"عيلة الفقري".. جرعات من الكوميديا الراقية تدور أحداثها في يوم واحد عرض مسرحي مصري يعالج الخرافات الشعبية بالسخرية
مجلة الفنون المسرحيةلم تخذل كوميديا الموقف يوما صانعيها، فقرنت الكثير من أسمائهم بالخلود الفني، وسهّلت على أبطالها معالجة قضايا اجتماعية شتى، عكس الكوميديا التي تعتمد على النكتة، فأساسها هش يقوّض سريعا ويمّحي من ذاكرة الفن إلى الأبد. وإلى الصنف الأول تنتمي المسرحية المصرية “عيلة الفقري” التي تعرض حاليا على خشبة المسرح العائم بمنطقة المنيل في وسط القاهرة.
من خلال كوميديا الموقف تطرح مسرحية “عيلة الفقري” قضية غاية في الأهمية، وهي الخرافات التي يؤمن بها البعض في قراءة الطالع وأبراج الحظ، والتشاؤم والتفاؤل في حياة البعض عند مطالعة البرج الذي ينتمي إليه، إما بمطالعة الصحف اليومية التي تنشر الأبراج، أو بالتواصل مع الفلكيين والدجالين، ومن يزعمون الاطلاع على الغيب.
تبدأ المسرحية عندما تستيقظ الزوجة وربة أسرة عائلة سمعان الفقري (سعيدة) على خبر حزين، وهو أن برجها الذي تنتمي إليه، الأسد، دخل في مدار كوكب زحل، ما ينذر على حد تعبير خبراء الأبراج بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأن الكثير من المصائب سوف تقع فوق رؤوس عائلتها، وظلت طوال مدة عرض المسرحية في حالة تشاؤم وانتظار خبر حزين لها ولأفراد أسرتها المكونة من الأب سمعان، والأبناء هند وكريم وسامي.
برج الحظ
من منظور التفاؤل والتشاؤم والإيمان بالحظ والتعاسة عزفت المسرحية على فكرة مستهلكة رأيناها في أكثر من عمل فني، أشهرها المسلسل المصري الكوميدي القديم “برج الحظ” بطولة الفنان الراحل محمد عوض، إنتاج عام 1978، وتحدث عن (شرارة) وهو شخص سيء الحظ وينتمي إلى برج العقرب.
تناولت المسرحية الفكرة برؤية جديدة من خلال الأم التي ترهن حياتها بالأبراج، وهو ما يسخر منه الزوج (سمعان الفقري) ومن هنا تتفجّر عدة مواقف كوميدية تنشر الدفء في المسرح المطل على نيل القاهرة.
مع إيمان الزوجة التام بالأبراج ورفض الزوج الفكرة تماما يظهر التضاد مواقف كوميدية قوامها خفة دم الفنانة فاطمة الكاشف، والفنان محمد الصاوي، مدعومة باستخدام مقام الصبا الشهير بنغماته الحزينة، وكأن الآلات الموسيقية تبكي بشكل كوميدي كأغنية الأماكن للمطرب السعودي محمد عبده، يشبه استخدامه في أغنية “يا ما جوه الدولاب مظاليم” للموسيقار فريد الأطرش، ما يفجر ضحكات المتفرجين.
المسرحية تجمع بين وجوه شابة بممثلين كبار وتقدم الضحك الهادف والرسالة التوعوية، بعيدا عن النصح المباشر
ولعب جرس الباب دورا رئيسيا في المسرحية، فكلما دق فزعت الأم توقعا للمصيبة التي ستحط على رأسها، وفي كل مرة تخيب توقعاتها، ونفس الحال مع الأبناء (كريم) الشاب العاطل و(سامي) الصحافي الذي يسافر إلى اليونان ويتخلف عن الطائرة فتظن الأم أنه بسبب الفأل السيء، كذلك العريس الذي تقدم للزواج من ابنتها وتراجع فجأة، فتظن الأم أن كل ذلك نذير شؤم ولا تعلم أن الخير يكمن في الشرّ.
فالطائرة التي تخلف عنها الابن تعرضت إلى حادث أليم، ونجا منه، والعريس الذي تقدم للابنة لص أنقذها الله منه، والخبر السيء الذي ظلت تنتظره طيلة اليوم جاء عكسيا تماما عندما علموا أن عم الزوج توفي وترك لهم ثروة طائلة.
توضح المسرحية التي أخرجها محمد متولي الفرق الكبير بين التوكل والتواكل، في إيمان الزوجة بالأبراج، ونسبها كل فشل إليه أو إلى الابن (كريم) الذي لا يسعى للعمل مكتفيا بأن حظه سيء.
ومع التوكل يبدأ كل فرد من العائلة السعي، فيتغير الحظ بأياديهم إلى الأفضل، فيجد الابن عملا، وتعمل الابنة فتوفر تكاليف جهازها استعدادا للزواج، وفي النهاية يرث أفراد العائلة مالا وفيرا يحل أزماتهم المادية.
تطل أزمة البطالة برأسها في العرض ممثلة في كريم الذي يمثل جيلا من الملايين من الشباب لا يجدون فرصة عمل حقيقة بسبب التواكل، وندرة الوظائف المتوفرة مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، فيضطر الكثير منهم إلى العمل في أي حرفة كمصدر رزق، أو يضطرون إلى الهجرة خارج البلاد.
الوجوه الجديدة
تظهر في المسرحية الصورة العبثية الهزلية للصحافي الذي يضع الكاميرا فوق منكبيه باحثا عن خبر بطريقة كاريكاتيرية فجة، في نموذج سيء لا يمتّ للواقع بصلة، ويتمّ تجاهل دور الصحافة الهام في محاربة الفساد.
وبدا هبوط ثروة من السماء حلا غير منطقي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها أبطال المسرحية من إيمان بالدجل والشعوذة ومعاناة شديدة من الفقر، وارتفاع الأسعار كحال العديد من الأسر في مصر، فهل المئة مليون نسمة سوف ينتظرون حلاّ خارقا لمشاكلهم في وقت لا تجد الحكومة وسيلة سوى فرض الضرائب لتخفيف حدة الأزمات.
نجح بطل العرض محمد الصاوي في تقديم نفسه من جديد كفنان كوميدي من العيار الثقيل، بعد سلسة من الأدوار الهامشية التي قدمها في أفلام سينمائية لا تليق بتاريخه، ولو ظل حبيسا لها لأصبح مصيره مثل الفنان الكوميدي المصري الراحل مظهر أبوالنجا الذي ظل سجينا لأدوار سطحية ومكبلا بعبارته الشهيرة “يا حلاوة” التي كان يرددها في كل أعماله حتى وفاته.
وكشفت الفنانة فاطمة الكاشف عن موهبة نادرة وخفة ظل، حيث ابتعدت عن الافتعال الذي يغلب أحيانا على الأداء المسرحي لبعض الفنانات، ويُعاب عليها فقط اقترابها في بعض المشاهد من طريقة تمثيل الفنانة الراحلة شادية في مسرحية “ريا وسكينة” التي قدمت في مصر عام 1980.
يحسب لنجمي العرض الصاوي والكاشف إتاحة الفرصة كاملة للوجوه الفنية الشابة الجديدة في التألق والإبداع، وإضحاك جمهور المتفرجين، بعكس نجوم آخرين يستجدون الضحكات على حساب السخرية من زملائهم على المسرح.
تحصين فني
حصّن المؤلف أحمد الملواني نفسه من التمطيط والتطويل بجعل الأحداث كلها تدور في يوم واحد فقط، فجاءت وتيرتها متسارعة ومتناسقة مع الاستعراضات التي قدمت في المسرحية لتدعم فكرة نبذ الخرافات.
كان الرمز في اختيار أسماء شخصيات المسرحية واضحا، فالزوجة سعيدة، والزوج سمعان الفقري، والابن كريم، والصحافي سامي، والابنة هند، ولكل شخصية من اسمها نصيب في أحداث العرض.
نجح ديكور محمد هاشم في تصوير عائلة الفقري التي تعاني الفقر كما يجب أن تكون، فالجدران اختفى طلاؤها والأثاث المتهالك، وكرسي الإنتريه المستند على كوب بلاستيك، والسجاد القديم المتهالك، وعبر بصدق عن معاناة عائلة الفقري.
ودعمت الأغاني والاستعراضات العرض وانتقدت التفاؤل والتشاؤم بكلمات كوميدية خفيفة، وطالبت أغنية النهاية للشاعر بلال إمام وموسيقى وألحان أحمد الناصر بالابتعاد عن الدجل والتواكل بصدق وإحساس عال.
كما أجاد محمد متولي توظيف الفنانين، وظهر كمخرج كوميدي يملك أدواته، خاصة في مشهد ردود أفعال أفراد العائلة على الثروة التي هبطت عليهم من السماء، فكان رد موقف كل فرد ملائما لبناء شخصيته التي ظهر عليها طوال المسرحية، وبدا متولي أكثر نضجا من مسرحياته السابقة التي قدمها لمسرح الدولة، مثل “فطائر التفاح” و”سلطان الغلابة” و”زنقة الرجالة”.
ويحسب للفنان القدير أيمن عزب مدير المسرح الكوميدي بالقاهرة حماسه الذي أسهم في خروج العمل إلى النور، حيث أصرّ على إعادة عرض المسرحية يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع، على الرغم من تعرضه لوعكة صحية.
وأوضح أن المسرحية عرضت في شهر نوفمبر الماضي وحققت نجاحا نسبيا، وهي تجمع بين الضحك الهادف والرسالة التوعوية، بعيدا عن النصح المباشر، وسيتم عرض المسرحية قريبا في محافظة البحيرة، وبحلول شهر مايو القادم سوف تعرض في مدينة مرسى مطروح على البحر المتوسط.
0 التعليقات:
إرسال تعليق