من الحوار، أن النموذج خاضع لإرادة خارج إرادته، أي إلى ضاغط ما يجري، وليس بالتفكير بديالكتيك وجدلية ما يجري. يبدو أن أزمة الشاب، تنطوي على أزمة وجودية، فهو يتعامل مع الظواهر من باب جريانها، وليس من سياقها الداخلي، الذي لابد من اعتماد الأسس الذاتية المعرفية في وعي ما يجري، ويعتبر كل ما يجري مؤثر في البنية المنتجة، لاسيّما انتاجه الإبداعي في كتابة القصة:
( عندها.. توقفت الأشياء في داخلي. لا معنى لأن نفهم فقط، رغم أننا لم نفهم كل الأشياء..
وها أنا خائف وأنتظر هذا ما أستطيع فعله. أصابعي مثل موقد حاصره الثلج، تناسل الرماد
وأنسانا أخوتنا، فكيف أفهم المعنى وأنا وسط الضجيج )
ولنفحص القول، حيث نكتشف نوع من التردد كما ذكرنا بفعل المتغيّر السالب. فعبارة (كيف أفهم المعنى وأنا وسط الضجيج) تتناقض مع الوعي المؤشر بـ ــ النبوءة ــ لما يحدث الآن. كذلك نرى في ذات القول، ما يفترض أن يكون موقف الكاتب والسياسي خارج المنظومة السياسية والسلطة واضحا ً ومبني على مسبقات نظرية وسياسية فاعلة، لا أن ينحرف بالوعي عن مؤشره الحقيقي.
إن علاقة الشاب بالمئذنة المؤشرة للمعتقد قلقة، بل غير ثابتة، فليس ثمة وضوع موقف، إذ نراه مرة يسخر، وأخرى يعطيها الأولوية. هذا القلق ينم عن عدم ثبات في الموقف وللنظر إلى نوعين من العلاقة:
( أعلى.. أعلى.. لتسمعك المئذنة )
وهنا يعطي شرعنة للرمز.
( لم أجد ما يعينني. ما فائدة الكتابة والزمن، زمن اختلاط الليل بالنهار.. ما فائدة
الكتابة وهذه المئذنة )
وهذا القول ينتهي بشبه رفض للرمز. يقابل هذا تأكيد غير مبرر، لأنه يعكس صورة أخرى نقيضة لما ذكر:
( الحقيقة هنا، لينظروا إلى ما حولهم لنفهم اللعبة جيدا ً، ليأتوا إلى هنا
إلى المئذنة، لا وقت آخر يفضي إلى المعرفة أفضل من هذا، فالوطن هنا
.. هنا... وهنا..)
وواضح هنا الانحياز واختيار الموقف. إن القلق دفع الشاب إلى تغيير مواقفه بفعل تأثير سير الأحداث، لا مبدئيته. فهو الرافض لكل شيء، والواجد ثمة معوقات للكتابة، على العكس مما تؤمن به الفتاة الدافعة له لتجديد وعي الواقع، فهي شخصية راكزة وذات وعي عالي لما يجري من حولها، على العكس من الشاب الذي يرى كل شيء خراب ومعطل:
( هذا النعش.. وأنا.. وهذا الخراب، وهذا الزمن المتوقف، صارت رؤوسنا بيضا ً
قبل أوانها، وما زال المعنى عند شواطئ غادرها الماء..)
وهنا لابد من التوقف عند موقف الفتاة الثابت، مقارنة بموقف الشاب القلق:
( الشاب: كل الذي حدث ويحدث وتقولين وهما ً انظري إلى الساعة، انها متوقفة على زمن الهلع.
ألا يذكرك هذا الوقت بشيء حقيقي؟
الفتاة: كلنا نعرفه.
الشاب: إذن لماذا توقف.. علينا أن نحركها.
الفتاة: بالصمت أم بالهلوسة؟
الشاب: أن نحتضن المئذنة، وليس الوهم.
الفتاة: الذي حدث حقيقة، ولكن الذي تقوله هو الوهم.
الشاب: وهذه المئذنة؟ )
ويتواصل الحوار، حيث يبرز الفرق بين وعييهما والشاب يستمر في تصوراته ويعكس وهم علاقته بالمئذنة:
( لأنها الحقيقة الوحيدة الغائرة في العمق , إنها المعنى الذي يفسر وجودنا، إن سقطت
تلاشينا. انتهى كل شيء، لا معنى لأن نكون. تتوزع جراحاتنا في المدن الأخرى، ولن
نكون إلى عِبرة تدوسنا قوافل العابرين )
لكنه أيضا ً يتخذ من المئذنة رمزا ً للدين النقي من الشوائب، يحاول أن يعكس من خلاله سلبيات الدعاة له، والمسببين لخراب الواقع بذريعة الدين. ويتركز هذا في ما يطرحه في النص، غير أن أبلغه الواضح ما يلي:
( أدركت أمام كل هذا، أن المئذنة إذا ابتعدنا عنها، فأن طريق الانهيار سيكون
محطتنا، كأن السماء تبتعد عنا، أو.. أو اننا ابتعدنا عن السماء )
لكنه يسأل أبيه:
( من يدلني على الطريق إلى المعنى، لأكون أكثر ثباتا ً )
لكن الإجابة على هذا السؤال، تكون ؛هو الوعي من يدلك على الطريق. في حين يواصل رحلة القلق باتخاذ سلوك مترجرج بين الزمن المتوقف والمئذنة، وكأن لا خلاص إلا الانحياز إلى طرف منهما. وتبقى هذه وجهة النظر التي يطرحها الشاب من بعد مخاض مع الفتاة وشبح الأب:
( الشاب يـُشير إلى الساعة المتوقفة، ثم يركض باتجاهها، يُغيّر حركته باتجاه المئذنة،
ثم إلى بداية اليمين )
إن الشاب وهو يتعلق بالمئذنة، لا يخفي توجسه مما يحيط بها، بل يُجهر به:
( الكل يتحدث عن حسنات المئذنة، حتى غابت الحقيقة )
كذلك:
( أين السماء؟ الداعون باسمها جعلوها تهدينا جحيما ً )
هذه السمة من القلق تبقى ملازمة للنموذج الشاب، حيث تدور الرحى ولا تـُسفر عن استقرار، لكن ثمة أمل ينفتح بتأثير الفتاة يؤكده الشاب وهو بصدد تحديد موقفه من الكتابة، حيث مشغوليته في الحياة:
( سأدون كل أحلامنا القادمة، مثلما أدون كل ما مربنا من حروب وانفجارات )
* المئذنة.. مسرحية بفصل واحد / علي لفته سعيد / دار تموز للطباعة والنشر ــ دمشق 2011
0 التعليقات:
إرسال تعليق