العرض اللاأرسطي في النشاط المسرحي بالجزائر / عبد القادر علولة
مجلة الفنون المسرحيةالعرض اللاأرسطي في النشاط المسرحي بالجزائر / عبد القادر علولة
ترجمة: سمية زباش
لقد ظهر النشاط المسرحي ذو النمط الأرسطي والناطق بالعربية في الجزائر في سنوات العشرينات (1920)، وبالتحديد في الجزائر العاصمة. والمقصود هنا بالنمط الأرسطي، طريقة صياغة العرض المسرحي، التي تقوم على تصوير الفعل والإيهام. فهو حين يدعو المتفرج إلى لعبة الاندماج (أو التماهي) (l’identification)، يقيّده في دور المشاهد السلبي. وقد ظهر هذا النشاط المسرحي في زمن كانت فيه بلادنا تعاني من نير الاستعمار منذ ما يقارب قرنا كاملا من الزمان.
ففي عام 1921، قامت فرقة جورج أبيض المصرية بزيارة إلى الجزائر العاصمة. قدّمت خلالها مسرحيتين باللغة العربية الفصحى. بيد أنّ الجمهور الذي لم يألف هذا النوع من الفن، لم يكن حضوره معتبرا في تلك الأمسيات. ومع ذلك، فقد تركت تلك العروض أثرا عميقا لدى المتفرجين، لاسيما الشباب الذين كانوا في غالبيتهم من الطلبة. كما حاول بعض هؤلاء المتفرجين الشباب، وفي إطار ظروف خاصة، ممارسة التمثيل من خلال تقديم بعض المشاهد الهزلية أو مشاهد الوعظ.
لكن مجيء تلك الفرقة، التي قدّمت أعمالاً مطوّلة لا تقلّ أهمية، في نظر المتفرجين الذين عايشوا الحدث، عن الفرق المسرحية الفرنسية، كان في نظر الكثيرين، بمثابة محفّزٍ لانطلاق أولى المبادرات الهامة في مجال النشاط المسرحي.
منذئذ، أخذ الشباب الهواة لهذا النوع من الفن، الذي بدأت ممارسته حديثا في اللغة العربية، ينتظمون في إطار جمعيات ثقافية أو فرق مستقلة بغرض تحقيق ممارسة أكثر إعدادا ونشاطا أكثر تنظيمًا. وفي الفترة ذاتها، وفي عام 1922 على وجه التحديد، قامت فرقة مصرية أخرى بزيارة إلى الجزائر العاصمة، قدّمت خلالها عروضا باللغة العربية الفصحى، الأمر الذي جعل تلك التظاهرات تزيد في تعزيز الحماس الذي بدأ ينشأ لدى شبابنا الواعد الذي كان يخوض، هنا وهناك وبوسائل محدودة جدا، محاولاته المسرحية الأولى.
لكن لابد الإشارة هنا، إلى أن الممارسة المسرحية ذات النمط الأرسطي، كانت تمثّل بالنسبة إلى أولئك الرواد إمكانية بعث القيم الثقافية الأصيلة التي اجتهد المستعمر في طمسها.
وعلى هذا الأساس، فقد وقعت المسرحيات الأولى تحت تأثير العروض المصرية، ومن ثم قُدّمت بالعربية الفصحى. مما جعلها لا تحظى، مع الأسف الشديد، إلا بعدد قليل من المتفرجين، إذْ إنه رغم الحماس الذي عمّ تلك التظاهرات، فإن فهم الحوارات ظل مقتصرا فقط على بعض المثقفين، ممّن أُعجبوا بالجهود التي بذلها هؤلاء الممثلون الشباب في هذا المجال.
وفي نيسان (أبريل) 1926، وبظهور مسرحية "جحا" التي كُتبت بلغة شعبية يفهمها كل الجزائريين، استطاع هؤلاء الرواد حقا إرساء دعائم هذا النشاط المسرحي على قاعدة اجتماعية واسعة، ومساحة جغرافية هامة. فقد تمّ خلال تلك السنوات الأولى، إنتاج مجموعة من المسرحيات بلغت نحو عشرين مسرحية في أقل من عشرة سنوات، وامتدت هذه الحركة المسرحية الحديثة النشأة إلى باقي المدن الأخرى. وكانت الأعمال المقدّمة تستمد موضوعاتها من الحكايات الشعبية، ومن حكايات ألف ليلة وليلة، ومن الأحداث التاريخية، ومن الحياة الاجتماعية أيضا. كما كانت غارقة، في مجموعها، في القوالب المستمدة من النمط الأرسطي. أما العروض المسرحية، فقد جرى إعدادها، وفقا للمعايير المسرحية المستوردة، وبالتحديد المعايير التي سيطرت على الخشبة الفرنسية في مطلع هذا القرن (يقصد القرن العشرين)، من قبيل الفودفيل (vaudeville)، والميلودراما والأوبرات.
وموازاة مع هذا النشاط المسرحي، الذي كان يُقدّم في القاعات المغلقة، وفي المدن خصوصا، كان ثمة نوع آخر من النشاط المسرحي تتواصل ممارسته في الساحات العامة، بطريقة مَرِنَة وحيوية من قبل سكان الأرياف ولهم، ألا وهو مسرح الحَلْقَة (وتعني في اللغة العربية "الدائرة"). كان العرض المسرحي من نوع "الحلْقة"، يجري عموما في الساحات العامة، أيام السوق، بحيث يجلس المتفرجون على الأرض، الواحد إلى جوار الآخر، مشكّلين بذلك دائرة يتراوح قطرها بين 5 و12 متر. داخل هذه الدائرة، ينشط المداح (الراوي) بمفرده، وغالبا ما يرافقه عازف أو مجموعة من العازفين. في الساحة ذاتها، وفي طرف السوق، يمكن أن تجري عروض كثيرة، الواحد إلى جانب الآخر. هكذا يأخذ المُنشِد، مستعينًا في ذلك بصوته وجسمه وعصا بسيطة، في نظمِ عرضٍ يروي بالتفصيل ملحمةً أو قصةً خاصة مستمدة من الحياة الاجتماعية. فتراه يؤدي بطريقته الخاصة كافة أنواع الشخصيات. إن صوته، أكثر من أي شيء آخر، هو الوسيلة القادرة على إعداد هذه التظاهرة، بحيث يبسط لوحةً واسعةً بألوانٍ صوتية وقدرةٍ خاصة على استعمال مختلف أصناف الحكاية، فتراه ينتقل مباشرة من الهمس إلى الصراخ، ومن الوتيرة العادية إلى التشنّج اللفظي، ومن النوح إلى الغناء.
إن القول هو الصلة الأساسية في التواصل الدينامي، الذي يقيمه المداح مع مستمعيه. فهو يشدّ انتباه المتفرجين بواسطة الكلمة، ويدعوهم، كلٌّ حسب خياله الخاص، إلى تخيّل الأحداث المختلفة التي تتضمّنها الحكاية. أما الإكسسوار، فهو عادي جدا، ويتمثل في ردائه وحذائه أو صخرة ضخمة يضعها في وسط الفضاء المسرحي، وهي تمثّل بالنسبة إلى المستمعين، وتحت تأثير الفعل السحري، نبعَ ماءٍ مسمومٍ، أو حيوانًا شرسًا مجروحا، أو زوجة مهجورةً إلخ.
فالراوي/الممثل في عرض مسرح الحلْقة، ليس أبدا ذلك الذي يحاكي وضعًا، وإنما هو المنشّط، ومُسيِّرُ الانتقال بين الحكاية والخيال الخلاّق والمبدع للمشاركين. وعادةً ما يستغرق العرض المسرحي من ساعتين إلى أربع ساعات، يشارك فيه متفرجون من كافة الأعمار. أما النص، فهو بالعربية الشعبية، كما إنه يستخدم الشعر والنثر معًا دون حدود. وقد يُستجوَب الشاعر المغني ويُسأل في أية لحظة من قبل المستمعين، كما قد يُطلب إليه أيضا أن يُصحّح بيتا من الشعر في الأغنية، أو يعيد اللحظات المثيرة في الحكاية بغرض المتعة. وهو ذاته الذي يوقِف العرض من حين إلى آخر، ليقوم بدورة حول الحلقة يتلقّى خلالها القِطَع النقدية التي تُمنح له.
يقوم مسرح الحلقة على التفاعل بين الراوي ومستمعيه، بطريقة دينامية وجدلية في صياغة العرض المسرحي، بحيث إن المداح يندمج وينفصل بشكل دائم في اللعبة التي يقدّمها. وبواسطة لعبة جسدية مصطنعة، تبلغ أحيانا مستويات عالية من التجريد، يمكنه أن يمنح الحياة لجميع شخصيات الحبكة. كما يمكنه أيضا، بواسطة جملتين أو ثلاث، أن يقدّم دفعة واحدة، الشخصية الرئيسية (الممثل الأول) والممثل الثاني والمنشد. وغالبا ما يكون المداح هو الشاعر وكاتب النص الدرامي الذي يقوله. ففي وسط الحلقة، يقوم الراوي/الممثل/ المغني بمسرحة الفعل وتزيين العرض بأصناف القول المختلفة: المسكوت عنه، شبه المَقول، والمَقول صراحة، وما يتجاوز المَقول لإخصاب الخيال الخلاق للمستمعين.
إن مسرح الحلقة، الذي كان يُمارَس بكثرة إلى حدود عام 1950، قد اختفى تقريبا في أيامنا هذه؛ فمع نمو الحركة الوطنية، عمل معظم الرواة على إدانة الاستعمار في عروضهم المسرحية، وعباراتهم المكشوفة، وصاروا بذلك منشدين للوطنية، بل صاروا يمثلون في نظر المضطهد عناصر مدمّرة وخطيرة للغاية. الأمر الذي عرّضهم للقمع بوحشية، ومن ثم اضطرّ معظمهم إلى ترك الحلقة.
إنه لمن المؤسف جدا، ألا يستلهم رواد النشاط المسرحي الأرسطي والناطق بالعربية، شكل الحلقة، فمن المفروض أن تحظى لديهم باهتمام خاص، لأن ذلك كان سيسمح لهم بالغوص أكثر في أعماق الثقافة الشعبية. لكن دراميينا الأرسطيين الأوائل، ونظرا لانبهارهم بالنهضة، بادروا إلى صياغة مسرحياتهم وفقا للمعايير المسرحية الفرنسية دون أن يتّخذوا إزاءها أي موقف نقدي وانتقائي، ودون أن يعيروا اهتماما لما كان يجري حولهم. فقد كان الشعب خارج المدينة، يُبدع عروضه دون مكياج ولا إيهام بالسمات الفصيحة والعريقة.
غير أن الفن المسرحي الأرسطي الناطق بالعربية، قد عمل منذ السنوات الأولى من وجوده بالجزائر، رغم التناقض الأصلي الذي يحمله، على توثيق صلته بالحرب العريقة لشعبه في توقه لاسترداد حريته وأرضه وهويته، وكذلك حقه المشروع في الأمن والتقدم الاجتماعي.
وهكذا، فقد تبلور النشاط المسرحي وبشكل سريع جدا، نتيجة الدعم الذي قدّمته الحركة الوطنية أولاً، ثم المساعدات الواسعة التي منحته إياها منظمة جبهة التحرير الوطني، بدءا من العام 1954، أثناء الحرب المسلّحة من أجل الاستقلال.
وانصهارا مع المسار الطبيعي لثورة شعبنا، عملت هذه الحركة الفنية على توسيع نشاطها عبر كامل التراب الوطني، وتجلّت هنا وهناك، على الميادين المختلفة، كالمسارح البلدية، وقاعات الحفلات، والساحات العامة، وفي الحمّامات والمقاهي ومقصورات الدكاكين والأقبية وفي ساحات السجون وغيرها. كما أنشأت منظمة التحرير الوطني، فرقة فنية وطنية في تونس، امتد أثرها إلى ما وراء حدودنا، وباتجاه عدد من البلدان الصديقة. واستطاعت هذه الفرقة، وعن طريق الفن المسرحي، أن تعكس إيمان شعبنا وشجاعته في حربه من أجل الاستقلال الوطني. وبهذا ساهمت الحركة المسرحية الجزائرية مساهمة معتبرة في نشر الوعي، رغم محدوديتها، ورغم العراقيل والعقبات التي واجهت مسيرتها. كما ضحّت بعدد من مسرحيينا أيضا في ميدان الشرف.
غداة الاستقلال الوطني، وفي 08 كانون الثاني (يناير) 1963 تحديدا، صدر مرسوم بتأميم المسرح، تمّ بموجبه إنشاء المسرح الوطني الجزائري (TNA) طبقا للمبادئ التالية: "إن المهمة المنوطة بالمسرح هامة جدا بالنسبة إلى شعبنا كي لا نجعله فقط في خدمته. إنه غير مقبول السماح بأن يكون المسرح بين يدي المؤسسات الخاصة سواء تعلق الأمر بالمسرح داخل الوطن أو بذلك الذي نتلقّاه من الخارج أو حتى ذلك الذي نُصدّره. فقطْعُ الطريق في وجه المتاجرة بالفن الدرامي أمر قاطع (لا رجعة فيه) كي نجنّبه الوقوع في المهانة التي تجعله مجرد تسلية، كما نجنبّه الوقوع أيضا في لعبة المنافسة التي توقعه في السهولة والسوقية... اليوم وفي الجزائر التي تبني الاشتراكية، يظل المسرح ملكا للشعب، وسيكون أداة فعّالة لخدمته...".
لقد استطاع المسرح الوطني الجزائري، وانطلاقا من مبدأ التأميم ذاته، أن يستردّ سريعًا، تراثه العقاري ويتكفّل به (قاعات المسرح بالجزائر العاصمة، قسنطينة، عنابة، سيدي بلعباس، وهران). كما استطاع بسرعة فائقة أيضا، أن ينظّم تجميعا هائلا للطاقات الفنية الوطنية. وبذلك استطاعت المؤسسة المسرحية الناشئة التابعة للدولة، وبوسائل مادية غير ملائمة أن تقدّم عشرين عملا عظيما في أقل من أربعة أعوام (1963- 1966).
وهكذا حقّق المسرح الوطني الجزائري، ومنذ السنوات الأولى من وجوده، مجموعة من الأعمال الهامة (من قبيل التربّصات لتكوين الممثلين، إنشاء مدرسة لتكوين الممثلين والراقصين، تنظيم مهرجانات للفنون الشعبية، كذلك إصدار مجلة للفن المسرحي، وغيرها).
ولكن نتيجة لثقل هذه النفقات، وفي غياب استراتيجية وطنية لتطوير الحركة المسرحية، وقعت المؤسسة المسرحية التابعة للدولة في أزمة عامة. فقد تدهورت وتيرة الانتاج فيها بطريقة مريعة، بحيث انتقل من عشرين عملا مسرحيا خلال أربعة أعوام إلى ثمانية عشر عملاً في سبعة أعوام (1966- 1972). وبهذا فقد أدّت هذه الأزمة المعقدة في طبيعتها، إلى تمزيق الحماس الخلاّق للمشتغلين بفن المسرح. كما عملت، في الوقت ذاته تقريبا، على تجميد كافة النشاطات الأخرى للدراسة والتفكير والتكوين والاستثمار، بحيث عمّ هذا الركود ميادين الممارسة الهاوية، وأخمد بشكل ما، تطور النشاط المسرحي.
غير أن الدولة عملت على إعادة تنظيم المسرح الوطني. وفي إطار هذه العملية، وفي ظل اللامركزية، أُنشئت أربع مؤسسات مسرحية جديدة تابعة للدولة، تباعًا، من عام 1972 إلى عام 1976 (أعني بذلك المسارح الجهوية في كل من وهران وقسنطينة وعنابة وسيدي بلعباس). وبذلك باتت المؤسسة التابعة للدولة ذات رؤية أكثر واقعية. لكن ثمة بعض المسائل التي أُهملت فيها تماما، من قبيل استراتيجية التطور والنظام الداخلي للعمل وتكوين العمال...
لقد كان لهذا العائق الكبير، مع الأسف، آثاره السلبية البليغة على الممارسين للمسرح، هواةً ومحترفين. الأمر أدى إلى انطفاء عدد من الكفاءات تدريجيًا، أمام استحالة معالجة تلك الأوضاع المتشابكة والمزمنة.
وبالرغم من ذلك، استطاعت فرقنا الخمسة المحترفة أن تُنجز في ظرف عشرين عاما أكثر من مائة عمل مسرحي (ثلثها ينتمي إلى المسرح العالمي)، ارتبطت في غالبيتها الساحقة، وعلى مستوى المحتويات، بالمهام المختلفة للبناء الوطني. كما استطاع معظم هواة المسرح، من جهتهم، وبوسائل محدودة للغاية، أن يجوبوا كامل التراب الوطني لتقديم آلاف العروض المسرحية في المصانع والمدارس، وفي القرى الزراعية الجديدة. بل إنهم كانوا ينظّمون كل صيف، ومنذ العام 1966، مهرجانا للمسرح تتظاهر فيه أفضل الفرق المسرحية الوطنية.
بعد الاستقلال الوطني، ومع نشأة أولى الهياكل الثقافية، استطاع الجزائريون الدخول مباشرة، وبعدد هام هذه المرة، إلى التراث الفني والثقافي العالمي. فقد اكتشفوا ثراءه المتنوع الذي كان يمنعهم من التطلع إليه في ظل الاحتلال. وبدافع إقبال العدد الكبير منهم، وانفتاحهم على المعرفة العالمية، عمدت بلادنا إلى تنظيم العديد من التبادلات ولقاءات الدراسة. كما عمل رجال المسرح في الجزائر أيضا، وبالتدريج، على تعميق معارفهم وترقيتها في مجال الفن الدرامي. فقد أدركوا حدود ممارستهم الخاصة لاسيما بعد اكتشافهم لتقنيات أخرى لنظام العرض المسرحي في التجربة العالمية. فكتابات بسكاتور ولوناتشارسكي ومايوهولد وماياكوفسكي، وبخاصة بريخت كانت وما تزال محلّ اهتمام المشتغلين بالفن المسرحي. فقد غذّت تلك الكتابات بشكل واسع التفكير في هذا المجال. ذلك أن انتشار تلك المعارف الجديدة زاد في تعزيز الموقف النقدي لفنانينا، تدريجيًا، إزاء الممارسات السابقة، كما ساهم في الوقت ذاته في رفع المستوى الفني لعروضنا المسرحية.
لقد فجّرت أولى التحولات الاجتماعية الكبرى التي شهدتها بلادنا انطلاقا من عام 1970، حماسًا هائلاً في قطاع الفنون، بحيث أفرزت إبداعا لم يشهد من قبل، وجنّدت طاقاتٍ جديدة في مجال الممارسة الفنية. وهكذا، استطاعت هذه التحولات الاجتماعية، التي كانت توفّر مادة غنية وجديدة، أن تحتلّ لسنوات عدة مركز محتويات التظاهرات الثقافية. ذلك أن النشاط المسرحي، أكثر من غيره من النشاطات الأخرى، يأخذ على عاتقه بطبيعة الحال، مهمّة الاحتفاء بالأعمال الكبرى للبناء الوطني وشرحها والدفاع عنها.
أما موضوعات المسرحيات، فكانت تَعرِض في غالبيتها السلوكات والوسائل التي بموجبها اعترضت جماعاتٌ اجتماعية على مسائل من قبيل توزيع الأراضي على الفلاحين الفقراء، والحدّ من المِلْكية العقارية الضخمة، ومشاركة العمّال في إدارة المؤسسات الاقتصادية وغيرها... وعلى العموم، كانت الحكايات تصوّر وتُمَسْرِح الصراعات التي تثيرها هذه الانجازات الاجتماعية الكبرى الملتزمة بتجسيد الخيار الاشتراكي لبلادنا.
ومن الجدير بالذكر هنا، أنه أثناء تلك الفترة التي امتدت من 1970 إلى 1980، الغالبية الساحقة من تلك المسرحيات، وهي مسرحيات جديرة بالثناء سواء على مستوى المحتويات، أو على مستوى الواقع الاجتماعي، أو غرض الكتاب، كانت أقرب إلى البيان السياسي منها إلى الإنتاج الفني.
وبناءً عليه، فقد ألقت التحوّلات الثورية الأولى بالنشاط المسرحي إلى ميادين جديدة، وباتجاه جماهير جديدة. كانت العروض المسرحية تُقدَّم هذه المرة، في الهواء الطلق، وفي واضحة النهار، مجانا، وفي الساحات المختلفة: مثل ساحات المدارس، ورشات بناء القرى الفلاحية، المطاعم داخل المصانع، المرائب... إلخ
في هذا الجو المفعم بالحماس، وهذا الانتقال الكبير صوب الجماعات الكادحة والطبقات الشعبية، استطاعت حركتنا ذات النمط الأرسطي أن تكشف عن أوجه قصورها. في واقع الأمر، كان للجماهير الفلاحية الجديدة، أو ذات الأصول الفلاحية، سلوكات ثقافية خاصة إزاء العرض المسرحي. فقد كان المتفرجون يجلسون على الأرض مُشكّلين، بطبيعة الحال، "حلقة" حول عُدَّتِنا المسرحية. وعلى هذا الأساس، تغيّر فضاء اللعب تماما، وأعُيد النظر في الإخراج المسرحي الذي كان يجري في قاعة مغلقة، ويُقدَّم لمتفرجٍ وُضِعَ في مواجهة اللعب... كل شيء كان بحاجة إلى الإصلاح، ونحن لم نكن نتوفّر على المعطيات لإعادة تنظيم تمثيلنا تبعًا للوضع الجديد. مع ذلك، بدأنا بحذف بعض عناصر الديكور والإكسسوارات مما تستدعيه الضرورة القصوى. كان يتعيّن على الممثلين أن يُكيّفوا أداءهم، ولكن كيف العمل عندما يكون المتفرج في الأمام كما في الخلف أيضا ؟ فالتمثيل كما كان تصميمه إلى ذلك الحين، يحتاج إلى إعادةِ نظرٍ وبشكلٍ جذري. كان بعض المتفرجين يديرون ظهورهم صراحةً لدائرة اللعب، كي يتسنى لهم سماع النص بصورة أفضل. ذلك أنه وفي إطار المناقشات التي تتبع العروض بانتظام، كانت الأسئلة تدور خاصة حول ما تمّ قوله لا حول ما تمّ عرضه أو تصويره. كان هؤلاء المتفرجون يملكون قدرات مدهشة على السماع والتذكّر؛ إذ باستطاعتهم أن يعيدوا في الحال تمثيلَ حواراتٍ من مشاهد برمّتها. في هذا السياق الجديد، أخذت كل آثار الإيهام والمفاجأة والتمسرح (théâtralité) المعروفة في المدن، تتلاشى بالتدريج، من على سطح الثقافة الشعبية، وعلى هذه الخشبة الزلجة التي منحنا إياها بشكل طبيعي متفرّجونا الجدد. لكن كان يلزمنا الوقت الكافي لنَفْهَمَ قواعد الأداء الجديد، ونأخذ في التكيّف معها.
هكذا، وعن طريق هذه التجربة التي جعلتنا نعيد الاعتبار لمفاهيمنا في مجال الفن المسرحي، أمكننا أن نهتدي، وبشكلٍ مفارقٍ جدا، إلى السمات العريقة للتمثيل الشعبي من نوع "الحلقة". فلم يعد لدخول الممثلين وخروجهم أي معنى. كل شيء كان يجري إجباريا في دائرة مغلقة، وبالتالي دون كواليس. أما تغيير الملابس، فإنه يجري على مرأى ومسمع من المتفرجين، بحيث يمكن للممثل، دون أن يذهل أحدا، أن يذهب للجلوس بين المتفرجين لتدخين سيجارة بين فترتين من التمثيل.
لقد كان لعب الممثلين يتغير مع إيقاع العروض المسرحية نحو البساطة إلى حد يبلغ أحيانا مستويات عالية من التجريد. كان العرض مؤسلبًا (stylisée) ومتراجعا على مستويات عدة، وكانت الكلمة تكبر لتسيطر في النهاية.
وفي غضون تلك الفترة، التي شهدت حماسا كبيرا، وفي السياق الثقافي الحي ذي البعد الوطني خاصة، عرف الفن المسرحي في الجزائر غوصًا عميقًا في الحياة الفائرة الإبداعية لشعبنا، وهو ما جعله يقترب أكثر من التراث الثقافي الشعبي.
وانطلاقا من العام 1980، وبدافع من التجارب المعيشة الجديدة، شرع رجال المسرح في الجزائر، في التميّز عن القالب الأرسطي في تنظيم العرض المسرحي.
إن الحلقة تمثّل موضوعًا لدراسة معمّقة. وقد ظهرت من قبلُ في النتاجات الأخيرة لمسرحنا، بواكير نمط جديد يفضّل الحكاية والقول على تصوير الحدث.
0 التعليقات:
إرسال تعليق