مسودات صلاح عبد الصبور وكتابات نقدية
مجلة الفنون المسرحية
مسودات صلاح عبد الصبور وكتابات نقدية
أحمد نبيل خضر - ملاحق المدى
اقترن اسمه باسم الشاعر الإسباني لوركا، خلال تقديم المسرح المصري مسرحية «يرما» لكاتبها العالمي، في ستينات القرن الماضي، إذ اقتضي عرض المسرحية أن تصاغ الأجزاء المغناة منها شعرا، وكان هذا العمل من نصيب «صلاح عبد الصبور».
محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكي، الذي تمر ذكرى وفاته اليوم، ولد في 3 مايو 1931 بمدينة الزقازيق،
ويعد أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي ومن رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربي، كما يعدّ واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة في التأليف المسرحي, وفي التنظير للشعر الحر.
ظهرت ملامح التأثر بلوركا من خلال عناصر عديد بمسرحيات عبد الصبور مثل “الأميرة تنتظر، بعد أن يموت الملك، ليلي والمجنون” فبهذه المسرحيات تشابهت الموضوعات فيما بينهما، واستقى عبد الصبور منابع موضوعاته من خلال التناص الواضح مع طبيعة الموضوعات والتيمات المسرحية. صاغ الشاعر باقتدار سبيكة شعرية نادرة من صَهره لموهبته ورؤيته وخبراته الذاتية مع ثقافته المكتسبة من الرصيد الإبداعي العربي ومن التراث الإنساني عامة. وبهذه الصياغة اكتمل نضجه وتصوره للبناء الشعري.
1
في دراسة للجزائرية فريدة سويزف، بعنوان «الصورة التراثية في شعر عبد الصبور- مصادر الصورة التراثية في شعر صلاح عبد الصبور: قراءة في دواوينه»، تقول:
يعدّ صلاح عبد الصّبور من الشعراء الّذين أسهموا في تأصيل علاقة الشعر بالأسطورة، وذلك من النّاحية الفنية والفلسفية المرتبطة برؤيا الشاعر نظرا لما لها من دور أساس في هندسة القصيدة المعاصرة ومدها بجسور من الأبعاد التاريخية والاجتماعية.
وفي ذلك يصرح الناقد علي قاسم الزبيدي قائلا: “إنه أحد الشعراء الّذين استعانوا بالتراث في شعرهم واستوعبوا أبعاده فلم يخل شعره إلاّ قليلا، دون الامتزاج بعبق التراث وتمثله ممّا ينمّ عن وعي بحركة التاريخ وعمق التجربة الإنسانية”.
إنّ مسألة توظيف الصورة التراثية لدى صلاح عبد الصبور مسألة في غاية الأهمية، “وإذا وقفنا عندها وقفة متأنية يمكننا الوصول إلى تحديد ملامح منهج جديد في التعامل مع الأسطورة. ومن سمات هذا المنهج أنّه يبتعد عن الصيغ الإسقاطية الجاهزة، واتسامه بالمرونة في التعامل مع الدلالة، لأن الغاية ليست في توظيف نص قديم بقدر ما هي إبداع لغة جديدة تشبه اللّغة الأسطورية من حيث الكثافة والقدرة على التّرميز والتّصوير”.
سأتطرق في هذا المقال إلى أهم مصادر الصورة التراثية الّتي استمد منها عبد الصبور نماذجه وصوره الأدبية، ليصنع للقارئ صورا تراثية حافلة بعبق الماضي التليد وبشارات المستقبل القريب.
التراث الدّيني
لقد كان التراث الدّيني مصدرا سخيا من مصادر الإلهام الشعري والّذي يستمد منه الشعراء شخصيات تراثية، عبروا من خلالها عن جوانب من تجاربهم الخاصة، ليمزجوا بين الحداثة الشعرية وعبق التاريخ القديم، فشخصيات الأنبياء من أكثر الشخصيات شيوعا في شعرنا المعاصر، “فقد أحس الشعراء منذ القدم بأنّ ثمة روابط وثيقة تربط بين تجربتهم وتجربة الأنبياء فكل من النبيّ والشاعر الأصيل يحمل رسالة إلى أمته، والفارق بينهما أنّ رسالة النّبيّ رسالة سماوية، وكل منهما يتحمل العذاب في سبيل رسالته”.
وكانت شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أكثر شخصيات الرّسل شيوعا عند الشعراء المعاصرين لما لها من ارتباط روحي وعقدي بالشاعر.
صلاح عبد الصبورويوظف عبد الصبور في قصيدة “الخروج” ملامح شخصية الرّسول عليه السلام، ليصور من خلالها تجربة معاصرة وهي محاولة الشّاعر الهروب من واقع حياته المرير، ومن زيف المدينة الحديثة وشرورها، بل ومن ذاته الّتي تكونت بين أحضان هذا الزّيف، الذي جثم على القلوب التائقة إلى معانقة الحياة الكريمة:
2
أخرج من مدينتي من موطني القديم
مطرحا أثقال عيشي الأليم
فيها، وتحت الثّوب قد حملت السّرى
دفنته ببابها، ثمّ اشتملت بالسّماء والنّجوم
حاول الشّاعر في هذه المقطع الشعري “استخدام خطوط هجرة الرّسول من مكة إلى المدينة واستطاع أن يجعل من هذه الهجرة بُعدا ثانيا للقصيدة يجري تحت سطحها، أي أن هذا المستوى هو التّعبير عن تجربة شعورية تهيمن على الشّاعر، وهي توق الإنسان إلى التحرر والانعتاق بنوعيه الفكري والإنساني.
إذا كان الرّسول صلى الله عليه وسلم قد اختار سيدنا أبا بكر رضي الله عنه ليصحبه في الطّريق، وإذا كان أبو بكر قد افتداه حين دخل الغار قبله، فإنّ الشّاعر لم يتخيّر أحدا من الأصحاب ليفديه، لأنّ ما يهدف إليه هو الخلاص من ذاته المتعبة.
لم أتخير واحدا من الصحاب
لكي يفديني بنفسه، فكل ما أريد قتل نفسي الثقيلة
وإذا كان الرّسول قد غادر وترك في فراشه سيدنا علي رضي الله عنه ليضلل القوم فلا يكتشفوا خروجه، فإنّ الشّاعر لم يترك في الفراش أحدا من الصحاب، لأنه يعرف أنّه ليس هناك من يلاحقه سوى ذاته والّتي يريد التّخلص منها، ليتحرر من واقع فرض عليه ولم يختره.
ولم أغادر في الفراش صاحبي يضلّل الطلاب
فليس من يطلبني سوى “أنا” القديم
ويبلغ نجاح الشاعر ذروته في توظيف هذا العنصر في استخدامه لحادث متابعة سُراقة للرّسول صلى الله عليه وسلم وكيف استطاع الشاعر أن يوظفه توظيفا فنيا بارعا.
سوخي إذن في الرّمل سيقان النّدم
لا تتبعيني نحو مهجري، نشدتك الجحيم
وأخيرا يريد الشاعر الانتقال والمغادرة من الظّلام إلى النّور “مدينة الصحو الّذي يزخر بالأضواء “حيث الحياة في مدينة النور والضوء.
مدينة الصحو الّذي يزخر بالأضواء
والشمس لا تفارق الظّهيرة
مدينة الرّؤى الّتي تشرب ضوءا
3
ويقول صلاح عبد الصبور “ولو تتبعنا تفاصيل صور القصيدة لوجدنا كثيرا من الإشارات إلى التجربة النبوية”
كما نجد شخصية المسيح عليه السلام الّتي أحس الشعراء أنهم أكثر حرية فيها، فأطلقوا العنان لأنفسهم في تأويل ملامحها وانتحالها لأنفسهم “ومعظم ملامح المسيح في الشّعر المعاصر مستمدة من الموروث المسيحي وخصوصا “الصلب، الفداء، الحياة بعد الموت”.
فاتخذ الشعراء ملمح الصلب وأسقطوا عليه الآلام، التي ظل يتحملها الشاعر المعاصر حين امتزج بمادية المدينة وترك طبيعة الحياة الحقيقية في البوادي والأرياف الخضراء، لقد افتُتن الشاعر بتصوير نفسه مسيحا على الصلب، وشاعرنا في قصيدته “أغنية للشّتاء” والتي أعطاها بُعدا دينيا استوحى فيها سيرة المسيح عليه السلام بعد الصلب.
يقول الشاعر:
الشّعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت
من أجلها صلبت
وحينما علقت كان البرد والظلمة والرّعد
ترجني خوفا
وحينما ناديته لم يستجب
عرفت أنني ضيعت ما أضعت
فقد اعتبر الشاعر نفسه مسيحا، واعتبر كل صاحب فكرة نبيلة يتعذب من أجلها مسيحا، فصلاح عبد الصبور يُدين هذا العصر الحديث الّذي يُطاردُ فيه أصحاب الدّعوات الصالحة والأفكار النبيلة، موظفا ملمحَه في تصوير تلك المعاناة الّتي يشقى لأجلها أصحاب المبادئ في العصر الحديث، كما يرى “أن خطيئته هي شعره وهو من أجله صلب” على الرغم من أن الشــعر صناعة الشاعر وفكره الذي بات يؤرقه، ليصل به إلى حد رسم حياة جديدة مجسدة في أحلامه وأفكاره التي بات يؤمن بها.
التراث الصوفي
4
لقد كان التراث الصوفي واحدا من أهم المصادر التراثية الّتي استمد منها الشّاعر المعاصر شخصيات وأصوات يعبر من خلالها عن أبعاد من تجربته بشتى جوانبها الفكرية والرّوحية وحتى السياسة والاجتماعية.
وليس غريبا أن يعبر الشاعر المعاصر عن بعض أبعاد تجربته من خلال شخصيات صوفية، لأنّ الصلة بين التجربة الشعرية والتجربة الصوفية جد وثيقة، لقد قرأ صلاح التراث الصوفي وعايشه واستخدم الكثير من مصطلحاته (المعجم الصوفي) حتّى في شرح قصوره لطبيعة التّجربة الشّعرية ومن هذه المصطلحات الصوفية الخروج، العشق، الشهادة.
فقد أشار إلى أن الصوفية هم أوّل من ربط التّجربة الرّوحية بالرّحلة، واعتبروا بحثهم عن الحقيقة سفرا مضنيا قد ينتهي بصاحبه إلى النهاية السعيدة المرجوة ومن القصائد التي استمد منها النماذج البشرية ذات الإيحاءات الصوفية “مذكرات الصوفي بشر الحافي” وقصيدة “رسالة إلى صديقة” حيث وظف فيها الشيخ محي الدّين، وقصيدة “مأساة الحلاج”.
أمّا “أغنية ولاء” ففيها تمتزج رموز التصوف بالرموز الدّينية العامة، والّتي صوّر فيها الشّاعر رحلته في سبيل الشعر مستغلا الجو الصوفي ومفردات الرحلة الصوفية في سبيل الوصول، فالشعر في القصيدة هو محبوب الشاعر الذي يتبتل إليه ويطهر ذاته ليستطيع الارتقاء إليه، كما يتبتل الصوفي إلى محبوبة ويطهر ذاته، يقول الشاعر:
خرجت لك
عليّ أوافي محملك
ومثلما ولدت -غير شملة الإحرام- قد خرجت لك
…
“ومن أراد أن يعيش فليعش شهيد عشق”
…
يا أيها الحبيب
معذبي، أيها الحبيب
أليس في المجلس السنّي حبوة التّبيع
فإني مطيع
وخادم سميع
5
أما في قصيدته “رسالة إلى صديقة” والّتي يلتقي فيها بالشّيخ محي الدّين الّذي يرمز إلى معنى الارتقاء الرّوحي إلى درجة التّسامي يقول:
بالأمس في نومي رأيت الشّيخ محي الدّين
مجذوب حارتي العجوز
كان في حياته يعاين الاله
تصوري، ويحتلي سناه
وقال لي: ونسهر المساء
مسافرين في حديقة الصّفاء
يكون ما يكون من مجالس السحر
وهكذا بدأ الحب الّذي يعيش في ذات الشّاعر يتحول إلى فيض من الدّاخل ليتجه نحو الآخرين في صفاء وعفوية وعذوبة، ولعلّ شخصية “الحلاّج” كانت أكثر شخصيات التراث الصوفي حظا من اهتمام الشّعراء وعنايتهم و”الحلاّج” هو شهيد الصوفية الّذي صلب ببغداد” فقد تناوله الشّعراء في عدد من قصائدهم أشهرها الّتي كتبها عبد الوهاب البيّاتي بعنوان “عذاب الحلاّج” و”مأساة الحلاّج” وهي ما يسمى بالمسرح الشعري.
فقد كان عذاب الحلاّج طرحا لعذاب المفكرين في معظم المجتمعات الحديثة، وحيرتهم بين السّيف والكلمة، يقول صلاح عبد الصبور معلّقا على هذه المسرحية “أمّا القضية الّتي نطرحها فقد كانت خلاصي الشّخصي، فقد كنت أعاني حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا …وكنت أسأل نفسي السؤال الّذي سأله الحلاّج لنفسه ماذا أفعل؟ وكانت إجابة الحلاّج هي أن يتكلم ويموت. فليس عندي الحلاّج صوفيا فحسب، ولكنه شاعر أيضا والتّجربة الصّوفية والفنّية تنبعان من منبع واحد…وهي العودة بالكون إلى صفائه” قد يجتمع الشاعر والصوفي في الشخص الواحد، فيغدو من المفكرين الذين آلوا على أنفسهم خدمة قضيتهم ولو كان الموت بانتظارهم.
التراث الشّعبي (الفلكلوري)
6
يحدد صلاح عبد الصبور تأثره بالقصص الشعبية في قصائده فقد كتب قصيدته “مذكرات الملك عجيب بن خصيب” متخذا من قناع شخصية فلكلورية قناعا للتّعبير عن آرائه وأفكاره وهمومه الفكرية “والملك عجيب بن خصيب أحد ملوك ألف ليلة وليلة يرد ذكره في حكاية الحمّال مع البنات وهي قصة رجل خرج عن ملكه حين أدركه السأم، ويمضي الرّجل في رحلته يجوب الأقطار تاركا بلاطه الملكي المليء بالتخليط في كل شيء في الأفكار والسفسطة، ثم هو يشهد الشّر ويقترفه فلا يجد له طعما”.
إن الشاعر يرمز بهذا البلاط إلى الكون الّذي يزدحم حوله الشّعراء بحديثهم المملّ الملفق، فكان خروج “عجيب بن خصيب” رمز للشّخص الّذي تضيق به نفسه بألوان الزّيف المحيطة به والبحث عن الحقيقة الّتي لابدّ أن تكون مختفية وراء هذا الزّيف، يقول الشّاعر:
أبحث في كلّ الحنايا عنك يا حبيبتي المقنعة
يا حفنة من الصّفاء الضّائعة.
فالحقيقة الوحيدة القاسية الّتي وجدها “الملك عجيب بن خصيب” هي أن الإنسان قد سقط كما يسقط البهلوان في الشّبكة.
أمّا “السّندباد” وما يحمله من ظلال تراثية شعبية، وبما يمثله من سعي إلى الكشف وحب للمغامرة والتحدي المحفوف بالمخاطر، وهذا النّموذج يكاد يكون من أبرز الرّموز الّتي تشير إلى الإنسان المعاصر، فمثلما كان السندباد في مدلوله الحقيقي نموذجا لرغبة الإنسان في اكتشاف عالمه الخارجي أصبح في إيحاءاته نموذجا لطموح الإنسان المعاصر في اكتشاف ذاته والبحث عن الحقيقة المختفية.
إنّ مضمون “السّندباد” عند صلاح عبد الصّبور ليس ثابتا ولا يتكرّر بعينه من قصيدة إلى أخرى لأنّ التّكرار يفقده القدرة على الإيحاءات المتجدّدة، والتي كانت تعوز الشعراء في تلك الفترة التاريخية المملوءة بالمتناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية.
7
أما في قصيدته “أغنية للقاهرة” فانّه أخرج روح الأسطورة وهو يتحدث عن القاهرة الّتي ظلت محبوبته الغالية، فجعل منها صورة (ايزيس) وجعل من نفسه صورة إيزوريس، كما استطاع شاعرنا أن يخلع على علاقته بمدينته الحبيبة القاهرة الفكرة القديمة الرّاسخة في أذهان المصريين الّتي تعبر عن الحب والإخلاص والتّضحية والوفاء، فقد جعل من القاهرة (إيزيسا) الّتي جمعت عظامه المبعثرة في شوارع المدينة ووضعتها في تابوته المنحوت يقول:
وأن أذوب آخر الزّمان فيك
وأن يضم النيل والجزائر الّتي تشقه
والزّيت والأوثاب والحجر
عظامي المفتة
على الشّوارع المسفلتة
على ذرى الأحياء والسّكك
حين يلمّ شملها تابوتي المنحوت من جميز مصر.
أشار صلاح عبد الصّبور إلى عودة ايزوريس رمزا لعودة الخصب، كما يوحي استعمال هذه الأسطورة إلى التّوحد بين الإنسان ووطنه وذوبانه فيه “أن أذوب آخر الزّمان فيك” كما يمكن أن تمثل “فكرة البحث الدّائب المستمر الّذي لا ييأس حتّى يصل إلى هدفه” المنشود الذي أخذ من زمانه وعمره، أو أن تمثل فكرة العطاء الّذي ليس له حدود.
التراث التاريخي
8
قدّم التّاريخ العربي أحداثا انتظمت فيها حقائق جديدة جعلت النّاس يؤوبون إليها عندما يحتاجون إليها لشحن الهمم أو شقّ حدود اليأس ونجد الشّاعر يوظف الأحداث التّاريخية، ذلك لما وجد فيها من اهتزاز النّفوس ولا يزال صداها في أسماع النّاس وفي خفقات الأفئدة.
ولقد كتب قصيدته “شنق زهــــــران” في الخمسينات من القرن الماضي، حيث استحضر فيها حدثا تاريخيا مهمّا، تاركا أثرا عميقا في الوجدان العربي وخاصة المصري، نظرا لما حظي به من استجابات شعرية عربية واسعة تعبيرا عن فداحة الظلم الّذي وقع على قرية (دنشواي) المصرية على يد المحتل الإنجليزي، وكان الوطني محمود درويش زهران في طليعة الضحايا الشّهداء الذين قدموا أنفسهم قربانا لمصر الشجاعة.
ولا شكّ أنّ الشّاعر صلاح عبد الصّبور يوظف هذا الحدث وما ارتبط به لينفخ في الوجدان العربي بعد نكبة فلسطين، محرضا على المواجهة والتّحدي والاستشهاد ويتجلى هذا الموقف في الجزء الأخير من قصيدته حيث يقول:
كان زهران صديقا للحياة
مات زهران وعيناه حياه
فلماذا قريتي تخشى الحياة؟
وزهران هو بطل حقيقي لحادثة “دنشواي” الشهيرة الّتي تعد نموذجا لبطش السلطة وتزوير الحقيقة، تلك الحادثة الّتي أجمع شعراء العرب على التجاوب معها وإدانتها وما تزال ساكنة في الوجدان الشّعبي المصري، وغدت قادرة على التّواصل مع كلّ واقع سياسي مشابه في مصر والوطن العربي، وأصبح مجرد ذكرها وسيلة لاستحضار صورة النّشوة في الواقع والدّعوة إلى المواجهة والتّغيير.
ويخلق صلاح عبد الصبور نوعا من التّراسل الوجداني بين زهـــــــــران وأبي زيد سلامة، أحد أبطال السّيرة الهلالية، وهو بهذا يصل بطله بماضيه أي أنّ زهران هو امتداد لتلك الشّخصية العربية المخلصة، وقد أكد على عروبته خلال تلك الومضة الدّالة بقوله (وسماء الشّعر في ليل الشّتاء) لأن الشّعر هو الفن القومي الأول للأمة العربية.
كما يوظف صلاح عبد الصبور شخصية مسرور المرتبطة بظلم شهريار ويخلق حالة من التّراسل نفسه بين صورتين وزمنين، فمسرور في اللّيالي يمثل يد السلطة الغبية الغاشمة الموكلة بأرواح العذارى البريئات، المهددة لمصدر الحياة والخصب والامتداد ومسرور في القصيدة يمثل سيف السلطة المستبدة الّتي تتوهم أنّ قتل بطل الجماعة هو السّبيل إلى اغتيال الثّورة وإجهاض روح المقاومة.
9
وأتى السّياف مسرور وأعداء الحياة
صنعوا الموت لأحباب الحياة
وتدلّى رأس زهران الوديع.
وهكذا كانت طريقة صلاح عبد الصبور في استخدامه لصور التراث “فهو أحيانا يستعين بالمبنى أو الهيكل العام للأسطورة، وأحيانا يكتفي بالتلميح إلى الخط العام وفي مرّات أخرى يستخدمها استخداما جزئيا”.
لكنّه يرى في جميع الحالات أنّ الأسطورة والشّخصية التّراثية تمنح القصيدة طاقة وعمقا، يختلف عن عمقها الظّاهر كما تعبر عن الأبعاد الثنائية الّتي تجسد فكر الشّاعر ورؤيته للحياة، فتنقل تجربة الشّاعر من مستواها الشّخصي إلى مستوى إنساني أعم وأشمل.
كانت هذه بعض الأدوات الفنية الّتي استخدمها صلاح عبد الصبور في تعبيره للفن الشعري الزاخر بالحياة، والذي أمده من أيامه وحياته الحافلة بالغبن والقهر الاجتماعي، وظل مقاربا لشتى الفنون لقدرته الفائقة في تطويع الشعر وجعله خادما لمستقبل شعبه.
10
كما كتب عنه الكاتب محسن النصار، ورقة بحثية في العام 2011، بعنوان: «صلاح عبد الصبور والإبداع المسرحي الشعري في ذكرى ميلاده الثمانين»، قال فيها:
مرت علينا الذكرى الثمانين لميلاد الشاعر صلاح عبد الصبور الذي ولد في 3مايو 1931، والذي كان له تأثير كبير فى مجال التأليف في المسرح الشعري.
الذي لم يعرفه العرب قديما إلا ما كان من أبي العلاء المعري في رسالة الغفران التي اعتبرتها د. عائشة عبد الرحمن نصا مسرحيا يعود إلى القرن الرابع الهجري. رغم احتكاك العرب قديما بالثقافة اليونانية وترجمة كتاب فن الشعر لأرسطو.
ولم يظهر الفن المسرحي إلا في القرن التاسع عشر فقد حاول بعض الشعراء العرب أن يقدموا للمسرح أعمالا شعرية من ذلك ما قام به الشيخ خليل اليازجي في مسرحية (المروءة والوفاء) إلا أنها كانت محاولات ناقصة وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء احمد شوقي الذي كانت له صلته بالأدب الفرنسي وطيدة فتأثر بالمسرح التقليدي الكلاسيكي في استمداد الموضوعات من التاريخ القديم واختيار الأبطال من علية القوم وتوظيف اللغة الراقية فكتب مسرحيات (مجنون ليلى, عنترة, مصرع كليوباترة, قمبيز, علي بك الكبير, الست هدى) وهي خمس مسرحيات درامية وملهاة واحدة. وقد استقى مادتها من التاريخ الفرعوني والعربي والمجتمع المصري في عصره. وكتب بعده عزيز أباظة (غروب الشمس , شهريار , العباسة أخت الرشيد).
ويرى النقاد أن مسرحيات عزيز أباظة أقوى من الناحية الفنية من مسرحيات شوقي. ثم حققت المسرحية الشعرية درجة عالية من النضوج على يد الشاعر صلاح عبدالصبور؛ لما امتلكه الشاعر من رؤية جمالية خاصة، نهلت من المسرح العالمي في وعي وبصيرة مع ثقافة ثرة ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي العربي أتاحت له استيحاء مواقف الدراما الثورية. كل ذلك اتحد بموهبة شعرية فذة أنتجت أعمالاً مسرحية أجمع النقاد على روعتها واعتبارها علامة بارزة ومبدعة في تاريخ المسرحية الشعرية، بل المسرحية العربية بمختلف مصادرها. وقد وصلت أعماله المسرحية من مثل (مأساة الحلاج 1964, الأميرة تنتظر 1969، بعد ان يموت الملك 1975، مسافر ليل 1968 وليلى والمجنون) إلى مرحلة المسرحية الشعرية الدرامية التي يختلط فيها الشعر بالدراما وتندمج فيها غنائية الشعر وصوره بالبنية الدرامية للشخصيات والمواقف بما يخرج بناءً مسرحياً منسجماً.
عالج فيها مشكلات فلسفية واجتماعية وقد وظف صلاح عبد الصبور هذا النمط الشعري الجديد في المسرح فأعاد الروح وبقوة في المسرح الشعر , وترك عبد الصبور آثارا مسرحية أثرت في أجيال متعددة من الشعراء والمسرحيين في مصر والبلدان العربية، خاصة ما يسمى بجيل السبعينيات، وجيل الثمانينيات في مصر الوطن العربي، وقد حازت أعماله والمسرحية قدرا كبيرا من اهتمام الباحثين والدارسين، ولم تخل أي دراسة نقدية تتناولت المسرح الشعري من دون الإشارة إلى مسرحياته، وقد حملت مسرحياته الشعرية سمات الحزن والسأم والألم وقراءة الذكرى واستلهام الموروث الصوفي، واستخدام بعض الشخصيات التاريخية، ومن أبرز أعماله في ذلك: “مأساة الحلاج” و”ليلى والمجنون”.
11
وكان التعبير الفني في مسرحياته عن حادثة من حوادث الحياة البشرية بإحياء مشهده وما يجري فيه من عمل. وهكذانجد المشهد المسرحي مشهد ناطق متحرك وهو على حد قول أرسطو محاكاة الأفعال النبيلة والمؤلف في مسرحياته يتوارى عن الأنظار ويظهر الأشخاص بأفعالهم وأخلاقهم. يعتمد على الحوار الشعري مسرحياتة وعلى عناصر أساسية هي:التمهيد أو المقدمة والعقدة والحل.
في التمهيد يعرض الشاعر الشخصيات والموضوع والزمان والمكان ويشترط فيها أن تكون موجزة مجملة تلمح إلى الموضوع تلميحا من غير تفصيل ولا كشف للمجهول ويتم ذلك عن طريق الحوار.أما العقدة فهي العنصر الأساسي في بناء الحبكة الفنية وهي تنطوي على اشتباك الوقائع والأحداث والمصالح والمنازع والمفاجآت والتحولات مما يبعث الشك في صدور المشاهدين والقلق والتطلع إلى الحل.
الحل وهو خاتمة المطاف والنتيجة التي تصل إليها أحداث المسرحية فتنحل العقدة ويتضح مصير البارزين من أبطال المسرحية ويكون مفجعا ومتفقا مع فلسفة الشاعر وافكاره مراعيا مشاعر الجمهور مرضيا لكل توقعات النفس البشرية , وحاز على العديد من الجوائز ومنها (جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج) عام 1966، وقد بلغ المسرح الشعري درجة عالية من النضج والأبداع الفني عند صلاح عبد الصبور..
عن الحوار المتمدن
0 التعليقات:
إرسال تعليق