قراءة لمسرحية " رجل "تحدي التراب إثباتا البراءة
مجلة الفنون المسرحية
لحسن ملواني
الكاتبة الإماراتية باسمة يونس ، مبدعة تمكنت بمساهماتها المتنوعة والمتلاحقة من فرض وجودها في المجال الأدبي سردا ومسرحا ، فهي صاحبة أعمال أدبية كثيرة منها : "عذاب " ، " اغتيال أنثى " ، "طريق الى الحياة " ، "رجولة غير معلنة " ، "ملائكة وشياطين، ومن مسرحياتها: البديل ، ومسرحية بنات النوخذة ،و مسرحية " آخر ليلة باردة ، ومسرحية " بحاران "...وهذا الإنتاج الغزير المتنوع من شأنه أن يعمق من تجربتها في الكتابة الأدبية بكل تنوعاته ، والجوائز التي حصلت عليها خير دليل على رسوخ قدمها في مجال الإبداع الأدبي .
والمسرحية التي نحن بصدد تقديم قراءة أولية لها وردت في كتاب " رجل – غيبوبة " والكتاب يتضمن مسرحيتين ، مسرحية "رجل" التي اقتصرنا على تقديم قراءة لها في هذا المقال، ومسرحية "غيبوبة" والتي قد نعود لقراءتها والإدلاء برأينا إزاءها لاحقا.
عنوان المسرحية :
عنوان المسرحية كلمة نكرة مفردة " رجُل " ، ويوحي بعدة دلالات ، والنكرة في اللغة العربية تفيد التبعيض ، وكأن الكاتبة في مسرحيتها تروم تقديم نموذج يمثل ما يعانيه أو ما يصدر عن بعض الرجال من تصرفات وسلوكات بعضها محمود وبعضها مذموم ، "رجُل " عنوان مختزل لعدة قضايا وصراعات ينخرط فيها الرجل ( البطل ) مواجها للمرأة ، وهو انطلاقا من ذلك عنوان ينبئ بعدة دلالات واحتمالات ستحملها المسرحية إلى القارئ و المشاهد.
قصة المسرحية :
تجسد المسرحية أحداثا محورها رجل يدفن امرأته تخلصا منها بادعاء ارتكابها للخيانة الزوجية ، إلا أنه وهو يدفنها ، كانت تخاطبه وتعاتبه في جوف القبر ، وامتد الحوار بينهما حتى آخر المسرحية حيث سقط على قبرها جثة هامدة.
أحداث المسرحية :
المسرحية موضع تقاطع الاتهامات في ارتباط بالانتقام والتحدي والتصدي ، فالمرأة التي اتهمت بالخيانة مصرة على إثبات العكس ، و عبر تبادل للاتهامات ساد في المسرحية الصراع الحاد المتدرج تدرجا يشد إليه القارئ أو المُشاهد المفترض في حالة إخراج المسرحية وتحويلها من الورق والخيال إلى فضاء خشبة المسرح .
و الصراع والمواقف المتعارضة المتصادمة أضفت على الأحداث تشويقا يشد القارئ إلى الحدث الرئيسي الذي تمت معالجته عبر نسيج الأحداث المشكل للمسرحية ، الصراع تطلب التبريرات ونفض غبار الاتهامات بين الشخصيتين رغم أن الشخصية الممثلة للرجل شخصية حية فوق الأرض والأخرى تحت التراب ، وهي تدعي أنها ما تزال على قيد الحياة ، وهذا التصور الإبداعي جعل المسرحية يعتريها بعضٌ من الطابع العجائبي الجاذب .
والقارئ المتتبع لموقف الرجل وعلة سلوكه ومواقفه سيجده الرجل الذي استبد به الحنق والغيظ ، اللاهث المنتقم المحس بالقهر والغيرة ، السعيد بدفن امرأته ، المتحرر من قيد الظنون والمخاوف ، الشاعر بجحود امرأته التي لم تعترف بجميله ، المتهم لها بالكذب والخيانة والخداع والمهارة والفجور ، المعتقد بالمصير القاسي لها (جهنم بكل أهواله ) ، الشاعر بسعادة الانتقام والانتصار ، الناقم المتذكر لامرأته الأولى و الثانية وكلاهما شر ما بعده شر ، المضطرب الشاك في حياتها وهي تحدثه تحت التراب ، " لست أدري ، هل يمكن أن تكوني حية ، أم أنك مجرد وهم يضج صوته في رأسي المرتبك بعد الخوف؟ ص 37....
أما امرأته فهي المفاجئة له وهو منهمك في الدفن متيقنا بموتها ، وهي المذكرة إياه بجريمته النكراء، المتحدية لنفيه قدرتها على الحياة بعد الدفن ، المدافعة عن نفسها ، والمحاولة إثبات براءتها ، والمذكرة إياه بانتقامه البشع قبل قتلها ، المتهمة إياه بالإجرام ، المفسرة لسبب قتله لها (كونها جميلة ) ، المخاطبة بمنطق علم النفس الذي يحاول تفسير السلوكيات وفق الأسباب والظروف الباعثة عليها ، المستعطفة له كي ينتشلها من القبر ، القادرة على حمل الرجل على الاعتقاد بكونها ما تزال على قيد الحياة ، المتمكنة من هزم الرجل وقد ارتمى على قبرها جثة ساكنة ، وقهقهاتها الساخرة تملأ المكان.
إن هذا التعارض وهذا العناد الذي برز من المرأة بشكل فجائي غير منتظر، خلق في المسرحية الصراع المطلوب ، والكفيل بجعل المسرحية وازنة يطبعها العنف المعنوي والسلوكي ، وبطريقة فنية تخالف منتظرات الجمهور تنتصر المرأة الضعيفة المدفونة تحت الأرض ، فالرجل في النهاية مات ضعيفا مريضا متعبا .
المسرحية تجعلك مركزا على مشهد واحد ، و يجعلك الحوار الجاري بين الشخصيتين تغادره متخيلا ، وسرعان ما تعود إليه ، والقارئ للمسرحية يجعله المشهد والحوار يعيش بين الواقع والخيال الذي تخلقه المرأة مع الزوج قبل و أثناء ارتكاب حادثة القتل وبعدها الدفن بغية إخفاء الجريمة .
لقد نجحت الكاتبة في اختيار الساعة اليدوية التي فقدها الزوج فجأة للمزيد من تأجيج الصراع بين الشخصيتين والتعريج به لمعاكسة الانتظار وتجنب رتابة خطية الحدث ، علاوة على أن الساعة أدت أدوارا كثيرة في المسرحية ، فقد استخدمت استخداما ذا علاقة بازدياد مخاوف الرجل الذي صار يعتقد اعتقادا يكاد يكون جازما على أن المرأة حية ، وهي تتحدث إليه بصدد الساعة التي سقطت منه سهوا فدفنها مع الجثة ، و اتخذت المرأة ذلك تعلة كي يفرج عنها ، يقول الرجل والمسرحية على وشك النهاية " الساعة يجب أن أخرجها من هناك ، يجب أن أنقذ نفسي معها ، لن أموت لأجل نساء خائنات ، لن أعدم بسبب امرأة لم تكن تستحق أن تكون أكثر من قتيلة ، وأن تحرق في نيران جهنم جزاء لفسقها ... الساعة .." ص 44. يختنق الرجل ويطلب النجدة قبل أن يسقط ميتا فوق القبر ، وهو يحتضنه بيديه ، وتتدحرج الساعة من جيبه وهي تصدر تكاتها لتملأ المكان...
إن موضوع المسرحية رغم بساطته وارتكازه على فكرة عادية يحمل قدرات ومهارات فنية تؤهله لإمتاع المتفرج إذ تمكنت الكاتبة من جعله مركبا تركيبا أضفى عليه حدَّة الصراع من خلال الاتهام وردّ الاتهام من أجل إثبات البراءة ، وقد انتصرت الكاتبة للمرأة رغم تموقعها في موقع الضعف ( الموت و الدفن ) ، والمسرحية تعزز ذلك بل تؤكده بنهايتها غير المتوقعة ، حيث إن الغفلة والاضطراب مصدر الاتهام المغرض ، فربط هلاك الزوج بالساعة التي يبحث عنها وهي في جيبه ، اتخذته المؤلفة قصدا ـ ربما ـ للتأكيد على كون عدم التركيز والتقصي الهادئ الفاحص كفيل بتجنبنا ظلم الآخرين ، فالساعة التي أفقدته صوابه في نهاية المسرحية ، وهو يبحث عنها بلهفة ، كانت قابعة في جيبه ولم يدفنها مع جثة زوجته.
إن المسرحية تمرر رسائل عديدة من أجل احترام المرأة وعدم التسرع في اتخاذ الأحكام الجائرة إزاءها ، فالغيرة العمياء والشك الفاسد المفسد للعلاقات ، والانتقام غير المبني على ما يبرره ، أمور تعاني المرأة بسببها ، فكم من امرأة دفنت ، وكم من امرأة ذبحت أو شردت أو أغرقت ظلما وعدوانا. فالمسرحية متكاملة الجانبين ، الجانب الجمالي ألإمتاعي الفرجوي، والجانب الاجتماعي الغائي.
لقد اختارت القاصة حدثا عاديا بسيطا معروفا في كل المجتمعات وأكسبته عمقا عبر الترابط المتين والتدرج الماتع من خلال النظر إلى الحدث من زوايا متعددة مكنها من خلق التعاطف مع شخصيتي المسرحية مما أكسبها أبعادا إنسانية من خلال الصراع النفسي والمادي المحتدم ، فكل من المرأة والرجل – في المسرحية - يشكوان ويحاولان تقويض العقبات التي تؤجج أحاسيسهما ، وهنا مكن التشويق الذي يستحوذ على القارئ للمسرحية ، وبذلك نعتقد بنجاح المسرحية من حيث قدرتها على استثارة الاهتمام بتصويرها للموقف ومتانة حبكتها الحبكة المحكمة القائمة على الترابط والتلاحم بين الأحداث والصراعات المتشابكة المتدرجة و الطاغي عليها الإثبات والنفي وتبادل العتاب والاتهام ، بدءا بالحدث الملهم مرورا بالتحولات والدوافع الداخلية والخارجية والذروة نحو النهاية...حيث مصرع البطل غير المتوقع.
كانت المسرحية حوارية بامتياز ، وقد اعتمدته الكاتب كاشفا عن جوانب نفسية داخلية تعتري ذات كل من الشخصيتين المتصارعتين ، وهو ما أضفى مسحة درامية عميقة على مجريات أحداث المسرحية من خلال التأزم والانفعال العميقين . ويمكن ‘إدراجها في إطار المسرح الفردي المنودرامي حيث يحاول الممثل عرض المتعدد من خلال الفرد الواحد مع إبراز الإشكالات و الاختلالات والمواقف والأفكار والمواقف المتعددة المتصادمة عبر ممثل يتحمل أعباء نسج وتحريك الحدث من بداية المسرحية حتى نهايتها ، فالممثل يجسد النواة والكينونة والصيرورة عبر تمثيل المتعدد ومحاورات الغائب المفرد أو المتعدد ، كل ذلك من أجل خلق محطة لإبراز طموحات ومعضلات ومتاعب تحتاج إلى حلول وتموقفات إيجابية مختلفة .
المسرحية في الأخير تحمل مأساة مزدوجة تمس المرأة والرجل في ذات الآن ، فالاتهام المتبادل بطله الشك والتسرع في اتخاذ الإجراء العنيف المفضي إلى موت شبه انتحاري للرجل وللمرأة .
نهاية المسرحية :
ونهاية المسرحية بقدر ما هي واضحة ، فهي مبهمة أيضا ، فأن يموت البطل الذي تظهره الأحداث قويا ، ضعيفا يبحث عن ساعته التي وضعها في جيبه سهوا ، نهاية تحمل كثيرا من التأويلات والتساؤلات :
ـ فهل السهو الذي اعترى ذاكرة الرجل إزاء موضع ساعته ، هو ذاته المفضي إلى سلوكه المتهور إزاء امرأته التي تحاول جاهدة أن تظهر براءتها
ــ هل انزلاق الساعة من جيبه ، رمز لنهاية عمره في الوقت الذي قد يفكر في استبدال زوجته بالأخرى ؟
ـ هل موته يعني انتصار المرأة ، وانتقامها الحقيقي القاطع من زوجها، فقد مات وما تزال قهقهاتها الساخرة تسري في المكان ؟.
ـــ هل سقوطه ميتا محتضنا قبرها علامة على حبه الدفين لها ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
"رجل ، غيبوبة " مسرحيتان ،باسمة يونس ،السلسلة المسرحية (النصوص) إصدارات دار الثقافة والإعلام حومة الشارقة 2010م.
0 التعليقات:
إرسال تعليق