عتبات الانعتاق في العرض الأدائي "جفون"
مجلة الفنون المسرحية
دمشق- سوزان المحمود
" إلى أولئك الذين أمامها يراوحون وأمامها يعقدون آمالهم وأمامها ينتظرون، إلى أولئك الذين يصدمون بها أنوفهم، إلى أولئك الذين لا يزالون يبحثون عن أبواب المدن، إلى المتأخرين، إلى أولئك الذين كفّوا عن فتح أبوابهم، إلى الكرماء الذين يبقونها مفتوحة على مصرعيها، إلى تلك الأبواب التي اجتزنا عتباتها، إلى تلك التي تنتظرنا...... باسكال ديبيٍ" من بروشور العرض
يدلف الزائر من سوق ساروجة إلى داخل قصر العابد الأثري القديم مجتازا ممرا يقطع أكثر من بيت قديم. القصر في حالة يرثى لها إذ يحتاج إلى عملية ترميم كبيرة ليستعيد ألقه، يجد الزائر نفسه وسط فسحة سماوية كبيرة هي باحة القصر المهملة والتي تظللها بعض أشجار الليمون
. ادخلتنا صبية من فريق العمل أولاً إلى غرفة عرض Installation Art "التجهيز في الفراغ "، حيث واجه الجمهور مجموعة متنوعة من الأبواب الصغيرة المعتقة والمعلقة بارتفاعات مختلفة، أبواب متعددة الأشكال منها ما يشبه أبواب القصور القديمة، ومنها ما يشبه أبواب المدن، ومنها مايشبه أبواب القلاع وأخرى تشبه أبواب البيوت العربية القديمة جدا، أبواب بسيطة أو فخمة، قدمت لنا الصبية سلة صغيرة فيها مجموعة من المفاتيح، وقالت: عليكم أن تجربوا المفتاح لأي الأبواب سيفتح، أخذت مفتاحاً وبدأت أجربه في أقفال الأبواب الصغيرة المعلقة واحداً تلو الآخر إلى أن فتح لي أحدها ووجدت خلفه عبارة صدمتني "أغلق الباب بهدوء من فضلك"، حزنت وأعدت التجربة على أبواب أخرى. لا أدري عن ماذا كنت أبحث ربما عن نافذة أو عن بابٍ مفتوحٍ على فضاءٍ ما، قالت لي الصبية الجميلة المفتاح يفتح باباً واحداً فقط، هنا اكتفيت وأخذت أراقب حظوظ الآخرين، الآخرون كان حظهم أوفر أحدهم وجد خلف بابه صورة مجموعة من النساء الجميلات من الخمسينات، و صديقة أخرى وجدت صورة لصدفة البحر، وأخرى وجدت مرآة، وآخر وجد لصاقة، وآخر وجد نظارة قطعة انتيكا قديمة، وأخرى وجدت مقصاً، و آخر وجد ضوءاً وهلم جرى ...، الأبواب وما تمرره لنا ... أبواب عن الزمن عن حقب بعينها، أو عن زمن آخر عُبِر عنه بأدوات شخصية أصبحت قطع انتيكا مهملة، و أبواب عن أشياء صغيرة تعكس صورتنا وأحياناً أحلامنا، كلها معلقة بانتظارنا حيث ستدخلنا الأبواب إلى عوالم وأزمنة أخرى ...
انتقلت بنا الصبية إلى قاعة أخرى يعرض فيها فيلم وثائقي عن المدينة والأبواب، يتحدث بعض الأشخاص من جيلين، جيل كبير في السن يمثل الأجداد وجيل صغير في السن يمثل الأحفاد أو جيل الشباب، يتحدثون عما يعنيه لهم البيت القديم الذي يقطنون فيه تحدثت إحدى السيدات الكبيرات في السن من المالكين لبيت من هذه البيوت العربية الكبيرة القديمة عن شعورها بالوحدة بعد أن سافر أولادها وعن رغبتها باستبدال بيتها ببيت أصغر مع أنها تحب بيتها القديم جدا لِمَ فيه من حميمية كبيرة وذكريات سعيدة ومؤلمة بالوقت ذاته، ثم تحدث رجل كبير في السن عما يعنيه له بيته القديم وعن الأبواب المفتوحة والمغلقة وعن الأسرارالتي تختبئ خلف أبواب البيوت والمدن وعن الدفء والشعور بالألفة، ثم تحدث أحد الشبان الذي يرنو للسفر والذي لا يعني له المكان شيئاً حقيقياً بل الأشخاص فيقول أن تعلقه كان دائما بالناس وليس بالأمكنة، الأمكنة لا تعني له شيئاً، إنه يبحث عن باب للخروج.
ثم نشاهد صبية تعبر الأزقة القديمة على دراجتها الهوائية وهي طالبة موسيقى تحدثت عن حلمها الذي تحقق متأخراً بدراسة الموسيقى وعن غربتها عن أهلها ورغبتها بتحقيق ذاتها. صور الفيلم الوثائقي حياة أربعة اشخاص انتقل من الجيل الأكبر إلى الجيل الأصغر بحركة كاميرا سريعة قلبت الشارع رأساً على عقب اختلفت الأفكار والطموحات بينما كان الجيل الأكبر يتحدث عن الذكريات والحميمة وروح المدينة القديمة تحدث الشباب عن رغبتهم بالعبور والتجاوز وتحقيق الأحلام بدون الارتباط بمكان معين، ركزت الكاميرا على الأفواه في نهاية حديث كل شخصية فالفم باب أيضاً تعبر منه الأفكار والمكنونات الشخصية.
ثم انتقل بنا فريق العمل من الفسحة المفتوحة على السماء ونزل بنا إلى مكان مغلق ورطب، وهو أحد أقبية البيت الأثري العتيقة تحت الأرض، وهناك كان العرض الأدائي الحركي حيث وضعت بعض المقاعد الخشبية، وصنعت خشبة مسرح لايمكن تمييزها عن أرض القبو الرطبة، وبدأ العرض الصامت للممثلتين أنجيلا الدبس ورنا كرم، وقامتا بأداء العرض مع بعض الإضاءة الخافتة و المؤثرات الصوتية الخفيفة التي كانت توحي أحيانا مع حركة الأقدام بوجود سلاسل و مفاصل أبواب تتحرك بهدوء، كان اختيار المكان موفقاً فبدا كسجن أو كزنزانة قديمة متهالكة من القرون الوسطى أكلت الرطوبة جدرانها أو كرحم مظلمة والشخصيتان تحاولان الانعتاق منه وتلمس النور بشق الأنفس.
قدمت الممثلتان عرضاً جيداً، هذا هو العرض الأول لرنا كرم كإخرج وكأداء حركي، أما أنجيلا الدبس فلها عدة أعمال سابقة قدمت تكنيكاً أدائيا جيداً، حاولت الممثلتان ابتكار وسائل تعبير جسدية ، التعبير عن التمرد وعن الألم والتوتر وعن تحمل المعاناة وعن المساندة وفتح الأبواب المغلقة واكتشاف المحيط باستراق النظر خارجاً ثم الانطواء داخل الجسد من جديد، وعن التفاعل وإشكالية العلاقة بين الأنا والأنا من جهة وبين الأنا والآخر من جهة أخرى. فالمسرح الحركي هنا يوحي أكثر مما يقدم شيئاً مباشراً للجمهور يدخله معه بانفعالاته وحسيته يشاركه ألمه دون أن ينطق بكلمة فكلمته هي الايحاء الصادر عن جسدِ الممثلتين وحركتهما التي تستوعب الجمهور بفضائهما، حيث كان عليهما أن تبقيا الجمهور مشدوداً إلى أطرافهما طوال دقائق العرض وقد نجحتا في ذلك، فهذا النوع من الأداء بحاجة إلى تكنيك جسدي عالي وقدرة تعبيرية كبيرة. قُدِمَ العمل بحب وشغف وصل للجمهور، كما أن اختيار المكان كان موفقاً والسينوغرافيا بكل عناصرها هنا تمكنت من تأسيس فضاء مناسب للعرض من عرض Installation Artأولاً إلى عرض الأداء الحركي أخيراً من الخشبة التي صممت لتقارب أرض القبو الرطب للجدران للإضاءة و للمؤثرات الصوتية الموحية كل شيء قدم ليدعم الأداء الحي المباشر للممثلتين القريبتين من الجمهور .
ما بين العرض المادي للأبواب "العرض التجهيزي" وبين العرض الصوري في الفيلم الوثائقي وبين عرض الأداء الحركي، حاولت رنا كرم أن تقدم عرضاً مركباً ومختلفاً وجديداً يصب في مفهوم الأبواب ودلالاتها المادية والمعنوية، وربما عنوان العمل "جفون" هنا تصور لأبواب النفس، فالعيون هي إحدى الممرات السرية إلى داخل النفس البشرية، ومرآة للفكرالإنساني والجفون أبواب استقصاء العيون للخارج، وأبواب للعالم وللكون نحو الداخل الإنساني . وربما كانت الأبواب كلها هنا الوجه الآخر للحصار المفروض على الإنسان السوري داخل وطنه وخارجه، السوري والسورية الذين يواجهان الجدران الصماء أينما التفتا.
عرض "جفون" إخراج رنا كرم، أداء: أنجيلا الدبس – رنا كرم، تعاون فني: ميار ألكسان، سينوغرافيا: غيث المحمود، إضاءة: طاهر سلوم-المنتجب عيسى، الفيلم الوثائقي: علاء أبو فراج- سامر زعرور، موسيقى: ناريك عبجيان، متابعة حركية: حور ملص، تصميم البوستر والبرشور: علاء أبو شاهين، صوت: نضال قسطون-الياس الأمير- رفعت عبود، فريق السينوغرافيا: يمنى قاشه- نور صالح-أحمد العلبي- هادي شيرازي، تنفيذ:مفيد حربا- زياد مورينا، فريق التنظيم: رهف الجابر - سارة المنعم، أحمد جمعة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق