نزهــــــة عبروق جمالية الأدوار وبهاء التمثيل/ *د. محمد محبـــوب
مجلة الفنون المسرحيةالفنانة نزهــــــة عبروق جمالية الأدوار وبهاء التمثيل
لا شك أن الحديث عن الفنانة نزهة عبروق يستدعي الإقرار بأننا أمام ممثلة شاملة، تملك قدرات أدائية هائلة، وموهبة متفردة اكتسبتها من رصيدها الثري في الممارسة الركحية، وصقلتها بالدراسة والبحث، والسعي الدؤوب للارتقاء بالوعي الجمالي، والانخراط في الحداثة المسرحية بما هي تجديد وخرق للسائد، وتجاوز للذات، وإبداع مستمر يتحصن بالمرجع الفكري، والثقافة العميقة، والمعرفة الدقيقة بصناعة الفرجة، وآليات اشتغالها وخصوصياتها الجمالية، والشروط الاجتماعية والثقافية التي تتحكم في إنتاجها. ورغم أن هذه الممثلة المقتدرة راكمت تجارب فنية عبر الممارسة الركحية قبل الالتحاق بالتكوين المسرحي المتخصص وبعده، فإنها أصرت على تحصين مسارها الفني بالدراسة والبحث من خلال التحاقها بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وبعد تخرجها واصلت رحلة التحصيل والبحث عبر مسار أكاديمي متميز توجته بالحصول على شهادة الماستر المتخصص في الدراسات المسرحية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية، واتجهت بعدها إلى تسجيل أطروحتها بمسلك المسرح وفنون العرض بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن طفيل القنيطرة.
إن هذا الرصيد الثقافي والجمالي والتكوين النظري والتطبيقي أهل نزهة عبروق لتصبح ممثلة استثنائية بقدرات تشخيصية وأدائية مميزة، وحرفية عالية، وخلفية معرفية عميقة قادتها إلى تملك الصنعة المسرحية، حيث أدت الأدوار باقتدار وعمق، وتمثل لخلفيات الشخصيات المسرحية وأبعادها ودلالاتها داخل نسق الفرجة، واستحضار التوجهات الفنية والجمالية والإيولوجية التي تحكم الكتابة الدرامية، واحترام وإدراك الرؤى المعبر عنها من قبل المخرجين، ورغم أن الممثلة اشتغلت مع مجموعة كبيرة من المخرجين الذين يتميزون بتعدد منطلقاتهم الثقافية والجمالية والفلسفية، فقد حرصت على الإدراك الواعي والاستجابة النابهة لمنظوراتهم الإخراجية وأطروحاتهم الفكرية والجمالية في إطار من الوعي بالخلفيات التي تؤطر الإخراج وتحكم الجماليات المسرحية عامة.
إن المنجز الإبداعي والركحي للممثلة نزهة عبروق يفصح عن ممثلة موهوبة ومتمكنة تقوم بتفجير الركح إبداعيا بقدراتها الأدائية الباهرة، وطاقتها التشخيصية الاستثنائية، وموهبتها الفذة التي أهلتها لممارسة اللعب المسرحي بكل أنواعه وأجناسه من كوميديا وتراجيديا، ومسرح كلاسيكي وتجريبي، ومسرح جماعي وفردي "منودراما". لقد تجاوزت دور الممثل/الوسيط بين النص والجمهور، ولم تكتف بدور الممثل باعتباره "كتلة" مرئية تتحرك فوق الركح". بل إنها جسدت المعنى العميق لفعل التمثيل بوصفه علامة رمزية وبصرية ترشح بالدلالات والإيحاءات. فهي الممثلة التي عودتنا على أن تكون قطب العملية الإبداعة على الركح. إنها بتعبير فـ لتروتسي Veltkorsky وحدة دينامية تحول كل ما يحيط بها إلى علامات. والتمثيل يتجاوز لديها دلالة التماثل، بما هو محاكاة حرفية لوقائع وأحداث وسلوكات، واجترار حرفي لمحتوى النص الدرامي، بل هو نزوع إلى مفارقة الذات، ومنطوق النص الدرامي الجامد إلى معانقة "الأنا" المتحولة التي تجسد كينونتها عبر التوحد بالآخر/ الشخصية المسرحية، وإثرائها وفتحها على أفق دلالي أرحب، يسمح للقارئ بتفجير طاقته التأويلية، ويحفزه على مجادلة العرض، ومحاورته، واستجلاء أبعاده بدل الاستكانة لسلطة التوهيم، وأحادية المعنى التي تتنافى مع جوهر الإبداع، وخصوصية الفعل المسرحي.
إن نزهة عبروق تملك قدرات لتحويل الفضاء الركحي إلى فضاء فرجوي دينامي، وذلك عبر حضور تشخيصي متألق يخضع الفضاء المسرحي لحيوية وحركية تجعله عبارة عن منظومة متكاملة من العلامات والبنى الرمزية المنخرطة في سياق العالم التخييلي والتمسرحي القائم على الإبداع والخرق بما هو بحث عن الجديد والممتع. ذلك أن عبروق من الممثلين القلائل الذين يخترقون الكون الدرامي، ويدلفون إلى المناطق العميقة، فيقاربون عوالم الإبداع، وهي بذلك تتجاوز دور الممثل التقليدي الذي يكتفي بتقمص الشخصية واستعادتها في صورتها الحرفية الباردة، بل إنها تسعى دائما إلى الانسلاخ عن الذات لاختراق أسرار الفعل الدرامي، والتنقيب في عوالم الشخصيات وعمقها، والتغلغل إلى كنهها، وذلك انطلاقا من قناعة قائمة على أن وظيفة المسرح هي التنقيب في الذات الإنسانية، وتحريرها من سلطة اليومي والعادي، ومن القيود والأصفاد الاجتماعية والنفسية وغيرها من الكوابح التي تعوق تطوير الذات والارتقاء بها، وتخليصها من الأوهام والاعتقادات الزائفة، والسلوكات النمطية المكرورة التي تتنافى مع الروح الإبداعية التي تطبع الكائن البشري منذ الخليقة الأولى.
بهذا المعنى تمارس الممثلة نزهة عبروق فعل التمثيل، وبهذا الغنى الروحي والخلفية الجمالية والفكرية تؤسس لتجربتها الفنية التي تبقى قصيرة على المدى الزمني، لكنها حافلة وثرية بالعطاء والإبداع والتميز. فالمتتبع لريبرتوارها يكتشف خصوبة تجربتها رغم قصر ومحدودية هذه التجربة زمنيا. فقد شاركت في مسرحية "الناس اللي فوق" التي اقتبسها الفنان خالد ديدان عن مسرحية "خطبة لادعة ضد رجل جالس" للأديب غارسيا ماركيز. وأبدعت في مسرحية "النواعري" و "طيطوشا" و"خايف البحر لا يرحل" مع الفنان حفيظ البدري، بيد أن النقلة النوعية في مسارها الفني كانت في أدوارها مع فرقة الحال للفنان المسرحي عبد الكبير الركاكنة في مسرحية "الهياثة" ومسرحية "فكها يا من وحلتيها". كما تألقت في مسرحية "عيوط الشاوية" لفرقة المسرح المفتوح للمخرج المسرحي المبدع عبد المجيد فنيش. وأجادت في مسرحية "زين السعد" لفرقة أكال، حيث لعبت بتميز واقتدار دور "سعاد"، واستطاعت تجسيد هذه الشخصية بتناقضاتها وتلويناتها الشعورية، ومتغيراتها العاطفية والأخلاقية في مجتمع يعرف – بدوره – تحولات وإبدالات عديدة تنعكس على أفراد المجتمع وبنياته الاقتصادية، ونسق العلاقات العاطفية والأخلاقية. فالمسرحية تسائل نظاما اجتماعيا معقدا يخضع لصيرورة تحولات اقتصادية وفكرية وأخلاقية ينتج عنها آثار نفسية على الشخوص والأفراد، وهو ما عكسته إلى حد كبير شخصية "سعاد" التي تجسد نموذجا لهذا التحول الذي ترمي المسرحية إلى رصده في سياق تتبع الدينامية الجماعية، والكشف عن طبيعة التحولات والمتغيرات داخل البنية الاجتماعية. وقد نجحت الممثلة في القبض على الشخصية، وتجسيد ملامحها وتحولاتها التي تفصح في العمق عن تحولات المجتمع مع نفسه.
غير أن العلامة الفارقة في تجربة نزهة عبروق تمثلت في تأسيسها لفرقة مسرح "فلامونداغ" سنة 2014، وانخراطها في حركية مسرحية جديدة ردت من خلالها الاعتبار للحضور والصوت النسائي في المسرح المغربي، وتحديدا في مجال المونودراما النسائية، رغم إدراكها لصعوبة هذه الممارسة الدرامية، ذلك أن الممثل الفرد هو الذي يحمل عبء التمسرح في هذه التجربة، فهو الذي يسرد الحكاية، ويشخص أحداثها، ويملأ بجسده الركح موظفا كل طاقته التعبيرية وقدراته التشخيصية من كلام وإيماءة وإشارة وحركة، وتوظيف للجسد، وانفعال وغير ذلك من الكفايات والإمكانيات التعبيرية التي تتيحها اللغة المسرحية، وهاجسه الأساسي في الممارسة المونودرامية هو انتشال المسرحية من هيمنة المنولوجية والخطابية المباشرة، وجعل الفعل المسرحي يستجيب لمبدأ التعدد في الاصوات عبر استثمار خطاب حواري، وسميأة الفضاء لجعل الأدوات الركحية والإكسسوارات تلعب أدوار الشخصيات، بحيث يستطيع الممثل محاورتها، وإضفاء الطابع الإنساني عليها، ويخلق معها تواصلا داخل الركح، مما يساهم في إخراج المونودراما من وضعية الرتابة، وهيمنة الصوت الواحد والشخصية الأحادية. وإذا كان هذا الرهان يرتبط أساسا بوظيفة المخرج الذي يحرص على خرق المونودراما/المنولوجة، والانسلاخ عن جاذبية الخطابة والانكفاء على الذات، الذي يتنافى مع خصوصية الممارسة الدرامية، فإن الممثل بدوره ينبغي أن يمتلك قدرات مميزة وعالية تحمي العرض وتنتشله من الرتابة والفشل. ذلك أن الدينامية الركحية في المونودراما ترتبط أساسا بتحركات الممثل فوق الخشبة، ولغة جسده، وأنشطته اللعبية في تناغم مع باقي المكونات من موسيقى وإنارة.. وغيرها من المقومات التي تنبذ السكونية، وتؤسس لإيقاع ركحي دينامي ومتحرك. وإذا كانت دينامية الركح تقوم على كفايات الممثل في التشخيص، وقدراته وتموضعاته على الركح، وحضوره الجسدي المتألق، فإن النقاد والمخرجين يعتبرون أن المونودراما لا تحتمل أنصاف الممثلين، فإما أن يكون الممثل بارعا ومميزا أو أن العرض يصبح مهددا بالفشل والسقوط في دائرة الرتابة والجمود.
بهذا الوعي القائم على إدراك صعوبة الممارسة المونودرامية، والثقة في قدرات وإمكانيات ممثلي الفرقة في التشخيص والأداء والإبداع انخرطت نزهة عبروق وفرقتها في إنتاج مجموعة من الأعمال المونودرامية أهمها "السبعيام" اقتباس وتشخيص الممثلة سكينة عبروق، وإخراج نعمان الهليلي، ومسرحية "حكاية امرأة عادية" تأليف وإخراج سعيد غزالة. غير أن نزهة عبروق وإن أتبثت نجاح التجربة الإبداعية لفرقتها، فإنها بصمت على حضور شخصي قوي، وإمكانات ذاتية باهرة من خلال دورها الناجح في مونودراما "كلام الجوف" حيث لفتت أنظار النقاد، وأبهرت جمهور المتلقين بحضورها المتالق في هذه المسرحية، وإمكانياتها التشخيصية، ومواهبها في الأداء، مما بوأها مرتبة سيدة الركح بامتياز، فقد تمكنت بحرفية واقتدار أن تتسيد الركح بإمكانيات هائلة، وقدرات على الابتكار والحضور والتشخيص، الذي منح للمسرحية جاذبيتها وبلاغتها وجماليتها وتأثيرها القوي على المتلقين والنقاد، وبوأها مكانة متميزة في الريبرتوار المسرحي المغربي.
بيد أن نزهة عبروق وإن كانت ممثلة مسرحية متمكنة من صنعتها الفنية، تمتلك موهبة وحسا احترافيا في مجال المسرح، فإنها، بالمقابل، تؤسس بثبات ونضج لمسار مواز على صعيد التمثيل السينمائي والتلفزي. فقد اقتحمت عوالم السينما والتلفزيون، وشاركت في الفيلم السينمائي "بيل أو فاص" للمخرج حميد زيان، وفي مجموعة من الأفلام التلفزيونية والمسلسلات مثل فيلم "باب التوبة" لمصطفى فاكر، و""الرقاص" و "بيت من زجاج" للمخرج عز العرب العلوي، و"ضايعين في أكادير" للمخرج ياسين فنان، ومسلسل "شوك السدرة" للمخرج شفيق السحيمي، والمسلسل التاريخي "المرابطون" للمخرج ناجي طعمة، و"ملوك الطوائف" للمخرج حاتم علي... وغير ذلك من الأعمال السينمائية والتلفزية.
وهي بذلك تجسد نموذج الممثلة الشاملة التي تمرست على الخشبة، وأدركت أسرار الصنعة المسرحية وأتقنت التمثيل في مجال السينما والتلفزيون، لكنها تحتفظ بقدر كبير من التواضع والرغبة في مزيد من الارتقاء والتعلم في مهنة عصية على التملك، ولا تقبل مطلقا الإدعاء بالاكتمال، ويعود هذا التواضع الذي يلازم الفنانة نزهة عبروق لامتلاكها حسا احترافيا وأخلاقيا راقيا، فهي ممثلة بحمولة ثقافية عميقة ورصيد ثقافي وجمالي غني، لكنها بحس إنساني وأخلاقي أغنى، مما يجعلها مؤهلة لمزيد من الصعود في مدارج الفن ومنعرجاته ببهاء الممثلة، وجمالية الفنانة، ونبل الإنسانة، وتواضع المثقفة. فتحية لهذه الممثلة المقتدرة ومزيدا من التألق والعطاء.
*ناقد وباحث من المغرب
0 التعليقات:
إرسال تعليق