أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد مسرحي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد مسرحي. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 12 مايو 2017

الميتانقد والنقد: أي علاقة وأي منظور؟

مجلة الفنون المسرحية

الميتانقد والنقد: أي علاقة وأي منظور؟


التفكيرُ في النقد (أعني النقد الأدبي بشكل خاص) وتأمل الخطاب الذي ينتجه، لا يقل أهمية ًعن كتابة النقد نفسه، بل قد يكون هذان الأوّلان أوجب من الثاني، وألزم، لاسيما في وقتنا الراهن، حيث الانتشار الكبير لفوضى المصطلح والعبث باستخدامه، وتجــــرؤ الناس على النقد واستسهالهم الخوض فيه بارتجال وقلة معرفة لا تخفيها لعبة الاحتماء بالإبهام والغموض، ومحاولة إرهاب القارئ عن طريق استدعاء أسماء منظّرين معينين والاستشهاد بهم وبمؤلفاتهم بمناسبة وبدونها. 
يستوجب التفكيرَ في النقد أيضاً سوءُ الفهم هذا الذي تتعرض له النظريات، وعدم الاحترام لها ولمبادئها، والتطاول على منزلتها، والاستخفاف بدورها من قبل كثيرين من كتّاب المقال النقدي اليوم. المشكلة أن بعض هؤلاء السادة أكاديميون مختصون لهم، في كتبهم المنشورة، فتاوى نقدية ونظريات سردية، أسبغ عليها المحبون لهم والتابعون قدسيةً كبيرة، حوّلتهم برضا منهم أو بدونه، إلى سلطة معرفية يُخشى مخالفتها وقد لا تحمد عواقب إزعاجها والتحرش بها. 
لا شك أن نقاداً في هذا المستوى يدركون الفرق بين السؤال عن النص ومساءلته، والكلام فيه والكلام عنه والحفر حوله والحفر داخله. كما أنهم يعون أهمية التفكير العلمي في الممارسة النقدية، على صعيد المقال أو الكتاب، ويعرفون أن الاحتكام إلى الحماسة والذوق والانطباع، والانسياق وراء المشاعر يعيد النقد إلى مرحلة قديمة كان المزاج فيها هو المعيار بالحكم على النصوص. مع ذلك لا يتردد قسم من هؤلاء الأساتذة المحترمين عن كتابة مقالات نقدية عجولة فيها تبسيط مضر لمفهوم النقد عموماً، واستسهال لكتابة المادة النقدية، وتسودها جملٌ مكررة وعبارات مبتورة وأفكار مبتسرة لم تتم مراجعتها بشكل كاف، ورؤى مضطربة مشوشة وتائهة لا يُعرف بالتحديد مقصدها ولا معناها، ناهيك عن الكرم الزائد في وهب المديح لأعمال فنية بلا قيمة أدبية عالية. كل هذا وغيره يحدث بشكل روتيني ولا يحرك أحدٌ ساكناً، لكأنَّ من الطبيعي أن يتحول كاتب النقد المتخصص إلى عارض حال (كما نقول في العراق) يكتب مقالات ركيكة، يعفي نفسه فيها من اتباع منهج علمي مبرر، ويستسلم للاسترسال بالكلام عن النص الأدبي بحسٍّ وصفي يليق بصحافي مبتدئ، أو معلق أدبي قليل الخبرة.
لا بد من الإشارة إلى أن النقد المطلوب منه التروي وتأمل خطابه والتفكر فيه هو النقد العلمي الخاضع للنظرية الأدبية، والمتقيد بقوانينها والذي يكتبه المتخصصون سواء كانوا من الجامعة أم من خارجها. أما التعليقات والمتابعات التي ينشرها الصحافيون الأدبيون، أو كتابات الروائيين عن بعضهم، فإنها غير مشمولة بكلامي، إذ لا يفترض في نوع كهذا من منشورات، الالتزام بنظرية أو الخضوع لقانون، لذا فهي، من هذا الباب، خارج اهتمام النقد العلمي. لا أعني بهذا الأخير النقد الذي نشأ على يد هيربرت سبنسر في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي الحركة التي أرادت من النقد الاّ يكون جنساً أدبياً، بل أن يصبح علماً وضعياً يبحث عن حقائق، ويتجرد من الروح، كي يجاري العلوم الطبيعة التجريبية، يتمثل مناهجها وينهل من مبادئ نظرية التطور وعلم النفس الفيسيولوجي والتجريبي. النقد العلمي المقصود بكلامي هنا هو المنبثق عن نظرية الأدب التي تبنت دراسة هذا الأخير، على أساس كونه ظاهرة ثقافية لغوية استطيقية يمكن تحليلها بالاستناد إلى تفكير نظري. 
تقع منطقة مراجعة المكتوب النقدي ضمن ما يعرف بالميتانقد، أو بنقد النقد، لا بحسب معناه الكانتي طبعاً، بل وفق بعده المعرفي العام الذي يشير إلى توجه الفكر النقدي نحو تأمل خطابه، والتفكير بنفسه وأدوات اشتغاله المعرفية وفرضياته الأساسية. في هذه الحالة، توضع الممارسة النقدية بحد ذاتها ومباني النقد نفسها، لا مباني النصوص الإبداعية موضع تساؤل وفحص ومراجعة ونقاش. بعبارة أخرى أكثر وضوحاً ودقة: الميتانقد ميدان علمي بحثي، لا أهمية كبيرة للقول بتبعيته لنظرية الأدب أو استقلاله عنها، لأنه بها أو بدونها يتحمل مسؤولية تنظيم المفاهيم وتحديد الأطر الخاصة بالكتابة النقدية، وفحص سلامة مبادئها النظرية، ومراجعة أدواتها التحليلية وتقييم إجراءاتها التفسيرية والتأويلية. على أساس هذا الوصف المختصر، من الممكن أن يتحدد واحد من معاني الميتا، التي تسبق كلمة نقد في مقالي الحاضر، وهو معنى اعتمد به على رومان ياكوبسون ورولان بارت، كما سأبين. 
في مخططه التواصلي، يستخدم العالم الروسي السابقة «ميتا» التي يضعها أمام كلمة «لغوي» فتصبح «ميتالغوي»، للإشارة إلى خطاب ثان يعلِّق على خطاب سبقه، وذلك لشرحه وتوضيحه باستخدام المرموزات اللغوية ذاتها التي ينشأ منها الخطاب الأول. يعني هذا أن الرسالة اللغوية التي يصعب على المستقبِل لها فهمُها، جزءاً أو كُلاً، يعاد شرحها بعناصر ليست غريبة عن طبيعة مكونات الإرسال الأصلي. سيتحدث رولان بارت عن فكرة مماثلة لهذه الأخيرة، في إحدى مقالات كتابه «دراسات نقدية»، لكن كلامه سيكون لتعريف النقد وليس الميتانقد. مع ذلك فإن هذا التعريف مفيد لنا في محاولتنا التقرب أكثر من مفهوم نقد النقد. يقول رولان بارت بأن النقد «خطاب على خطاب» ثم يعود ليصفه مرة أخرى بكونه «ميتالغة»، أي أنه تعليق على اللغة الأدبية للنص الإبداعي بلغة غير مفارقة، تستخدم العناصر ذاتها التي تنتج عنها شيفراتُ النص الأدبي. 
يهمني من هذا الوصف والذي سبقه أمر واحد، هو أن «ميتا»، في عرف ياكوبسون كما رولان بارت، تتضمن معنى المراجعة وإعادة النظر، والتعليق عن طريق توظيف أدوات وآليات إجرائية من جنس الخطاب الأول نفسه. أضيف إلى المعاني السابقة مفهومَ المراقبة لغرض التصويب والتعديل، وهو معنى لا يمكن نكران وجوده في البادئة «ميتا»، حسب ما يسنده إليها من إحالات، في الأقل. بحسب ما تقدم، يكون الميتانقد قولاً على قول، ورأياً على رأي، الغاية منه المراجعة والتدقيق والتمحيص واختبار تطابق النظرية مع الإجراء العملي. تلتئم تحت هذا المفهوم العام والعريض للميتانقد كلُّ المراجعات التي عرفتها العلوم الإنسانية والمحضة. أذكر منها، على سبيل المثال ليس إلاّ، مراجعات أرسطو لأفلاطون وسارتر لهيغل وأدورنو وليوتار ودريدا، كل من جهته، لظاهرية هوسرل. في مجال النقد الأدبي، تندرج أسفل عنوان الميتانقد، من بين أمثلة أخرى كثيرة، اعتراضاتُ ومؤاخذات مارسيل بروست الكبيرة والجوهرية على منهجية سانت- بوف النقدية، وقراءات ميك بال لنظريات جيرار جونيت السردية، كما تنضوي تحت مسماه الدراسات الاستقبالية للمؤلفات النقدية على اختلاف مدارسها ومناهجها.
لا أجدني ميالاً كثيراً لتبني فكرة أن الميتانقد يتبع النقد ويحاكيه، كما قد يوحي بهذا المعنى الوصفُ الذي يمنحه ياكوبسون للبادئة «ميتا». ينبغي التأكيد، هنا، على أن هذه الأخيرة تحمل، عند بارت أيضاً، معنى التبعية. إن الإقرار بهذه الفكرة (أي تبعية الميتانقد للنقد) سيؤدي إلى عدِّ النقد نصاً أعلى، والميتانقد نصاً أسفل، وبالتالي تتحول العلاقة بين الاثنين إلى مجرد مواجهة معرفية يختزلها صراع بين قراءة سابقة وأخرى لاحقة. في هذه الحالة، سيتم إقصاء الخاصية الحوارية للخطاب الميتانقدي، وهي واحدة من أهم خواصه، التي لم ينتبه إليها دارسوه. ليس الميتانقد، بحسب فهمي البسيط، قراءة على قراءة، ولا تعليقاً على تعليق ولا معركة فكرية بين ناقد ومنظِّر يختلفان على معنى مصطلح ما، أو حدود نظرية معينة، أو طريقة تفسير ظاهرة سردية تجلت في مكتوب أدبي. الميتانقد، وهذا رأي خاص بي، رؤية علمية واعية أوسع بكثير من أن تكون مجرد ردِّ فعل على فعل، ولا أن تتلخص في عملية ملاحقة الناقد وتتبعٍ هفواته وإثارة الإشكالات بخصوص منهجيته ولغته ومراجعة آليات اشتغاله. إنه إضافة إلى شيء مما سبق، بنية مفتوحة غايتها الحوار وتنمية الحدود المعرفية بينها وبين الخطاب النقدي. هذه العلاقة الحوارية لا تلغي حقيقة أن الميتانقد يتفوق على النقد في نقطة مهمة وجوهرية، هي أن الأول تجسيد لمنهج والثاني تمثيل لنظرية والمنهج أوسع من النظرية وأشمل. إذا كان النقد عملاً إجرائياً تطبيقياً، فالميتانقد علم خالص محض والعمل، كما تقول قاعدة حوزوية أصولية، تابعٌ للعلم ومبنيٌ عليه يصح بصحته ويبطل ببطلانه. 
بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول مفهومه يبقى ثابتاً، في الحالين، أن هذا النوع من النشاط الذهني المتعِب والصعب لا يحظى بمكانة مناسبة في حياتنا الثقافية العربية الراهنة، بل لعله بلا حضور فعّال يذكّر به ويشير إليه. قد يعود السبب في هذا الإهمال إلى طبيعة مزاج المثقف العربي الذي يميل إلى المجاملة أحياناً وإيثار السلامة وراحة البال أحياناً أخرى، ناهيك عن استهانته بالمراجعة بشكل عام، إما من باب التعالي عليها، أو لأنه لا يرى فيها، أصلاً، ضرورة ولا فعلاً معرفياً جاداً ومكوِّناً محورياً من مكونات الابتكار والتجديد، ومنطلقاً جوهرياً لإثارة الإشكاليات وتفكيك الخطابات النقدية ودراستها وتجديد مصادرها. 
خلاصة ما أريد قوله هنا إن لتفعيل دور الميتانقد في حياتنا الثقافية وتواصل الكتابة فيه فوائد أهمها، تسليط الضوء على المشهد النقدي وضبط إيقاعه ودراسة اتجاهاته وكشف ميوله والتنظير له، وأقلها تمييز حسنه من رديئه، استناداً إلى مدى الاحترام لمبادئ النقد الجاد، المتقيد بمعايير الكتابة النقدية العلمية التي تهتدي بهدي النظرية الأدبية وتسير على مسارها. أليس في هذه الفوائد المتنوعة وغيرها، مما غفلت عنه، ما يوجب علينا الاهتمام بشكل أكبر بالميتانقد والتشجيع على ممارسته وتدريسه ودرسه والتعظيم من شأنه كما يفعل أصدقاؤنا الغربيون؟
كاتب من العراق
-----------------------------------------
المصدر : القدس العربي 

الأحد، 30 أبريل 2017

بنية الصّراع المفتوح في مسرحية "جرصة"

الاثنين، 27 مارس 2017

رؤية إيفو فان هوفا الجديدة لرائعة إبسن

مجلة الفنون المسرحية

رؤية إيفو فان هوفا الجديدة لرائعة إبسن

د. صبري حافظ

لا شك في أن المخرج البلجيكي إيفو فان هوفا يؤكد نفسه على الساحة المسرحية الدولية كأحد أكثر مخرجي المسرح المعاصر تميزًا وإبداعًا بلغته الإخراجية الفريدة، وتأويلاته الشيقة للنصوص المسرحية العريقة. فبعد أن شاهدت له إخراجه المدهش لمسرحية "الملعونون" المأخوذة عن فيلم فيسكونتي الشهير في مهرجان أفينيون المسرحي قبل أشهر، ها أنا أشاهد إخراجه الجديد لرائعة هنريك إبسن (1828 -1906) "هيدا جابلر" التي كتبها عام 1890، على خشبة المسرح القومي الإنكليزي، فتتأكد بها موهبته الإخراجية المتفردة، ولغته البصرية التي تستهدف التوجه إلى عقل المشاهد واستثارة تلقيه للعمل المسرحي بشكل عقلي ونقدي معا. تتيح له الاستمتاع بجماليات ما يرى، وكأننا بإزاء مخرج سينمائي يفكر في تشكيلات "كادراته" البصرية مشهديًا وحركيًا، وتأمل ما تنطوي عليه الأحداث أو الشخصيات من دلالات. أو كأننا بإزاء مخرج مسرحي يتفق مع جوهر منهج التغريب البريختي، ولكنه يحقق هدفه بطريقته المتميزة والمغايرة كلية لطريقة بريخت.

والواقع أن هنريك إبسن، أحد أهم كتاب المسرح، إن لم يكن أهمهم في القرن التاسع عشر؛ وأن إنتاجه المسرحي الثري يضعه جنبا إلى جنب مع كبار القامات المسرحية في العالم مثل شكسبير وراسين وتشيكوف. كما أن مسرحيته الشيقة "هيدا جابلر" واحدة من المسرحيات القليلة التي تحمل اسم امرأة، وتقدم دراسة شيقة وعميقة للمرأة، توشك أن تكمل اهتمامه بها، الذي صاغت ملامحه الأولى مسرحيته الشهيرة "بيت الدمية" وبطلتها "نورا هيلمر" التي ظلت أصداء إغلاقها للباب خلفها تدوي في أرجاء العصر الفيكتوري المتزمت، حتى تمخضت عن حركات تحرير المرأة المختلفة في الغرب. والواقع أن مسرحية "هيدا جابلر" أو بالأحرى بطلتها التي منحت المسرحية اسمها، لا تقل ثراء وتعقيدًا عن مسرحية "هاملت" وعن شخصيته المفتوحة على العديد من التأويلات. فقد تعددت تأويلاتها من اعتبارها ضحية لواقع لا يفهم المرأة، ولا يهتم بطموحاتها، أو دراسة في أوجاع مرحلة من مراحل التحول الاجتماعي الحرجة ووقعها على المرأة وعقابيلها، إلى إدانتها كلية كتجسيد حيّ لقوى الشر والدمار، أو كأفعوان خبيث ينفث سمومه في كل من حوله، ويموت بها أيضًا.

وهذا ما جعلها أحد أكثر المسرحيات إشكالية من حيث تأويلها، والتعرف على الدوافع الداخلية لسلوك بطلتها التدميري، التي توازي في تعقيداتها دوافع هاملت وسلوكه وتردده كما ذكرت. فإذا كان من اليسير التعاطف مع "نورا هيلمر" بطلة (بيت الدمية) لإيثارها سعادة أسرتها ونبلها، والنقمة على زوجها الفظ "تورفالد هيلمر" لأنانيته وتمركزه حول ذاته وضيق أفقه، وعدم وعيه بمدى تضحياتها الجمّة من أجله، فإن الأمر ليس بهذه البساطة في "هيدا جابلر". فقد كتب إبسن فيها عن حق واحدة من أكثر شخصيات المسرح النسائية إشكالية وتعقيدًا. وكشف فيها بشكل باكر عما استمرت الحركات النسوية في تكراره من بعده لعقود، وهو أن من العسير فهم شخصية المرأة عبر تبسيطات الرجال عنها؛ وأن الرجل هو آخر من يستطيع فهم المرأة، أو سبر أغوار أعماقها الدفينة. وهو الأمر الذي يتبلور في المسرحية أيضا عبر شخصياتها الرجالية الثلاثة حيث يساهم كل منهم بطريقته الخاصة في تعميق عزلة "هيدا"، وإحكام إغلاق الأفق أمامها.

ولذلك فقد شاقت تلك المسرحية الكثيرين، وأصبحت واحدة من مطامح الممثلات اللواتي تترسخ أقدامهن على خشبة المسرح، تماما كما أصبح هاملت أحد مطامح الممثلين الذين رسخوا أقدامهم على الخشبة، وأحد أبرز التحديات لهم في الوقت نفسه. وهو الأمر نفسه بالنسبة لعدد من كبار المخرجين المسرحيين في الغرب خاصة. وقبل الحديث عن تأويل إيفو فان هوفا الشيق والمبتكر معا لهذه المسرحية لا بد من عرض ملخص لها على القارئ، بالرغم من توفر أكثر من ترجمة لها في اللغة العربية. فـ "هيدا جابلر" كما تقول الكلمات الأولى في المسرحية هي ابنة جنرال ميت. أي أنها تنتمي لطبقة كانت في طريقها وقتها للموت، أي الطبقة الأرستقراطية التي عانت من صعود البرجوازية في القرن التاسع عشر. وقد وفرت لها حياتها الأرستقراطية كثيرًا من المميزات من ركوب الخيل إلى الاستمتاع بالحفلات والسهرات الاجتماعية الباذخة، إلى الحد الذي جعلها تدّع عنها كل من وقع في غرامها، أو حاول التقدم لخطوبتها. لكن موت الأب بعدما تجاوزت سنوات عشريناتها الأولى وضعها في مأزق الوعي بأن سنوات اللهو قد مضت، والقبول بمن يوفر لها حياة مستقرة بعد وفاته. وهذا ما دفعها للقبول بالزواج من "يورجين تيزمان" الذي كان آخر من وقع في غرامها، وهو جامعي نشيط، ونموذج لابن الطبقة الوسطى الذي يسعى عبر المعرفة للارتقاء والحصول على وظيفة في الجامعة عبر المزيد من البحث والكتابة. وقد سبقه في الوقوع في غرامها جامعي آخر هو "إيلرت لافبورج"، لكنها هددته بإطلاق النار عليه، فقد كانت منذ شبابها شغوفة باللعب بمسدسات أبيها. فهرب وغرق في دوامات إدمان السكر حتى دمرت الخمر حياته.

وتبدأ المسرحية بعودة تيزمان وزوجته من رحلة شهر العسل التي امتدت لستة أشهر، أمضاها أيضًا في البحث عن مزيد من المواد والمصادر التاريخية لكتابه القادم، الذي سيمكنه من التقدم للوظيفة الجديدة في الجامعة. ونعرف من زيارة عمته "جوليانا تيزمان" له في مفتتح المسرحية، أنه استدان منها الكثير كي يوفر لزوجته الحياة التي اعتادت عليها، بشراء منزل جدير بها في العاصمة برغم أنه يتجاوز إمكانياته، وتوفير رحلة شهر عسل طويلة لها، حاول أن يجعلها مفيدة لحياته العلمية أيضًا. وأن العمة قد أقنعت "بيرتا" خادمة أسرة "تيزمان"، والتي ربّت "يورجين" منذ أن كان طفلاً، بالعمل في بيت "يورجين" الجديد، بالرغم من ترفع "هيدا" عليها، وانتقادها الدائم لكل ما تقوم به. بل إن العمة نفسها لم تسلم من انتقاداتها وترفعها. لكن "يورجين" يطلب من "هيدا" أن تتلطف معها، ويؤكد لها أنه لم يستطيع أن يوفر لها الحياة الباذخة التي اعتادت عليها من دون مساعدتها، وأن من الضروري له أن يكمل كتابه الذي جمع مادته، وأن يحصل على الوظيفة الجديدة التي أعلنت عنها الجامعة، كي يوفر لها حياة مستقرة، وإن حذرها من أنها لن تكون كحياة الحفلات المتتالية التي اعتادت عليها في بيت أبيها.

هنا يظهر الحديث عن أن منافسه القديم في نفس المجال "إيلرت لافبورج"، والذي كان الجميع يعرفون أنه دمر حياته العملية بالإدمان على الشراب، قد نشر كتابًا جديدًا حظي بترحيب النقاد والجمهور على السواء. وأنه قد جاء إلى العاصمة بعدما فرغ من كتاب آخر يعتقد أنه سيكون أكثر أهمية ونجاحا من كتابه المنشور، مما يجعله منافسًا قويًا محتملاً على الوظيفة التي ينشدها "يورجين". وقد جاءت وراءه وللبحث عنه "تيا إلفيستيد"، التي نعرف أنها تركت زوجها من أجله، والتي تتخوف من أن يعود للشراب، بعدما ساعدته في التغلب على الإدمان، وتوجيه طاقته من جديد للبحث والكتابة. بعدما تدهورت به الأحوال إلى حد العمل معلمًا لأبناء زوج "تيا" الذي كان يكبرها بأكثر من عشرين عامًا، وتزوجها كي تربي أولاده. فوقعت في غرام "إيلرت لافبورج" فهو من عمرها؛ وساعدته على التخلص من الإدمان كلية، وعلى مواصلة أبحاثه، حتى انتهى بفضلها من كتابه الجديد الذي يعتقد أنه سيرد له الاعتبار على جميع المستويات. وحينما تأتي "تيا" لبيت "تيزمان" بحثًا عن "إيلرت" نعرف أنها كانت زميلة لـ"هيدا" في المدرسة، وأن "هيدا" كانت تستأسد عليها وتشد شعرها، وكانت دائمة الاعتداء عليها، وهو أمر تزعم "هيدا" أنها لا تتذكره، بل تعتقد أنهما كانا صديقتين. وتحكي لها "تيا" قصتها مع "إيلرت" وتخوفها من أن تعيده العاصمة للشراب، ومدى خطورة الأمر عليه كمدمن سابق. فيثير هذا الحب القوي المغيّر لحبيبها السابق غيرتها من زميلتها السابقة وتأثيرها البالغ عليه.

وحينما يظهر "إيلرت لافبورج" ومعه مخطوط كتابه الجديد الذي سيعزز مكانته ويرد له الاعتبار يبدأ التوتر الدرامي، لأنه سيكون منافسًا خطيرًا يهدد فرصة "يورجين" في الحصول على وظيفة الجامعة. ونعرف أن حبه الكبير الذي لم ينسه أبدًا، كان "هيدا"، وها هي تتمكن من جديد من التأثير عليه، بل تدفعه إلى الشرب من جديد، وتحدي "تيا" الذي يعتقد أن تخوفها من وقوعه في السكر يعبر عن فقدان الثقة في شفائه من دائه القديم. وتدفعه "هيدا" للذهاب مع "يورجين" والقاضي "براك" لحفل سيسيل فيه الشراب أنهارًا، ولن يستطيع له مقاومة. وهذا هو ما جرى بالفعل، فقد شرب حتى سكر تمامًا كما هي الحال مع كثير من الاسكندنافيين. وضيّع باستمراره في الشراب بعد انتهاء الحفل، والتجول بين حانة وأخرى، مخطوطة كتابه الجديد الذي عثر عليه "يورجين" وهو في طريق عودته لبيته؛ وكان قد استمع إلى قراءات منه أثناء الحفل، وتأكد من أهميته العلمية البالغة. وأخذت "هيدا" المخطوط منه، وحينما يظهر "إيلرت" من جديد وقد تعتعه السكر، ويخبرها بأنه مزق مخطوط كتابه الجديد، مع أنه ضيّعه؛ لا تخبره بأن زوجها وجده، بل تشجّعه على الانتحار الإرادي الجميل، وتعطيه أحد مسدسات أبيها. وعندما ينصرف تبدأ في حرق المخطوطة حتى آخرها في المدفأة.

ولما يعود زوجها تخبره بأنها حرقت المخطوطة، فيصعقه الخبر ويثور عليها لتدميرها عملاً بالغ الأهمية، لكنها تبرر فعلها بأنها قامت بذلك للحفاظ على مستقبلهما، وإزالة خطر تهديد "إيلرت" له في وظيفة الجامعة التي يحلم بها؛ مع أننا نعرف أن "إيلرت" كان قد أخبرها بأنه قرر ألا ينافس "يورجين" على تلك الوظيفة. فتهدأ ثورته وتتحول إلى امتنان واضح لأنها تحبه إلى هذا الحد، وهو الأمر الذي يثير تقززها، لأننا نعرف من حوار سابق لها مع القاضي "براك" الذي يطمح في أن يكون له مكان حميم في حياتها الجديدة، أنها لم تحبه قط، وتعاني من السأم، كما أن اهتماماته الأكاديمية تصيبها بالملل، وأنها قبلته زوجًا على مضض. عند ذلك يجيء نبأ موت "إيلرت"، فيثير كلاً من "تيا" و"يورجين" لبعث المخطوطة المفقودة، فيقررا العمل معًا على إعادة كتابتها من الأوراق والمسودات التي احتفظت بها، ويشرعا في التخطيط لهذا العمل معًا. وعندما يصل "براك" يخبر "هيدا" بأن "إيلرت" مات، لا في فعل انتحار إرادي جميل مثلما تخيلت، وإنما في ماخور وأثناء مشاجرة انفجر فيها المسدس خطأ وهو في جيبه. كما يخبرها بأنه يعرف مصدر المسدس، وأنه لو صرح بما يعرف فسوف يتحول الأمر إلى فضيحة تلوك سمعتها فيها الألسنة، وأنها أصبحت الآن في قبضته، يفعل بها ما يشاء من دون أن تستطيع له مقاومة. عندها تدرك "هيدا" أنها وقعت في شراك "براك"، الذي كانت تقاومه وتتلاعب به كما سبق لها أن تلاعبت بالآخرين، وأنها أصبحت الآن ألعوبة في قبضته، فيفزعها الأمر، وتتراجع إلى غرفتها وتطلق النار على نفسها.

هذه هي تفاصيل المسرحية التي يعتقد بعض النقاد أن سيجموند فرويد قد استلهم منها توصيفه الشهير للمرأة العصابية، في كتابه (أمراض الحياة اليومية النفسية) بعد أكثر من عشر سنوات من عرضها على المسرح. فهي بحق مسرحية غنية بالتأويلات، تستثير من يتعرض لها للتعرف على حقيقة دوافع "هيدا" الداخلية لما تقوم به، وعلى سر قدرتها في التأثير على من يحيطون بها في آن. فكيف كان تأويل إيفو فان هوفا الجديد لها؟ هذا هو ما يهمنا في هذه المقالة. لأن منهج هذا المخرج الموهوب هو ما يشد الانتباه ببساطته واقتصاد مفرداته وتركيزه، بقدر ما تجذب مسرحية إبسن الاهتمام بتعقيدات بطلتها وانفتاحها على أكثر من تأويل. لأن الستارة تنفتح فيه على مسرح شبه فارغ تقريبًا، مساحة كبيرة خالية، حسب تعبير بيتر بروك، يسيطر عليها كلية اللون الأبيض، ويغمرها ضوء النهار الساطع. (ستنتهي المسرحية بسيطرة الظلمة في مشهدها الأخير، وكأننا بإزاء دورة زمنية كاملة). صحيح أن فيها أثاثًا قليلاً وبيانو (سنكتشف أنه تمت تعريته، والكشف عما وراء واجهته الصقيلة عادة من أوتار) وعددًا كبيرًا من أصص الزرع وباقات الورود أمام الباب المفتوح على الضوء، إلا أن تجريد المشهد من كل شيء أو لون، وحوائطه العارية، إلا من تجويف (طاقة) فيها مسدسان، هو أهم ما يشد الانتباه.

وقد ذكرتني المسدسات المعلقة في واجهة المشهد بمقولة تشيخوف الشهيرة: إذا علقت بندقية على حائط المشهد الأول، ولم تنطلق قبل إسدال ستار المشهد الأخير، فلا بد من إزالتها. أي أهمية أن يكون كل شيء في المشهد المسرحي موظفًا، بل حتميًا. وهو الأمر الذي يكشف عنه تصميم هذا العرض المحكم. والواقع أن في حضور تلك المسدسات نوعًا من التأكيد على أن المسرحية كلها تدور في حضرة الموت الرازح، الذي ستذكرنا به الجملة الأولى فيها عن "هيدا" كابنة لجنرال ميت؛ لكن حضوره (أو بالأحرى حضور مسدساته) يتحكم في كل شيء منذ موته. بل إن إبسن نفسه أشار إلى أن اختياره لاسم المسرحية الذي احتفظ لبطلته فيه باسمها قبل الزواج يشير إلى أن "هيدا" ابنة أبيها، أكثر من كونها زوجة، لذلك فإنها لا تحمل اسم زوجها "هيدا تيزمان" كما تنص القواعد الغربية. لكن أهم ما يكشف عنه هذا المشهد بجماليات تقتيره البيضاء هو قدرته على فصل المسرحية عن أي مكان معين أو بيئة محددة، وجعل أحداثها تدور في أي مكان، وربما في أي زمان بالرغم من الملابس العصرية.

في هذا المشهد العاري، نجد "هيدا" مكومة على البيانو. وبدلاً من الملابس التاريخية، ملابس القرن التاسع عشر، التي تبدو فيها "هيدا" عادة وكأنها مدرعة وراء طبقات من المشدّات التي يمكن أن تحميها، أو تعبر عن قوتها وفق التأويل الإخراجي، نجدها في رداء أقرب إلى قميص النوم، وكأنها شبه عارية، أو في قميص داخلي، وإن كان يقوم أيضًا بدور فستان السهرة، في مشهد آخر. كما أنها تقوم بدورها بطريقة تعري لنا أيضا تذبذبها بين الترفع على ما حولها، بل اشمئزازها منه، وبين الحماس أو الاندفاع الأعمى للتدمير، كحماس الانتحاريين. هكذا يقدم العرض من البداية مفاتيح تلقيه، تعرية كل ما يدور في المسرحية، والتركيز على مدى قدرتها على إثارة الحوار العقلي مع ما يعيشه المشاهد الذي يعرضها المخرج عليه. حيث نجد أمامنا "هيدا" جديدة نسبيًا، ليست ضحية لتحولات المجتمع الذي لم يعد لابنة جنرال ميت مكانًا مرموقًا فيه، ولا لكونها امرأة غير قادرة على التأثير على الرجل وتغييره كلية كما فعلت "تيا"، التي كانت "هيدا" تسيطر عليها في المدرسة، ولكن لشعورها بالغربة بين أكاديميين ممتلئين ثقة في قيمة ما يفعلونه ويكتبونه. فـ "هيدا" غير قادرة على التخلص من زمن كانت فيه محط انتباه الجميع، والتأقلم مع وضع جديد انصرف فيه عنها الجميع، ويتوقعون منها القيام فيه بدور جديد، بل محدود. فهي تعرف حقيقة ما يدور حولها، وقيمة ما فعله عاشقها السابق، بعدما دمرت حياته ولكن "تيا" أنقذتها من جديد فأشعلت غيرتها؛ بل وقيمة ما يقوم به زوجها من أبحاث للحصول على الوظيفة الجامعية المرتجاة، لكنها غير قادرة على التأقلم مع وضع يهمشها، بل يحيلها في النهاية إلى فريسة في شبكة القاضي "براك". لذلك فإنها ترفض ذلك كله، وتوظف طاقتها في تدميره وتدمير ذاتها معًا.

وهكذا تكشف لنا "هيدا" من خلال هذا التأويل الإخراجي الجديد عن سر نزعة التدمير الذاتية وآليات حراكها المعقدة، والتي يبدو أنها تتفشى في جل أنحاء عالمنا المعاصر: من العالم العربي الذي يستشري فيه تدمير الذات، والإجهاز على أي أمل في التطور وبشكل وحشي، وحتى العالم الغربي الذي صوتت فيه أغلبية الشعب الانجليزي المهمش، وقد فقد الثقة في المؤسسة السياسية، ضد البقاء في الاتحاد الأوروبي، مع وعي الكثيرين في مستوى من المستويات، بأن هذا ليس في مصلحته، وأن من المستحيل إعادة عقارب الساعة للوراء، حينما كانت للكثير منهم أوضاع فقدوها، أو أن فيه نوعًا من تدمير الذات. ويمكن بنفس منطق نزعة تدمير الذات المراوغة تلك فهم ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية، وانتخاب دونالد ترامب الرافض للمؤسسة المهيمنة كلية هو الآخر. والواقع أن كل تلك الظواهر التدميرية، سواء منها ما يدور في الشرق أو الغرب قد اعتمدت أيضًا، كما هو الحال في المسرحية، على الاستخفاف بالأكاديميين وآرائهم، وتسخيف تنبؤاتهم وتحذيراتهم، وعلى الرفض الكامل لمنطق العقل الذرائعي الذي ساد في الغرب خاصة.

-------------------------------------------
المصدر : الضفة الثالثة 

الجمعة، 10 مارس 2017

العرض الجزائري "مايا" الوقوع في فخ الحلم

الأربعاء، 15 فبراير 2017

العرض الإماراتي في المهرجان الخليجي المأزق العربي دائم في مسرحية «غصة عبور»

مجلة الفنون المسرحية

العرض الإماراتي في المهرجان الخليجي المأزق العربي دائم في مسرحية «غصة عبور» 

حشد المخرج محمد العامري ستة من خيرة الممثلين على الساحة المسرحية الإماراتية هم: إبراهيم سالم ومحمود أبو العباس وحميد سمبيج ورائد الدالاتي وبدور وأحمد أبو عراده، وضمن بذلك أن يقدم أداء تمثيلياً رائعاً على الخشبة في مسرحية «غصة عبور» من تأليف تغريد الداود، وإنتاج فرقة مسرح الشارقة الوطني، وعرضت مساء أمس الأول في قصر الثقافة في خامسة ليالي مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي في دورته الثانية.
في العرض يبدو أبطال المسرحية عالقين على ذلك الجسر، الذي يجتهد حارسه في إجلاء الناس عنه، مخافة أن يحتشدوا فوقه فينهار، لأنه الجسر الوحيد للعبور بين ضفتين، وكل المعابر والطرقات تؤدي إليه، ولكل من أولئك العالقين حكايته المرة التي تجعله عاجزاً عن العبور إلى الناحية التي يتجه إليها، أو العودة إلى الجهة التي جاء منها، فالشاب الذي اندفع فجأة على الجسر محاولاً العبور، رغم تحذيرات الحارس، يقف في نهاية الجسر غير قادر أن يتقدم، لأن أمامه ناراً ستحرقه، ولن يستطيع الرجوع لأنه فارّ من جحيم من القتل والدمار كان سيمزقه، أما المرأة الحامل التي حاولت الانتحار على الجسر، فهي فارة من زوجها الإرهابي الذي أغواها حتى هربت معه وتزوجته، فلا يمكنها أن تعود إليه، وتخشى من مقابلة أهلها، كذلك الرجل المسن القادم من بلاد الغربة التي امتهنته وأكلت عمره، قد حنّ إلى وطنه، لكنه لا يستطيع أن يعبر لأنه لن يجد أحداً في انتظاره، ولن يعود إلى الوراء بعد أن خاصمه أولاده وتركوه يذهب وحيداً، أما ذلك الشاب الذي يحمل جنسية أجنبية واسماً أجنبياً، فهو عائد إلى وطنه الأصلي وحارته التي تربى فيها، ليبحث عن ذاته واسمه الحقيقي وجنسيته التي فقد معناها عندما اضطر إلى الهرب من وطنه، لكي ينجو من سياط القمع والموت، بعد أن سجن وعذب وقطعت أصابع يده التي كتب بها أعذب الأشعار لوطنه، وها هو على الجسر لا يستطيع التقدم لأن نظام القمع والموت الذي فر منه ما زال هناك ينتظره.
إنها مآزق متشابهة، تجعل الجسر هو الملاذ الوحيد لكل أولئك الأشخاص، وتعطي للحارس فرصة استغلال ضعفهم وحاجتهم، فيدفع للشاب الأول مالاً ويعطيه سلاحاً لكي يعود إلى المكان الذي جاء منه، فيساهم في جحيم القتل، وعندما يعود للجسر يعود مضرجاً بالدماء، ويحاول الحارس أن يغري المرأة بالذهاب إلى مدينته حيث رجاله هناك سوف يدفعون لها المال ويفتحون لها فرصاً جديدة للحياة، ولئن كانت رصاصة الشاب التائه قد خلصتهم من ذلك الحارس الاستغلالي، فإن رجلاً أجنبياً استغلالياً سيظهر لهم من جديد، ليلعب على ضعفهم وحاجتهم، وسيظل الجسر يضطرب بهم، إنه مأزق لا مخرج منه. لا شك في أن العرض نجح في إيصال حالة المأزق التي تعيشها الشخصيات، وتأكيد وضع عربي متأزم، بإخراج فني متميز عرف به العامري، لكنّه منذ البداية كان واقعاً في مأزق درامي لا يمكنه التخلص منه، فهو يجمع بين أربع حكايات مستقلة لأربع شخصيات تنتهي كلها إلى مأزق لا يسمح بالتقدم أو التراجع، وهي حكايات واقعية، وقد فرض اجتماعها على العرض أن يسير أفقياً، ويفقدَ التصاعد العمودي المطلوب في النماذج الحكائية الدرامية، كما فرض عليه سمة السردية الباردة، فكل شخصية مضطرة إلى سرد حكايتها للحارس، لكي تفسر له المأزق الذي تعيشه، ولو أن حكايات الشخصيات كانت رمزية، لكان لذلك التعدد الحكائي مبرر، لأن الرمز قد يحتاج إلى تأكيد عبر التكرار لكي تتّضح دلالته، لكنها حكايات كلها واقعية، وكل واحدة منها تغني عن الأخريات، وكل واحدة منها قد تحتاج إلى ساعات وساعات من التمثيل لكي تتضح أعماقها وتتفتح مغاليقها، ألا تحتاج الصراعات الداخلية والحروب الطائفية إلى مسرحيات، وكذلك الإرهاب، والغربة، والدكتاتورية، لقد بدا العرض شبه متوقف بسبب تكرار حالات المأزق المتشابهة التي جعلت الشخصيات في حالة شكوى مستمرة لم تستطع أن تتجاوزها، فهي في حالة «غصة» دائمة.

رغم ذلك المأزق الدرامي فإن المخرج نجح في معالجته بإحكامه للّعبة الإخراجية سواء على مستوى السينوغرافيا التي كانت موظفة بشكل جيد، خصوصاً ذلك الجسر الدوار الذي هيأ للمشاهد أن يرى الممثلين في عدة وضعيات، وكسر الرتابة التي تنشأ من حالة السردية، كما أسهمت الإضاءة في إعطاء أجواء الخوف والترقب والقلق فوق الجسر، وأجواء الحرب والدم والظلام من حوله، ولم تتخلف المؤثرات الصوتية عن ذلك، لكنّ البطل الفعلي في كل ذلك المشهد كان أولئك الممثلين البارعين الذين أدوا أدوارهم باحتراف عالٍ وتناغم جميل، وكان محمود أبو العباس الذي مثل الحارس الدينامو المحرك، نظراً لأن العبء الأكبر كان عليه، فقام بالدور أحسن قيام، وكان بارعاً في الجمع بين الجد والهزل، وإثارة الضحك، وقد أدت كل تلك الإيجابيات إلى جعل العرض يمر سلساً، ويتفادى الملل.

---------------------------------------------
المصدر :محمد ولد محمد سالم -  الخليج

الاثنين، 13 فبراير 2017

جلسة شهادات النقاد والمسرحيين لتجاربهم المسرحية فى مؤتمر المسرح بالمنوفية

مجلة الفنون المسرحية

جلسة شهادات النقاد والمسرحيين لتجاربهم المسرحية فى مؤتمر المسرح بالمنوفية

خلال جلسة شهادات النقاد والمسرحيين فى تجاربهم المسرحية بمؤتمر المسرح الأول بثقافة المنوفية " مسرح الأقاليم تاريخ وتحديات "والذي عقد أمس السبت 11فبراير2017 بنقابة المحامين برئاسة خالد راشد و بحضور الدكتور سيد خطاب رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة والدكتور عواد أحمد على سكرتير عام مساعد بالمحافظة وأحمد درويش رئيس إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي والأستاذ صبري عبد الرحمن مدير عام ثقافة المنوفية ولفيف من القيادات التنفيذية والثقافية بالمنوفية، أوضح الدكتور محمد رفعت الناقد المسرحي أنه بدأ تجربته المسرحية بالمنوفية فى عام 1966 بحضور إحدى بروفات فريق مسرح كلية الآداب، فى مسرحية شقلبان إخراج يوسف النقيب وتأليف سعد حجاج وأسند إليّه دور "وائل" كأحد الأدوار الرئيسية والهامة في المسرحية.

مشيرا إلى أن يوسف النقيب من المخرجين الذين يصبغون أداء الممثل بجزء من ذاواتهم ولا يترك الممثل إلا وقد وصل إلى حد، وأكد الدكتور محمد الروبي الناقد المسرحي أن لمسرح الثقافة الجماهيرية أهمية وضرورة يزدادان بمرور الوقت؛ وفقا لتحديات تتعرض لها مصر الآن ومنذ سنوات طوال موضحا أنه علينا أيضا أن نعترف بأن بنية هذا المسرح "فكراً وتقنية" لابد أن يعاد النظر فيها من أجل أن تواكب مستجدات العصر، ولنسعى إلى عودة المؤتمر العلمي لمسرح الثقافة الجماهيرية الذي شهد دورتين ثم اغتاله بعض من يرون أن العلم يتناقض مع المسرح.

وأشار المخرج المسرحي الأستاذ طلعت الدمرداش أن المسرح اقتحم طفولته منذ الصغر وحبه وشغفه له فى الثامنة من عمره فى استخدام الدكك الخشبية والملاءات والألوان المائية مستعرضا مسيرته الشاقة والممتعة فى المسرح من مشاركته فى العديد من المسرحيات وحصوله على جوائز عديدة تقديرا لإعماله حيث حصل على جائزة أحسن ممثل ومخرج فى مسرحية الغول عام 1971 وأحسن مخرج فى مسرحيتى أغنية على الممر والغريب والعديد من الجوائز فنى مسيرته المسرحية واختتم المؤتمر بفقره فنية رائعة للفنانان أحمد اللولى وسيد جابر. 

----------------------------------------------
المصدر : أحمد رمضان متولي-  بوابة الفجر 

الأحد، 12 فبراير 2017

الهيئة العربية للمسرح تنشر كتاب: “المفارقة في المسرح” لأثير الهاشمي

مجلة الفنون المسرحية


الهيئة العربية للمسرح تنشر كتاب: “المفارقة في المسرح” لأثير الهاشمي 

ضمن مطبوعات الهيئة العربية للمسرح، تم إصدار كتاب ” المفارقة في المسرح للناقد أقير الهاشمي ويتناول الكتاب مجموعة من النصوص بالدراسة والتحليل مقدمة الكتاب: إن المفارقة تقنية مهمة، أصبحت أسلوباً رئيساً في الأدب العالمي بشكل عام، والأدب العربي بشكل خاص، إذ إن ما تؤديه هذه التقنية من أساليب ترتفع بالنص وتطوّره كالابتعاد عن المباشرة اللغوية، أو تكثيف اللفظ لتعميق المعنى أو كسر الرتابة اللغوية (الموضوعية والفنية)، أو لاستعمال ما هو غير مألوف ومختلف، ومن ثم إن هذه الخصائص وغيرها من شأنها أن تكسر أفق انتظار المتلقي، وعلى هذا الأساس فإن المتلقي يبحث عما هو مشوّق دائماً، ولذلك أصبحت للمفارقة أهمية كبرى في مجال الدراسات الأدبية، ونظراً لـِما تشكله تقنية المفارقة من مميزات عديدة ومما تتطلبه من خصائص جمة، فإن المسرح يأتي أوّل الأجناس قبولاً وتناسباً لها ولأنواعها، لما يمثله من مميزات يمكن أن يتسع للمفارقة بكل تجلياتها، ومن ذلك نقول إن السبب وراء اختيارنا لهذا الموضوع هو عدة أسباب أهمها: إن المفارقة تقنية مهمة في المسرح كما هي في الأجناس الأخر. إن المفارقة في الأدب المسرحي العراقي المعاصر أخذت أبعاداً أخرى كونها تأثرت بالأبعاد السياسية للعراق وما مرَ به من ظروف اجتماعية وثقافية متأزمة خلال سنوات متعاقبة، ولذلك أصبحت المفارقة جزءاً من حياتنا اليومية مما عـُكست بشكل قصدي أو لا قصدي في النص المسرحي العراقي. وعلى الرغم من العناية في الآونة الأخيرة بتقنية المفارقة في الوطن العربي و العراق من خلال عدد من الدراسات (الشعر، القصة، الرواية، المقامات) فإنها لم تدرس في المسرح – بشكل عام -، ولا المسرح العراقي – بشكل خاص -، فكان ذلك السبب الرئيس وراء اختيارنا  لهذا الموضوع. أما الدراسات التي استفدنا منها في دراستنا، فإنها كثيرة، لكن الأهمية تتفاوت من دراسة الى أخرى، ومن هذه الدراسات (المفارقة، والمفارقة وصفاتها) لـ د.سي ميويك، ترجمة د.عبد الواحد لؤلؤة، وكذلك بحث كل من د.سيزا قاسم (المفارقة في القصص العربي) وبحث د.نبيلة إبراهيم (المفارقة)، ودراسة (المفارقة في شعر الرواد) للدكتور قيس الخفاجي، و (المفارقة والأدب) لخالد سليمان، ومن بين الكتب المهمة التي تناولت المفارقة واستفدنا منها، كتاب (المفارقة في الشعر العربي الحديث) للدكتور ناصر شبانة، علاوة على عدد كبير من الدراسات التي لا تقل أهميتها عن الدراسات التي ذكرناها أعلاه. أما المنهج الذي سرنا عليه في هذا البحث، فهو المنهج الوصفي التحليلي، وبحسب مقتضيات البحث. تناولنا في هذا البحث، مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة مرفقة بملخص باللغة الإنجليزية. أما الفصل الأول، فكان إشكالية المصطلح ووظيفته الأدبية، تضمن مبحثين، الأول دراسة (إشكالية المصطلح)  حيث تطرقنا إلى إشكالية ترجمة المصطلح من خلال اختلاف المترجمين والنقاد حول مصطلح المفارقة، ومن ثم تعريفها في المعاجم اللغوية القديمة والحديثة، وبعد ذلك عرضنا لإشكالية المفارقة في التعريف الاصطلاحي، حيث لم تستقر المفارقة على تعريف محدد، بل تنوعت التعريفات والآراء حولها، لكننا حاولنا أن نضع التعريفات في بوتقة واحدة من أجل الخروج بنتيجة متقاربة إزاء تعريف المصطلح سواء في النقد الغربي أو العربي، وكذلك تناولنا  في هذا المبحث أنواع المفارقة، ووقفنا على أهم الأنواع، وحاولنا من خلال دراستنا وضع تحديدات مناسبة لكل نوع، كما درسنا طريقة صناعة المفارقة وبنائها في ضوء أسئلة طرحناها: كيف تـُبنى المفارقة ؟ وما طريقة بنائها ؟ فوجدنا أن طريقة بناء المفارقة تحتاج إلى مهارة لغوية خاصة، كما أنها تعتمد على مبدأ الاقتصاد كما يوضح ميويك، وفي المبحث الآخر (وظيفة المصطلح الأدبية)، تناولنا فيه وظيفة المفارقة بشكل عام، ومن ثم عرضنا لوظائف المفارقة في الأنواع الأدبية، كالشعر والقصة والرواية والمسرح، ودرسنا نماذج من المسرح العالمي كنموذج تطبيقي قبل الدخول إلى مرحلة النقد التطبيقي على المسرح العراقي. وتناولنا في الفصل الثاني (المفارقة في المسرح النثري) تضمن ثلاثة مباحث، المبحث الأول درسنا فيه (المفارقة وأنواعها في النص المسرحي النثري)، درسنا فيه ما تعرضنا له في الفصل الأول في الجانب النظري الخاص بالمفارقة وأنواعها، وحاولنا تطبيق المفارقة وأنواعها على المسرح العراقي النثري، و في المبحث الثاني (بناء المفارقة ووظائفها في المسرح النثري)،كذلك حاولنا تطبيق ما تعرضنا له في الجانب النظري من الفصل الأول الخاص ببناء المفارقة ووظائفها، فدرسنا النصوص بالتحليل النقدي من خلال آلية بناء المفارقة ووظائفها الأدبية في النص،  أما المبحث الثالث، فكان (المفارقة في مسرح الطفل)، وفيه حاولنا دراسة المفارقة في نصوص مسرح الطفل، لأنه أحد أعمدة المسرح العراقي، درسناه من خلال الأسئلة الآتية: أين تكمن المفارقة في مسرح الطفل ؟ وما مدى هيمنتها في مسرح الطفل ؟ ما أنواعها ؟ ما طريقة بنائها ؟ وظائفها ؟ أسلوب الكاتب فيها ؟ أما الفصل الثالث، (المفارقة في المسرح الشعري)، فتضمن مبحثين، المبحث الأول (المفارقة وأنواعها في النص المسرحي الشعري)، حاولنا في هذا المبحث أيضاً تطبيق ما تعرضنا له في الجانب النظري في الفصل الأول وتطبيقه ودراسته على المسرح الشعري، من خلال المفارقة وأنواعها، أما المبحث الثاني (بناء المفارقة ووظائفها في النص المسرحي الشعري)، فتناولنا بالتطبيق النقدي بناء المفارقة في المسرح الشعري والوظيفة الأدبية المتأتية من المفارقة لدى كل نص. وأوردنا خاتمة، لخصنا فيها أهم ما خرج به البحث من نتائج. أما الصعوبات التي واجهت الكتاب، فنعتقد أن لذة البحث وكتابته تتأتى من تلك الصعوبات، وأهم هذه الصعوبات:- قلة ما كـُتب من الدراسات حول المفارقة في المسرح، بخاصة المسرح العراقي، مما اعتمدنا في كثير من الأحيان على تحليلنا النقدي أو رؤيتنا النقدية المتواضعة، مع ملاحظة مهمة أننا لم نختر النصوص المسرحية العراقية بشكل تعييني، بل حاولنا قراءة أكثر النصوص العراقية إن لم نقل جميعها، فكانت حصيلة ما درسناه  في هذا البحث هي بحسب ورود المفارقة فيها، وهيمنتها بها. إن هذا الجهد، ما هو إلا جهد بسيط نأمل من خلاله أن يكون ثمرة متواضعة من ثمرات النقد المسرحي المعاصر. 

---------------------------------------
المصدر : المسرح نيوز  -  هبة جاد 

الأربعاء، 8 فبراير 2017

مسرحية "يارب "وإنسجام جميع عناصر العرض المسرحي

السبت، 4 فبراير 2017

مقارنة بين مسرحيتي الأشباح والبجعة لأبسن وستنبيرغ

مجلة الفنون المسرحية

مقارنة بين مسرحيتي الأشباح والبجعة لأبسن وستنبيرغ  

صباح هرمز 

اذا كانت مسرحية البجعة، قد كتبت عام 1907، فان مسرحية الأشباح، كتبها أبسن عام 1881، أي قبل البجعة بستة وعشرين عاما. وكلتا المسرحيتين يدور موضوعها حول السقوط في أحضان الرذيلة. ففي الأشباح الأب مع الخادمة، وانتقال هذه اللوثة الى الابن، وفي البجعة الأم مع صهرها.

وعلى الرغم من أن الرذيلة في البجعة، أقوى من الأشباح، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى، لممارستها من قبل شخصين، تحرم عليهما هذه العلاقة،  وقوتها تظهر في هذا الجانب فقط الذي لا يخلو من المراوغة والتلاعب بالمشاعر ودغدغة العواطف، فان هذه القوة في الأشباح، تتسم بمصداقية أكثر، لنأيها عن غلو سترندبرج في ربط العلاقات. وتصويرها من قبل أبسن، اتساقا والنهج الذي يتبعه  في مسرحياته الأخرى، ألا وهو الأسلوب الاسترجاعي، هذا الأسلوب الذي يعيد الأم والقس الى ماضي الأب، عبر الرذيلة التي يمارسها الابن ( الآن)، أي ظهور صورة  الأب في ابنه.  
يقول عبدالله عبدالحافظ بهذا الخصوص: وقد وضع أبسن هذا الصراع في اطار فني رائع اعتمد فيه سواء في تسلسل الأحداث أو المناظر على الطريقة الاسترجاعية (6).  
رجينا:أوزفولد! أجننت! اتركني!
مسز الفنج:( تجفل في فزع) آه!
ماندرز: (غاضبا) ما الذي يحدث يا مسز؟  ما هذا؟
مسز الفنج: (بصوت أجش) الأشباح. الاثنان في المشتل- يعودان! 
هذه الواقعة هي ذاتها  التي حدثت عندما كان الكابتن الفنج يغازل خادمته (والدة رجينا). كما أن الأب في الأشباح، يأتي ذكره،( بالرغم من عدم ظهوره)، على لسان  الشخصيات على امتداد المسرحية، محتلا مساحة لابأس بها، وموقعا مؤثرا لا، وبل فاعلا وجوهريا في نمو وتطور أحداث المسرحية، بعكس الأب في البجعة، فقد ترك سترندبرغ هذين الدورين، ( احتلال المساحة، والموقع المؤثر للأم).
كما يبدو لي ثمة تناص بين الأشباح والبجعة، وأن تأثيرات الأولى واضحة في الثانية، وتأتي أولى هذه التأثيرات في حصر شخصيات البجعة بخمس مثل الأشباح. واذا كان قد أجرى سترندبرغ من تغيير في مسرحيته، مقارنة بالأشباح، فان هذا التغيير لم يتعد حدود الشخصيات، وذلك بالاستعانة بشخصيتي الصهر والابنة، بدلا عن شخصيتي القس ماندرز والنجار أنجستراند. ليلعب شخصية الصهر الدور الذي لعبه الأب  في الأشباح مع الخادمة جوانا، وهو مع أم زوجته. واضافة الابنة في البجعة، لم يأت بجديد، وجاء بسبب ايجاد المسوغ لاقامة الصهر في منزل الأم، وبالتالي ربط علاقة معها. وأقول لم يأت بشيء جديد، ذلك أن دورها لم يقتصر أكثر من شكواها على تصرفات والدتها، واكتشاف خيانة والدتها لها مع زوجها، وهذان الأمران، أداهما الابن كذلك، ولكن ليس كشقيقته  متأخرا، وأنما رغم المرض الذي يعاني منه، منذ صغره، من بداية المسرحية. وهذا يعني أن اضافة هذه الشخصية، لم تأت الا تابعا لزوجها.
أما الاختلاف الجوهري الذي أجراه سترندبرغ  على شخصية الخادمة في مسرحيته عن مسرحية أبسن، في ظهورها بمظهر المربية العجوز، وليس اللاهثة وراء نزواتها، جعلها أقرب الى شخصية القس ماندرز في الأشباح، وهي تبدي حرصها واهتمامها بصحة وسلامة الابن والابنة، وتفضح تقصير الأم تجاههما وتجاه زوجها، مذكرة الأم بين حين وآخر بماضيها الكالح معهم. ولكنها، بعكس القس تغادر المنزل قبل نهاية المشهد الأول، وغادره القس قبل نهاية المسرحية بقليل. ولكن رغم قصر دورها، فقد استطاع المؤلف، أن يمنحها التأثير الذي لعبه القس في الأشباح.
وبقدر ما استطاع الصهر أن يلعب الدور الذي لعبه الأب في الأشباح، بنفس القدر لم يستطع أن يلعب دور الابن في نفس المسرحية، ذلك أنه مثل الأب، كان غرضه خسيسا، بينما غرض الابن نبيل. والأغراض النبيلة، كما يقول غوتيه، لا تؤخذ بالوسائل الخسيسة. لذا فقد أناط سترندبرغ دور الأب بالأشباح للصهر، ودور الابن في نفس المسرحية للابن (فريدريك). ولعل قول الأم لصهرها:( لكم تشبه الآن زوجي، وأنت تجلس على كرسيه الهزاز)، أدل نموذج على ذلك، بينما تأتي هذه الجملة، أو ما يقاربها على لسان القس ماندرز وهو يخاطب مسز الفنج، ردا على قول أوزفولد، عثوره على غليون والده:( عندما ظهر أوزفولد في المدخل والغليون في فمه بدا لي وكأن والده عاد الى الحياة من جديد). وكلتا الجملتين، جملة الأم في البجعة، وجملة القس في الأشباح، يستحضران ماضي الأب في صورة الابن والصهر، أي أن كليهما يسيران على خطاه الآن، في هذه اللحظة.  
ومثلما أحدث ستريندبرغ، تغيرا جذريا في شخصية الخادمة، كذلك فقد أحدث نفس التغير في شخصية الأم، من رزينة وهادئة وحكيمة في الأشباح، الى ماكرة ومتهورة وخائنة في البجعة. وجعلها أقرب في نرجسيتها، واستبدادها برأيها، الى شخصية (هيدا) في مسرحية (هيدا جابلر) لأبسن. وهي بعد أن تبلغ درجة اليأس، تطلب من ابنتها أن  تعيش معها ومع شقيقها كخادمة، ويعد هذا الانحدار السريع والمباغت من برجها العالي،  بمثابة انتحار هيدا، أن لم يكن أسوأ منه، بعد انسداد كل الأبواب بوجهها.
وليس من باب الصدفة، أن تبدأ كلتا المسرحيتين بجو عاصف وومطر. وتوحيان من خلال جوهما العاصف والممطر الى نفس المعنى. فاذا كان في الأشباح، توحي جملة رجينا: ( أنه مطر شيطاني لعين)، الى موقفها السلبي من زوج أمها ( أنجستراند)، ولا تطيق رؤيته، لما يرافقه من شر. فان جملة:( أغلقي الباب رجاء، من الذي يعزف الموسيقى؟) التي تلفظها الأم في البجعة، توحي هي الأخرى الى موقفها السلبي من ابنها، ولا تطيق رؤيته. ليعمد المؤلفان هنا الى التعبير عن نزعة  الشخصيات من المعنى الكامن وراء الكلمات. فهدف رجينا من ايقاف أنجستراند، حيث هو، ليس لتساقط المطر منه على أرضية الغرفة، وانما لعدم ازعاج أوزفولد، لايقاظه من نومه، وهو يحدث صوتا نشازا بقدمه العرجاء، وهذا الصوت النشاز يوازي صوت الموسيقى الذي تسمعه الأم في البجعة، الصادرة من عزف الابن، والمنبعثة من رائحة الكربونيك والأغصان المحروقة التي تكرهها، لا لأنها قد حرمتها على ابنها وابنتها فحسب، وانما أيضا في نهاية المسرحية، تختنق برائحة الكربونيك والأغصان المحروقة. 
وتمتد هذه المقاربة الى اصابة كلا الابنين، في الأشباح والبجعة بلوثة الأب، وليس من باب المصادفة أيضا، مثل بداية المسرحيتين بجو عاصف وممطر، أن يعاني كلاهما من هذا المرض، بعد عودتهما من الخارج. فردريك نادبا حظه العاثر الذي بفعل الخلافات العميقة بين أبيه وأمه، ساقه هذا الحظ الى مربية، يرافقها الى منزل أختها التي كانت تتعاطى الدعارة، ليشاهد هناك كل شيء بأم عينيه. وأوزفولد مثل فردريك، بعد عودته من باريس، يشكو من نوبة صداع في رأسه. 
فردريك: أنا لم أرضع أبدا من حليب الأم، كنت بعهدة احدى المربيات، وكان علي أن أرضع من قنينة. وحينما كبرت قليلا، صرت أرافقها الى منزل أختها التي كانت تتعاطى فيه الدعارة، حيث رأيت مشاهد حافلة بالأسرار يستبيحها للصغار مربو الكلاب فقط. . .
أوزفولد: بعد زيارتي الأخيرة هنا وعودتي ثانية الى باريس بفترة قليلة – عندئذ بدأت أشعر بآلام غاية في العنف في رأسي – غالبا في مؤخرة رأسي، على ما يبدو، كما لو أن حلقة حديدية محكمة قد ثبتت بمسمار حول عنقي وفوقه تماما.
ونتيجة الخوف الذي يقع فيه أوزفولد، جراء تحذيره الطبيب من مواجهته للنوبة مرة ثانية، لأنها ستؤدي الى نهايته، يفضي به هذا الخوف الى الجنون. وفردريك لا يقل جنونا عن جنون أوزفولد، ولكن لافساح أبسن مساحة أوسع لحركة أوزفولد، قياسا بحركة فردريك المحدودة، حدا لأن تبرز هذه العاهة لدى الأول أكثر من الثاني. وعلى الرغم من ذلك، فانها تظهر من بداية المسرحية لدى  فردريك، ويتأخر ظهورها لدى أوزفولد.

وعملية التناص بينهما هذه، تتضح أكثـر، في اقتباس البجعة جملة من الأشباح،  تعبر عن لب المسرحية، ان لم تكن هذه الجملة كل المسرحية، وهذه الجملة تأتي في الأشباح على لسان مسز الفنج، وفي البجعة على لسان الأم. ومع أن الجملة الأولى طويلة، والثانية قصيرة، غير أن كلتيهما تعبر عن نفس المعنى، وما يضاعف ذلك هو بالاضافة الى ذلك ورود كلمة الأشباح على لسان الأم في مسرحية سترندبرغ، مع أن هذه الكلمة هي عنوان مسرحية أبسن.

مسز الفنج: أنني خائفة لأنه في أعماق نفسي شيء أشبه بالشبح لا أستطيع الفكاك منه أبدا.عندما سمعت رجينا وأوزفولد هناك بدا لي وكأنني أرى أشباحا. أنني أكاد أظن أننا جميعا أشباح. . .
الأم: احذري (بعد برهة) أثمة شخص يمشي هناك؟
مارجريت(الخادمة): لا ليس هناك أحد.
الأم: أترينني كمن يخاف الأشباح؟
والأشباح هنا، وفي كلتا المسرحيتين، رمز للماضي الذي  تخشى منه مسز الفنج، وكذلك تخشاه الأم، لأنه امتداد للحاضر، فما كان يحدث بالأمس، يحدث اليوم. وكلتاهما تشاهدان صورة ابنيهما في شبح أبويهما، وقد عادا الى الحياة من جديد. ويهدف أبسن من الماضي، كل تراكمات العادات والتقاليد البالية والسائدة في المجتمع النرويجي. 
ويعلق عبدالله عبدالحافظ على حوار مسز الفنج قائلا: (هذه صرخة عقل يحتج على كل أشكال الاعتقاد التي لا تقوم على المنطق، وعلى الأشباح التي تعيش في الظلام وتبطش بالضحايا الأبرياء)(7). 
ويستطرد:( ولعل هذا التزمت في هذا المجتمع النرويجي الصغير هو الذي دفع كثيرا من النرويجيين الى الهجرة لباريس والى أمريكا حيث جو الحرية وحيث ينعم الأنسان ببهجة الحياة).  
في كلتا المسرحيتين أيحاءات كثيرة، تأتي  في البداية، وتتحقق في النهاية، وأبرزها ما يحل بفردريك وأوزفولد، لاصابتهما بمرض الزهري الذي ينتقل بالوراثة الى الأبناء عن طريق الأب. ولكن كليهما لم يلقيا حتفهما، أو بقيا على قيد الحياة،  فسيان كلا الأمرين، عن طريق هذا المرض، وأنما كان هذا المرض سببا لجنونهما، وهذا الجنون هو الذي آل ما آل اليهما . فردريك  بإحراق المنزل، وأوزفولد سعيه في شرب السم. اذن أن هذا المرض، وأن يبدو وراثيا، غير أنه لايخص فردا واحدا، وأنما كل المجتمع. بدليل أن كل الناس من وجهة نظر مسز الفنج والأم، تتحول الى أشباح، لذا فإن هذا المرض، ما هو الا وسيلة لبلوغ الغاية الأسمى، وهي رفض كل الأفكار والعادات والتقاليد البالية للمجتمع النرويجي جملة وتفصيلا. هذا بالنسبة لمسرحية الأشباح. أما بالنسبة لمسرحية البجعة، فان الغاية الأسمى، هي التصدي لخيانة المرأة لزوجها وابنتها، وظلمها لأسرتها ككل، وابراز هاتين الحالتين، عبر حرمان ابنها وابنتها وقبلهما والدهما من الأكل والملبس الجيدين، ودفء الحطب في برودة الشتاء الجليدية، وتوظيفهما في احراق المنزل.
وبالتعويل على وصف الفصل الأول لمسرحية الأشباح، والمشهد  الأول لمسرحية البجعة، وبتفكيك رموز هذين الفصلين، وجدنا بدلا من أن يسود التقارب بينهما، يشطرهما التباعد الى خطين متوازيين، يبدو من الصعب، أن يلتقيا في نقطة معينة، الأول بانفتاحه على المستقبل، يشوبه بقسط وافر من التفاؤل، والثاني بالولوج في دهاليز الأغصان المحروقة ورائحة الكربونيك الطافحتين بالتشاؤم. فغرفة حديقة فسيحة لها باب في الحائط من جهة اليسار، وبابان في الحائط من جهة اليمين، بالاضافة الى انفتاح الغرفة على مشتل للزهور، وله حيطان زجاجية كبيرة، وفي الحائط الأيمن للمشتل باب يفضي الى الحديقة، فمثل هذا المنظر المنفتح بأبوابه ونوافذه على العالم الخارجي، لا بد أن يحتوي، أو يريد أن يحتوي على شخصيات، تتسم ولو بجزء ضئيل من الأمل في الحياة. وشخصية أوزفولد هو هذا النموذج.  بدليل أن الكلمة الأخيرة التي أطلقها في نهاية المسرحية، كانت : الشمس. 
بينما المنظر الذي يتكون من باب واحد للشرفة، وصالة جلوس تفضي الى صالة أخرى للطعام، وأريكة مغطاة بغطاء أحمر، وكرسي هزاز... فكل مفردة من هذه المفردات، تشكل بحد ذاتها علامة من علامات التشاؤم التي تنتظر مستقبل شخصيات المسرحية. ولعل احتراق الثلاثة في نهاية المسرحية، الأم وابنها وابنتها في آن، يؤكد ذلك. لنفهم أن أبسن يتبع في الفصول الأولى في مسرحياته طريقة العرض، مع تقنية اقتران البداية بالنهاية. وسترندبرغ يتبع التقنية الثانية أيضا، ولكن ليس  بتجزئة العناصر الدرامية الثلاثة كلا على حدى، كما يفعل أبسن، وانما بخلطها في تركيبة متماسكة معا.
وفي المنظر الثاني للأشباح، تجري الأحداث في نفس الغرفة. الا أن تعزيزه بجملة ( لا يزال الضباب يخيم على المنظر العام)، جعل المؤلف ينحو هذا الفصل، منحى (العقدة)، وأغلب الظن، أن هذه الجملة جاءت، امتدادا للفصل الأول، حيث كان المطر يهطل.
بينما يخلو  المشهد الثاني للبجعة من أي وصف أو شروحات. وهذا يعني أنه كالمشهد الأول، أن عناصره الدرامية تسير على نفس الوتيرة. ولكنه في المشهد الثالث، ومع صوت ارتجاج الباب، وطرقات متسارعة عليه من قبل الصهر، هذه الطرقات التي تذكرنا بمسرحية ماكبث لشكسبير، نفهم من خلالها، أن عقدة مسرحية البجعة قد بدأت. وفي المشهد الرابع أن هذه العقدة تتطور، عبر هبوب رياح عاتية، يسمع صفيرها من النوافذ والمدفأة، والباب الخلفي ينصفق، ليذكرنا هو الآخر بمسرحية الملك لير لشكسبير أيضا. وفي المشهد الخامس والسادس، عزف موسيقى في الخارج، وفي السابع، يدخل الصهر وفي يده عصا غليظة، أشارة واضحة الى أنه سيتعامل مع أم زوجته بشكل فظ. وفي المشهد الثامن، توقف الأم الكرسي الهزاز، ويدخل الابن ثملا، لتوحي المفردة الأولى على القلق، والثانية على جرأة التطرق للمواضيع الحساسة، وتوجه الأم نحو النافذة في المشهد التاسع، وتفتحها تنظر بعيدا، تتراجع بعد وهلة الى الغرفة حيث تأخذ مسافة استعدادا للقفز، لكنها تعدل عن قرارها حين تسمع ثلاث طرقات على الباب، وأذا كانت النافذة تشكل عالمها الخارجي الذي تتوق من خلاله أن تعيش بحرية، فأن الغرفة التي هي في داخلها ، تشكل عالمها المحاصر بقيود محكمة.
وهي بين الاثنين، بين ضميرها الذي يؤنبها، ويدفعها الى الانتحار، وبين توقها للحرية، المتمثلة بطرقات على الباب، لتنقذ هذه الطرقات حياتها، تختار الأخيرة.
وهنا يلجأ سترندبرغ الى استخدام تقنية الاسترجاع كأبسن، من خلال استحضار  صورة الابن على هيئة والده، وهي تقول: من هناك؟ ما الذي يجري؟ ( تغلق النافذة) أدخل ! هل هناك أحد . أنه نفسه وهو يعدو في حقل التبغ، ألم يكن ميتا؟
. . . . 
وفي منظر الفصل الثالث للأشباح، يعود المؤلف، مانحا أياه مواصفات الفصل الأول نفسها تقريبا، أقول تقريبا لأن شابته بعض روح التشاؤم، ولكن ليس بغلبة هذه الصفة على التفاؤل، بل بالعكس، بغلبة الأخيرة على الأولى. وجاء هذا الفصل كذلك، اتساقا مع تطورات أحداث المسرحية التي قادت أوزفولد المحب للحياة، التفكير في الانتحار. مثله مثل الأم في البجعة، واقعا تحت وطأة الشعوربتأنيب الضمير في أصابته بهذا المرض، ظنا منه أنه المسؤول الوحيد عنه والذي ألحق الأذى، ليس برجينا فقط، وأنما بالمجتمع ككل. 
وتكمن روح التشاؤم في هذا الفصل فقط في جملة ( في الخارج ظلام)، وتعقبها جملة، تحتوي على قدر ضئيل من الأمل: (باستثناء وميض خافت من النار ينبعث من خلفية المسرح).
أما التفاؤل فيمكن ملاحظته في هاتين الجملتين: ( كل الأبواب مفتوحة) و( لا يزال المصباح مضيئا على المنضدة.)

---------------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

تفاعلية الجمهور والمكان بمسرح المقهورين في عرض (مفتاح الفرج)

مجلة الفنون المسرحية

د. فيصل عبد عودة

تجربة ثانية بعد مسرحية ( ورطة ) تصنعها ( جماعة الناصرية للتمثيل) يومي 13 و 14 / 1 / 2017  بنص الكاتب المسرحي عمار نعمة: ( مفتاح الفرج )، إخراج الدكتور ياسر البراك ..
هذه التجربة التي اختلفت تماما عن النسق المسرحي الذي تجاوز الكثير من الحدود في التجارب المسرحية المعروفة ،من ناحية الفكرة المتشظية على مساحة وطنية - إنسانية لامست القهر البشري اليومي الذي يعيشه الانسان العراقي اليوم .. بل هي توليف منظم وذكي كما ظهر في خطاب العرض من مرتكزات المسرح التسجيلي والوثائقي مع اختلاف الوسائل .. اعتمد الدكتور البراك في إنتاج عرضه المسرحي على قصدية التعامل مع الجمهور والممثل في آن واحد اللذين شكلا ثنائية تحكمت بتدفق الافكار وسردها لفظاً وإيماءً مما أوجد جدلية أستطيع أن أطلق عليها  ( جدلية العرض المستمر ) .. التي اختلفت تماما عن المحاكاة الأرسطية والبرشتية التي ترى المتحرك داخل الذات .. فالمتحرك في العرض هو الممثل الذي يستفز ويستلب بين الحين والاخر ذات الجمهور ويضعه أمام علامات استفهام وردود فعل باعتبار أن الجمهور هو ركيزة العرض وهو حاضنة لخطاب العرض .. هنا ابتعد البراك عن تأثيث المسرح المفتوح بل إنحاز العرض الى مسرح فقير غني بالإيماءة وحركة جسد الممثل وتلاشي جدران الوهم المسرحي الذي به أصبح المكان متحركا وواعيا أمام الجمهور .إن اختزال الحكاية على وفق المنطق الروائي هو أن يجد الجمهور متونا حكائية متعددة تماهت وتطابقت مع البناء الخارجي لشكل الممثل ( الأزياء) حيث وظّف المخرج الزي بسابقة فريدة تجردت عن الزي المسرحي الذي يتمحور على الشكل المسرحي المألوف وتعداه الى عمق الشخصية وتأريخيتها .. فكل شخصية أصبحت دلالاتها الفكرية من خلال الزي وملحقاته التي استخدمها الممثل طيلة زمن العرض.  هذا المنحنى هو لإسقاط الغموض والتشفير المركب كون العرض خاطب جمهورا  أتى من عمق الشارع والمقهى والجسور والHسواق والمارة.. 
إن اختيار المخرج لفضاء مفتوح هو قصد لقلب المعادلة ما بين مكان العرض والجمهور .. فتقصّد المخرج أن يذهب بعرضه المسرحي الى الجمهور وليس العكس وهذه من التجارب الصعبة والمركبة جدا حيث واجه العرض شارع السلطة - وهنا أعني سلطات الافكار المختلفة الميول والاتجاهات .
ومن خلال هاتين التجربتين برزت بعض المرتكزات التي تؤسس الى تفاعل كبير من أن يكون المسرح مكانا منبريا مؤثرا في المجابهة والتغيير ومنها:
اشتغال المخرج مع مجموعة شكّل لها المسرح هاجسا جماليا على وفق التجارب المعملية المختبرية التي قام بها المخرج لفترات زمنية طويلة. 
تبلور الطاقات الشابة الواعدة ومنها العنصر النسوي لإيجاد ثقة أدائية بالعرض.
اختزال الانتاج المسرحي المبالغ به وتوفير عناصر العرض المرئية بأقل تكلفة إنتاجية الأمر الذي يلعب الانتاج الفني اليوم دورا كبيرا لتأسيس عرض جمالي مبهر.
ركز العرض لمفهوم العمل الطاقمي الذي نرى به المؤلف ممثلا .. وهذا ما كان لدى المبدع عمار نعمة جابر الذي وظّف جسده الرشيق لإنتاج علامات وفواصل وأفكار نقدية لاذعه وهادفة ومبتكرة.

-------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

الثلاثاء، 31 يناير 2017

تحديات النقد الأكاديمي في المسرح العربي الجانب النظري يغلب التطبيقي

مجلة الفنون المسرحية

تحديات النقد الأكاديمي في المسرح العربي  الجانب النظري يغلب التطبيقي


 أكّد الدكتور المغربي والمتخصّص في النقد المسرحي مصطفى الرمضاني خلال مداخلته أمس في الملتقى المنظم بجامعة وهران واحد بالسانيا حول «تحديات النقد الأكاديمي في المسرح العربي»، أنّ النقد المسرحي العربي مازال يتّسم بكونه نصا أدبيا يغلب عليه التقديم النظري، في حين العمل المسرحي هو عمل مشهدي، تطالب من خلاله باستحضار العناصر المشهدية، بما فيها كلّ أدوات العمل؛ من الإخراج وسينوغرافيا والإضاءة وغيرها.

اعتبر المحاضر أنّ أغلب الذين يمارسون النقد المسرحي على المستوى العربي من خريجي الجامعات والأكاديميين، هم حسبه، يمارسون الأدب وليس الفن، لذلك تغيب في دراساتهم هذه المظاهر الإجرائية. ووجّه دعوة التسلّح بهذا الوعي الجمالي في دراسة الأعمال المسرحية، باعتبار أنّ المسرح فرجة، والنقد ينبغي أن يدرس المسرح؛ باعتباره علامات، وكلّ ما فوق خشبة المسرح علامة على الناقد أن يقرأها بمنظورها وداخل سياقها الخاص.

الدكتور الرمضاني خلال مداخلته، أكّد أنّ المسرحية ليست لغة أدبية مباشرة، ولكنّه مغلّف بعلم الدلالة المكتوب أو الشفوي أو المتخيل، والذي يحفز هذه المستويات هو السينوغرافيا الأخرى، لكن الناقد عندنا تخرّج من الجامعة، ليس له ورشات تطبيقية، لا يملك تجربة إجرائية مقربة، وقد لا يستوعب معنى أن تقرأ العمل المسرحي، باعتباره نصا متعدّدا؛ أي أنّ هناك نصا جيدا ونص الملامح والإضاءة والتمويج الموسيقي والكوريغرافيا وكلّ ما ينتمي للمرفقات في لغة المسرح، وهي كلّها مكوّنات ولبنة؛ إذا سقطت واحدة ينهار العمل.

وأرجع ضعف مستوى النقد المسرحي العربي إلى غياب الورشات التطبيقية للأكاديميين أو المتخرّجين من المعاهد، الذين يعتمدون التنظير، بينما النقد يدرس الظاهرة الركحية، ويتحدّث عن الكائن، مؤكّدا أنّ أغلب ما يُكتب من نقد مسرحي أكاديمي وغير أكاديمي، إنّما يميل للجانب النظري أكثر منه التطبيقي، لذلك حينما نقوم بالنقد المسرحي العربي نجد أنّه فسيفساء من التجارب، بدأ من النقد التاريخي للمسرح، وكلّ بلد يعتبر نفسه رائدا، ويبدأ في تعداد الظواهر الإنسانية الموجودة، غالبا في جميع دول العالم، فالعنترية في النقد المسرحي موجودة بكثرة، لذلك حينما لا نجد الظاهرة تتّفق مع ما اتّفق عليه عالميا بالشكل الذي يمس بالشكل المسرحي الأريسطي، لأنّه مؤسّساتي. أما ما يقدّم هكذا بدون وجود نية مسبقة فلا يتعدى أن يكون نوعا من العبث.

ويرى الدكتور رمضاني أنّ الإبداع فعل مع سبق الإصرار، يحمل بنية مسبقة، أي أننا لا نبدع صدفة، بل يجب أن يكون هناك وعي قبلي، وهذا الأمر يجب أن نستحضره في المسرح، وهو ليس نصا أدبيا، بل هو هذا الكلّ؛ من إخراج وسينوغرافيا وممثل وإضاءة، ليطرح سؤاله: هل نملك هذا الناقد المسرحي الذي يملك هذه المؤهلات؟ ويجيب على نفسه بأنّ المؤهل أكثر ليكون ناقدا مسرحيا بالفعل وليس بالقوة، هو الناقد الممارس الذي يملك الخبرة الأكاديمية، لأنّ الهواية وحدها لا تكفي، لذلك حينما نريد أن نتحدّث عن قراءة نقدية بالفعل، نستحضر هذا المعطى الأكاديمي المعرفي، ولكن كذلك نستحضر هذه الخبرة، لنكون قادرين على تفكيك شفرات العرض المسرحي من الداخل.

وأعاب الدكتور رمضاني على المسرحيين العرب، كونهم ينقلون المناهج المسرحية الغربية بدون وعي، عندما نتحدّث عن منهج النقد الثقافي، كما يقول، والذي يروّج له حاليا عربيا هو مفهوم غامض؛ لأنّ هناك مناهج قد تصلح لبعض الأجناس دون غيرها، فهو يرى أنّ المنهج التاريخي منهج صحيح، لكن بالنسبة للمسرح ماذا سيستفيد من المدارس والشخصيات، وللممارس كذلك أو للمتلقي للعرض المسرحي؛ إذ لا يتعدى أن يكون مساعدا لفهم الظاهرة فقط.

وتبنّى الدكتور رمضاني المنهج السيميائي في المسرح، لأنّه يعتبره منهجا يعتمد على العلامة؛ باعتبار أنّ المسرح هو عالم العلامات. أما المنهج الثقافي والسوسيولوجي فهو صالح للأجناس الأدبية أكثر منه المسرح، بينما المنهج السيميائي فهو أنجع المناهج لمقاربة العمل المسرحي مقاربة الدراماتولوجية، والتي قد تسعفنا في مقاربة العمل المسرحي، إذ لم تتح لنا إمكانية مشاهدته أو ما يسمى النقد بالقوّة، لأنّها تعتمد على القرائن المعيّنة في النص لتخيّل العرض الممكن، لأنّ النص يتضمّن الحكاية والحوار؛ ما يجعلنا نتخيّل تحقّق العرض.

في الأخير، يعترف الدكتور رمضاني بأنّ المسرح العربي طغى عليه النقد الإيديولوجي، لأسباب أهمّها أنّ المجتمعات العربية مازالت تركّز على ما يقال. وعلى الجانب الفكري والإيديولوجي تغيب الجوانب الفنية؛ لأنّنا عشنا المستعمر، وكان لا بدّ من أن نستحضر هذا المعطى، ثم جاءت مرحلة التحرّر التي طغى فيها الشباب، وأصبحت الإيديولوجيا للدخول إلى عالم الديمقراطية، وفي السنوات الأخيرة، كما يقول الدكتور رمضاني، انتبهنا متأخرين إلى أنّ العرض المسرحي شيء أكبر من هذه المكوّنات الجمالية، التي لا بدّ من استنطاقها داخل العملية المسرحية. ويعتقد أنّ شبابنا اليوم هو من توكل إليهم مهمة الرفع من المستوى الجمالي للمسرح العربي، بدلا من التركيز على الجانب الإيديولوجي.

للإشارة، نشّط هذا اللقاء العلمي كذلك الدكتورة العراقية لميس عماري والدكتور فائق حميصي من لبنان، حول قضايا تتعلّق بإشكاليات المسرح العربي.

-------------------------------------------------
المصدر : خديجة نافع - المساء

الخميس، 19 يناير 2017

عرض مسرحية "القلعة "بسينوغرافيا متكاملة

مدخل لإتجاه مابعد الحداثة Post Modernism :

مجلة الفنون المسرحية

 مدخل لإتجاه مابعد الحداثة Post Modernism :

د. راندا طه 

طرح الفيلسوف الإيطالي "جيانى فاتيمو Gianni Vattimo " مصطلح" ما بعد الحداثة Post Modernism" في كتابه "نهاية الحداثة The End of Modernity "عام 1988 مفـسراً" ما بعد "Post ويرى أن الحداثة (Modernity) هي حالة وتوجه فكرى تسيطر عليهما فكرة رئيسية هي أن تاريخ تطور الفكر الإنساني يمثل عملية استنارة مطردة أو متتنامية، والحداثة بهذا المعنى تتميز بخاصية الوعي وبضرورة تجاوز تفاسير الماضي والسعي الدائب نحو التجاوز للمستقبل بتفسير آخر ( ).

 و(ما بعد الحداثة) هي المعنى الحرفي لـ"Post  Modernism"، وهو تجارب فكرية قام كرد فعل للحداثة. وتكاد تُجمع المراجع على عدم إعطاء تعريف دقيق لهذا المصطلح، بل بدلاً من ذلك تحاول تعريفه من خلال مقارنته بنقيضه وهو" الحداثة Modernism " ( ).فمعرفة (الحداثة) أمر مهم في معرفة (مابعد الحداثة)، وكلاً من هذين المفهومين نشأ في ثقافة غربية، ولذلك فالحديث عنهما سيكون ضمن نطاق هذه الثقافة.

يوافق أنصار ما بعد الحداثة الحداثيين على أن الإنسان لا يختلف عن بقية أجزاء الطبيعة، بالرغم من أنهم يتصورون الطبيعة بشكل مختلف. والفرق الأساسي بين النظرة ما بعد الحداثية والنظرة الحداثية أن الحداثيين ينظرون إلى الإنسان على أنه "ترس" في آلة طبيعية حية عظيمة، بينما يرى ما بعد الحداثيين الإنسان على أنه "ترس" في آلة إجتماعية. فهم يركزون على الأثر الاجتماعي على الإنسان وخاصة أثر اللغة، وليس على أثر العمليات المادية والبيولوجية الطبيعية كما يفعل الحداثيون.

ويرى ما بعد الحداثيين أنه ليس هناك ذات مستقلة عن حقيقتنا الاجتماعية. فالثقافة والمجتمع يصنعان (وبتعبير ما بعد الحداثيين: يخلقان) الأفراد كما يخلقان أفكارهم واتجاهاتهم. وتُعد اللغة من طرق صياغة المجتمع للأفراد. ويشير ما بعد الحداثيين إلى أن الإنسان يتفاعل دائما مع الحقيقة من خلال اللغة. فكل النشاطات العقلية قائمة على اللغة، فنحن نفكر من خلال الكلمات ونتواصل من خلال الكلمات. والناس مرتبطون بالحقيقة من خلال الأسماء التي يعطونها لإدراكاتهم وأفكارهم ، وهذه الأسماء- التي هي عبارة عن كلمات- تُطلق بشكل عشوائي (أو اتفاقي) من المجتمع.

 وكلما ازدادت أفكارنا تجريداً كلما ازددنا اعتماداً على الكلمات لإعطاء المعاني. فإذا كانت اللغة هي طريقة الناس للارتباط بالواقع فلابد إذن أن نفهم طبيعة اللغة، وطرق التفكير التى تختلف من لغة إلى أخرى، وتتطرف ما بعد الحداثة في الاستدلال بهذه الحقيقة .( )

فليس لدي ثقافة معينة من وجهة نظر ما بعد الحداثيين القدرة على الحكم على أفكار الثقافات الأخرى. فيزعمون أن من يفعل ذلك فإنما يفرض لغته وأنماط تفكيره على الثقافات الأخرى. وحيث أننا لا يمكن أن نقول إن لغةًً ما أفضل من اللغة الأخرى ،فإننا لا نستطيع أن نقيم أو ننقد الأفكار والحقائق التي تؤديها تلك اللغة. 

وبالنسبة لما بعد الحداثة فإن المشكلة ليست فقط في الاختلاف بين الثقافات، بل إن المشكلة في داخل الثقافة الواحدة في اللغة نفسها؛ لأننا نفهم الطبيعة أو ما حولنا من خلال إطار اللغة التي نتحدثها. وحيث أن لللغة منطق قائم على أسلوب التركيب فليس لدينا طريقة لمعرفة إلى أي مدى تؤثر لغتنا في إدراكنا. فنحن نسمي أشياءاً نراها في الطبيعة (أسباباً) ونسمي أخرى (نتائج) لكن من أين لنا أن نتحقق من أن تلك الأشياء أسباب أو نتائج، أم أننا فقط أطلقنا تلك الكلمات بطريقة اتفاقية (عشوائية) على أشياء يمكن أن ينظر لها بطريقة مختلفة. فيزعم أنصار ما بعد الحداثة أنه ليس هناك طريقة لمعرفة ما إذا كانت قوانين اللغة هي نفس القوانين التي تحكم الواقع. 

فتجارب ما بعد الحداثة تعتمد كثيرا على اللغة في طرحها لأفكارها، ومادامت اللغة غير قادرة على أداء المعنى، وما دام النص يمكن تفسيره بعدة تفسيرات وليس هناك مرجع معتمد لترجيح معنى على آخر، وما دامت الحقيقة هي ما تؤديه هذه اللغة فليس هناك إذن حقيقة مطلقة. فما بعد الحداثة تتركنا غرقى في الشك، محاصرين بما أسموه "سجن اللغة". فالواقع ـ بالنسبة لهم ـ تبنيه أو تُعرِّفه الثقافة واللغة ولا يُكتشف بالعقل والملاحظة. فالإنسان بالنسبة لهم لا يولد، بل يحدد ويعرّف بواسطة مجتمعه وثقافته. والإجماع الثقافي يحدد ويعرف الواقع ، ويتساءل بعض النقاد عما سيحدث إذا قرر أفراد ثقافة ما واتفقوا على أن جنساً من البشر ليس إنسانياً، وتعرض هذا الجنس للإبادة، كما حصل للسود في أمريكا وكما حصل لغير الألمان في ألمانيا الهتلرية، فعلى هذا يكون تدخل أفراد ثقافة أخرى لمنع الظلم عملاً عدوانياً. 

 إذن فتجارب ما بعد الحداثة تقوم في الجملة على فرضية واحدة، وهي أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، أي ليس هناك حقيقة واقعية في خارج ذهن الإنسان توجد بذاتها سواء آمنَّا بها أم لم نؤمن ، وإنما كل إنسان تُبني داخله الحقائق بفعل ثقافته ولغته. وبناءاً على هذا فكل الحقائق التي تتكون لدى الناس متساوية، وليس من حق أي إنسان أن ينتقد حقائق ثقافة أخرى، وليس من حقه أن يقول إن ما لديه هو الحق وما سواه باطل.

 ولقد شهد تاريخ الفن الحديث تحولات وانقلابات منوعة يمكن قراءتها واعتبارها كفاحاً يسعى عبر تصادم المزاعم والآراء للكشف عن قيم الفن الأساسية، والعمل الحداثي Modernism))- نسبة للحداثيين- هو أي عمل يناهض الإنتاج الفني للماضي القريب ويتجاوزه سعياً إلى تأسيس قواعده الخاصة واكتشاف شروطه الفنية المتفردة التي تؤسس شرعيته.

وتتعارض فكرة ما بعد الحداثة مع المسرح والدراما بالمعنى التقليدي المتعارف عليه وأعمالها تتراوح بين محاولات التصنيف والتجريد .فكما أن فكرة العمل الفني "الحداثى "Modernismوفكرة وجود أسلوب ما بعد الحداثة قد ظهرتا لأول مرة في مجال نقد الفن التشكيلي فإن فكرة "العرض المسرحي"Performance الذي يجمع بين الأداء الحي والفن التشكيلي باعتباره فعلاً مناهضاً للتوجه نحو تحقيق عمل فني مستقلٍ بذاته. وهنا يُفترض أن فكرة المسرح في حد ذاتها – كما يقول الناقد الحداثى "مايكل فريد" – تناهض بطبيعتها محاولة اتجاه الحداثة لوضع العمل الفني في خندق الخصوصية والتفرد . كما يُفترض أن الأعمال الفنية التي تشكل تيار "ما بعد الحداثة  Post Modernism" تتحقق في سـلسلة من الـمراوغات القلقة المتقلبة للتعريفات والقواعد ، وهي مراوغات تتسم بطابع" مسرحي Theatrical "كما تميل في بعض جوانبها إلى الجمع بين المعرفة والفنون المختلفه.( )

 وبينما تقوم الحداثة على الوحدة والبساطة والوظيفية ففي المقابل يقوم أسلوب ما بعد الحداثة على التشظي والتنافر، ويرى الناقد ( جنكس) أن التعددية تشكل المنظور الرئيسي الذي يبطن أسلوب ما بعد الحداثة ونتوصل من ذلك إلى أن الموقفين (الحداثة و ما بعد الحداثة) لا ينتصر أحدهما على الآخر ، بل يستحيل التوفيق بينهما ، كما يرى جنكس أن أكثر التقنيات تفشياً في فن ما بعد الحداثة هي استخدام "الشفرة المزدوجة "Double-coding و" التورية السـاخـرة "Irony والغموض و" التباس المـعنى "Ambiguity و" الـــتناقض "Contradiction.( )
   تهدف نظرية مابعد الحداثة إلى تقويض الفكر الغربي، وتحطيم أقانيمه المركزية ، وذلك عن طريق التشتيت والتأجيل والتفكيك. بمعنى أن مابعد الحداثة قد تسلحت بمعاول الهدم والتشريح لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة المتآكلة، وذلك باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض كما تتميز مابعد الحداثة بالتشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة. ومن ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل والحضور والدال الصوتي. ومن هنا، فتفكيكية جاك ديريدا هي في الحقيقة تشكيك في الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى فترة الفلسفة الحديثةو فلسفات ما بعد الحداثة عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات مابعد الحداثة هي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع . ( )

 وتعريف ما بعد الحداثة لا يمكن أن يقوم على رصد مجموعة من الصور والأشكال المحددة الخاصة بها؛ وذلك لأن ما بعد الحداثة لا تتواجد إلا كنشاط هدًّام يسعى إلى خلخلة وتقويض نفس الشروط والمبادئ التي نتوهم أنها تنهض عليها. فهو تيار يعلن صراحةَ استحالة تحديد المعنى بصورة نهائية ويحتاج إلى خـــطاب شارح ( Metadiscourse) يمثل إطاره المرجعي.

وتمثل ما بعد الحداثة صراعاً بين النظريات والاتجاهات المعرفية المختلفة يتبلور فيها الوعي بالصورة ، إنها اللحـظة التي تتحكم فيـها " الحكاية الصغيرة  Little narrative" بـ" الحكاية الكبيرة  "Grand narrative بعكس الحداثة التي تحتاج للسرد وتفترض وجود نص شارح ، وكما يرى  ليوتار أن مفهوم ما بعد الحداثة يعنى محاولة تدمير كل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها ، كما أنه عمل في حالة عدم استقرار ( ).



الأربعاء، 18 يناير 2017

العرض المصري "خلطة سحرية للسعادة "والانطلاق نحو إصلاح الذات

الثلاثاء، 17 يناير 2017

العرض التونسي " ثورة دون كيشوت "والأبداع في تقنية الممثل

الاثنين، 16 يناير 2017

العرض الأردني " العرس الوحشي " و الانطلاق نحو الابداع والتألق المسرحي

الأحد، 15 يناير 2017

مسرحية " خريف " وسمو الذات بالفعل الحركي

الجمعة، 13 يناير 2017

مسرحية " الثلث الخالي " والوعي بالإداء المسرحي

الاثنين، 28 نوفمبر 2016

مسرحية 'حروب' كرنفال الطائفية والهيمنة وصراع الميليشيات

مجلة الفنون المسرحية

مسرحية 'حروب' كرنفال الطائفية والهيمنة وصراع الميليشيات

عرضت على خشبة مسرح الريو في العاصمة التونسية، مؤخراً وضمن أيام قرطاج، المسرحية العراقية “حروب”، من إخراج الفنان إبراهيم حنون وإعداد الفنان العراقي سعد محسن، وهي مقتبسة عن مسرحية “حروب كوسوفو” للكاتب الكوسوفي ماكيلي هاكييف. ”العرب” التقت حنون مخرج مسرحية “حروب”، للحديث عن طبيعة مشاركته في فعاليات مهرجان أيام قرطاج المسرحية، وطبيعة الانشغالات التي تمثلها في عمله المسرحي.

يمثل موضوع مسرحية“حروب” التاريخ العراقي الحديث المأزوم بالصراع، عبر التذكير بتواريخ بعينها، يحيل بعضها إلى انقلابات عسكرية وحينا آخر إلى تواريخ حروب متلاحقة.
تأثيرات جارحة ستمهد إلى أفعال أكثر قسوة في واقعه الراهن، متمثلة بالانقسام السياسي، والنزعة الطائفية المهيمنة، مفضية بدورها إلى تمكّن الإرهاب من أن يديم بفعله ترهيب المجتمع العراقي وشظيته.
هذه المسرحية تستدعي حالة النقد القاسي في أسباب غياب التعايش، والانقسام الطائفي الحاصل في المجتمع، جراء الحروب والفشل السياسي، عبر رؤية لا تخلو من التماهي مع الحس الطقوسي وكرنفاليته الذي أوحى به حضور مجاميع الممثلين، والذي تم تطويعه كي يشغل فضاء العرض المسرحي معززا بمشهدية تعبيرية، الرؤية الإخراجية للعرض.
المسرحية تستدعي حالة النقد القاسي في أسباب غياب التعايش، والانقسام الطائفي الحاصل في المجتمع جراء الحروب
المخرج إبراهيم حنون أخرج العديد من الأعمال المسرحية، منها مسرحية “سكوريال” للمؤلف التشيكي ميشيل جورجريد، ومسرحية “الموت والعذراء” من تأليف التشيكي أريل دورفمان، وهو يدير منتدى المسرح التجريبي في بغداد.
يصف حنون طبيعة ومهمة المهرجان ومشاركته في دورته الحالية قائلا "مهرجان أيام قرطاج المسرحية من المهرجانات المسرحية العربية العريقة، ما يمثله لنا نحن المسرحيين، بكونه فعالية دولية قادرة على أن تستقطب عروضا مسرحية مهمة من دول العالم المختلفة، بذلك هو بادرة ثقافية وإبداعية مناسبة للتواصل ومعرفة ما توصلت إليه التجارب والمشاريع المسرحية في دول عربية وغير عربية. كذلك، يمكن النظر إليه، بوصفه فضاء قابلا على تسويق المشاريع المسرحية، ومحاولة التبادل فيما بينها، وبرمجتها للمشاركة والحضور في مهرجانات مسرحية أخرى. عدا، من كون المهرجان ذاته، نافذة يطل منها الجمهور التونسي على تجارب مسرحية متنوعة، والذي يحتفظ في نظري، بذائقة مسرحية مميزة، أجدها قريبة تماما لذائقة الجمهور العراقي".
وعن أهمية ما أسماه بتسويق المشروع المسرحي، يذكر أن “الأمر يتعلق بالتعرّف عن قرب بالعروض المسرحية، وذلك عامل مهم لتقدير التجربة المسرحية وتقويمها. ومع حضور أغلب مدراء المهرجانات المسرحية المكرسة، نجد ثمة ما يعزز التواصل بين المعنيين بالشأن المسرحي، نقاد، ممثلين، مخرجين، وغيرها من الاختصاصات، وذلك يؤدي بالضرورة إلى تبادل المعرفة بالنتاجات المسرحية عن كثب، إذ لا يمكن أن تجري عملية التسويق المسرحي من دون دراية بالمشروع. لكن من المهم ذكره، أن العروض المسرحية لا تموت بعد عرضها الأول، هي تحتفظ بديمومة وجودها، حيث يمكن أن تعرض ثانية بعد زمن، برؤى وأساليب عرض، وطريقة إخراج أخرى، ما يشّكل إضافة ضمنية لثيمة العرض".

إبراهيم حنون: نص المسرحية يكشف فداحة الانقسامات الحادة التي ضربت بنية المجتمع العراقي

فضاء للتواصل والمعرفة
عن السؤال عن واقع وطبيعة الدور الذي يمكن تلمسّه في العديد
من المهرجانات العربية التي تقام في أكثر من بلد عربي، يوضح قائلا “من خلال مشاركاتي بأهم المهرجانات المسرحية العربية، أيام قرطاج المسرحية، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، مهرجان دمشق المسرحي، وغيرها، تلمست بأن أغلب العروض المسرحية تنطوي على أفكار وموضوعات ذات بعد تحريضي، قريبة الصلة من مشكلات الواقع العربي، إن لم تكن من صلبها، وهي غالبا ذات مسحة تجريبية تتطلع لهموم المعاصرة.
المسرح العربي مسرح مجتهد، وملتزم، إضافة إلى كونه شديد الاهتمام بالمتطلبات الحديثة للمسرح، الرؤية الإخراجية المبتكرة، طبيعة الموضوعات، طريقة الأداء، الاستخدام الأمثل للفضاء المسرحي حضور السينوغرافيا. بمعنى أنه مسرح خلاق، يسعى رغم كل المعوقات، إلى أن يجد لنفسه مكانا متقدما ضمن مجالات الإبداع العربي. كما أنه دائم الحضور بالتظاهرات المسرحية ذات الطابع الدولي”.
وعن مشاركة مسرحيته “حروب”، أيضا، في عروض المهرجان العربي للمسرح بصفاقس، الذي تزامنت فعالياته مع أيام قرطاج المسرحية يبين المخرج إبراهيم حنون، طبيعة مشاركته “كانت فرصة مهمة لنا، في أن نذهب إلى أماكن أخرى، خارج إطار فضاءات أيام قرطاج المسرحية، كي نقدم عرضنا المسرحي في مدن تونسية أخرى، إضافة إلى العاصمة تونس. هذه التجربة، أي عرض مسرحية ‘حروب’، تمثل تقديرا للعرض المسرحي، ومحاولة تقويمه من قبل جمهور آخر مختلف. عدا التغلب على ظروف العرض التي تتعلق بالتقنيات والفضاءات الخاصة بالعرض ومستلزماتها، كي تقدمه بشكل يلقى القبول والتأثير. طبيعة التلقي كانت مؤثرة لدى الجمهور الصفاقسي، ثمة تجاوب خلاق مع العرض، من قبله، حيث كان العرض محمول بأداء مسرحي لا يخلو من شحنة كثيفة من التعبير في توصيف الشجن العراقي بصورته الحاضرة”.
مسرحية حروب
يصف حنون قراءته لمسرحية “حروب” وفق ما يحدث الآن في الواقع العراقي، قائلا “عملي المسرحي الذي قمت بإخراجه، والذي أشرت إليه، مأخوذ من نص عالمي اسمه “حروب كوسوفو” للكاتب الكوسوفي ماكيلي هاكييف، ترجمة الفنان الرائد سامي عبدالحميد. اعتمادي النص جاء بأسباب مشابهة التجربة الكوسوفية للتجربة العراقية، إلا أنني لا أخفي تصوري خلاله بإجراءات تعريق النص كي يكون ممثلا للحالة العراقية الراهنة. ثيمة العمل، تتعلق بحالة الصراع على النفوذ والسلطة أثناء الحروب. اتخذت مدينة بغداد بتراثها مقاربة في إيضاح ثيمة العمل”.


حالة الصراع على النفوذ والسلطة أثناء الحروب

ويضيف حنون “اعتمد النص على كشف الانقسامات الحادة التي ضربت بنية المجتمع العراقي، والتي ذهبت به إلى هويات فرعية، وطمس مفهوم المواطنة التي كانت جامعة له، والتي جاءت نتاج إرث عسكرياتي تدخل في صناعة القرار المديني، ونقد دور الطبقة الوسطى التي نأت بنفسها عن تدخلات مشابهة أضرّت بفكرة المدينة التي محت صورتها عمليات الترييف وثقافة القرية”.
ويقول إبراهيم أيضا “أستخدم في افتراض مقاربتي هذه، صراع الميليشيات وعملية استيلائهم على المكان، وطريقة تعاملهم مع أفراد المجتمع وكأنهم قطيع، بقوة إملاءات تخدم جهات سياسية معينة. يمكن النظر لهذه الأطروحة، باعتبارها إشكالية مجتمعية تعقدت مقدماتها، وسببت بالنتيجة دخول الإرهاب إلى العراق. هكذا تجد العنف المستديم، ثقافة الإزاحة، تعميق الانتماءات الثانوية على حساب العراق، بوصفه وطنا.
حاضر العراق
العمل هو مناقشة لما يحدث في العراق حاضرا، ومحاولة لاستثمار الذاكرة العراقية. العمل حاشد بالاستعارات، عبر طريقة أداء مسرحي يعزز جمالية المشهد ويقدم قراءات لإشكالية كهذه، خالية من التأويل، منتمية للمباشرة ومحاولة البوح عن المسكوت عنه”.
ويضيف حنون حول تعريف العرض “أفترض أن هذا العرض ينحو لإيجاد خطاب يلامس الذهنية والذائقة من خلال مفاصل تتعرض لمعضلات مجتمعية ببساطة وشفافية لإظهار ما أسمّيه بالوجع العراقي الدائم”.


العرض اعتمد على الأداء الفردي للمثل في عمله المسرحي، وحول ذلك يبين حنون قائلا “أداء الممثل هو نتاج ورشة وتفكير طويل، لطريقة حضوره على الخشبة، ذلك ما يمثل في تصوّري ركنا أساسيا من العرض، بوصفه متدخلا جماليا، وصانعا لفضاء عرض، ومتخليا عن اللوازم الأدائية التقليدية. الممثل في هذا العرض جسدا وإيماءة، تتظافر معا، لإيصال أثر تعبيري. العمل، كذلك، حاشد بأدائية فردية مع تحفيز للمجاميع وتبيان قواها وتعبيراتها الداخلية. ذلك يأتي بمثابة مساءلة لفكرة المسرحية ومحاولة إيصالها بدون مواربة أو تأويل. عليّ القول أيضا من أن العرض مليء بالتشكيلات المسرحية. ثمة ملاحظة وددت ذكرها، تتعلق باستعانتي بممثلين عراقيين بمشاركة ممثلين من تونس. رغبت تماما بأن يكون العرض حاملا لثقافتين متكاملتين، وخبرتين هما نتاج ما يمكن تسميته بنتاج المسرح العربي”.
-------------------------------
المصدر : سعد القصاب - العرب 
تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption