أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الجمعة، 18 سبتمبر 2020

الطليعة في المسرح / سعاد خليل

مجلة الفنون المسرحية


 الطليعة في المسرح / سعاد خليل

ان اغتصاب الخيال من مجتمع ما ، هو رهان مؤكد علي ياس وضياع وخضوع هذا المجتمع ، فالخيال قوة مجيء المستقبل ، وحرية الخيال هي الضمان الحقيقي لقدرة مجابهة المجتمع لكل قوي التزمت  والقهر  طاقة  حمايته من الوهن .
والفنون عموما وعبر مسيرة تطورها هي مشروع تمرد الانسان في مواجهة الانحطاط ، كما انها هي التي تمنحه امكانية صياغة اماله ومخاوفه ، باعتمادها علي الخيال : مملكة التصورات التي تعد الشرف الشعري للإنسان.
                             الدكتور فوزي فهمي

منذ زمن بعيد جاء هرقليطس بمفهومه الفلسفي الذي يقول : ان كل شيء موجود وغير موجود ايضا ، لان كل شيء يجري، كل شيء في تغير مستمر، في صيرورة وانتهاء دائمين ..
والانسان باعتباره كائنا ذا عقل يكون في تجديد مستمر وبحث دائم عما يمكن ان يفتح امامه طريقا اخر لمعرفة اسرار الحياة والوجود ذلك لأنه في عالم الصيرورة لا في عالم جامد ، وعليه فان معرفة الانسان تتطور باستمرار وتتبدل ، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ يكون الانسان متجددا، أي يعتبر ان معرفته ناقصة ولم تكتمل ، ولهذا فهو دائم البحث عن التجديد والابتكار .
المسرح ايضا دائم في البحث والتجديد والتجريب واستحداث المدارس الفنية المختلفة التي كانت تعبر عن روح العصر اينما  وجدت والتي تعتبر تطور تاريخي في ارضية  الفن  ومفاهيمه المسرحية . ان الفن وحسب التعريف الفلسفي له فهو ليس مجرد مظهر للحياة بل هو عامل يؤثر فيها  لأنه يشكل بنية فوقية ترتبط ارتباطا بالحياة الاجتماعية  والاقتصادية التي يعيشها المجتمع فهو يعبر عن مفهوم للعالم لكل الطبقات ..وفي التعريف الفلسفي للطليعة ، فهي مصطلح ادبي يتمثل في الخروج عن حدود المعيار الاجتماعي وخصوصا في المسرح فهو يشير الي الاعمال التجريبية او المتجددة.
.لقد تناولت العديد من المقالات عن المسرح الطليعي لعدد من الكتاب وكانت اغلب مرجعياتهم الي كتاب المسرح الطليعي ( تأليف كريتوفر انيز والذي ترجمه سامح شكري وصدر عن اكاديمية الفنون ويضم 490 صفحة  بكل الشروحات والاستدلالات بدراسة دقيقة عن الاعمال المسرحية للعيد من الكتاب والمخرجين الذين قدموا اعمالا لها الطابع الطليعي . وفي هذا المقال سأستعين انا ايضا بهذا الكتاب كمرجع لهذا المقال .
في مقدمة هذا الكتاب المسرح الطليعي يعرف المؤلف هذا المصطلح بقوله : انه مصطلح الطليعة Avant Garde اصبح مصطلحا له حضوره الواسع حتي انه بات يلصف وبشكل انتقائي باي نمط من انماط الفن يناقض ما هو تقليدي من حيث الشكل ، وفي ابسط معانيه  يؤخذ المصطلح احيانا باعتباره وصفا لما هو جديد في زمن ما،، وذلك الجديد الذي يمثل ابعد حد يمكن ان تصل اليه التجربة الفنية ، وهو الحد الذي يصبح موضع تقادم باستمرار بالنسبة الي الخطوة التالية المجاوزة له . الا ان مصطلح الطليعة ليس مصطلحا حياديا من الوجهة القيمية كما يوحي الاستخدام السابق بذلك ، فهو بالنسبة للنقاد الماركسيين من امثال جورج لوكاش اصبح مرادفا لذلك الانحطاط الذي يعد عرضا ثقافيا لحالة الخمود التي يتمخض عنها المجتمع البرجوازي .
والطليعة بالنسبة للمدافعين عنها والمتبنيين لها هي الضرورة الحتمية في كل فنون عصرنا ، ذلك ان العبقرية الحديثة هي عبقرية طليعية في جوهرها .
وترجع هذه التسمية وهي استعارها باكونين من مصطلح عسري وجعلها عنوانا لجريدة لم تستمر طويلا وكانت هذه الجريدة تتميز بنزعة فوضوية معادية للحكومة  والتي كان ينشرها في سوسيرا عام 1878،  ان مصطلح طليعة لم يستخدم كإشارة الي الفن الا من قبل مريدي باكونين وتلاميذه  الذين كانوا من خلال تثويرهم  لجماليات  الابداع فكان هدفهم طرح تصور مسبق لثورة اجتماعية .
يوضح هذا الكتاب القيم ان الفن الطليعي مازال يتسم باقترانه بتوجه سياسي راديكالي ، واذا كان الفن الطليعي يستشرف مستقبلا ثوريا فقد كان بالدرجة ذاتها يقف موقف العداء من التقاليد الفنية سواء ارتبطت هذه التقاليد بالأجيال  السابقة او ارتبطت بالحضارة المعاصرة ذاتها ، ان توجهات الفن الطليعي باعتبارها جميعا كلا كبيرا تبدو من الخارج وكأنها اجتمعت  علي   رفض المؤسسات الاجتماعية والمواضعات الفنية الراسخة والوقوف موقف العداء من العامة ( باعتبارهم ممثلين للنظام القائم ) .
ورغم ذلك فبعض الجماعات الفنية الصغيرة المنعزلة بل المعادية لبعضها البعض قد تتبني برامج وتوجهات ايجابية .
وهكذا نجد ان الفن الحديث يتصف بالتجزؤ والتشيع ويلازمه اصدار البيانات جنبا الي جنب مع العمل الابداعي والفن  الحديث هكذا انما يعبر عن ذلك التعقد الشديد الذي يتصف به المجتمع بعد الصناعي وذلك من خلال مجموعة متعددة من الحركات  الفنية سماتها الدينامية واللاثبات وتبني مقولات وتجريدات فلسفية وهكذا تعددت المصطلحات والتوجهات التي تعبر عن هذه الحركات ما بين رمزية ومستقبلية وتعبيرية وشكلانية وسريالية .
ولعل ما يحدد ملامح هذه الحركة الطليعية وهو امر يتسم بالمفارقة ليس السمات العصرية الواضحة المتمثلة في النزعة التكنولوجية التي سات في العشرينيات ثلا وكان من نتاجها مفاهيم وافكار مثال الحلات الحلمية ومستويات القل الباطن والغريزة الخاصة بالنفس البشرية وكذلك التركيز علي الأسطورة والسحر بشكل شبه ديني وهو الامر الذي ادي في المسرح الي التجريب علي الطقس والصياغة الطقوسية للعرض المسرحي ، ويتواشج هذان الجانبان ليس فقط من خلال هذا المفهوم الذي وضعه يونغ والذي يري فيه ان كل اشكال الاسطورة تتواجد في اللاوعي كتعبيرات عن انماط نفسية اصلية وانما يتواشج هذان الجانبان ايضا من خلال تلك الفكرة القائلة بان التفكير الرمزي الذي يقوم علي خلق الاسطورة انما يتقدم علي كل من اللغة ولتفكير الاستطرادي باعتبار انه يكشف عن جوانب جوهرية في الواقع يصعب الاحاطة بها من خلال اية طريقة اخري .ان هذان الجانبان يمثلان صياغتين مختلفتين للهدف ذاته الا وهو العودة الي جذور الانسان سواء كان من خلال النفس البشرية ذاتها او عبر مرحلة ما قبل التاريخ وينعكس هدا علي المسرح بالعودة الي الاشكال الاصلية مثل الطقوس الديونيسية في اليونان القديمة والعروض الشامانية  والدراما الراقصة الخاصة بجزر البالي .
ولكم ما تتميز به الدراما الطليعية جنبا الي جنب  مع نزوعها الي ضد المادية والي بوليطيقا ثورية هو تطلعا الي ما هو مفارق والي الروحي بالمعني الواسع ، وفي هذا السياق يبدو لنا زعم انطونين ارتو بما اسماه بالمسرح المقدس وهو زعم تلقفه بعده العديد من فناني الطليعة ، ان اخرهم موراي شافر امرا كاشفا . كذلك يري علماء  الانثروبولوجيا وعلماء الاعراق اننا دائما  بإمكاننا ان   نري ونتلمس ذلك العنصر البدائي خلال منظومة الثقافة الغربية المعاصرة ، الفنانون المبدعون وحدهم هم الذين يعيدون تأويل هذه النماذج الاولية ويوظفونها لأغراض مغايرة لطبيعة الثقافة الاصلية ولكن هذا الاهتمام يعتبر بدائي في الثقافية الغربية من جانب الدراما الطليعية فهو اكثر من مجرد افتتان مظهري بما هو مستغرب او ما هو همجي، فالنزعة البدائية في الدراما الطليعية كما تدلنا علي ذلك مصطلحات من قبيل “المعمل المسرحي والتي ذاع صيتها في الستينات والسبعينيات تتواشج مع تجريب جمالي يهدف الي الاستبقاء بالتقدم التقني  للفن المسرحي . وهكذا نجد ظهور النزعات البدائية وكذلك نظريات نقدية من قبيل نظرية الأدب الكرنفالي لميخائيل باختين والتي تقترح اشكالا فنية تجسد ما هو فوضوي  وايضا تجسد الثورية الكامنة في احتفالات الحصاد الخاصة بالزراعة عند قدماء الرومان والكرنفالات الشعبية في العصور الوسطي وهذه الاشكال الفنية تعد جميعا بمثابة بدليل للنماذج  الجمالية الثابتة والمحدود في الوقت الحاضر  كل هذه المظاهر البدائية  والتي كانت تشمل التقنيات الطقوسية والتراث الشرقي القديم والمهجور والحالات الحلمية والصور السريالية او محاولة استشارة العقل الباطن لدي المتلقي حتي ان حدود المسرح الطليعي اصبحت غائمة ومن ثم فمن الصعوبة تحديد حركة المسرح الطليعي جزيئا
يقول كريستوفر اينز في كتابه ان عناصر الفن الطليعي ظهرت في نماذج من المسرح التجريبي فنجد ان بعض تعليقات و.ب. ييتس تعكس بشكل تام ذات توجهات هذا الفن ، فهو يقول لقد طالما شعرت ان اعمالي ليست بالدراما ولكنها طقس  ، انها درما تعبر بشكل مباشر عن تهويمات النفس ، عن حديث الروح مع ذاتها ، كما ان بيتس اخذ عن المسرح الياباني النو استخدامه لعناصر السحر والحركة ذات الصياغة الطقوسية التي تعد كلها من العناصر المميزة للفن الطليعي وكذلك نزعته الصوفية لها ما يماثلها من سمات هذا الفن
تعد  بعض الاعمال لصمويل  بيكيت في استخدامها للرمزية والسيكودراما علي صلة بالفن الطليعي كما يتبدى لنا ذلك في تجريد بيكيت مسرحه من كل تعبير مستهلك رغبة منه في خلق صورا اختزالية .
ان  التيار الرئيسي  في المسرح الطليعي لا يمكن تحديده بمجرد وجود سمات اسلوبية مشتركة وان كانت هذه السمات شديدة الوضوح انما يعد المسرح الطليعي في اساسه توجها فلسفيا فأعضاء هذا المسرح يربطهم توجه معين ازاء المجتمع الغربي ، كما يربطهم توجه جمالي خاص ، ورغبة في اعادة صياغة طبيعة العرض المسرحي ، وهذا كله انما يشكل ايديولوجيات متميزة يتسم بها المسرح الطليعي ، ومن ثم فانه علي الرغم من وجود مشابهات  اسلوبية بين اعمال كاتب رمزي مثل بيتس و اخر وجودي مثل بيكيت وبين كتاب سرياليين مثل كوكتو وبريتون اوعبثي مثل اداموف وكاتب دي نزعة جينية مثل ت س اليرت علي الرغم من هذه المشابهات فان جوهر فن هؤلاء جميعا انما يتناقض في اساسه عن النزعة البدائية الفوضوية والبوليطيقا الراديكالية للمسرح الطليعي .
ان الحركة الطليعية في المسرح نجحت من خلال شيبارد ومنوشكين وويلسون في التعامل مع المسرح التقليدي الرسمي ، وجعل المبادي الطليعية القوة الدافعة وراء  مسرح التيار السائد المعاصر ، فخلال السبعينيات والثمانينيات اصبحت النزعة البدائية ايضا تشكل جانبا من جوانب الثقافة المسرحية بوجه عام وعليه احرزت انتشارا استثنائيا من خلال تجارب المجددين التي عبر عنها العديد من الفرق المختلفة .واختصارا لكتاب يضم  الصفحات التي تجاوزت الاربعمائة وتسعون صفحة كما نوهت في البداية:  هي دراسات وابحاث تضم اسماء وفرق مسرحية منذ تأسيسها ومنهجها وعروضها حاولت ان اختصر القليل جدا عن المسرح الطليعي والكشف عن الصيغ الطليعية الثلاث التي اتخذتها الفرق الصغيرة ذات الطباع الانتقالي من خلال ثلاثة امثلة لفرق مسرحية تتشابه في توجهها وهدفها مع كل الفرق المسرحية الأخرى التي ظهرت علي مدار العقود السابقة وهذه الفرق الثلاث التي اخترناها هو توجهها المتطرق الذي يبرز السمات المختلفة فيها. فالفرق الاولي التي تعبر عن التوجه الطليعي هي فرقة الاله المتوحش لجون جولياني التي زعمت انها تمثل هذا الاتجاه المسرحي الذي يمجد المشاركة ويعلي من الظاهرة المسرحية باعتبارها عملية وذلك عوضا عن الملاحظة السلبية ويعلي من الظاهرة المسرحية باعتبارها عملية ،عوضا عن الملاحظة السلبية والنظر الي الظاهرية المسرحية باعتبارها منتج نهائي ، اما التوجه الطليعي الثاني فنجده في اعمال رالف اوتيز والتي تتميز بصياغة مبادي ارتو ، اما النزعة الغرائبية التي تنطوي عليها اعمال فرقة أوبرا كومباني فهي تمثل التوجه الطليعي الثالث.
باختصار ان حركة الطليعة برزت اثناء الحرب كونها نوع وتغيير من التجريب وهي كما ذكرنا تتعارض مع ممع لسياسات الاجتماعية المتقلبة فهي مرتبطة بأدائها ورافضة المألوف والتقليدي  ، ولها القدرة علي تفعيل الفرجة الممتعة وتقديم النصوص بشكل يغوص في عمق فكرتها ، أي هي مسرحا متمردا ورافضا .
كتاب المسرح الطليعي : تاليف كريستوفر اينز ترجمة سامح فكري/أكاديمية الثنون
----------------------------------
المصدر : رأي اليوم 

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption