عرض مسرحية " الخوف "لجليلة بكار والفاضل الجعايبي في المهرجان الدولي لمسرح متعدد الثقافات المعاصر
مجلة الفنون المسرحية
د. عبد الفتاح مرتضى البصري :
في إفتتاح المهرجان الدولي لمسرح متعدد الثقافات المعاصرفي مدينة كتشنر الكندية IMPACT 19 للفترة من 24 – 29 ايلول\سبتمبر 2019، قدّم 50 عرضاً مسرحياً في خمسة ايام موزعة على عروض عالمية ووطنية ومحلية، وبأساليب وافكار ورؤى مختلفة ومتنوعة ، جعلت من هذا المهرجان شعلة وضّاءة لهذه المدينة الصغيرة التي تتنشق الهواء من خلال هذا المهرجان. توزعت عروض المهرجان لكل من تونس وايران والاكوادور والمكسيك وتشيلي (عالميا) ، وكيبيك – مونتريال وتورونتو (وطنيا) وواترلوو وكتشنر ( محليا) إضافة ل (Six Nation) .. وتضمن المهرجان ثلاث جلسات نهارية لمناقشة واقع العروض والمهرجان وآخر التقنيات المسرحية او التي توظف للعروض المسرحية...الخ.
اثناء حفل الافتتاح وبسبب الضغوطات الهائلة التي وقعت على كتفي ( مجدي بو مطر) مؤسس ومدير هذا المهرجان منذ إنطلاقه عام 2009 وحتى الآن، وحرمان المهرجان من المنحة المالية التي كانت تمنح في المهرجانات السابقة والتي سببت ضغطا هائلا للعاملين في المؤسسة التي تدير المهرجان( MT SPACE ) وألأكثر منه زيادة إستضافة عروض مسرحية عالمية مما سبب ضائقة مالية كبيرة جدا ادت الى إلغاء عروض مسرحية عالمية ومحلية ، إضافة للإشكاليات الفنية التي حصلت وبشكل خاص للعرض المسرحي التونسي( الخوف) مما حدا بمؤسس هذا المهرجان ومديره( بو مطر) الى تقديم إعتذاره للجعايبي وإعلان قرار إعتزاله لهذا المنصب.
كانت هذه ألإشكاليات التي وقعت في اليوم الاول جعلت العرض المسرحي الإفتتاحي للمهرجان( الخوف) من تونس يؤجل لليوم الثاني من المهرجان.
ومسرحية" الخوف "
سيناريو جليلة بكار والفاضل الجعايبي ، إضاءة وإخراج الفاضل الجعايبي.
مجموعة كشفية ( كشافة) بأعمار صغيرة( جيل المستقبل!!) يقودهم كبار السن( قدماء – الجيل الذي سينمحي!!) في مخيم للكشافة، يواجهون عاصفة رملية صحراوية التي تغزو البلاد والعباد وتدفنهم تحت كثبانها الرملية ( داعش وتفرعاتها!!)، يتيه معظم الكشافة طريقهم بسبب العاصفة لكنهم يصلون الى مبنى(مكان) مقفر وقديم ومهجوركأن يكون مستشفى او فندقا، فيقرروا ألإحتماء به لحين هدوء العاصفة. ينجو معظم اعضاء المجموعة الكشفية عدا إثنان منهما حينما قررا المغامرة ( المغامرة وعمر الشباب) للعودة لمدينتهم بعد ان يكتشفوا الطريق الذي يوصلهم والمغطى بالرمال، لكن فيما بعد يعود احدهما دون ألآخر الذي تاه واحتوته العاصفة ولم يعد له وجود.
ثم تتوالى الأحداث وتحصل مشادات كلامية حول من يقود المجموعة بعد ان اضاعوا طريقهم بسبب تعنت القدماء وتمسكهم بالقيادة لخبرتهم بذلك مقارنة بالجيل الشاب ، هذا الصراع القيادي والعاصفة الرملية الصحراوية التي تتوقف برهة لتعود من جديد مهددة إياهم بالفناء وإنعدام الرؤية للعودة الى ديارهم ونفاد المأكل والمشرب والخوف من مصير مجهول ، حيث لا المكان الذي وجدوه يحميهم شرّ العاصفة الرملية ولا توقفها تماماً لكي تعطيهم الأمل بالعودة لديارهم، وهاهم بين نارين خصوصا بعد نفاد الطعام والماء وبرد الليالي القارس الذي لا يرحم ، وخوفهم من المصير المجهول الذي ينتظرهم في الخارج ، فكانت مطاليب الشباب الكشفي بتجاوز مرحلة الجوع والعطش والبرد والقفز الى المطالبة بحقهم في الحياة من ممارسة حرية التعبير دون رقيب والى تحقيق حالة الامن والقضاء على مظاهر الفقر والتوزيع العادل للثروات وغيرها ، حيث اصبحت جدران المبنى الذي يحتمون به وكأنه حدود الوطن الحاضر الغائب الذي تعرّض الى هجمة صفراء مصدرها الصحراء برياح هوجاء لا ترحم ليسكت اي صوت يطالب بالتغيير الذي لم يستقر بعد . ومن هنا بدأت التمزقات المجتمعية التي جعلت الصراع يتجه لا صوب ايقاف العاصفة بل تجاه ابناء الوطن الواحد فيما بينهم، ففي المواقف الصعبة والقاسية والمصيرية ، يكشف الإنسان عن معدنه، إذ لا مناص من المواجهة والعودة لوحشية الإنسان وتسيّد قانون الغاب ( السلطة للأقوى) وليس ( للأصلح!!) !.
وهنا بدأت مطالبات الشباب بالتنازل رويداً رويدا بسبب الخوف من الجوع والعطش والمصير المجهول وبدا ان طموحات المجموعة الكشفية تتراجع شيئاً فشيئاً الى نقطة واحدة فقط هو ( سد الرمق)!!!
العرض الرؤيوي للجعايبي
لم يستخدم الجعايبي ديكورا بالمعنى التقليدي ، كل ما إستخدمه هو عبارة عن جدران في جانبي الخشبة( يميناً وشمالاً) فيهما فتحة علوية كبيرة وجدار متوسط الحجم في اعلى العمق يغطي فتحة في الجدار الثالث الموجود في اعلى العمق للخشبة، وقد إستغل الجعايبي لهذا الجزء للجدار الصغير لعرض حالات كثيرة اهمها كان في رسم دائرة بتكرار وتاكيد كبيرين عليها وكأنه يريد ان يقول ان ( كل ما فعلتم انكم ستدورون وتدورون في فلك دائري لتعودوا لنقطة البدء وكأنكم لم تفعلوا شيئا)!!!
فقرار التغيير السلطوي من الشعب وان نجح في البداية الاّ ان القوى الظلامية لابد وان تجيّرها لصالحها فإن لم يكن قانونيا فسيكون بالإكراه او بالتحايل بإسم العدالة والتقاليد والحرية والقدسية ... الخ من مصطلحات جاهزة للقضاء على مشروعية التغيير نحو الافضل وجعله يتغير نحو ألأسوأ، كما حصل في العراق وسوريا وليبيا والى حد ما في مصر، وبقيت تونس حتى الأن تصارع وتقاوم بكل جرأة قوى الظلام هذه لكن، من يعلم الى اي مدى .....!!
في تصورنا لعروض من هذا النوع فهو لا يحتاج لديكورات ثقيلة وضخمة ..الخ التي تؤدي الى تحسس الثقل كما لو انه جاثم على صدورنا نحن المتلقون للعرض الرؤيوي. هذه العروض تعتمد ألإضاءة وجسد الممثل- اللاعب على الخشبة كقطع ديكورية اساسية من خلال تشكيلات سريعة متحركة تولد وتموت في فضاء مفتوح لتولد تشكيلات وعلامات اخرى دالة على عمق الفعل الحيوي لذروة المشهد المحكي..والجعايبي غني عن التعريف بأسلوبه الرؤيوي وهو يعتمد ( الفرجة والصدمة) في عروضه المسرحية عموما..
ان الخوف من المصير المجهول للاعبي هذا العرض كشف ايضا عن حقيقة قد تكون غائبة عن اذهاننا وهي ان الانسان - كحيوان عاقل – يتحول الى وحش كاسر في لحظة يختارها هو لنفسه في حال توفر الظرف المناسب لإنطلاق الوحش الذي بداخله ، وهذا الظرف هو بالتاكيد مفروض عليه خارجيا وعليه ان يقرر اما ان يكون انسانا سويا او وحش هادم للحياة!! وهذا ما حصل في هذا العرض حينما إنعدمت فرص النجاة والأمل بالخلاص من المحنة التي وصل اليها هؤلاء الكشافة فتحول البعض الى وحش كاسر ( آكل للحم البشري مغتصب لعذرية الانسان ويقتل لكي ياكل ويحطم كل ماهو حضاري وتاريخي وجمالي الى كل ماهو سوداوي مظلم وعقل متحجر مسلوب الارادة تابع ذليل لقائد اكثر منه وحشية وتحجرا..وهكذا دواليك!!!)
استفاد الجعايبي من هذه الاحداث ليقدم عرضا جماليا قاسيا سواء بحركة لاعبيه وتشكيلاته الابداعية في الفضاء المسرحي( السينوغراف) او في تكويناته التصويرية المتعددة للمشاهد المتتابعة والتي توضحت في مشهدي العقاب العادل لمغتصبي الانسانية وقيادة مسيرة الحياة المستقبلية من الشباب الباحثين عن الحرية والعدالة والمساواة.
عمل الجعايبي على عدة مستويات مختلفة ومتنوعة عززها بالاضاءة التي وإن كانت فقيرة(تقنيا) لكنها كانت عاملا مهما لإضفاء الفعل الدلالي لمشاهد العرض المسرحي. ان عروض المسرح الرؤيوي – كما ذكرنا سابقا – تعتمد الضوء والصوت وجسد اللاعب لإنتاج الفعل الدلالي المؤثر، ذلك ان المؤثر الصوري له فعل اقوى واسرع من الفعل الصائت، وهذا ما جعل الاولون يعتمدون اللغة الشعرية لبلاغة وقوة الشعر في كتاباتهم النصية الدرامية، واعتمد المحدثون النثر لإنسيابيته وسهولة ايصال المعاني لجمهور شعبي واسع وليس جمهور الصالات الخاصة، ومن ثم لغة الجسد المعاصرة التي اعتمدت الصورة كونها المؤثر الاكبر والاسرع في العرض المسرحي..وفي عرض (الخوف) للجعايبي نرى انه استخدم هذا الاسلوب (الصوري) لإيصال المتلقي لحالة الصدمة وهو ما نجح الجعايبي وعرضه ( الخوف) في ذلك.
كانت المؤثرات الصوتية التي استخدمها الجعايبي في عرض ( الخوف ) منسجمة تماما مع ألأحداث رغم اننا تحسسنا في مشهد الإستهلال ومابعده من بطء ايقاعي ذا زمن طويل نسبيا مما ادى الى النفور رغم ان العرض تجاوز هذا الخلل فيما بعد وبدا ان ألإشكالات الفنية والادارية التي حصلت وتأجيل العرض لليوم الثاني وقلة التقنيات الضوئية ...الخ كانت جميعا السبب في حصول هذا الترهل والبطء ، لكن بشكل عام ورغم هذه الهفوة الصغيرة فان عرض( الخوف) كان ناجحا ومؤثرا ومذكّراً للذي حدث في تونس وباقي الدول العربية ، وبدا ان الوقوف بوجه التيار لا يعني الخسارة كما انه لا يعني الفوز ايضا..
تحية لقائدي ( الخوف) جليلة بكار والفاضل الجعايبي ومجموعة اللاعبين الذين اتحفونا بعرض اقل مانقول عنه عرض متميز لمبدعين متميزين
0 التعليقات:
إرسال تعليق