مونودراما " الأمُ الثَّكْلَى" تأليف محمود القليني
مجلة الفنون المسرحيةمونودراما " الأمُ الثَّكْلَى" تأليف محمود القليني
في غرفة من غرفات بيت يقع في ثنية ( كدا ) (بالحجون ) بالقرب من الحرم المكي ، تنتظر ( أسماء ) أم ( عبد الله بن الزبير ) أن يسمح ( الحجاج بن يوسف الثقفي ) أن تواري جسد ابنها ( عبد الله ) التراب ، بعد أن قُتل وقُطع رأسُه وأصدر ( الحجاجُ ) حكمَه الجائر أن يُصلب ويبقى مصلوبا أياما بدون أن يُدفن .
الغرفة مربعة الشكل في عمقها فراش متواضع، في وسطه لفائف كفن ،وبجواره الحنوط وفي. أقصى اليمين بجوار الجدار منضدة عليها خوذة وبجوارها سيف في غمد جلدي مهترئ ، وفي أقصى اليسار عباءة معلقة على مشجب رأسي وفوقها عمامة ..بنفذ شعاعا ضوء من كوة في أعلى الجدار جهة اليمين ، وكوة جهة اليسار ، ويتجمع الشعاعان لينيرا وسط المكان حيث تجلس ( أسماء ) منكسة الرأس محدودبة الظهر تبحث عن العصا بجانبها ، تمسك بها ، تنهض معتمدة عليها ، تتقدم نحو الفراش تجلس عليه ، تضع العصى على فخذها ، تصيخ السمع ، تدير رأسها يمينا ويسارا . تطول فترة الصمت ، تمسك بالعصا ، تنهض وتمد يدها اليسرى أمامها ، تسير بخطوات متعثرة )
أسماء : ( بصوت مرتعش متقطع ) يا ريم ...يا عفراء ...أين أنت يا سلمى ...( تصمت ) أخشى أن عهدي بالوحدة سيطول ( تسير ) كاد أن يجف نور عيني ، فلم أعد أرى إلا أشباحا ،كما جف الحزن من قلبي فلم أعد أبكي ، ( تتوقف ) على من أحزن ؟ وعلى من أبكي ؟ كالشجرة التي صارت وتدا جافا بعد أن قطعوا عنها أغصانها واقتلعوها من جذروها وألقوها في هجير الصحراء مآلها الاحتراق بنار الندم .
[ تسير ببطئ ، تتقدم نحو الجمهور ،تضع يدها على رأسها ]
الندم !
هل أنا نادمة ؟!
هل فعلتُ ما أندم عليه ؟!
[ تجلس على الأرض ، تنكس رأسها ، تضع عصاها أمامها ، تتلفت حولها ، تصيخ السمع ]
أسماء : ربما يا أم (الزبير) كان بيدك إنقاذ فلذة كبدك من القتل ومن الذبح ومن الصلب ، ومن أن يبقى معلقا على جذع شجرة ، لا قبر يواري سوأته ، ولا يد تأخذ عزاه .ولا لسان ينشر مآثره
[ تأخذ عصاها تستند عليها لتقف ، تعصر يد العصا ، تدق بها على الأرض ]
أسماء :أكنتُ قاسية ؟ أكنتُ رعناء ؟ ألم أكن أعرف ما سيصير إليه ؟ أين كان قلبك يا أسماء
؟! وكيف في لحظة تبددت حكمتك ؟!
بيدي هاتين دفعته إلى حتفه .
بلساني هذا شجعته يسعى إلى نهايته
بكلماتي تلك جرأته أن يواجه ما لا قبل له بمواجهته .
[ تتجه إلى الحائط ، تستند إليه تتحسسه ، ترفع يدها تحدق فيها ].
أسماء : كانت شُلت يداي قبل أن أدفعه ، وقُطع لساني قبل أن ينطق بحرف ،وأُصيبتُ بالبكم
قبل أن تتحرك شفتاي بكلمة ، لكنتُ الآن أنعم ببره ، وينعم بعطفي عليه وحبي له .
[ تبتعد عن الحائط وتسير خطوات إلى المنتصف ]
أسماء : ولكني ماذا كنتُ سأقول له : أرض بالدنية ، صالح شذاذ الأرض ، عانق رسل الشر
والخراب ، اجلس مع سفاكين دم (الحسين )، هادن من باعوا دينهم واشتروا دنياهم ،صافح من استباحوا الحرمات ، استدر عطف غلمان بني أمية اللئام .
[تدق بالعصا على الأرض ، تتلفت يمينا ويسارا ]
أسماء : ( بتأثر ) لا أقدر أن أقول له ذلك ، وما هو بمصغ لي إن قلتُه ، كان كالشهاب المنطلق
إلى قدره المحتوم ، لا يوقفه شيء ، وكأنه كان يدرك مصرعه ، أين وكيف ، رأيتُ ذلك في عينيه وهو يودعني ، شعرتُ بذلك من لمسات يده وهو يصافحني ، أحسستُ بأنفاسه وهو يقبلني ، كان يحاول أن يهرب من نظراتي ، كي لا أرى حزنه على ملامح وجهه ، وأعرف أنه يحمل وزن جبال (مكة) حزنا وأسى ، كان يروض الكلمات لتصبرني ، وأعرف أن لحظات صمته مليئة بالحسرة واللوعة .
[ تتجه نحو اليمين ، تصطدم بالمنضدة التي عليها الخوذة والسيف ، تمد يدها تتحسس الخوذة ، أصابعها تحتضنها ، تصيغ السمع رافعة رأسها لأعلى ]
صوت عبد الله : يا أمي لقد خذلني القريب قبل البعيد ، إنهم لا يحاربونني بالسيف بل بالذهب
لا يفزعونني بجنودهم بل بأصحابي وأبنائي ، لا يحاصرونني بالترهيب والوعيد ،بل بالوعود والأماني ، لا يخوفونني بالهزيمة في ميدان المعركة ، بل يطمعونني بالسلام والأمن في ديارهم ، لا يلوحون بسلاح الجوع والظمأ ، بل يبشرونني بالشبع والري .
[ تتحرك أصابعها ، تتحسس جراب السيف ، تبحث عن مقبضه ، تحيطه بأصابعها ]
أسماء : ( ترفع صوتها بحزم ) لا تخضع ..لا تضعف ..لا تستسلم ..إنك إن فعلت هلكت ونقضت عهدك مع الله ومع من ساندك وضحى بروحه من أجلك .
صوت عبد الله بن الزبير : ولكن من معي رجال وليسوا أنبياء ، من معي بشر وليسوا ملائكة ،
لن يصبروا إلى ما لانهاية ، لن تتقجر دماؤهم في عروقهم وهم قابضون على سيوفهم ، لن تخرج أرواحهم من أجساهم وهم واقفون أمام أعدائهم ، لن يهاجوا عدوهم وهم على يقين من الهزيمة .
أسماء : ( بحماس ) لا تكلف إلا نفسك ..وحرضهم على القتال، عسى الله أن يرضيك بالنصر أو الشهادة .
صوت عبد الله بن الزبير :إني أعلم أني مقتول ، فما من أحد وقف أمام الباطل إلا وقُتل ، ما من
أحد جهر بكلمة الحق إلا وذٌُبح ، ما من أحد كشف الزيف وعرى الفساد إلا وصُلب ، وأنا لا أخشى لقاء الله ، فوالله لقد عشتُ عمري كله أعمل لذلك الموقف ، وهذا ما دفعنى ألا أضيع ساعة إلا في طاعة الله ، وما شعرتُ إني أحيا في الدنيا إلا لعبادة الله ، ولا أقول ذلك مزكيا نفسي ، ولكني أقوله تعزية وتأسيا لك يا أمي ، فأني لا أحزن إلا عليك ، أوعديني ألا يطول حزنك علي .
أسماء : ما قدرت أن أفطم قلبي عن حبك ، ولست بقادرة أن أفطمه عن الحزن عليك .
[ تسير بخطوات ثابنة ، متتجه نحو العباءة المعلقة على المشجب تتشممها ترفع طرفها وتقبلها ، تمد أصابع يدها اليمني إلى العمامة تتحسس لفائفها ، تتقدم إلى وسط المكان ، تواجه الجمهور ]
أسماء : يقولون : إن كل شيء يولد صغيرا ثم يكبر ، إلا الحزن فإنه يولد كبيرا ثم يصغر .
فما لحزني يكبر كل يوم ويزداد ؟!
فما لحزني يختلط بدمائي ويسري في عروقي مسمما بدني ؟!
أعرف أن الناس يدفنون أحزانهم مع دفن موتاهم ، يا ويلي فمتي سأدفن فلذة كبدي ؟
ولكني قد أدفن ابني في الأرض وأواريه التراب ، فأين سأدفن حسرتي عليه ؟
الحزن يملأ قلبي ، فهل يمكن أن أدفن قلبي ؟ إذا دفنت ابني فقد دفنت قلبي معه .
وهل بيدي أن أدفنه ؟ وإلى متى سيظل جسمانه الطاهر معفرا بالتراب ؟
وإلى متي ستظل الريح تراوحه ليل نهار ؟ والجوارح تناوشه كل آن وكل حين ؟
[تعود إلى العباءة ، تمسح عليها بيدها ، تربت عليها ، تستدير تستند إلى الحائط بجوار العباءة ترفع رأسها إلى السماء ]
أسماء : أيها الجسد المعنى ...ليتني كنت مكانك . فإني أحسدك على راحتك الكبرى . نعم أعلم
أنك في راحة وهل من يكون في رحاب الله متعبا ؟ ولكن لما لا يخفف هذا من حرقة قلبي عليك ؟ أما آن لهذا القلب أن يهدأ ؟ أما آن لهذا القلب أن يسكن إلى الأبد ؟أخلقت القلوب لتكون سكنا للحزن ؟ أخلقت القلوب لتنبت أشواك الحسرة ؟ أخلقت القلوب لتظل تنزف أسى وغما ؟
ليس عهدى بك أيها القلب أن تتداعى وتنهار تاركا فيوض الحزن تملأ صدري .
[تمشي بخطوات متعثرة نحو الفراش ، تجلس على طرفه بحذر، تضع ذقنها على
يد العصا وتميل برأسها ناحية اليسار ]
أسماء : ( بتأثر ) لماذا قتلوك ؟ لماذا ذبحوك ؟ لماذا صلبوك ؟
ألم أخبرك ألا تمكنهم من عاتقك ؟ ألم أخبرك ألا يحاصروك ؟ ألم أخبرك ألا يثبتوك ؟
أعلم انك كنت الأسد في عرينك ، والشجاع في ميدانك ، والطوفان في ساحتك ، وأنك لم تجبن ، وأنك لم تتقهقر ، وأنك لم تضعف . ولكنهم خزلوك ..تخلو عنك ..تركوك .. لم يستطيعوا أن يرقوا رقيك ، كلفتهم ما لا يطيقون ، حملتهم ما لا يستطيعون ، لم يقدروا أن يجاروك ، فانطلقت في ميدان الشهادة وحدك ، وسبقتهم ، وفزت بها ، ولحقت بشهداء الحق ، ومبتغي العدل .
قطعوا رأسك ، وكأنهم يخشونك وأنت ميت كما كانوا يخشونك وأنت حي .
[تقف وتسير خطوات إلى الأمام وتهز رأسها وتدق بالعصا دقات متواصلة على الأرض ]
أسماء : ( تتجلد ) وعزائي أنهم قطعوا رأس (يحي بن زكريا) ، وقطعوا رأس (الحسين بن
على) .ولن يكفوا عن أن يقطعوا كل رأس تأبي الخضوع للشر والخداع والزيف والفساد ، اخترت نهايتك . حددت مصيرك ، مثلك ما كان له أن يموت كما يموت الجبناء ، فقد عشت عظيما أمينا شريفا ، فلابد أن تموت كما عشت .
[ تتقدم إلى الإمام خطوات ، تتجه يمينا ، تقف أمام المنضدة تضع عصاها عليها تبحث عن السيف ، تمسك مقبضه ،تحمله تضع جهة النصل على الأرض وتدور حول نفسها بخطوات ثابتة ، تصنع دائرة وهي في مركزها ]
أسماء : ( بصوت تخنقه العبرة ) ماذا فعلوا ؟ قتلوك .. ذبحوك... صلبوك . هزموا جسدا ،
ولكن ذكراك باقية وسيرتك
خالدة ...( تعلو نبرات صوتها ) .سيعود الحجيج إلى بلدانهم يحكون عن البطل المغوار ،والركبان الرحل ، والشعراء ،وستردد صداهم جبال مكة والبطاح ، ويشهد حصباء الحرم والحجر على أنك ما فرطت وما بددت وما ضيعت ، أنت أنشودة شرف وفخار .
[ تتوقف عن الحركة ، تضع السيف على المنضدة يسقط منها على الأرض ، تجلس مستندة على المنضدة ، تبحث عن السيف ، تمسك به وتضعه على ركبتيها ]
أسماء : ( متأثرة ) إنهم جبناء حمقى أخساء ، يوارون جبنهم بالقتل ، يخفون حمقهم بالذبح ، يسترون خستهم بالصلب ، يظنون أن دم خصومهم هي أوسمة النصر ،وتيجان الظفر والفوز ، هزموا في كل معاركهم ويظنون أنهم المنتصرون ، خسروا كل حروبهم ويتوهمون أنهم الفائزون ، كل قطرة دم من شهيد تنبت شجرة العزة والكرامة ، كل قطرة دم ستشعل نيران الغضب وتؤجج سعار النقمة ، كلمة الحق ستزلزل عروشهم ، وثأر الشهداء سيقض مضاجعهم ، ويحول ليلهم إلى ظلام أبدي ، ونهارهم إلى مذلة دائمة .
[تنهض مستندة على السيف ، تضعه على المنضدة ، تبحث عن العصا تمسك بها ، تحرك طرفها على الأرض يمينا ويسارا ]
أسماء : فرشوا الأرض بضحياهم ، حجبوا الأفق بقتلاهم ، اغتالوا الأنبياء و(حمزة) و(عمر) و(عثمان) و(على ) و(الحسين) ...وسيقتلون ويذبحون ..ويصلبون ويقطعون ويمزقون وسيشربون الدم في كؤوس من الغل ، وسيرقصون على أنغام التشفي في حفلاتهم الداعرة ، ولكن ستلاحقهم اللعنات أينما ذهبوا ، سينهش الندم أكبادهم يوم لا يجدي ، ستطاردهم دعوات المظلومين ،ستصم أذانهم صرخات الضحايا .
[ تتقدم نحو الفراش ،تستدير وتجلس عليه ،ترفع العصا وتشير نحو العباءة ]
أسماء : ( متعجبة ) ماذا كانوا سيفعلون بك إن لم تكن صواما وقواما وبارا بكل البشر حولك ؟!
ماذا كانوا سيفعلون بك إن لم تكن عادلا رحيما رفيقا بكل فرد من رعيتك ؟!
ماذا كانوا سيفعلون بك إن لم تكن محاسبا نفسك في كل صغيرة وكبيرة قبل أن تحاسب غيرك ؟!
[تضع العصا جانبا ، تشبك يديها وتضعها على صدرها وتطوح برأسها إلى الخلف ]
أسماء : لا ، هم لم يفعلوا بك ما فعلوه إلا لأنك لم تكن على شاكلتهم ، لم يطيقوا أن يروك حيا
تسير على الأرض ، وهل يتركونك لتكشف سواءتهم ؟! يتركونك لتفضح خداعهم ، يتركونك لتكشف زيفهم .
لا يجتمع النور والظلام في صعيد واحد ، لا يتعانق الخير والشر ، لا يتصالح العدل والظلم ، لا يتهادن الصدق والخداع ، لذلك اجتمع كل هؤلاء ، متسترين بالظلام ، متسلحين بالشر ، رافعين رايات والخداع ، لم تكن تحارب جيش ( ابن الثقفي ) لهان الأمر ، ولكنك كنت تحارب جحافل الشر في العالم ، تركوا العالم كله واجتمعوا في تلك البقعة ، لأنهم يعلمون أن لو انتصر الخير هنا لانتصر في العالم كله ، ولو خذل الخير هنا لخذل في العالم كله ، لو ارتفعت راية الحق هنا لرفرفت رايات الحق على ربوع البشرية ، ( الزبير ) أدرك هذا ، بل وصل إلى درجة اليقين ، أنه لا يدافع عن نفسه ، ولا يزود عن حقه ، بل ينوب عن العالم كله في محاربة الشر ، وقبل راضيا أن يضحى بنفسه ، وجدها رخيصة .
[ تنهض متجهة نحو اليسار ، وتسير خطوات نحو المشجب ،تمديدها نحو العمامة تمس عليها بيدها ، تحملها تضعها على كتفيها الأيسر وتميل نحوها بعنقها ، تتحسسها بخدها ]
أسماء : ( متعجبة ) ألم تكن تعرف نهايتك تلك ؟
ألم أعلم خاتمتك هذه ؟
لا ، كنتَ تعرف أنك ستقتل .
وكنتُ أعلم أنك ستقتل .
ومع ذلك اندفعت إلى قدرك المحتوم بلا تردد .
وأنا لم أوقفك ولم أراجعك بل حرضتك وشجعتك .
أي نوع من الرجال أنت ؟!
وأي نوع من الأمهات أنا ؟!
[ترجع العمامة إلى مكانها ، تسير إلى المنتصف تعصر يد العصا ، وتدق بها على الأرض ]
أسماء : ( شاردة وكانها تحدث نفسها ) ابن يأتي لأمه يشكو تخلي جنوده عنه ، وقلة المدد
وانعدام العون ، ويعلمها جبروت وبطش عدوه . أكان ينتظر رحمة وخوف وشفقة وخوف مني عليه ؟
أكان ينوي أن يتصالح معهم ويأخذ الأمان كغيره ، وأنا الذي وقفتُ أمام تلك الرغبة ، وبددتُ كل رجاء له في الحياة ؟
[تخطو خطوات نحو الحائط ، تستند إليه ، تعصر طرف العصا ، تنكس رأسها طويلا ، تتهاوى على الأرض ]
أسماء : لو لم أفعل ذلك لكان الآن في أحضاني ، اتحسسه ، أتشممه استند عليه في أخر أيامي
، بدلا من استنتدي على تلك العصا .
صدى صوت أسماء: أرميت ابنك إلى الهلاك يا أسماء ؟ صرت كالهرة التي تأكل أولادها ، أو
كالحمقاء التي نقضت غزلها من بعد قوة ، من أين أتيت بقسوة القلب ؟ وصلابة الفؤاد ؟ هل هان عليك ؟ وماذا جنيت بعد كل هذا ؟ بل وماذا جنى ؟
أسماء :(تجلس محتبية ، تمس علي عينيها ) لا والله ..ما هان علي ، كان أحب وأحن وأرحم وأبر أولادي ( تتحسس بطنها ) أول ما حوت بطني ، هاجرت مع من هاجر وكان جنينا في أحشائي ، لم يكن عبئا ولا حملا ثقيلا ، ولكنه كان بلسما ، حينما أضع يدي على بطني وأشعر به يتحرك ، كانت كل الآلام والأحزان تهون ، أنيسي وسميري في الطريق ، كنت أحادثه وأناجيه وأناغيه ،وكنتُ أول امرأة تلد في المدينة المنورة ، فاضت بالقلوب بالفرحة وامتلأت الصدور بالسعادة ، لمولده ، وكأننا نحن – المهاجرين – في حاجة شديدة إلى شيء يزيل عنا مرارة الغربة وجفوة مفارقة الأوطان ، وكان الوليد بمثابة تجدد الأمل وعهد بحياة جديدة ، حملته أختي (عاشة) إلى زوجها رسول الله ، أخذه وقبله ، ومضغ تمرة وحنكه بها ، لم أكن أطيق فراقه لحظة ، كان كبدي يسير على الأرض ، أما الآن ...كيف ...كيف ؟!
[ تقف منتفضة، ترفع رأسها ، تسير بخطوات واثقة إلى الأمام ]
أسماء : لا ، لا يا أسماء ..ما هذا الضعف وهذا الخور والجزع ؟! ما أنت وهذا ؟! لا ينقصك
إلا أن تبكي ، وتلطمي الخد ، وتشقي الجيب ، وتنثري التراب على رأسك ، لست من تفعل ذلك ، وما ينبغي لك فعل ذلك ، أنسيت من أنت يا أسماء ؟! أأذكرك من أنت ؟
[تتجه نحو الحائط تجلس مستندة إليه ، تمدد قدميها ، تنحني حتى يلاصق جبينها ركبتيها ، تعود إلى جلستها الأولى ، تلوي عنقها يسارا وتضع يدها على قلبها ]
أسماء : ولكني أشعر بقلبي يذوب حبا وحنانا نحوه ، فؤادي يتصدع وكبدي يتشقق ..يا الله !
متى يثوب هذا القلب عن غيه وضعفه ؟ وإلى أين ستذهب بي أيها الحزن ؟ إني قاتلة نفسي غما وأسى ، لم يقتلوه وحده ، وإنما قتلوني معه ، قتلوه مرة واحدة ، وأنا أُُقتل كل يوم .
[ ترفع العصا ، تنقر بها على الحائط ، تمسح عينها ، ثم تضع كفيها على الأرض بجوارها ]
أسماء : أين صبرك يا أسماء ؟ هل تبدد إيمانك ؟ هل تلاشى جلدك ؟ قد كنت دائما عصية على
المحن والآلام ، عنيده أمام البلايا والأرزاء ،أين ذهبت قوتك ؟ أم أن روحك ضعفت مع ضعف جسدك ، وعقلك شاخ وذوى كما ذوت عافيتك ؟ لا ، مهما فعلوا لن يهزموني ، لن يقهروني ، لن يذلوني ، لقد أوصاني ابني ألا أحزن عليه ، ووعدته ، اربطي على قلبك يا أسماء ، فتشي في اعمافك عن جذور إيمان لم تنل منه المحن ، أفيضي في صدرك مشاعر الرضا بقدر الله ، اتركي العنان لعقلك أن يرشدك ويخرجك من ظلمات الشك ، ودوامات الظنون والحيرة ، عقلك الذي كنت تتخذينه درعا تتكسر عليه نصال المصائب ، ويرد عنك كيد الكائدين .
[تنهض تسير خطوات بثبات ، تدق دقات متواصلة بالعصا على الأرض ، تتباعد المسافات بين الدقة والأخرى حتى تتوقف ]
أسماء : ( بحزم ) كان سيموت مهما طال به العمر مثل غيره ، فلم الحزن يا أسماء ؟ لم الأسى
أيتها العجوز منكودة الحظ ؟ وهل سعدت أنت بامتداد عمرك ؟ هل ارتحت بانفساح أجلك ؟ وهل رأيت في حياتك إلا كل ما يسوء القلب ويحزن الفؤاد ؟ تشربين نار فقد الزوج ومن بعده الأبناء ، تعيشين لتجتري مرارة أيامك وهم لياليك ، عمرك كعقد لا نهاية له ، حباته الألم والأسى ..متى سينقطع هذا العقد وتنفرط حباته ؟ متى ستستريح تلك الروح المعذبة ؟ متى ستسكن تلك النفس القلقة الحائرة ؟
[ تذهب نحو العباءة ، تقبض على أطرافها ، تقربها من فمها تقبلها ، ومن أنفها تتشممها، وتلصقها بصدرها ]
أسماء : لم ينقصوا من عمرك لحظة واحدة ، يا لبؤسهم وحسرتهم ، لقد أضافوا إلى عمرك
أعمارا وأعمارا ،ورفعوا ذكراك أزمانا وأزمانا ،ستكون ملهما لكل فرد قابض على دينه ، ستكون أسوة لطالبي الحق والعدل ، ستسكن في قلوب الأطهار والأنقياء ،سينشدون سيرتك العطرة لتضيء لهم ظلمات لياليهم ،
[ ترفع يدها ورأسها إلى السماء ]
أسماء : ياربي هل ما أعانية وأكابده تكفيرا لذنب ارتكبتُه ؟ وولكني لا أقدر على التحمل ،
تحمل أن يذهب الجميع من حولي فردا فردا وأبقى أنا كظل وتد وحيد منقطع في صحراء مهلكة . أهذا الذنب فادح لهذا القدر ؟ إذا كنتُ قد قدرتُ على فعل الذنب ، فهب لي من القدرة لتحمل تكفير الذنب ، يارب ..ارفق بعجوز ذبحوها بسكين ثلمة قبل أن يذبحوا ابنها ، ارحم أمتك التي شهدت لك بالوحدانية وسارت على خطى رسولك ، الطف بعبدتك الضعيفة المهيضة المنكسرة ،
[ تخفض يدها وتنكس رأسها وتتلفت يمينا ويسارا ]
أسماء :ما هذا الزمن الذي نعيش فيه ؟أضللنا الطريق إلى زماننا ؟ أم ضل الزمان الطريق
إلينا؟
أصرنا في زمن دفن الأموات من عزيز الأماني ، لا ...لابد أن أدفنه ، سأحمل كفنه ، وأذهب إليه في (الحجون) لأكفنه ، لا أظن أن أحدا سيجرؤ أن يساعدني أن أقترب من جسمانه الطاهر ، (مكة ) كلها في قبضة المبير ( الحجاج بن الثقفي ) الفاسد الداعر . ( تدور حول نفسها ) ماذا ستفعلين يا أسماء ؟
[ تلتفت وتذهب نحوالفراش ، تبحث بيدها عن الكفن ، تترك العصا وتحمله بين يديها ، تبسط لفائفه وتحيط نفسها به ) .
أسماء : سأكفن نفسي هكذا ، لا ، لم أجن ، حتى وإن جننت فما جدوى العقل الآن ؟ وهل من
العقل أن يحدث لي ما يحدث ، ها أنا أكملت تكفيني بنفسي ، سأطلب أن يذهبوا بي إليه ، حيث صُلب ، وأجلس تحت قدميه ولن آكل ولن أشرب ..أما أن أموت وأدفن تحت قدميه وأما أن ينزلوه ويسمحوا لي لأكفنه وأدفنه .
[ تحكم أربطة الكفن حول جسدها ، تبحث عن العصا ، تتعثر تسقط على الأرض ]
أسماء : لا ، ليس الآن ، لم يحن الوقت بعد ، تحاملي على نفسك وانهضي وقفي على قدميك ،
لا تهن أيها العظم الآن ، امنحني يارب القوة ..أي قوة تلك التي أطلبها وأنا في تلك السن ؟ وأي قوة تلك التي أطلبها بعدما أكلتني المحن وسحقتني الشدائد ؟ ! إذن كن معي يا الله ، كن مع عبدتك الضعيفة مهيضة الجناح مكسورة القلب ، ذبيحة الفؤاد ، اجبرني ..ألست الجبار لكل منكسر ؟ والمنصف لكل مظلوم ؟والمنتقم لكل مقهور ؟
[ تتجه نحو الباب ، بيد تمسك العصا تدب بها على الأرض ، وتحيط صدرها باليد الأخرى ]
أسماء : أين أنتم يا أهل مكة ؟ أين أنتم يا حجاج بيت الله ؟ أين أنتم يا أصحاب المروءة
والشهامة (الزبير) قتل وهو يدافع عنكم ، (الزبير) ذُبح وهو يرفع قيم العدل والخير والانصاف ، (الزبير) صلب وهو ينوب عنكم في جهاد القتلة والطغاة ، دافعوا عنه ميتا كما كان يدافع عنكم حيا ، لا يريد منكم قتالا ، لا يطلب منكم جهادا ، ولا ينتظر منكم كرا أو فرا ، لا يلتمس منكم تضحية بنفس أو مال ، أمنيته أن يدفن ، غايته أن يواري جسده التراب ، أهذا بعزيز على هذا الفارس المعذب ؟ أهذا بكثير على هذا الفارس المصلوب ؟ أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؟ أصرنا في زمن دفن الأموات من عزيز الأماني ؟
إظلام .
( النهاية )
0 التعليقات:
إرسال تعليق