أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسرح الكردي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسرح الكردي. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 16 فبراير 2016

كتاب " أنطولوجيا المسرح التجريبي الكردي " لنهاد جامي / بشار عليوي

مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

ضمن إصدارات إتحاد الكُتاب الكُرد في كركوك صدر للفنان المسرحي ” نهاد جامي ” كتابه الموسوم بـ(إنطولوجيا المسرح التجريبي الكردي) باللغة الكردية، والكتاب يقع في 130 صفحة من القطع المتوسط .
إتخذ الكتاب بمباحثه الثمانية من (التجريب) موضوعا اساسيا له، لكون إن لفظة (تجربة) و(تجريبي) قد اتخذت في المسرح معاني متعددة . فما من ابداع تجديدي يتخذ صفة الحداثوية في جانب من جوانب الكتابة الدرامية او العرض المسرحي، الا واطلق على نفسه إسماً ما او اضافت الى هذا الاسم صفة التجريب. ودليل ذلك ان ما فعله المخرجون الروس ـ بعد ستانسلافسكي ـ والالمان والبولنديون، وصف بانه تجريبي .
تناول المؤلف في مبحثه الاول الذي تعنون بــ(المسرح التجريبي)، البدايات الاولى للتجريب الذي جاء ملتصقا بالعلوم الانسانية وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث ارتبط التجريب وما زال، بالمعمل والمختبر. من هذا المنطلق انتشر التجريب كمبدأ داخل بنية المسرح . ويرى (بريخت) في مقال كتبه عام 1939 عن المسرح التجريبي (ان كل ما هو غير ارسطي يعتبر تجريبا ) لذا فهو يسمي سترندبيرج وكوركي وتشيخوف بالتجريبيين. ان مصطلح التجريب في المسرح قد استخدم للمرة الاولى في عام 1894 عندما وصفت جريدة (مونتير يونيفرسال)، المسرح الحر لأندريه انطوان، بانه مسرح يرمي في المستقبل الى ان يكون مسرحا تجريبيا. ولقد عُرف ان المسرحي الفرنسي (الفريد جاري) هو مؤسس المسرح التجريبي، ويُعرف معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية لـ د.ابراهيم حمادة، المسرح التجريبي بـ( هو المسرح الذي يحاول ان يقدم في مجال الاخراج او النص الدرامي او الاضاءة او الديكور.. الخ، اسلوبا جديدا يتجاوز الشكل التقليدي، لابقصد تحقيق نجاح تجاري، ولكن بغية الوصول الى الحقيقة الفنية وعادة ما يتحقق هذا التجاوزعن طريق معارضة الواقع والخروج الى منطقة الخيال، بل المبالغة في ذلك الخروج في بعض الاحيان ) . وفي المبحث الثاني الذي حمل عنوان (التجريب في المسرح العربي)، يستعرض المؤلف بدايات التجريب في المسرح العربي، بالاشارة الى الكاتب (الفريد جاري) بصفته اول من دشن (التجريب) في المسرح العربي . كذلك يستعرض المؤلف، اسماء ( سعد الله ونوس/عادل كاظم / محمود ذياب/ الطيب الصديقي / يوسف العاني/سعد اردش/ كرم مطاوع / جلال الشرقاوي / نجيب سرور/ المنصف السويسي / جلال خوري / عبد الكريم برشيد) بصفتهم من اوائل التجريبيين العرب . كما يشير الى اول نص مسرحي عربي حمل مقومات التجريب. وهنا نُُُشكل على المؤلف عدم ذكر ان المسرح السوري هو اول من اطلق اسم (المسرح التجريبي) حين اسست وزارة الثقافة السورية عام 1976، المسرح التجريبي وعينت له سعد الله ونوس مديراً له وفواز الساجر مخرجاً له وجعلت مقره في صالة (القباني) بدمشق وتركت لهما حرية اختيار النصوص واسلوب التقديم وتحديد معنى المسرح التجريبي . اما المبحث الثالث ( التجريب في المسرح العراقي)، فيقسم مراحل التجريب التي مر فيها المسرح العراقي بثلاث مراحل، الاولى مرحلة (حقي الشبلي )بصفته مؤسس المسرح العراقي الحديث. والثانية مثلها تلامذتهم (ابراهيم جلال /جاسم العبودي/ قاسم محمد ) وتلاميذهم (سامي عبد الحميد/بدري حسون فريد) اما الثالثة فمثلها ( صلاح القصب/ عوني كرومي/ عقيل مهدي يوسف/ فاضل خليل ) ويركز المؤلف على تجربة المخرج د.صلاح القصب المتمثلة بمسرح الصورة وتنظيراته في هذا المجال، كما يشير الى تجارب المخرجين من اثروا حركة المسرح العراقي المعاصر وهم (ناجي عبد الامير/ شفيق المهدي / حيدر منعثر / كاظم النصار ) ويشير ايضا الى مساهمات الكتاب (فلاح شاكر/ علي حسين / يوسف الصائغ / خزعل الماجدي) في هذا المجال، لكنه اغفل التجارب الحية في المسرح العراقي المتمثلة بنتاجات الثنائي (عزيز خيون وعواطف نعيم). وفي المبحث الرابع (المسرحيين الكرد في الالفية الثالثة) يقرا المؤلف مستقبلية الحركة المسرحية الكردية في ضوء معطيات المشهد المسرحي الكردي الان، وفق الإتجاهات والتيارات التي تكتنف صورة المسرح الكردي . اما في المبحث الخامس (نهاية التأريخ.. نهاية المسرح) فيحاول المؤلف الإجابة على تساؤل مفاده // هل هناك نهائية لمجمل نتاج المسرح؟. وفي المبحث السادس (اضافات ارتو في المسرح)، يستعرض المؤلف اسهامات المخرج (انتونين ارتو) المتمثلة بمفهومه (مسرح القسوة) والعلائقية التي تربطه بالموجهات التنظيرية والتطبيقية في المسرح .
اما في المبحث السابع (المسرح التجريبي الكردي)، فيستعرض المؤلف، تعرف المسرح الكردي على المسرح التجريبي بتاكيده ان الفنان (بارزان عثمان) هو اول مجرب في المسرح الكردي، عبر انتاجه أول نص مسرحي كردي حمل مقومات (التجريبي) بعنوان ( قصة شاب) .
اما اول عرض مسرحي تجريبي كردي فكان ( انسان طبيعي ) عام1983 من تقديم الفنان المسرحي (مصطفى قسيم)، في حين كانت اولى فرقة مسرحية اتخذت من المسرح التجريبي منهجا لها، هي (فرقة المسرح التجريبي في كركوك). وفي المبحث الثامن (السيينوكرافيا وتطبيقاتها في المسرح التجريبي الكردي)، فيستعرض فيه المؤلف، الاعمال المسرحية التجريبة الكردية التي احتفت كثيرا بالتشكيلات الجمالية للسينوكرافيا وماهية مرموزاتها الفكرية .
يُذكر ان المؤلف (نهاد جامي) من المسرحيين الكُرد الناشطين في مجال المسرح التجريبي، وقد اسس (فرقة المسرح التجريبي) في كركوك ويديرها ايضا، حيث قدم عدة اعمال مسرحية تنحى منحى هذا الجانب وكانت بناية (القشلة) في مدينة كركوك، الفضاء الحاضن لتجاربه .

المسرح الكردي ،ولادة في تابوت

مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

حين يتم تشريد الأمكنة ويتحول اللامكان: البراري، الساحات المهجورة، باحات البيوت في الأحياء الشعبية المقذوفة بعيداً عن مراكز المدن، حاضنة لنشاطات الإنسان الابداعية، قسراً لا خياراً، تصبح ممارسة الفن مغامرة سياسية لا فنية، وأمنية لا فكرية، ويحل القلق بكل ما له من قوة تدميرية لروح الابداع والتواصل محل شحنة الابداع والتواصل التي تحدث عنها ستانسلافسكي، واقع حال عاشه الفن الكردي وأهله زمناً مازال يصر على الاستمرار، ورغم ذلك استطاعت الفرق الكردية الفلكلورية أن تروي بعضاً من ظمأ المتلقي الكردي في عروض مسرحية تتحدث بلغته وتعالج قضاياه وهمومه وطموحاته.
في نهاية العقد السابع من القرن الفائت، وفي فورة فنية غير مسبوقة، ظهرت مجموعة من الفرق الفلكلورية الكردية السورية، وقدمت رقصات وأغان ولوحات شعبية ممسرحة مستوحاة من التراث الكردي، في محاولة للتعبير عن ذات الكردي وعن هويته الثقافية المغيبة والمهمشة، وذلك برعاية من تنظيمات كردية لدعم نشاطاتها السياسية.
غير أن هذا الجهد الكبير الذي بذلته الفرق على مدى ربع قرن من الزمن، متجاوزة ومتحدية كل المعوقات والمحبطات والمصاعب، الأمنية والمعيشية، لم يقابلها حصاد فني صالح للاستهلاك أو التصدير، وذلك بسبب المناخ السياسي الخانق وانغلاق التجربة المسرحية الكردية على نفسها. .
لا شك أن للعرض المسرحي أسبقيته في الوجود على النص، فهو الذي يمنح العمل صفته المسرحية، غير أن ذلك لا يعني يحال من الأحوال تهميش عنصر النص، أو قتل صاحبه، أو نفيه خارج محراب المسرح، فحضور الكلمة ليس وسيلة للتواصل أو أداة الحوار الرئيسة وحسب، بل ضمانة أكيدة لعدم جنوح العمل نحو تهويمات وشكليات تضحي بالبعد الفكري وربما الدرامي للعمل المسرحي، وخاصة في بيئة حديثة العهد بهذا الفن، فخوض تجارب من هذا القبيل يحتاج أول ما يحتاج إلى خبرة وتراكم في التجربة المسرحية، ليس لدى صناع العرض المسرحي فحسب، بل ولدى المتلقي والجمهور المسرحي عامة، وهو ما تفتقده التجربة المسرحية الكردية التي ألجأها خلو جعبتها المسرحية من نصوص كردية أو معنية بالهم الكردي، وجمهور عاطفي خام إلى مسرحة حكاية كاوا الحداد الأسطورية وتقديمها كلازمة في كل نوروز، اليوم الذي يتطهر الكردي فيه من انفعالاته المتراكمة على مدى سنة وهو يشاهد ما اختزنته روحه من توق وقهر ومعاناة مجسداً أمامه على مسرح بلا جدران ولا خشبة: بساط يحتل مساحة صغيرة من المكان، أو ألواح خشبية مرصوفة على مرتفع، ينتصب فوقها ممثل أمام جمهور عريض، متشوق ومتلهف، يوم تكثر فيه العروض المسرحية بما يشبه المهرجان: عروض متحررة من أسر العلبة الإيطالية، بدفع اجباري لا دافع تجريبي، فكان من الطبيعي أن لا يقتصر تقديم العروض على يوم نوروز المصادف 21 آذار من كل سنة، فظهرت الحاجة إلى مسرح جوال يجوب المناطق الكردية من عفرين حتى ديريك في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، وهي حركة تحتاج إلى نصوص تعالج قضايا قريبة من الهم الكردي. وبسبب خلو اللوحة الثقافية الكردية من حقل المسرح بالذات، عدا مسرحية يتيمة كتبها الأمير جلادت بدرخان في خمسينيات القرن الفائت، ولم تر النور، وبسبب ندرة النصوص المسرحية العربية التي تتناول الكردي، شخصيات وقضية وحتى مجرد ذكر عابر، وللتعويض عن هذا الفراغ الأدبي المسرحي؛ سعت الفرق المسرحية منذ البداية إلى عملية الإعداد عن حكايات شعبية وأحداث تاريخية كردية، تجلى ذلك أكثر ما تجلى في تجربة كل من فرقة خلات وميديا و حلبجة وفرق فلكلورية أخرى متفرقة، إضافة إلى اعتمادها بشكل أساسي على النصوص المسرحية العربية والعالمية التي تعالج هموماً وقضايا تلامس من جانب ما معاناة الجمهور الكردي وهمومه، من اضطهاد وتهميش وخيانة وتفرقة وتخلف وضياع هوية.
ففرقة خلات التي تأسست في نوروز سنة 1978 وقدمت العديد من الفقرات الفنية الفلكلورية في قامشلي وخارجها مثل مهرجان بصرى سنة 1980، قدمت باللغة الكردية العديد من العروض المسرحية القصيرة والطويلة، الموجهة للكبار وللأطفال، مثل مسرحية الجرح الأسود ليوسف العاني(1987)، والبئر المهجورة لفرحان بلبل(1990) وإطلاق الرصاص من الخلف لوليد إخلاصي(1992). وموت الحجل لأحمد اسماعيل اسماعيل (1995) وأنا أمك يا شاكر ليوسف العاني.
ومسرحيات أخرى للكبار والصغار مثل مسرحية جبل البنفسج للكاتب نور الدين الهاشمي وأحلام الحمار الكسول لأحمد اسماعيل اسماعيل.
ولفرقة ميديا التي تأسست سنة 1989 تجربتها في مجال المسرح التي قدمت بدورها عروضاً مسرحية باللغة الكردية لاقت حينها صدى طيباً مثل مسرحية وحش طوروس للكاتب التركي الساخر عزيز نسين (1992 (و مسرحية من هناك لوليم سارويان (1995) ومسرحية النقيب كوبينك لكارل توكسماير (1996) ومسرحية عندما يغني شمدينو لأحمد اسماعيل اسماعيل (1999) ومسرحية المتقاعد لجواد فهمي باشكوت والفيل يا ملك الزمان لسعد الله ونوس ومسرحية هيكابي ليوربيدس ومسرحيات أخرى.
وبالمثل يمكننا أن نتحدث عن تجارب مسرحية لفرق كردية أخرى مثل فرقة خاني وفرقة نارين وفرقة فولكان.. وهي تجارب تكاد أن تكون متقاربة من ناحية تعاملها مع النص المختار وأسلوب إعداده، ومتفاوتة من ناحية طريقة التجسيد على مسرح بلا مكان مسرحي، وهو أمر مرهون برمته بالظرف المعيشي الصعب للكوادر والمناخ الأمني ودرجة شدته والاستثمار الآني والدعائي الذي تمارسه التنظيمات الكردية الراعية لهذه الفرق، مما انعكس سلباً على طبيعة هذا المنتوج الابداعي، فلم يستطع الفنان الكردي حتى اليوم إضفاء أية خصوصية على ما يقدمه من عروض، على مستوى النص أو شكل العرض، وبدل استثمار معاناته والنفي الذي تعرض له مسرحه وعروضه إلى أماكن قصية عن مركز المدينة وخارج الأطر الرسمية والمراكز الثقافية وعلبها الايطالية في صياغة الأسلوب والشكل الفني المختلف والجديد، كفّ الفنان الكردي عن مواصلة نشاطه في تقديم العروض المسرحية رغم تواضعها، وأصبح همه الحصول على أبسط شروط العيش الكريم والقليل من الأمان والسلامة.
إذا كانت سياط أجهزة السلطة قد فعلت فعلها المؤثر في المسرح الكردي، وأوقفت فورة نموه، فإن المتلقي المسرحي، سيد الظاهرة المسرحية، والشريك الأساسي لصناع العرض، والذي كان على الدوام وفياً في متابعته لعروض الفرق رغم المخاطر الأمنية التي كانت تصل إلى حد اعتقال المتفرجين أيضاً. وعلى عكس غيره من جمهور المسرح في أماكن أخرى وأزمان بعيدة وقريبة، لم يعبر هذا الشريك عن عدم رضاه بالغضب، أو بإطلاق الصفير استهجاناً، أو مغادرة المكان تذمراً، بل كان على الدوام متسامحاً ومشجعاً، وذلك بروح حية ومتدفقة ستكفل عودة المسرح بفاعلية أكثر ومستوى أفضل، ولكن بعد أن تكنس هذه الرياح الركام من الشوارع ويطلق الربيع الناهض أجنحة الخيال في فضاء سماؤها زرقاء وعالية.


أحمد اسماعيل اسماعيل - شانوكار

تجربة مختبر مسرح لاليش في النمسا

مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

كان بين موجات المهاجرين واللاجئين العراقيين إلى قارات العالم المأهولة بالسكان، خلال العقود الثلاثة المنصرمة، عدد غير قليل من المسرحيين (ممثلين ومخرجين وكتّاب ونقاد)، خرجوا من شمال بلدهم ووسطه وجنوبه، وفي قلوبهم غصة لاضطرارهم إلى ترك “جنة عدن” بسبب الظروف السياسية الصعبة. وحاول بعض هؤلاء المسرحيين مواصلة إبداعهم المسرحي من خلال تأسيس الفرق والتجمعات المسرحية، أو الكتابة، أو المشاركة في نتاجات فرق تلك البلدان بعد تعلم لغات أهلها. ومن بين هؤلاء المسرحيين المخرج والممثل الكردي شامال عمر وزوجته الممثلة والمخرجة نيكار حسيب قره داغي، اللذين انتهى بهما المطاف لاجئين إلى النمسا في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
بدأ الهاجس التجريبي لدى هذين الفنانين المسرحيين منذ أيام الدراسة الجامعية، وقد شاهدت لهما في منتصف الثمانينيات تجربةً مثيرةً مع نص بيكيت “في انتظار غودو” استبدل فيها شامال عمر، مخرجاً، شخصيتي “فلادمير” و”استراجون” الرجاليتين بشخصيتين نسائيتين، مثلتهما نيكار حسيب وفرميسك مصطفى. وكتبت في حينها مقالاً نقدياً عن التجربة أشرت فيه إلى أن رؤية المخرج توحي إلى أن الكائن الإنساني عامةً، وليس الرجل فقط كما في نص بيكيت، يعاني من عبث الحروب، ويشعر باللاجدوى. ويبدو لي الآن أن تلك التجربة لو قُرأت من منظور النقد النسوي لتوصلت القراءة إلى استنتاجات ودلالات مهمة. ثم شاهدت تجربةً أخرى عام 1987 في السليمانية أخرجتها ومثلتها نيكار حسيب وميديا رؤوف هي “في انتظار سيامند” في غرفة صغيرة يتكون فضاء العرض في وسطها من مرتفع خشبي مستطيل له ذراعان كالصليب، مغطى بشاشة من قماش شفاف تتحول تارةً إلى كفن، وأخرى إلى غطاء، وثالثة إلى شراع لسفينة تائهة، وإلى غير ذلك من المدلولات الحسية التي تستحضر الممثلتان من خلالها الرمز الغائب: سيامند الرجل، الحبيب، الأمل، المنقذ، الحلم، الوطن… إلخ، بأداء جسدي شفاف، وشاعري. وكانت تلك التجربة واحدةً من التجارب العديدة التي شهدها المسرح العراقي في الثمانينيات في سياق رمزي يقارب موضوعة الانتظار الموجع، والآمال الخائبة، والبحث عن المنقذ والمخلّص، منها: “ترنيمة الكرسي الهزاز”، و”تساؤلات مسرحية”، لعوني كرومي، و”مرحباً أيتها الطمأنينة” لعزيز خيون.
في فينّا أسس شامال ونيكار عام 1998 مختبر مسرح “لاليش”، بوصفه مركزأً للبحث المسرحي، ولثقافة الكفاءة المسرحية. ويعني اسم “لاليش” الحياة المنوّرة، وهو مأخوذ عن اسم كردي قديم يشير إلى معبد للديانة اليزيدية. وجاء هذا المختبر، الذي يُعدّ من أهم التجمعات المسرحية العراقية في أوروبا، في أعقاب فرقة المسرح التجريبي الكردي التي شارك شامال ونيكار في تأسيسها عام 1992، وقدّما من خلالها عروضاً عديدة في المدن النمساوية، وفي ألمانيا وهولندا والدنمارك وسويسرا وبريطانيا. وتولدت فكرة تأسيس مختبر مسرح “لاليش” بعد أن اكتسب مؤسساه خبرةً من تجاربهما المسرحية، واحتكاكهما بالتجارب المسرحية الأوروبية. ويعمل في هذا المختبر فنانون ينتمون إلى ثقافات ومجتمعات متعددة كالكرد والعرب والألمان والنمساويين والفرنسيين وغيرهم، وعرض تجاربه المسرحية في عدد من مسارح العالم، مثل مسرح “دوم بيير” الفرنسي، و”غوت هارد” السويسري، وبرلين الألماني، و”إكوهاما” الياباني. أما في النمسا فإن أكثر نشاطات المختبر يتركز في مجال تفاعل الحضارات (التواصل الثقافي)، إذ قدم “ملحمة كلكامش” برؤية جديدة ومغايرة للمسرح التقليدي، وتجربة مسرحية أخرى تنتمي إلى المسرح “الأدائي” الصامت، الذي تتخلله عبارات من لغات مختلفة وأشعار صوفيه، إضافةً إلى تجارب مسرحية مشتركة مع مؤسسات نمساوية وأوروبية، لها وزنها وأهميتها، مثل: جامعة فينّا، وجامعة كريمس، ومركز الدراسات العلمية، ومعهد علم المسرح والأفلام والإعلام، ومختبر باراته، وغيرها من المؤسسات. كما أسس شامال ونيكار مختبراً مسرحياً لتأهيل المشاركين في المختبر وطلبة المسرح من خلال تمرينات تشمل الصوت والإلقاء وحركات الجسد. وهما يفضلان مفهوم “الكفاءة المسرحية” على مفهوم “العرض المسرحي” على أساس أن المسرح عملية خلق وتواصل مع البشر، ولهذا التواصل صيغ واتجاهات مختلفة، ومن هنا فهما لا يسعيان إلى تمثيل الآخر، أو الشخصيات المكتوبة مسبقأ بقدر ما يحاولان تحقيق الذات والذاكرة الفردية والجمعية، ويستعملان صيغة “المحتفل” بدلاً من “الممثل”. وبذلك يلتقيان مع الصيغة التي يعمل بها المسرح الاحتفالي في المغرب، سواء أقصدا ذلك أم لم يقصدا، لكنهما يختلفان عن تلك الصيغة في توكيدهما على قيمة الصوت وأهميته، بوصفه منبعاً ومحركاً ودافعاً للجسد “الصوت ليس للسمع فقط بل للرؤية أيضاً”، وكذلك على الغناء، بوصفه حدثاً درامياً، يضفيان عليه تقنيات وأساليب تشغيل عديدة، “صحيح أن الحدث الفيزيقي يخلق الإيقاع والحدث، لكن الغناء هنا ليس مجرد غناء، بل تعبيراً مرئياً، وليس مفسراً للحدث، بل هو الحدث نفسه، وهو لا يخلق الأجواء، إنما هو الأجواء ذاتها”، ولذا فإنه محاولة اخرى للبحث الجسدي، لكن عبر الصوت. وفي هذا الصدد يقول شامال ونيكار “إننا عبر هذه الطريقة نحاول الوصول الى أسرار تلك الأفعال الملتوية، شبه النائمة في أعماقنا، أي في أعماق جسدنا، فحين تتحرك نتحرك نحن أيضاً، وحين تتنفس نتنفس نحن أيضاً. إنها بمثابة صورة حية لقوة الحياة”. وتصف نيكار هذه العملية قائلةً إن “الأصوات والأغاني هي التي تخلق حركاتنا، من دون أن يعني ذلك أن حركاتنا تفسر أغانينا؛ لذلك فكل أغنية وكل حدث صوتي تحمل في داخلها إشارةً دقيقةً إلى نقطة متحركة في الجسد، أي أن الجسد يتعامل مباشرة ًمع حياة الأصوات، ويصبح عملها عضوياً بدلاً من أن يكون تكنيكاً بحتاً”.
وهكذا، فإن “الحدث الصوتي” في هذه العملية، حسب نيكار وشامال، لا يعني أن يصبح الجسد جزءاً من الصوت، أو يصبح الصوت جزءاً من الجسد! بل يشكلان وحدةً واحدةً! لأن الوحدة هي المصدر الأصلي للتعبير، ومنبعاً للإنسان المحتفل، وعليه فهما لا يمثلان، بل يحتفلان.
ويبدو من خلال توكيد شمال ونيكار على قيمة الصوت أنهما قد ابتعدا عن مؤثرات مسرح الصورة، الذي كان له حضور طاغ عليهما في ثمانينيات القرن الماضي بفعل عملهما مع استاذهما المخرج صلاح القصب في كلية الفنون الجميلة ببغداد.
إن المسرح، في مفهوم مختبر لاليش، هو فضاء للتحول، بمعنى أنه ممارسة فنية ديناميكية تجري على مستويات مختلفة، لكن التنظير لهذه المستويات يشوبه القصور، فهو يقول إن المستوى الأول يحدث “من خلال عملية التمثيل، حيث يقوم الممثل بتمثيل كائنات وأشياء أخرى؛ لهذا اتجه المختبر إلى التفكيك وعملية التحول هذه”. ما هي الميزة في هذا التمثيل؟ ألا يقوم الممثل في كل مدارس التمثيل بتمثيل كائنات وأشياء أخرى؟ ثم أين التفكيك هنا؟ هل المقصود عملية هدم وبناء؟ ثمة اتجاهات كثيرة تبنت هذه العملية. المستوى الثاني يتمثل في “افتراض دلالات فنية أخرى خارجة عن الفعل الجسدي؛ بمعنى أن الكائن الفاعل يصبح جزءاً من العملية الإبداعية مثل ما حدث ويحدث الآن”. وهو افتراض تعميمي يدفعنا الى التساؤل عن طبيعة الدلالات الفنية الخارجة عن الفعل الجسدي، وبماذا تختلف عن غيرها من الدلالات؟ ثم أليست الدعوة إلى أن يصبح الفاعل، أي الممثل، جزءاً من العملية الإبداعية أمراً بديهياً؟ أخيراً المستوى الثالث، وهو “التحول الذي يمارسه الكائن الحي الفاعل في الفضاءات كفعل إرادي؛ من أجل إيجاد أقصى مستوى للطاقة والوصول من “الكيفية” إلى “النوعية”؛ بمعنى أن يتحول الكائن الحي إلى ذات كاملة.. ومن هنا ينهض ذلك الكائن الفاعل كنقيض وبديل كامل لفعل الممثل لأنه لا يمثل أي كائن، ولا يعرض أي شئ خارج عن ذاته؛ أي أنه يحقق فعله الإنساني كإنسان حاضر في الزمكان. ومن هنا تنتفي عملية “النصية” وعملية “التمثيلية”. نفهم من ذلك أن الممثل لا يتماهى مع الدور، بل يعرض شخصيته ويقدم ذاته، وهو منهج يناقض منهج التقمص الذي دعت إليه اتجاهات مسرحية عديدة، منها المسرح الاحتفالي، لكن ما يثير اللبس والاستغراب هنا تعبير “الوصول من “الكيفية” إلى “النوعية”، أليست “الكيفية” هي “النوعية” من الناحية الاصطلاحية؟
في عام 2004 نقل شامال عمر ونيكار حسيب أول تجربة مسرحية لهما، وهي “أرض الرماد والأغاني”، إلى العالم العربي، من خلال مشاركتهما في الدورة السادسة عشرة لمهرجان القاهرة التجريبي، وكانت التجربة تطبيقاً للمنهج الذي تبنياه، واتسمت بكونها تجربةً مختبريةً (أدتها ممثلتان، احداهما نمساوية والأخرى سنغافورية من أصل صيني) تقوم على بنية صوتية مطلقة، تشكلت أنساقها من نغمات مختلفة تحكمها مرجعيات اجتماعية واثنولوجية (الأثنولوجيا علم تاريخ الحضارات والعلاقات الحضارية بين الشعوب) متعددة، من دون أن تربطها “نصية” مسبقة وواضحة، بحيث اختلط فيها الارتجال آنياً مع الإرسالية المقصودة لتتابع الغناء حيناً وللنغمات ومساراتها اللحنية حيناً آخر.
وفي الدورة التالية للمهرجان (عام 2005) شاركا أيضاً بتجربة ثانية عنوانها “بدایة الحدیث”، من أدائهما إلى جانب ممثلة نمساویة، كان فیها‌، حسب تعبير الدكتور عقيل مهدي يوسف، من الحساسیة الجمالیة، وروح الشعر، والغنائیة العالیة ما یجعلها تحظی بتلقٍ رصین، فهي تجربة تذکّر ببساط بیتر بروك، وخشبة دانتشنکو، حیث تجري الواقعة الفنیة بحضور طرف یشاهد الفعل الفني، قطعة قماش بیضاء ناصعة وبضع أدوات تستدرج من الروح هذا النثیث السمعي الذی ینبث فی أقاصي الذاکرة الصوتیة لجماعة بشریة انطفأ کونها منذ أمد بعید، لکن ومیض جرسها بقي عنیداً علی الفناء لیعید إنتاج کینونته‌ مع کل دورة حضاریة، منذ بدء الخلیقة حتی اشتعال الظلم الطبقي والقهر الاجتماعی، لیبقی الأصل متموضعاً فی حنجرة لآحاد من “مونادات” قبیلة مندثرة طوتها الأیام الغابرة، لتنخرها ودیان الجبال، و الفیافي، وتکتمها عن أعین الطغاة وعسس الجریمة، فتطلقها حین یجیء أوانها.
عن هذه التجربة أيضاً كتب المسرحي المصري د. إبراهیم الفو قائلاً: “الجسد هنا یفرز أنواعاً خاصة من الضوء تراه‌ بدواخلك. أحیانا ینعطف نحو البني الساحق، ومرةً نحو الأرجواني المفرح، وأخری نحو الأخضر المعتم، الجسد یتوالد فی کل شهیق وزفیر سواء وهو ساکن أو فی حرکاته‌ الافعوانیة. لقد رأیت جسداً ینمو ویتطاول، وآخر ینفجر ویتشظی محولاً مساحات القاعة الصماء إلی أضواء تتکسر وتندمج فتسیطر على فؤادك کلیةً”.
وكانت آخر تجربة لشامال عمر ونيكار حسيب في هذا المهرجان (الدورة العشرين عام 2008) هي مسرحية “بلا ظل”، التي قدماها أيضاً في عدة جامعات في العالم، وفي ١٣ مهرجاناً دولياً للمسرح في‌ النمسا، اليابان، أوکرانيا، کوسوفو، اليونان، بلغاريا، البوسنة، بولندا، … إلخ. وقد أتيحت لي فرصة مشاهدتها على مسرح “مركز الفنون الأدائية” في عمّان ضمن عروض مهرجان المسرح الأردني السابع عشر عام 2010.
تقوم هذه التجربة علی بنية صوتية مطلقة تتشكل من لغة مبتكرة تقع خارج نسق العلامات اللسانية المألوفة، التي تشير إلى مدلولات ثقافية محددة، وقد جاءت التجربة نتيجة بحوث عملية مختبرية معقدة بهدف الوصول إلی ينابيع إنسانية شتى, واستثمار وحدات وإيقاعات صوتية نادرة، بل معرضة للانقراض من مختلف الثقافات البشرية، وصهرها في صيغة جديدة عبر أنساق صوتية قابلة لتأويلات عديدة، أنساق تحاول، على حد قول الناقد والشاعر بول شاؤول، “إيجاد لغة صوتية كأنها التقاط الصوت في لحظاته المولية. إنه الصوت االينبوع، المجبول بالطقوسية، كمساحات فيزيائية، وفضاءات من الرموز والأحاجي، الصوت الإنساني الباحث عن حقائقه المقلقة”.
هذه هي تجربة المسرحيين الطليعيين الكرديين نيكار حسيب وشامال عمر في عالم والاغتراب، فهل الاغتراب مَنْ نسج خيوطها أم أنها من نتاج الخزين الروحي والجمالي والمعرفي الذي حملاه من كردستان إلى النمسا؟ من معرفتي الوثيقة بنيكار وشامال أقول إن تجربتهما وليدة ذلك الخزين، لكن عالم الاغتراب احتضنها وصقلها مثلما احتضن وصقل تجارب خلاّقة أخرى قادمة من الشرق.


عواد علي - شانوكار
تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption