"مترو".. مسرحية الزمن المتوقف والآمال المعطلة
مجلة الفنون المسرحية
شريف الشافعي - العرب
عرض شبابي يرصد اغتراب الإنسان وعزلته وسجنه الداخلي، ويقيم علاقة فلسفية مع المطبات والشروخ التي تعرقل مسيرة الحياة الطبيعية للبشر.
يراهن المسرح المصري على الشباب، من حيث الجماعات والفرق التي تقدم العروض الجديدة، والأفكار والقضايا التي تتعلق بالشباب وتمسّ واقعهم الحياتي المباشر، بالإضافة إلى الآليات والعناصر المسرحية الشابة أيضا التي تلاحق التطورات المذهلة في هذا الفن العريق. وفي هذا الإطار قدّمت مؤخرا مسرحية “مترو” بالقاهرة.
يطرح العرض المسرحي “مترو” قضايا المجتمع المصري وأزمات الإنسان المعاصر من خلال فكرة غير نمطية وتقنيات مبتكرة، ففي محطة قطار مجهولة يتوقف الزمن وتتعطل الآمال ويغوص الشباب المحبطون في سجنهم الداخلي.
تسعى مسرحية “مترو”، المعروضة حاليا في القاهرة، إلى خوض مغامرة من نوع خاص داخل محطة قطار تتبلور فيها المآسي والإخفاقات.
لا يكتفي عرض “مترو” لفرقة “مسرح الشباب” على مسرح “أوبرا ملك” في القاهرة بطرح مشكلات الواقع الراهن وأزمات الشباب، وإحباطات الإنسان المعاصر على وجه العموم، إنما يقيم العرض علاقة فلسفية مع هذه المطبات والشروخ التي تعرقل مسيرة الحياة الطبيعية للبشر، إلى درجة أنها قد توقف الزمن ذاته، وتجمّد الآمال.
خيوط عنكبوتية
استعراضات جسدية لتحريك اللحظة المتجمدة
تنسج المسرحية التي كتبها محمد فضل وأخرجها عادل رأفت، ديكورها أو خيوطها العنكبوتية داخل محطة مجهولة لمترو الأنفاق، غير معروف مكانها ولا اسمها، إذ تظهر اللافتة التعريفية الخاصة بها ممحوّة، كما تبدو الساعة الضخمة المعلقة فيها من دون عقارب، فهي محطة معلقة في فراغ، منزوعة من سياقيها المكاني والزماني.
ديكور واحد لا يتغير تدور فيه الأحداث، داخل هذه المحطة المجهولة والمعزولة، حيث يتجمع أبطال العرض فوق رصيف المحطة في انتظار ما لا يجيء أبدا، وهو القطار، ذلك المعادل لكل ما ينتظره الإنسان ولا يتحقق في هذه الحياة.
من أمكنة جلوسهم، يطالع المشاهدون محطة مترو حقيقية بامتياز، بكل تفاصيلها وعناصرها وأبنيتها وفق تصميم سينوغرافي معدّ بدقة وعناية، وحتى شريط القطار لم يغفل المصمم أحمد مورو إدراجه في المشهد، أسفل المسرح الذي يجسّد محطة وصول المترو، ويتأجل هذا الوصول المرتقب مرة بعد مرة، رغم إعلان الميكروفون الداخلي للمحطة أن القطار على وشك القدوم، وعلى الرّكّاب الابتعاد عن الرصيف، لكنه لا يصل.
في أثناء انتظارهم، ينخرط أبطال العرض في حوارات ومناقشات، ومونولوجات ذاتية، يتكشف من خلالها أن العطل الفني الأكثر خطورة ليس هو عطل المترو، إنما ذلك العطب الموجود بأنفسهم، والذي يفسد حياتهم الطبيعية، فكل واحد منهم لديه همّه الشخصي الذي يقيّده، ويعزله عن الآخرين، فضلا عن الهموم المشتركة والمشكلات العامة.
المسرحية تستعرض الكثير من وجوه الاختناق في حاضر كابوسي، يستوي خلاله البشر والآلات في سوق العمل
ليس هناك من ضوضاء المترو سوى صفارات الإنذار المتلاحقة بالمحطة، ودويّ الإذاعة الداخلية، لكن ضجيج الأفكار أعلى، والتشويش الأعظم كائن في داخل الشخوص، وهم: الشاب “يحيى” بطل العرض، والفتاة الشاردة التي يتعرف عليها في المحطة، وبعض الأفراد الذين يغطّون وجوههم بالجرائد أو يظهرون على هيئة تماثيل (مانكانات)، ويشتبكون معا في أحاديث واستعراضات جسدية يؤدونها معا، أملا في تحريك اللحظة المتجمدة، وإيجاد معنى للسكون والغموض.
من خلال خلفيات موجزة عن كل شخص، وإفضاءات قليلة تضيء ذات كل واحد منهم، تعرّي المسرحية أزماتهم الفردية، وتفضح سلبيات المجتمع المادي المحيط، فالشباب يكابدون محنة حقيقية، ويواجهون اليأس والعزلة والاغتراب وانقطاع التواصل مع بعضهم البعض وفقدان الاتصال بالعالم الخارجي من حولهم، بالإضافة إلى التواكل والاستسلام، وانتظار أن تأتي حلول المشكلات من تلقاء ذاتها دون بذل جهد أو امتلاك إرادة.
تستعرض المسرحية كذلك الكثير من وجوه الاختناق في حاضر كابوسي، ويستوي البشر والآلات في سوق العمل، ويحل الواقع الافتراضي البارد محل الحياة الدافئة، ويلجأ الشباب إلى إدمان وسائل التواصل الاجتماعي أو مخدرات العصر لنسيان ما يجري على الأرض من ويلات وحروب ونشرات أخبار سوداوية ومشكلات في العمل بسبب روتينية الأداء وتدني الأجور وتعنت الرؤساء، إلى آخر هذه التفصيلات القاتلة التي ترسم في مجموعها خارطة للعدم.
تجديد العالم
بالفكرة والجماليات والتقنيات، التي تحمل عنوان “الشباب” وتتسم بالحيوية والدهشة والإشراق، يقترح صنّاع عرض “مترو” إمكانية تجديد العالم، وإيجاد حلول للخروج من هذه المآزق كلها، وغيرها، حيث يستعيد الإنسان وجوده وطاقته، ويمتلك ثروته التي لا تنفد أبدا، وهي كنزه الروحي.
عبارات كثيرة وردت على ألسنة أبطال العرض من خلال الحوارات والمونولوجات والاستعراضات الغنائية التي صممها حمد إبراهيم، تدور في هذا الفلك المتفائل، الواعد بغدٍ أفضل “دوّر على الحل جوّاك (ابحثْ عن الحل بداخلك)”، “متضايق من الزحمة (الازدحام)؟ بص (انظر) على نفسك، شوف زحمتك، وحل مشاكلك بالحب”، “المشكلة في النظام.. والحل عند الشباب”.
مع نهاية العرض، تشعشع الرؤوس بالآمال ويتجسد قوس قزح ذاته في إضاءة أبوبكر الشريف وملابس شاهندا أحمد وموسيقى محمد خالد المبهجة، حيث الاستعراض الغنائي الراقص لأبطال العرض، ومعهم المهرّجون المنتشون، ويصاحب صوت ليلى مراد وإيقاعات “الفالس” أيقونة العشق الختامية التي يكررها يحيى لفتاة المترو “مش (غير) مهم المترو ييجي (يأتي)، ولا تكون معانا تذاكر، مش هاسيبك (أتركك) تضيعي مني”، وهكذا يقدم العرض رسالة صريحة بأن هذه الدنيا المعاندة “تُؤخذ غِلابا”، بقوة الشباب، وليس بالتمني والانتظار.
تتأتى مصداقية المسرحية من تجانس عناصره الشابة وانسجامها، من الفكرة والمضمون وفريق العمل بممثليه الشباب؛ شريهان قطب وأحمد خالد وخالد شرشابي وسلمى عصام، وطبيعة الأزمات والمشكلات التي يفجّرها النص، واتّقاد الصراع المحموم بين الممكن والمستحيل، وعلاقة الحب المتصاعدة بسرعة وجنون، بالإضافة إلى الابتكارات والتجهيزات العصرية التي حوّلت المسرح إلى محطة مترو صوتا وصورة.
يمتلك عرض “مترو” رؤية وأفقا وصيغا فنية مشغولة في قالب فلسفي، ولعل أكثر ما يميزه شجاعة الحلم بواقع مختلف، كما تقول إحدى أغنياته “عالم شكله سعيد، مبسوط وجديد”.
0 التعليقات:
إرسال تعليق