المسرحية التاريخية "حياة وموت بكر صوباشي " تأليف : ماجد الحيدر
مجلة الفنون المسرحيةتقديم
تحاول هذه المسرحية تناول قضايا معاصرة مثل الدكتاتورية والخيانة والطموح السياسي الجنوني والصراع على النفوذ بين القوى الاقليمية الكبرى التي تتنافس على السيطرة على بلاد الرافدين بالاعتماد على الإحالة الى أحداث تاريخية حقيقية وقعت في القرن السابع عشر حين ارتقى بكر الصوباشي (ولقب صوباشي يطلق على القائد المحلي للقوات العثمانية) الى مركز الحاكم الفعلي وصاحب الكلمة العليا في بغداد، عن طريق القسوة المفرطة والخداع وتصفية الخصوم، وكيف حاول اللعب على التنافس التقليدي بين الدولتين العثمانية والصفوية لتثبيت نفوذه والبقاء في الحكم لينتهي الامر الى احتلال جديد ودمار كارثي للبلاد وتصفيته بذات الطريقة البشعة التي مارسها مع منافسيه.
الشخصيات حسب الظهور:
محمد بن بكر صوباشي. ضابط شاب.
محمد بن الكهية عمر: موظف شاب.
بكر صوباشي: قائد قوات الانكشارية. في أواسط الخمسينات.
الكهية عمر: الكهية هو أعلى موظف إداري في الولايات العثمانية، وعمر واحد من أنصار ومقربي بكر صوباشي.
محمد قنبر: قائد قوة العزّاب. العدو اللدود لبكر صوباشي.
أحمد بن محمد قنبر: ضابط شاب.
الوالي يوسف. عجوز سمين بلحية كثة وصدر تثقله النياشين.
المفتي
المكتوبجي (المسؤول عن البريد وكتابة الرسائل) وهو نفسه البهلول. يغير عمامته الى طرطور مرقّع للرأس عندما يتحول الى مهرج.
الشاه عباس الصفوي.
زوجة الصوباشي.
جنود وحرس ومنادون ومواطنون وأعيان وأطفال وخدم ومراسلون.
لبيان مكان الأحداث وطبيعتها يُرفع علم الدولة العثمانية أو الدولة الصفوية حسب المشهد.
الفصل الأول
المشهد الأول
أمام مقر قيادة الانكشارية في بغداد. محمد بن بكر صوباشي ومحمد بن الكهية يدخلان من جهتين متقابلتين
محمد بن الصوباشي : ماذا يا ابن الكهية، هل انتهت كل الاستعدادات؟
محمد بن الكهية: نعم يا صديقي. لقد جهزنا قوة عظيمة من مقاتلينا المدججين بالمدافع والبنادق في انتظار اشارة من أبيك.
محمد بن الصوباشي: انه يشتعل غضبا ويتحرق لملاقاة قبائل الجنوب المتمردة.
محمد بن الكهية: أظنه سيبطش بهم هذه المرة بطشة لن تقوم لهم قائمة بعدها.
محمد بن الصوباشي: بالتأكيد. أنت تعلم ماذا يفعل بكر صوباشي إذا غضب.
محمد بن الكهية: هل تخبرني؟ إنه لا يرحم أحدا.
محمد بن الصوباشي: لكنني قلق بعض الشيء. كيف يأمن الى ترك بغداد وفيها هذا الخبيث محمد قنبر بجنوده الأربعة آلاف؟
محمد بن الكهية: لا تقلق. صوباشي آغا ينام بعين واحدة، وهو يستطيع أن يعود الى هنا بسرعة البرق لو تطلب الأمر. ألا يقول المثل الإسطنبولي: ليست بغداد بعيدة عن المشتاق؟ ثم إننا، أنا وأبي، باقيان هنا ومعنا ما يكفي من القوات. لا تنسَ أن عقل أبي يفوق عشرة آلاف بل عشرين ألفا من الجنود.
محمد بن الصوباشي: فماذا اذا اجتمع مع عقل ابنه؟
(يضحكان. يدخل بكر صوباشي)
بكر صوباشي: هل كل شيء على ما يرام؟
محمد بن الصوباشي ومحمد بن الكهية: نعم يا جناب الآغا.
محمد بن الصوباشي: الجنود بانتظار اشارتك للتحرك.
محمد بن الكهية: وكل الاستعدادات المالية والتموينية قد اكتملت.
بكر صوباشي: حسنا. علينا أن نتحرك في الحال. (مخاطبا ابن الكهية) ولكن أين والدك؟
محمد بن الكهية: إنه ينهي بعض الترتيبات. أنت تعلم يا سيدي (يشير الى رأسه علامة التفكير) ترتيبات من ذلك النوع.
بكر صوباشي: آه.. ملعون مثل أبيك.
(يدخل أحد الجنود ويؤدي التحية)
الجندي: سيدي الآغا. على الباب رسول من قبل جناب الوالي يقول إنه يستدعيك للمثول الى حضرته.
بكر صوباشي (باستخفاف): ليس الآن، ليس الآن. قل له إن الآغا سينطلق بعد لحظات. سنلتقي بعد عودتي إن عشنا. (ثم بخفوت) وإن لم يحن أجل أحدنا. هيا، لننطلق!
(يخرج بكر صوباشي والجنود)
محمد بن الصوباشي (يحدث نفسه): ماذا عنى أبي بجملته الأخير؟ أشم في الهواء رائحة أحداث جسام.
محمد بن الكهية: لا تخش شيئا. الصوباشي ليس انسانا بسيطاً. إنه يعرف ما يريد لكنه ينتظر أن يقدم الآخرون على الخطوة الأولى.
(يدخل الكهية)
محمد بن الكهية: مرحبا يا أبي. أين كنت؟ لقد سأل الآغا عنك؟
الكهية: كنت أشرف على الاستعدادات.
محمد بن الكهية: استعدادات لماذا؟
الكهية: لكل شيء. ألم يقولوا في الأمثال غاب القط العب يا فأر؟ (مخاطبا محمد بن الصوباشي) مرحبا أيها الشاب. لقد فعل الوالد حسنا بإبقائك هنا. ربما احتجنا اليك في الأيام المقبلة.
(يخرج الكهية)
محمد بن الصوباشي: هل فهمت شيئا؟
محمد بن الكهية: لم أفهم لكنني شعرت. أظن بأن علينا أن نعود الى ثكناتنا.
(يخرجان)
يدخل محمد قنبر وابنه:
محمد قنبر: هيا يا ولدي. أسرع فالجيش على وشك التحرك. لا تنس ما أوصيتك به. أبقِ عينيك مفتوحتين ولا تبتعد عن ذلك الشقيّ. بيني وبينك المراسل الذي اتفقنا عليه.
أحمد بن محمد قنبر: هل أنت واثق منه؟
محمد قنبر: بقدر ثقة الراعي بكلب جائع. أرجو ألا أحتاج اليه.
أحمد بن محمد قنبر: حسنا يا أبي. وداعا.
محمد قنبر: رافقتك السلامة يا ولدي.
المشهد الثاني
في مقر الوالي
(يدخل الوالي ومحمد قنبر)
محمد قنبر: هل رأيت وقاحته يا مولانا الوالي؟ إنه يرفض القدوم اليك والاستئذان ببدء الحملة.
الوالي: أنه يزعجني جدا لا أعرف مَن الوالي ببغداد، أنا أم هو.
محمد قنبر: أنا والأربعة آلاف مقاتل من قوة العزاب رهن إشارتك. يمكنني أن أدعو كبار الموظفين والوجهاء لاجتماع حاسم.
الوالي: ليس الآن. لننتظر حتى يبتعد قليلا قبل اتخاذ اي قرار.
محمد قنبر: حسنا، لنعقده بعد صلاة الجمعة القادمة.
المشهد الثالث
في مجلس الكهية
محمد قنبر (مواصلا حديثا سابقا): وهكذا أيها السادة، يتحتم علينا باعتبارنا أعيان البلد وأكابره، أن نبادر الى فعل شيء يخلصنا من هذا الجبار العنيد. ما قولك يا مولانا المفتي؟
المفتي: أوافقك تمام الموافقة يجب التخلص من هذا الطاغية الذي لم نر له مثيلا منذ 87 عاما عندما فتح الله على سليمان القانوني طيب الله ثراه بفتح بغداد.
محمد قنبر: وأنت يا جناب الكهية.
الكهية: أنا معكم بالطبع.
محمد قنبر: إذن على بركة الله. لقد هيأت هذه العريضة باسمكم لجناب الوالي، وفيها نطالب بتخليص البلاد والعباد من الصوباشي. يا جناب الكهية هل لك أن تتكرم وتحملها الى حضرة الوالي؟
الكهية: على الرحب والسعة.
(يخرج الجميع عدا الكهية. يدخل محمد بن الكهية)
الكهية: مرحبا يا ولدي. حسنا فعلت بالإسراع في المجيء. أظن أن مهمتنا ستبدأ مبكراً بعض الشيء.
محمد بن الكهية: ماذا يا أبي. هل كشفوا عن نواياهم.
الكهية: وأسفروا عن وجوههم الحقيقية. اسمع يا ولدي. اجمع كل من معنا من قوات. أغلق الشوارع وأمطر القلعة بالقنابل إذا أبدوا أية مقاومة. قبل شروق شمس الغد أريد أن أسمع منك أن بغداد سقطت بأيدينا.
محمد بن الكهية: أمرك يا سيدي.
(يدخل المكتوبجي. ينحني محيياً)
المكتوبجي: السلام على جناب الكهية. أخبروني بأنك أرسلت في طلبي.
الكهية: نعم يا مكتوبجي أفندي. أكتب رسالة باسمي الى صوباشي آغا. قل له أن الفاكهة نضجت وآن قطافها.
المكتوبجي: أهذا كل شيء؟
الكهية: نعم، وجئني بها فورا كي اختمها وأرسلها بمعرفتي.
المكتوبجي: حالا يا سيدي.
(يخرج الكهية وابنه)
المكتوبجي (يلبس الطرطور ويحدث نفسه): ما هذه الألغاز؟ لماذا لا يتحدث هؤلاء مثل بقية البشر؟ أم تراهم هم البشر ونحن المعيز؟ ما علينا. فلأكتب الرسالة في الحال ثم أذهب الى المطبخ فقد نضجت معدتي على نار الجوع.
المشهد الرابع
داخل القلعة، أصوات القنابل والرصاص في الخارج.
محمد قنبر يروح ويجيء في قلق. يدخل أحد الضباط.
محمد قنبر: ما وراؤك أيها الضابط؟
الضابط: الأخبار سيئة يا سيدي، لقد أغلق جنود الصوباشي يقودهم الكهية وابنه الشوارع وحاصروا الحاميات التي يتحصن فيها جنودنا. سقطت كل مواقعنا و لم تبق بأيدينا سوى هذه القلعة.
محمد قنبر: لقد أخطأنا لأننا لم نسحق رأس الأفعى من البداية. هل وصل المكتوبجي؟
الضابط: نعم إنه في الخارج ينتظر الإذن بالدخول.
محمد قنبر: دعه يدخل على الفور.
الضابط : أمرك يا سيدي. (ينادي شخصا في الكواليس) أدخِل المكتوبجي.
(يدخل المكتوبجي وهو يرتجف. ينحني محيياً)
المكتوبجي: السلام على جناب القائد. أخبروني بأنك أرسلت في طلبي.
محمد قنبر: نعم يا مكتوبجي أفندي. أكتب رسالة باسمي الى ولدي أحمد. قل له فليقطف رأس الخس الكبير.
المكتوبجي: أهذا كل شيء؟
محمد قنبر: نعم: وجئني بها فورا كي اختمها وأرسلها بمعرفتي.
المكتوبجي: حالا يا سيدي. (يلبس الطرطور ويخرج وهو يدمدم) فواكه، خس، بصل. لقد أوقعني الله بين قوم مجانين.
(يدخل أحد الضباط)
محمد قنبر: اسمع أيها الضابط. سيكون عليك أن تحمل تلك الرسالة الخطيرة الى ابني. إنه ضمن الدائرة المقربة الى الصوباشي الكلب. سلمها اليه يداً بيد سارع الى التنكر بزي أحد الدراويش وتسلل من القلعة. سأحاول أن أصمد يومين أو ثلاثة. أحذر أن تقع بيد الصوباشي أو جواسيسه.
(يخرج الضابط)
محمد قنبر (يحدث نفسه): انه آخر سهم في جعبتي، لو استطاع ولدي أن يغرز خنجره في صدر صوباشي لتشتت الذين مِن حوله وانتهى كل شيء الى ما نشتهي.
المشهد الخامس
أرض المعركة في الجنوب
الضابط المراسل مكبل اليدين والرسالة بيد صوباشي. يقرأها ثم يصيح في غضب.
بكر صوباشي: حسنا يا قنبر الكلب أنت ومولاك الوالي الحقير. أتجرؤان على أن تتآمرا على حياتي، أنا ملك البلاد غير المتوَّج؟ ستريان من يتغدى بالآخر. جهزوا أنفسكم، سنعود الى بغداد في الحال.
حارس: وماذا نفعل بهذا المراسل؟
بكر صوباشي: هل تسألني؟
(يمرر سبابته على رقبته علامة الذبح)
المشهد السادس
على شاطئ دجلة. تظهر القلعة من الشاطئ المقابل. ينطلق منها وابل من الرصاص.
بكر صوباشي: اعبروا يا رجالي الشجعان. ليس بيننا وبين القلعة إلا دجلة. سأكافئ من يأتيني برأس الوالي او الكهية بأجمل امرأة في بيتهما.
(يدخل أحد الجنود)
الجندي: سيدي الآغا. أبشر. لقد قُتِل الوالي برصاصة طائشة.
بكر صوباشي: لا ليست طائشة، إنما هي يد القدر التي سددت وداست الزناد.
(يدخل جندي آخر)
الجندي: سيدي الآغا، لقد عرض محمد قنبر الاستسلام مقابل الابقاء على حياته وحياة اسرته.
بكر صوباشي: ألم يتأخر قليلا؟ حسنا قولوا له إننا نقبل عرضه، وحين يقع في قبضتكم كتفوه وابنه ومن بقي معه وجيئوا بهم الي. أيها الرجال. ادخلوا القلعة، فتشوا البيوت والشوارع. اقتلوا كل من تشكون به. لا تبقوا على أحد منهم.
أحد المرافقين: سيدي. لا يبدو عليك السرور بهزيمة أعدائك.
بكر صوباشي: السرور يعني الراحة، يعني الكسل. أمثالي لا وقت لديهم للسرور.
يُدخلون المكتوبجي/البهلول بثيابه المرقعة ترافقه الصفعات.
بكر صوباشي: ومن هذا أيضا.
حارس: هذا رجل وجدناه في بيت الوالي.
البهلول (مصححا): في مطبخ بيت الوالي.
بكر صوباشي: وماذا كنت تفعل هناك؟
البهلول: ماذا كنت أفعل؟ أنا بهلول. هذا عملي الذي لا أجيد غيره. اضحك مخدومي وابكيه ويصفعني على قفاي واصفعه
بكر صوباشي: يبدو ظريفا. ابقوه معي.
البهلول: وهل ستدعني ادخل المطبخ متى ما شئت؟
بكر صوباشي: نعم.
البهلول: وهل ستدعني اصفعك؟
(يمسك به الحرس ويهمون بقتله)
بكر صوباشي (مبتسما): اتركوه، اتركوه.
يخرج الجميع عدا البهلول الذي يحدث نفسه.
البهلول: أتركوه، أتركوه. هذا كل ما استطاع قوله. حتى إنه لم يضحك لدعابتي. يبدو بأنه لا يعرف الضحك، أو حتى البكاء. ليتني استطعت أن أصفعه حقاً. ولكن لا احد يعرف من يصفع من في هذه الدنيا. آه أيها الفلك الدوار. هذا جندي بسيط طالما تلقى الشتائم والصفعات يتسلق درجات السلالم قفزا (يؤدي قفزات مضحكة) حتى يصبح الملك غير المتوج لهذه البلاد العاثرة الحظ. (يركب عصاه) ديخ ديخ هيا يا ولد. ماذا تنتظر؟ الى مطبخ سيدنا الجديد!
الفصل الثاني
المشهد الأول
أحد أزقة بغداد. يدخل المنادي ومعه الطبال.
المنادي: يا أهالي بغداد. حاضركم يبلغ غائبكم. توجهوا الى شاطئ النهر لتشهدوا انزال العقاب الصارم بالخائن محمد قنبر وابنه والمفتي وبقية الخونة. يا أهالي بغداد. حاضركم يبلغ غائبكم.
يخرج الطبال ويدخل اثنان من المواطنين. في خلفية المسرح صرخات وأضواء نيران مشتعلة.
المواطن الأول: يا لها من ميتة بشعة. تاريخ البشاعات كله لم يشهد مثيلاً لها.
الثاني: بلى يا صاحبي. يا ما شهد وسيشهد. القتل في بلادنا فن عريق.
الأول: ولكن أن يضعهم مكبلين في قوارب مملوءة بالنفط والقار ويشعل فيهم النار وسط دجلة. هذا شيء لم يفعله تيمورلنك نفسه.
الثاني: هذا الرجل لن يهدأ له بال حتى يملأ الشوارع بالجثث.
(يدخل مواطن ثالث)
الثالث: هل سمعتما بما حدث؟
الثاني: ماذا؟
الثالث: أخبرني قريبي الضابط الكبير أن بكر صوباشي قد خاطب الباب العالي مدعيا أنه أنقذ الدولة من الوالي الخائن يوسف وطالب بتعيينه واليا على بغداد مكافأة على ما فعل.
الثاني: وماذا كان رد الباب العالي؟
الثالث: اغضبته لهجته المتكبرة وكذبه الصفيق. لكنه لا يستطيع الان أن يعاقبه. وماذا يملك السلطان كي يعفو أو يعاقب. الجميع يعرف أنه مختل وضعيف.
الأول: نعم. يقولون إنه يدور في القصر باكيا وينادي على ابن أخيه المقتول، وأن السلطة كلها بيد قادة الانكشارية ويد والدته عالمة سلطان. ألم ينصبوه قبل هذا سلطانا لثلاثة أشهر ثم عزلوه لينصبوا ابن أخيه عثمان الثاني؟
الثالث: ثم قتلوا هذا العثمان وأعادوا المجنون الى السلطنة.
الأول: وهم على وشك عزله ثانية ومبايعة ابن أخيه الآخر.
الثاني: مراد؟ لكنه ما زال صبيا عاكفا على الشعر والموسيقى. ستكون أمه هي الحاكمة الفعلية للدولة ريثما يكبر وتنمو انيابه ومخالبه.
الثالث: هذا ان استطاعت حمايته من دسائس القصر والانكشارية.
الأول: لن يكون أفضل ممن سبقوه، سيبدأ بقتل أخوته وأعمامه أو سمل أعينهم ليصفو له الجو.
الثاني: نعم. ربما يفعل وربما لا، لكنه لن يكف عن رفدنا بهذه الديدان التي تلعق دماءنا.
الأول: ولكن هل يعني هذا أنهم استجابوا لمطالبه؟
الثالث: ليس تماما. لقد وعدوه بتعيينه واليا على الرقة وها هم يرسلون الينا متصرفا يدعى علي آغا ليتسلم الولاية من صوباشي ريثما يصل الوالي الجديد.
الأول: لا أعرف لماذا يتنافس هؤلاء الباشوات على هذه الولاية الفقيرة المنسية التي يأكلها الجراد؟
الثاني: لأنها سهلة الحلب يا صديقي. (يتوجه بالسؤال الى الثالث) ولكن ماذا فعل صوباشي؟
الثالث: لم ينتظر وصول المتصرف. لقد عين نفسه واليا على بغداد وأبرز ورقة قال إنها فرمان سلطاني بمنحه الباشوية.
الأول: بكر صوباشي ليس سهلا. سيتغدى بهذا المتصرف قبل أن يتعشى به.
الثاني: ألا فلنكفّ عن الحديث في السياسة. الناس على شفا الهلاك من الجوع. يبدو أن غضب السماء والأرض قد اجتمعا علينا. الأهالي يأكلون الكلاب والقطط والأموات والأطفال
الأول: يا إلهي. لم تمض سنوات على الطاعون الكبير.
الثاني: هكذا هو حالنا. طاعون فجراد فطوفان فزلازل فجفاف فمجاعة فحرائق فطغاة فحصار فغزاة فقطاع طرق فبُداة.
الأول: والدماء. الدماء التي تتدفق مثل نهر ثالث يسقي تراب هذه البلاد.
صوت المنادي: يا أهل بغداد، لقد وصلت الأكلاك المشحونة بالأرزاق من الشمال.
الأول: يا قريب الفرج.
صوت المنادي: وقوافل الطعام القادمة من الشرق عند أبواب المدينة.
الثاني: الحمد لله. لن نهلك من الجوع الى حين.
الأول: لكل شيء ثمنه. لا ندري أية صفقات يعقدها هذا الرجل. إنه يلعب على الحبلين: تبريز من هنا والأستانة من هناك وهو مستعد لبيع نفسه للشيطان في سبيل مصلحته.
الثالث: كي يبقى هو السيد.
الثاني: ونظل نحن العبيد، نظل كرة يتقاذفها الكبار.
الأول: اسكتا ثمة مفرزة من الانكشارية تقترب منا.
المشهد الثاني
في القلعة. بكر صوباشي جالس يقلب بعض الأوراق. يدخل ابنه.
محمد بن الصوباشي: سيدي الوالي. لقد وصل وفد يرأسه علي آغا مندوبا عن القائد العثماني حافظ باشا وطلب مقابلتك لاستلام الولاية منك حتى قدوم الوالي الجديد.
بكر صوباشي: تصرّف.
محمد بن الصوباشي: ماذا أفعل يا أبي؟
بكر صوباشي: ماذا تفعل؟ ألم تتعلم بعد كيف تعيد الصواب لعدو ضعيف يتوهم القوة؟
(يمر بأصبعه على رقبته علامة الذبح)
محمد بن الصوباشي: كلهم؟
بكر صوباشي: كلهم. أو اسمع. أبق على حياة واحد منهم. دعه يشهد ذبح من معه ثم أطلق سراحه ليعود الى معسكر حافظ باشا ويحدثهم بما رآه. إنها الحكمة القديمة يا ولدي: اضرب الضعيف ضربة يطير لها قلب القوي.
محمد بن الصوباشي: لكن قوات حافظ باشا تتجمع على مسيرة ساعات.
بكر صوباشي: دعه يتقدم إن استطاع.
(يخرج محمد بن الصوباشي)
بكر صوباشي (يحدث نفسه): ها هي صفحة أخرى تُخطُّ في كتب التاريخ، بل سطر آخر. لكن ما بال الأحداث تتعاقب بأسرع مما يقرأ المرء عنها في كتاب (يتثاءب) علي أن أرتاح قليلا. ينتظرني عمل كثير في الصباح (يتثاءب ثانية) عجيب أمر هذا النوم. يتقاتل الأمراء والملوك منذ الأزل من أجل الغلَبة. يريقون الدماء ويهدمون المدن والقلاع. لكن النوم ينتصر عليهم جميعا دون قطرة من دم.
(ينام وتخفت الإضاءة. الصوباشي يحلم)
صوت أمه: لا لا تأخذوا ولدي.
صوت جندي عثماني: اخرسي أيتها المرأة. خذوها من هنا وأرسلوها الى الاستانة في موكب السبايا. وأرسلوا هذا الولد الى معسكر التدريب. أختنوه وأدخلوه مدرسة الجنود. يبدو قوي البنية. سيكون انكشاريا ممتازاً.
صوت صوباشي الصغير: أمي، أمي.
(ينقلب على جانبه الثاني)
صوت أحد ضحاياه: ارحمني يا سيدي الصوباشي، ارحم أطفالي.
صوت بكر صوباشي: خذوهم من أمامي. احرقوهم. أهجموا يا رجالي، لا ترحموا أحداً.
تتعالى صرخات مختلطة بأصوات المدافع والرصاص (يدخل محمد بن الصوباشي ويوقظه)
محمد بن الصوباشي: سيدي. لقد وصلت طلائع قوات حافظ باشا الى الأسوار.
بكر صوباشي (نصف يقظان) اهجموا فورا. لا تدعوهم يرتاحون أو ينصبون خيامهم ويجهزون مدافعهم. من يريد اصطياد الثعالب عليه أن يستيقظ مع الدجاج.
المشهد الثالث
مقر الصوباشي في القلعة. ثياب الصوباشي مثقلة بالنياشين وتبدو أكثر فخامة.
بكر صوباشي: عام كامل منذ أن هزمنا حافظ باشا على أبواب بغداد. ها أنذا صاحب الكلمة العليا. النظام مستتب. الأمن سائد، الناس منشغلون بمعيشتهم، والباب العالي منشغل عني بمشاكله. لكن الكسل يهدّ قواي. لم أخلق للجلوس في الدواوين.
يدخل محمد بن الصوباشي.
محمد بن الصوباشي: سيدي الباشا. لقد جمع السردار حافظ حشوداً كبيرة من الجنود ورجال العشائر وهو يقترب من بغداد مرة أخرى.
بكر صوباشي: ألم يتعلم هذا الثور الدرس الذي لقّناه إياه قبل عام. اسمع يا ولدي، اجمع كل القوات وبادر بالهجوم كما فعلنا في المرة السابقة.
المشهد الرابع
في القلعة. يدخل البهلول.
البهلول: وَي وَي وَي. يا لها من هزيمة قاسية. الثعلب العجوز حافظ لعبها بمكر هذه المرة. كيف استطاع أن يستدرج ديكنا المقدام الى خارج الأسوار ليفتك بجنوده؟ يا إلهي. ثلاثة آلاف وسبعمائة قتيل متناثرين في أرض المعركة. ألفان وخمسمائة أسير يذبحهم حافظ باشا كالخراف. وهذا الحصار الجديد.. لا أكاد أجد ما يسد رمقي حتى في مطبخ الوالي.
(يدخل بكر صوباشي)
بكر صوباشي: أها. أنت هنا يا مكتوبجي أفندي؟ جئت في وقتك. أكتب رسالة باسمي الى الشاه عباس الصفوي.
المكتوبجي: الى من يا سيدي؟
بكر صوباشي (يصفعه): ألم تسمع أيها الأحمق؟. أكتب له إنني أدعوه الى الحضور الى بغداد بجيشه لاستلام مفاتيح المدينة وجعل الخطبة والسكة فيها باسمه، شرط ان أبقى حاكماً عليها.
يخرج بكر صوباشي ويبقى المكتوبجي.
المكتوبجي (يتحول الى البهلول): أصحيح ما سمعت؟ ربما أكون أحمقا لكنني لست أصمّا بالتأكيد. (يخاطب حماره الوهمي) ديخ ديخ يا حماري العزيز. سنناقش الأمر لاحقا.
المشهد الخامس
في البلاط الصفوي. الشاه عباس يقرأ الرسالة ثم يناولها الى أحد المرافقين.
الشاه: عظيم عظيم. ها هي بغداد تعود الى أيدينا على طبق من الذهب ودون قطرة من الدم. أرسلوا أوامر مستعجلة الى والي همدان صفي قلي خان كي يسبقنا ويسير بالجيش إليها ويستلمها من الصوباشي.
المشهد السادس
مقر الصوباشي في القلعة. على الجدار علم الصفويين.
صوباشي جالس مع الوفد الصفوي.
رئيس الوفد: يا جناب الباشا. يومان ونحن هنا بانتظار أن تسلم لنا مفاتيح المدينة. لقد أوفى الشاهنشاه المعظم بوعده وأرسل جيشه لمساعدتك في التصدي للجيش العثماني، وها إن طلائع جيشنا تعسكر في شهربان وستكون هنا خلال يوم واحد إذا تلطفت وأعلنت الخطبة والولاء لعظمة الشاه كما اتفقنا.
بكر صوباشي: يا جناب الخان. لقد خطبنا باسمه وأعلنا الولاء بالفعل (يشير الى العلم الصفوي ليؤكد كلامه) ولكن أنت تعلم أن تقاليد هذه البلاد تنص على أن تكون الضيافة لثلاثة أيام وبعدها يتداول الناس في شؤون أعمالهم.
رئيس الوفد: ولكن يا حضرة الباشا.
بكر صوباشي (مقاطعا) : يوم واحد فقط. لقد أعددنا لكم وليمة فاخرة على شاطئ دجلة. تفضلوا الآن الى هناك برفقة الضباط وكبار القوم ريثما أنجز بعض الأمور الضرورية وألحقكم.
(يخرج الوفد الصفوي. يدخل المكتوبجي)
بكر صوباشي: آه يا مكتوبجي أفندي. إنك تصل دائما في الوقت المناسب.
المكتوبجي: خادمك يا جناب الباشا. أنت تُملي وأنا أكتب.
بكر صوباشي: لا، هذه المرة لن تكتب شيئا. ستذهب بنفسك الى معسكر جيش السلطان. أبلغ السردار حافظ أن الشاه عباس يتقدم نحو بغداد، وبين له استعدادنا للدفاع عن المدينة مع الجيش العثماني، إن وافقت الحكومة العثمانية على تنصيبي واليا على بغداد.
(يخرج بكر صوباشي)
المكتوبجي (يتحول الى البهلول): يا له من مهرج حاذق. إنه يبدل ولاءه كما ابدل غطاء رأسي.
المشهد السابع
في أحد الأزقة. مواطنا يتبادلان حديثا هامساً. يدخل المواطن ثالث.
الأول: هل سمعتما الأخبار؟
الثاني: آه يا إلهي ألن تكفَّ عن ولعك بالأخبار؟
الثالث: دعه يا أخي. إنه مرض قديم لن يشفى منه أهل هذه البلاد. (يخاطب الأول) ماذا في سلتك يا صاحبي؟
الأول: أخبار طازجة. أخبار نقلها لي قريبي الضابط الكبير الذي حدثتكم عنه. لقد وصل رسول القائد الصفوي الى المعسكر العثماني وقال للسردار حافظ باشا (يتكلم بلكنة فارسية مضحكة) واقعا لقد أصبحت بغداد ضمن أملاك الشاه المعظم، فهل للباشا إن ينسحب من جوارها ليدوم السلم بين الأمتين العظيمتين؟
الثالث: وماذا كان رد القائد العثماني؟
الأول: لقد قال له (يتحدث بلكنة تركية مضحكة) هذه ليست ارضاً فارسية يا أفندم. إنها أرض عثمانية ونحن نقوم بالواجب وتأديب أحد العصاة المارقين.
الثالث: سيتقاتل الجيشان إذن عند أسوار بغداد؟
الأول: أبدا. حين سمع حافظ باشا بأن صاحبنا بدأ بصك النقود باسم الصفويين وبأن الجيوش الصفوية أكثر منه عددا وعدة اعترف لبكر صوباشي، أعني بكر باشا، بولاية بغداد وانسحب بجيوشه نحو الشمال.
المشهد الثامن
في القلعة. زينة وأجواء احتفالية. العلم العثماني على الجدار صوباشي جالس على كرسي فخم والى جانبه ابنه محمد والناس تدخل من الجهة اليمنى وتقبل يده وتخرج من الجهة اليسرى.
بكر صوباشي: أرأيت يا ولدي؟ هذا هو الدهاء. هذه هي السياسة. يد من حديد تلبس قفازاً من ناعم الحرير.
محمد بن بكر: أعترف لك يا أبي بأنك عبقري قل نظيره. لقد حققت كل ما تصبو اليه وصرت والي بغداد المعترف به من قبل الباب العالي.
بكر صوباشي: حققت كل ما أصبو إليه؟ إنها مجرد محطة عابرة. لن أغادر الحياة إلا وأنت ولي عهدي على مملكة كبيرة تقف ندا لممالك الشرق والغرب.
محمد بن بكر: أطال الله في عمر مولاي الباشا.
بكر صوباشي: والآن الى العمل. أخرج وفد الشاه من السجن وأوصلهم الى باب بغداد. قل لرئيسهم إن خادم السلطان العثماني المعظم الوالي بكر صوباشي هو سيد بغداد وحاكمها الشرعي ولا حاجة له بك أو بسيدك الشاه. قل له إنني سأحلق شاربه إن فكر بالاقتراب من أسوار عاصمتي مرة أخرى.
محمد بن بكر (بعد قليل من التردد): أمرك يا سيدي الوالي.
الفصل الثالث
المشهد الأول بلاط الشاه عباس.
الشاه يقرأ الرسالة ثم يمزقها ويلقيها على الأرض في غضب.
الشاه: من هذا النكرة كي يجرؤ على تحدي إرادتي والسخرية من رسلي. اجمعوا الجيوش من كل مكان. سأتوجه بنفسي الى الحدود. لن نتوقف إلا في بغداد.
المشهد الثاني
في القلعة. لا أعلام على الجدار. أفراد الوفد الصفوي بكامل أسلحتهم.
رئيس الوفد: اسمع يا صوباشي. جيوش الشاهنشاه الجرارة خارج الأسوار. تستطيع أن تراها من سطح القلعة. هذا آخر إنذار. عليك أن تعلن الاستسلام الكامل وتفتح الأبواب فورا وإلا ستواجه غضب جلالته.
بكر صوباشي (بتذلل): ألا ما أسرع غضب مولانا الشاه المعظم! اعلموا أنني لا أنكر فضله علينا وقطعه كل هذه المسافة لنجدتنا. ونحن شاكرون له على صنيعه. لكن الوضع اختلف الآن، لقد حلت كل مشاكلنا مع الباب العالي واستتبت كل الأمور. كل ما أريده هو أن أحكم عاصمتي بسلام واطمئنان بعيدا عن المشاكل والصراعات. وعليه أقترح على حضراتكم أن أتحمل كل النفقات المالية لحملتكم المباركة مقابل رجوع جيوشكم من حيث أتت.
رئيس الوفد: وهل تظن الشاه بحاجة الى أموالك. لقد جاء الى هنا بهدف واحد لا غير. أما بغداد أو بغداد.
بكر صوباشي: أنا أعتذر أيها السادة. لا أستطيع؟
رئيس الوفد: أهو الرفض إذن؟
بكر صوباشي: أفهمه كما تريد.
رئيس الوفد: حسنا، سوف نلتقي قريبا يا صوباشي.
(يخرجون)
الصوباشي: الى الجحيم. حسنا، لن تتأخر نجدة الجيش العثماني، لكن علي أن أستعد لحصار جديد.
المشهد الثالث
في أحد أزقة بغداد. المواطنون الثلاثة.
الأول: لقد احترنا مع هذا الصوباشي.
الثاني: قبل أسابيع يخطب للشاه ويسكُّ النقود باسمه، وها هو اليوم يصلب من يشك بأنهم يوالونه منكسي الرؤوس على أسوار المدينة.
الثالث: وحصار الشاه يشتد.
الثاني: والقنابل لا تكف عن الانهمار.
الأول: يا إلهي. لماذا خلقتنا في هذه البلاد؟
الثالث: ربّي خذ أمانتك.
المشهد الرابع
في القلعة. محمد بن الصوباشي لوحده. الغرفة شبه مدمرة.
محمد بن الصوباشي: ثلاثة أشهر وجيوش الشاه تحاصر بغداد وتمطرها بالقذائف. ثلاثة أشهر وهذا العجوز المجنون يرفض الاستسلام ويتوسل بالجيش العثماني لنجدته وما من مجيب. لقد أخذ أتباعنا وأقرباؤنا بالهروب الى معسكر الشاه طلبا للنجاة بأنفسهم.
(يدخل المكتوبجي)
المكتوبجي: نعم يا سيدي. بماذا تأمر.
محمد بن الصوباشي: أيها المكتوبجي أكتب رسالة للشاه واعرض عليه التفاوض وتسليم القلعة مقابل منحي ولاية بغداد.
المكتوبجي: ماذا حدث يا سيدي؟ إن والدك الباشا ما زال جالسا على كرسي الولاية. لقد رأيته قبل قليل.
محمد بن الصوباشي (يصفعه على قفاه) اخرس أيها البهلول. لا تتدخل فيما لا يعنيك.
(يخرج محمد الصوباشي)
المكتوبجي: أهكذا إذن يا صوباشي؟ ولي عهدك على مملكتك الموعودة يتخلى عنك ويبيعك بأبخس الأثمان؟ هذه عاقبة طغيانك. (يتحول الى البهلول) وما شأني أنا؟ اكتب يا بهلول. أَكتُب. لا تكتب يا بهلول. لا أكتب. ديخ.
المشهد الخامس
القلعة. بكر صوباشي يروح ويجيء في يأس. أصوات القذائف تشتد.
بكر صوباشي: أيتها الليلة التشرينية الحالكة ما أطولك. وأنت أيها الفجر البارد، ماذا تحمل من أخبار؟ لقد خذلني الجميع. الجيش العثماني آثر الانسحاب وتركي لمصيري. ضباطي يفرون. حتى ابني اختفى منذ ليلتين.
تدخل امرأته وبناته.
بكر صوباشي: تعالوا يا صغاري كي أودعكم. لقد حان وقت الفراق. ثمة باب سري آمن ستخرجون منه الى بيت الكهية الذي سيتولى تهريبكم خارج بغداد
الزوجة: إذن فهي النهاية؟
بكر صوباشي: نعم هي النهاية.
الزوجة: كم مرة حذرتك منها؟ كم مرة قلت لك أن لك زوجة وأطفالا عليك أن تعيش من أجلهم؟ كم مرة طلبت منك أن تتوقف عن اللعب مع الكبار؟
بكر صوباشي: كفي يا امرأة، لقد فات وقت الكلام.
الزوجة: لا لم يفت. يمكنك أن تهرب معنا.
بكر صوباشي: ليس بكر صوباشي من يهرب من مصيره. أنا هنا حتى المشهد الأخير. يولد المرء ليصنع التاريخ أو ليتفرج عليه وهو يصنع. أنا أخترت الأول، وليكن ما يكون. تعالن يا بناتي الحبيبات. (يقبلهن) لقد كنت أبا صالحا لكُنَّ، أليس كذلك؟ هيا. وداعاً.
(تخرج الزوجة والبنات)
بكر صوباشي: لو كان الأمر بيدي لألقيت عن ظهري كل هذه الأحمال وأخذتكم الى قرية بعيدة هانئة نعيش فيها بقية أعمارنا. ولكن هل الأمر بيدي؟ هل نفعل ما نريد أم ما يريده الآخرون أم ما تريده الأقدار أم هي صدفة عمياء تسوقنا يمينا وشمالا؟ ألا إن لكل سيدٍ سيدٌ يعلوه، مرحبا إذن أيها القدر. فلتفعل ما تشاء.
(يدخل احد الجنود دون تحية)
بكر صوباشي: ماذا تحمل يا غراب البين؟
الجندي (يرد بقسوة) إنها نهايتك يا بكر. لقد فتح ابنك أبواب المدينة وجنود الشاه يتدفقون اليها كما الجراد. اسمع، هذه طبول انتصارهم. سيكونون هنا في دقائق؟ انج بنفسك إن وجدت سبيلا.
(يستدير الجندي ويخرج دون تحية)
بكر صوباشي (يناديه) توقف أيها الجندي. توقف. إنني آمرك. (يحدث نفسه) آه أيتها الخيانة، يا نبيذا يشرب منه كل من يعصره، أية مرارة تملئين بها أجوافنا الظمأى؟ أي سم زعاف تقطرين في أفواه طالما انتظرت الرحيق؟ لماذا أشعر بالبرد؟
(يدخل جنود الشاه ويلقون القبض عليه)
المشهد السادس
معسكر الشاه. مجموعة من الجنود يتقدمهم محمد بن الصوباشي يدخلون بكر صوباشي في قفص حافيا حسيرا . يقبلون الأرض تحت قدمي الشاه.
الشاه: ها، هل أدلى بكامل اعترافاته؟
محمد بن الصوباشي: نعم يا سيدي. لقد أشرفت بنفسي على تعذيبه. انه في هذا القفص منذ سبعة أيام. لم ندعه ينم ولو لدقيقة واحدة وكويناه بالنار حتى اشتوى لحمه
الشاه: وهل أخبركم أين يخبئ أمواله؟
محمد بن الصوباشي: حتى آخر قرش.
بكر صوباشي (موجها كلامه لابنه): ألا فلتحل عليك اللعنة يا من ولدت من نطفة في ظهري. ألا فلتمت ميتة تضرب بها الأمثال يا من خنت أباك وبعته ببهرج الدنيا.
الشاه: أغلقوا فمه ببقايا قميصه. خذوه وأتباعه وافعلوا بهم ما أمرتكم به. (يلتفت الى محمد بن الصوباشي) بارك الله فيك أيها التابع المخلص.
محمد بن الصوباشي: خادمك يا مولاي. ولسوف تجدني أكثر ولاء واخلاصا حين تنصبني واليا على بغداد كما وعدتني.
الشاه: ماذا هل وعدتك بشي من هذا القبيل؟
محمد بن الصوباشي: نعم يا مولاي عندما..
الشاه (مقاطعا): هل تظنني ساذجا كي أوليك على جزء من مملكتي؟ لقد بعت أباك وجلست تضحك وتشرب وأنت تحتفل بتعذيبه. فكيف أضمن أنك لن تخونني؟ يكفيك مكافاة أنني سأحافظ على حياتك وأصحبك معي الى تبريز حيث أعطيك ضيعة تعيش منها.
المشهد السابع
على ضفة دجلة. ضوء حريق وصرخات تتعالى. يدخل البهلول ممتطيا حماره الوهمي
البهلول: ها هم يشوونه في قارب بنفس الطريقة. الماء من تحته والنار من فوقه. إيه يا دجلة. كم رأيتِ من حكايات لا يعرف التاريخ أين يسجلها: أفي كتب الخيانة أم القسوة أم الغرور أم الجنون، هشششش لا تذكر الجنون بسوء. (يخاطب حماره الخشبي) حسنا يا حماري الحكيم. قد بهلولك الى مطبخ مولانا الجديد. ديخ ديخ ديخ.
(ظلام)
0 التعليقات:
إرسال تعليق