ما يشبه التجربة.. عن حياة كاتبة مسرحية / صفاء البيلي
مدونة مجلة الفنون المسرحية
(1)
(1)
لم أكن أعلم إننى منذورة منذ طفولتى الغضة لخلق حيوات متعددة كتلك التى عبرت عليها ثنايا ذاكرتى المكتنزة بحكايات جدى الشهية والتى كانت كثيرًا ما تنسينى لذة النوم فى ليالى الشتاء الطويلة تحت الغطاء الوثير. (1)القرية! لم أكن أتصور وأنا الطفلة الأولى لعائلة ريفية ميسورة الحال نعمت بالتدلل وعشت فى بيت يجمع بين دفتيه ترمح بقدميها على جسر القرية المؤدى إلى المدرسة أننى سوف أمرر عليه شخصياتى الحية التى من لحم ودم . فى قريتى منية سمنود إحدى قرى الدقهلية العظيمة .. تلك الرابضة فى حضن النيل والتى تزخرف أحد اتجاهاتها الجغرافية جزر الموز وأشجار الكافور والجميز العتيقة كانت بداياتي.. بدايات مفعمة بدراما غنية ما تكاد تنطفئ إحداها حتى تشتعل آلاف غيرها مرة أخرى عبر شخصية رأيتها فأدهشنى سمتها فحفرت فى مخيلتى أو عبر موقف عايشته فظل مخزونًا فى دولاب ذكرياتى أو أشخاص تخيلتهم فصنعت معهم الحكايات وعشتها فى خيال لا تنقصه سذاجة الأطفال. جدى لأمى كان رجلاً صوفيًا لا يعرف من الدنيا سوى غيطه وأبقاره و"ليالى الحضرة" التى كانت أجمل الليالى فى مخيلتي.. حيث "المندرة" الكبيرة والرجال ذوى الجلابيب الكالحة وكوفياتهم الصوفية التى يتلفعون بها من صقيع الشتاء وشعرهم الأشيب الذى تبدو ذوائبه عبر الطواقى العالية كأنها طود شامخ. تركت ليالى الحضرة فى أعماقى دفء الثرثرة ودهشة محاولاتى المستميتة فى فك طلاسم ما تبوح به أفواه الرجال الذين علا الشيب رءوسهم وتهشمت أسنان بعضهم الأمامية فى وجوه لم تخلُ من الإرهاق والرضا! وما بين خاتمة إنشادهم الرقراق والأخرى تطوف علينا أكواب القرفة الساخنة فتعبق رائحتها جو المكان وتترك فى روحى لمساتها الشجية التى تطفو على السطح كلما سمعت زخات المطر أو هبت نسمات الشتاء الباردة. كانت جدتى تحتفظ بأكوابها المصونة فى دولاب الفضة خصيصًا لليالى الحضرة المباركة، والتى كانت تقول متفاخرة فى كل مرة تخرجها فيها: أن أباها الشيخ الأزهرى أحضرها لها من عند النبى صلى الله عليه وسلم حين كان يؤدى فريضة الحج لذا كانت تأبى أن يشرب فيها غير ضيوف جدى الذاكرين، الساجدين المهللين المسبحين حتى تحصل على أكبر قدر من الحسنات!! تعلمت من جدى لأمى الصفاء الروحى والإيمان العميق بالقضاء والقدر والعطف والشفقة على الآخرين .
(2)
تعلمت من جدي لأمي الصفاء الروحي والإيمان العميق بالقضاء والقدر والعطف والشفقة على الآخرين. أما جدي لأبي فقد كان رجلًا متأنقًا يحب الجمال ويعشق التنسيق في كل شيء فكنت أحب اصطحابه في كل جولاته خارج البيت، وكان محافظًا يشتري طلبات البيت لجدتي، وكان المشوار اليومي للسوق وعبور الكوبري ومن تحته النيل يجري والذي يفصل بين قريتي منية سمنود ومدينة سمنود \بلد النحاس باشا.. كان بمثابة جرعة من العلم أتشربها منه ذوقا وحنانا ودقة وعطفا على الفقراء الذين اعتادوا قطع الطريق عليه لتقبيل يديه فكان يردهم بيد وبالأخرى يعطيهم مما أعطاه الله. ذات يوم ونحن نتسوق شهقت وقلت: الله يا جدي على هذه الطماطم ! إنها حمراء كالدم! فامتعض وجه جدي وضغط بحنان على يدي التي كان يمسكها قائلا: لا تقولي هذا بل قولي حمراء كالورد، فالورد جميل والدم مقزز ومن يومها بدأت عندي ملكة انتقاء التعبيرات والتدقيق في ألفاظي قبل النطق بها وهو ما أثر عليَّ فيما بعد. أما الأحداث التي كوَنت بدايات الذاكرة فكانت كثير من العادات التي أدهشت عقلي الصغير ـ والتي أعدت النظر فيها بعد أن نضجت فكريًا ـ تحكم القرية كحفلات الزار والموالد، تسيطر عليَّ وأتلمس إليها ما تيسر من سبل الفرجة عليها ففي كل عام تقام في القرية عدة موالد وللحق كان أحدها يقام بجانب بيتنا على قارعة القرية وكنت في المرحلة الإعدادية وكنت أنتظر ليالي المولد بفارغ الصبر. وأحرص على متابعة الرجل الذي يعتلي منصة صنعوها له من ألواح الخشب وزينوها بالقماش الأحمر المزركش فيكركر الرجل ويتغنى بحكايات الشاطر حسن وأبي زيد الهلالي، وكنت أتلهف إلى سماع الحكايات التي حينما قرأت عرفت كيف كان الرجل يمزجها بخيالاته ويؤطرها بأطر من الميثولوجيا التي لا تمت لها بصلة والتي تبهر المستمعين البسطاء وتحظى بانتباههم وإثارة خيالهم. ويا كم كنت أغالب النعاس وأنا أستمع إلى هذا الرجل وأتذكر أنني ذات مرة كنت سأسقط من فوق السطوح الذي تزاحمتُ فوقه مع أولاد الجيران بعد ألححت على أبي الذي كان يرى أن الذهاب للمولد عيب.. ولكن أمي كانت تلح عليه فيوافق أن ألتحق بكتيبة السطوح من الجيران الذين ينخرط بعضهم في بكاء ونواح حينما يأتي المداح على ذكر موت أحد أبطاله ومن هنا بدأت الدراما تأخذ مكانها الأثير في ذاكرتي وإن لم تظهر مسرحيًا ولكنها ظهرت من خلال قصائد البدايات الأولى.
(3)
سيد الإبداع! الشعر عندى هو سيد الإبداع ولما كنت أؤمن بالمقولة التراثية "الشعر ديوان العرب"، فقد ظللت مخلصة له حتى الآن وسأظل إن شاء الله فكتبت القصيدة العمودية والتفعيلة ثم قصيدة النثر، بالرغم من اللغط الشديد الذى يُثار حولها بالرفض والقبول. فى قصائدى الأولى كنت أجنح إلى استخدام تقنية قال وقلت وأزيد من استخدام الشرح والالتفات والوصف فنبَّه هذا كثير من المبدعين الكبار الذين تربيت بينهم فى نادى أدب جامعة المنصورة وقصر ثقافة المنصورة وقصر ثقافة المحلة الكبرى وقصر ثقافة غزل المحلة، وفيها كان يجتمع كبار المبدعين، ففى المنصورة الكاتب الكبير فؤاد حجازي، والقاص والروائى الأستاذ محمد خليل، والشاعر إبراهيم رضوان، والشاعر محمد رمضان، ومن زملائى الذين كانوا يكبروننى بسنوات الشعراء محمود الزيات أحمد الخضرى وحسنى الزرقاوى وكريم عبد السلام وكثيرون من نفس عمري، كضاحى عبد السلام وكثيرين لا تسعفنى بهم الذاكرة، ومن الغربية الراحلان الشاعر الكبير عبد الله سيد شرف، الذى كان بيته مؤسسة ثقافية وحده، والكاتب المسرحى المحلاوى الكبير فتحى فضل، الذى أدين له بالفضل فى كتابة أول مشروع مسرحي، وكانت مسرحية للطفل بعنوان "العش الذهبي" نعم هى الآن تعتبر كتابة بدائية وساذجة.. لكننى لما عدت إليها هذه الأيام أحسست بطزاجة البدايات وهلت وعطرت روحى ذكرى الأحباب الذين مروا عبر بوابة الحياة. خطوة أولى فى عشق المسرح العجيب أن ما دفعنى لكتابة المسرح هو حدث غزو العراق للكويت فى بداية التسعينيات وكنت قد بدأت فى كتابة قصيدة طويلة امتدت لأكثر من عشر صفحات مليئة بالدراما وأسميتها نوبة رجوع لجليلة بنت مرة، فلما قرأتها فى إحدى الندوات اقترح البعض على كتابة مسرحية تعبر عن هذا المضمون، معللين لهذا أن قصيدتى مليئة بالدراما وفيها ما يسمى بتصاعد الحوار والحبكة الدرامية وغيرها.. وحينها لم أكن قد قرأت مسرحا بشكل منظم ولا كنت أدرى كيف أكتب مسرحية فبدأت فى مرحلة جديدة وهى مرحلة البحث.. وأخذت أبحث عن كل ما يساعدنى فى ذلك.. نصحنى البعض بالقراءة والبعض الآخر نصحنى بقراءة كتب النقد التى تتحدث عن المسرح ومنها كتاب ما زلت أدين له بالفضل وهو "كيف تكتب مسرحية" لمؤلفه لاجوس أجرى وترجمة الناقد الراحل الكبير درينى خشبة، الذى بدأت معه أولى خطواتى فى الكتابة المسرحية. وكأنما أراد الله أن يكون للوالد وابنه دوران متشابهان معى فى حياتى الإبداعية.. فكما استفدت من كتاب درينى خشبة استفدت من الناقد الراحل الكبير سامى خشبة، الذى فتح لى أبواب مجلة الثقافة الجديدة لأنشر فيها مقالاتى النقدية عن العروض المسرحية ولم يكن يتأخر فى توجيه النصح لى وأتذكر أنه لم يختلف معى إلا مرة واحدة فى توضيح الفرق الجوهرى بين الأوبرا.. والليبرتو ويبدو أن الأمر كان قد اختلط على ولكنه رغم ذلك رفض أن يبدل كلمة واحدة فى المقال ومنه تعلمت كيف يكون احترام الكلمة ولو مع مبدع مبتدئ ينشر له للمرة الأولى مثلا.. وظللت أنشر مقالاتى النقدية وحواراتى مع المسرحيين الكبار حتى صدرت مجلة مسرحنا التى سلطت الضوء على الحياة المسرحية المصرية والعربية على حد السواء وغطت معظم الأحداث بجدارة وقدرة تفوقت فيها على نفسها أيما تفوُق.
(4)
(4)
ما بين القراءة الحرة والدراسة الأكاديمية، طحنتنى الحياة، فاستبعدت فكرة دراسة المسرح بشكل أكاديمى وركنت إلى النصيحة التى وضعتنى على طريق القراءة.. وكانت القراءة المنظمة فأخذت أقرأ لمعظم كتاب كل المدارس وفق الترتيب الزمنى لمؤلفاتهم لأدرك وأكتشف الفروق بين أعمال المؤلف الواحد وتكونت لدى ركيزة نقدية بدأت أعتمد عليها فى كتاباتى النقدية فيما بعد، فالبدايات البكر الأولى تختلف بالطبع عن آخر أعمال المبدعين والتى كانت كثيرًا ما تبلغ ذروة سنام إبداعهم.. فقرأت معظم أعمال الكتاب الكبار (يسرى الجندى، أبو العلا السلامونى، ألفريد فرج، ومحمد سلماوى، وميخائيل رومان، ومحمود دياب، وسعد الدين وهبة ونعمان عاشور ومحفوظ عيد الرحمن وكثيرين من كتاب المغرب العربى الكبار كالكاتب الكبير عبد الكريم برشيد.. وسعد الله ونوس، كما التهمت نصوص ابسن وبرندلو بروتلد بريخت ويونسكو ويوجين أونيل وغيرهم). إضافة لذلك قراءاتي لزملائى من كتاب جيلى والجيل السابق على دمث الخلق الذى فقده المسرح العام الماضى الراحل محمد الشربينى ومن قبله د. محسن مصيلحى وجميع الإخوة والأبناء والأساتذة الذين فقدناهم فى محرقة بنى سويف التى لن تمحى ذكراها من ذاكرتنا، فتشبعت بهم جميعا وأنتجت نفسي! وكتبت أولى مسرحياتى وأسميتها نوبة رجوع لجليلة بنت مرة أو باروكة للصحراء وفيها فتحت الجرح العربى الذى لم يندمل بين الإخوة العرب وحاولت تقديم نموذج للعدل الذى نريد وزاوجت فيها كعادتى بين التراث والحاضر. لماذا التراث؟ ولماذا الشعر؟ ولماذا اللغة العربية؟ وأين أنا من مدارس التجريب وآلياته؟ هذه أسئلة بالتأكيد يطرحها الكثيرون علىّ حينما يجدوننى مصرة على الكتابة بهذه الطريقة وقد يظن البعض أن هذا يكمن فى إمكانات الكاتب المحدودة ولكننى أراها العكس تماما فلا يستطيع الاقتراب من التراث.. شعرًا وباللغة العربية الفصحى فى سلة واحدة إلا كاتب مجيد نافذ القريحة. لماذا الشعر؟! فى اعتقادى أن المسرح لا يُكتب إلا شعرًا كما كان فى نشأته الأولى، ولا أقصد بالشعر هنا الكلام الموزون المقفى ولكننى أقصد الحالة الشعرية التى تسيطر على النص وتتلبس شخصياته، فالنص المسرحى عندى لا يعدو أن يكون نصًا شعريًا لكن أكثر درامية يمتلئ بحيوات أكثر تعددية ورسوخا وتشعبا، ومع هذا فنصى له بنيان رشيق غير مثقل بالترهلات.. تعبيراته موحية ومكتنزة وبعيدة عن التطويل بالرغم من أن عمله الحقيقى هو الحكى والبوح والتحليل والتفسير فى أوقات كثيرة، ولكنه مع هذا أيضا حكى مدبرٌ بقوة ووعى يمتلك رؤية ثاقبة للجوهر ويساعد كل ذلك المقدرة على الإمساك بمقود الأحداث حتى لا يتوه النص!
(5)
المسرح الشعري وعمالقته الكبار! أبهرني المسرح الشعري واستهواني بعد قراءة أعمال شكسبير التي أتيت عليها كاملة تقريبًا، على الرغم من أن الترجمة قد تفقد النص بعض شاعريته التي تبدو متدفقة عبر لغته الأم، كما التهمت نصوص صلاح عبد الصبور نصًا.. نصًا، وأعمال عبد الرحمن الشرقاوي، كما قرأت ما كتبه الشاعر الكبير أحمد سويلم ومحمد إبراهيم أبو سنة وفاروق جويدة، وكلهم تقريبًا اعتمدوا على التراث في بناء أعمالهم المسرحية التي التزموا فيها روح الشاعرية. نوبة رجوع: فكتبت نوبة رجوع لجليلة بنت مرة مستلهمة حرب البسوس وموقف جليلة بنت مرة الحائر بين أخيها وزوجها، وهي حيرة طبيعية، حتى أن القارئ يظل حائرًا طوال قراءته للنص غير قادر على استنباط إلى أيهما تنتصر! تمامًا كما تلبست الحيرة الإنسان العربي مع أيهما يقف ويحارب؟ مع العراق أم الكويت؟ وفي كلتا الحالتين سيجد المنتصر نفسه خاسرًا، إذ أنه في حالة الانتصار لأيهما يكون قد أخزى الآخر الذي هو أخاه، وتلك هي المشكلة! المصير؛ عشر نبضات في الحب والموت: ثم كان نص المصير بعد ذلك، مستلهمة فيه حياة شاعرين جاهليين كبيرين، هما النابغة الذبياني والمنخل اليشكري والملك النعمان بن المنذر والمتجردة، مستخدمة تقنية المسرح داخل المسرح، محاولة من خلالها التركيز على العدو الداخلي والعدو الخارجي الذي ينفث سمه في جسد وحدتنا العربية وقد جعلت فيها الشاعرين، كلٌ منهما على نقيض الآخر، فالنابغة نفعي برجماتي لا يؤمن إلا بسيفه الذي في يده ومدى ما يحققه أيُّ شيء له من منفعة مباشرة "كاش فاليو"، والآخر المنخل اليشكري إنسان مثالي يرى ضرورة توحيد الأمة، وأن لدينا القدرة على تجميل الحياة بقليل من الجهد والعمل ويفكر دائمًا أن هناك شيئًا ما ينتظره في البعيد.. شيئًا جميلاً ورائعًا ومثاليًا يستحق من حوله أن ينعموا بالحياة فيه بقليل من جهاد الروح وكثير من الانتماء والحب. الخروج من اللوحة: ثم جاء نص الخروج من اللوحة وهو يعتمد أيضًا في بنيته الأساسية على استلهام التراث ومكتوب بلغة شاعرية متخذة من "عريب"، وهي جارية أثرت أيما تأثير في حياة خمسة من خلفاء الدولة العباسية، وعاشت معهم جميعًا أثرت وتأثرت بهم وهم "المأمون والأمين والمعتصم والمتوكل حتى عصر ابن المعتز الذي اعترفت أنها لم تحب غيره من الخلفاء لرقته وطيبته، وقد بلغ من حب هؤلاء الخلفاء لهذه الجارية، ما دفع المأمون لأن يقبل قدميها على رؤوس الأشهاد، كما أثرت في سير الحياة السياسية بسبب عقدة الاضطهاد التي كانت تطاردها منذ طفولتها، وهي ابنة جعفر البرمكي الذي تزوج أمها رائعة الجمال وفرق بينهما يحيى أخوه، فظل حقد "عريب" مشتعلاً، ما أهلها في عيون الأعداء أعداء العرب للقيام بدور جاسوسي مخابراتي، لكنها رفضت بسبب الحب أيضًا!
(6)
وتتوالى النصوص الطويلة التى كان لها حظ من القراءة منها نص: الخروج من اللوحة: ثم جاء نص الخروج من اللوحة وهو يعتمد أيضًا فى بنيته الأساسية على استلهام التراث ومكتوب بلغة شاعرية متخذة من "عريب" وهى جارية أثرت أيما تأثير فى حياة خمسة من خلفاء الدولة العباسية وعاشت معهم جميعًا أثرت وتأثرت بهم، وهم "المأمون والأمين والمعتصم والمتوكل"، حتى عصر ابن المعتز الذى اعترفت أنها لم تحب غيره من الخلفاء لرقته وطيبته، وقد بلغ من حب هؤلاء الخلفاء لهذه الجارية، ما دفع المأمون لأن يقبل قدميها على رؤوس الأشهاد، كما أثرت فى سير الحياة السياسية بسبب عقدة الاضطهاد التى كانت تطاردها منذ طفولتها، وهى ابنة جعفر البرمكى الذى تزوج أمها رائعة الجمال وفرق بينهما يحيى أخوه، فظل حقد "عريب" مشتعلا مما أهلها فى عيون الأعداء أعداء العرب للقيام بدور جاسوسى مخابراتى لكنها رفضت بسبب الحب أيضا! الشراك "مأساة ديك الجن" وبعد ذلك جاء نص "الشراك" الذى يتماس وعطيل شكسبير عن طريق استدعاء شخصية ديك الجن "عبد السلام بن رغبان" الشاعر الحمصى الكبير، الذى قتل وردا حبيبته بسبب شكوكه التى لا مجال للحقيقة فيها، كما قتل عطيل ديدمونة بعد شكه فيها، وحاولت من خلاله التأكيد على فكرة الشك والغيرة القاتلة وأنه مهما امتلكنا المقدمات التى من الممكن أن توصلنا لنتائج مرضية، إلا أننا نسعى إلى حتفنا لنقع فى شراك الشك والغيرة دونما أى تحقق. احتفال خاص على شرف المتنبي أما نص "احتفال خاص على شرف المتنبي"، فقد كتبته حبًا فى شاعر العربية الأول الذى تربع على عرش الشعر، ومع ذلك كانت عيونه على عرش الملك، فكان يتمنى أن يصبح أميرًا على إحدى المقاطعات، ولم يكفه أن يكون ملكًا على مملكة الشعر وقلوب الجميع، وفيها استحضرت المتنبى لحمًا ودمًا، فعاش حياتنا وتعرض لبعض ما نتعرض له، فخاض الانتخابات وخطب فى العالم وحوكم ودافع عن نفسه، وفى النهاية يئس من حياتنا بالشكل الراهن واعترف بعجزه فرفض الحياة بعصرنا وترك عالمنا وعاد إلى عالمه مرة أخرى. الجنرال: ويأتى نص الجنرال وهو أحدث نصوصى وهو تحت الطبع لأثير فيه قضية الوحدة الوطنية والمواطنة ومن خلال المزاوجة بين شخصيتى المعلم يعقوب وسليمان الحلبي، فسليمان لم يكن مصريًا، ولكنه قتل الجنرال كليبر محققا لما يعتقده من صواب أن هذا من معانى الجهاد فى سبيل الله وأنه يخلص مصر من رأس أفعى المحتل، فى حين أن يعقوب فى ذات العصر هو أول قبطى يحاول القيام بمحاولة انفصال للأقباط عن الدولة، وفى النص تقوم محاكمة كلتا الشخصيتين وتتاح لهما الفرصة ليعبر كل منهما عما جعله يقدم على ما قدم عليه. زمن الخوف: هو أحدث نصوصى الطويلة وكتبته فيما بعد ثورة 25 يناير ونال اهتمام العديد من النقاد.
(7)
سيدة المونودراما .. هو اللقب الذى أعتز به كثيرًا والذى أطلقه على المؤرخ والناقد المسرحى أ. د. سيد على وأستاذ الأدب العربى الحديث ونقده بكلية الآداب جامعة حلوان. فى المونودراما، أجد الفرصة سانحة للبوح والتحرر وبالرغم من ذلك فقد كتبت عدة نصوص منها "المطبعى" فى أوائل التسعينيات و"ما قاله السيد للسيدة" عام 2009م "وامرأة عنيفة" 2010م وفوق الشوك.. ولجوء اضطرارى / بهنس، ومحطة عين شمس، الدفّان، وجوليا وغيرها الكثير وهو ما دعا د. سيد على وعدد من النقاد إطلاق لقب: سيدة المونودراما عليّ.. ..كما أن لدى تجربة وحيدة فى الديو دراما وهى نص "جنة وهنا" 2008م وهذه النصوص لم أكتبها شعرا ولكننى كتبتها بلغة شاعرية كما أحب أن أسميها. الفصحى والعامية واللغة البيضاء! أحب الكتابة باللغة العربية وأميل لها وحينما كتبت نصوصًا نثرية "كتبتها بلغة بيضاء بين الفصحى والعامية فلم أستطع الانغماس فى العامية وطالما ضبطت نفسى وأنا أكتب بالعامية أسطر تعبيرات فصيحة فأبقى عليها خاصة مع مناسبتها لوضعيتها، ولعلمى أن اللغة العربية هى الأبقى حيث ترسخ فى ذهنى منذ قديم أن العامية لا تصلح للتدوين بل مكانها الأصيل الشفاهة. وسيأتى أحد القائلين متنمرًا ليقول: الفصحى غير مناسبة لعوام الجمهور وهنا أقول: وجِّه جمهورك كما تريد وحيث تريد لا كما يريد هو وحتماً سيصبح بعد ذلك طوع يمينك، فصناع المسرح لو قدموا مسرحًا ملتزمًا ناضجًا نسبة منه باللغة العربية لصار طبيعيًا وجود عروض بالفصحى يقبل عليها الجمهور ويجدون لذتهم فيها مثل تلك العروض الموجودة بالعامية. التجريب وآلياته: أما عن التجريب وآلياته.. وسؤال هل يتوافق التجريب مع التراث الذى يمثل الثبات؟ فالتجريب عندى ليس الخروج عن المألوف ولكنه البحث عن أعماق جديدة فيما هو موجود وليكن هذا الموجود هو التراث.. فالغوص فى مناطق عميقة حساسة تكسبنى خبرة أكبر فى الكتابة تجعلنى أمتلك القدرة على معالجة الأفكار بشكل جديد، فالمسرح عندى ليس طرحًا لمجموع الأسئلة ولكنه يسعى لتقديم إجابات أو يفتح أبواب الإجابات على مصراعيها، وليس ضروريًا أن تكون تلك الإجابات نموذجية بقدر ما تكون محتملة التحقق. التجريب عند البعض يعنى الدخول فى عوالم الممنوع والمسكوت عنه، ففى المسرح لا مسكوت عنه حين أضع شخصياتى على خشبة المسرح، دائمًا ما أتركها حرة تفعل ما تشاء وكثيرًا لا أقوم بوضع نهايات لأعمالى المسرحية أو حتى أخطط لها كيف تسير، بل أمسك بالفكرة فقط وأشرع فى الكتابة وتظل الفكرة هى المسيطرة على حتى أنتهي، ثم أترك النص عدة أيام وأعود إليه لأعاود قراءته مرة ثانية فثالثة وفى أثناء الكتابة وإعادة الكتابة أترك لكل شخصية الحرية فى تحديد مسارها ومصيرها وتتضافر الشخوص عندى فى خلق نهاية العمل ككل.. فالتجريب عندى يكون أحيانًا فى استخدام لغة بعينها أو ترتيب للمشاهد بشكل مختلف أو فى بناء النص نفسه.
(8)
علمتنى تجربتى فى النقد معنى ممارسة القسوة مع كتاباتى أولا.. ثم مع الآخرين ثانيا. فحاسة النقد تعمل عندى عملها فى نصوصى المسرحية وقد استفدت من مقولة الشاعر الكبير أحمد سويلم لى حين كان عمرى 18 عامًا فى السنة الأولى بكلية الآداب بجامعة المنصورة، وكنت قد نُشرت لى عدة قصائد فى جريدة الجمهورية وأشعر أننى شاعرة كبيرة لا يدانينى أحد وناولته قصيدة كتبتها عن القدس ولما قرأها طلب منى حذف جزء كبير منها فلم أستطع، فقال لي: لا يوجد نص مقدس إلا القرآن الكريم فتعاملى مع نصوصك بقسوة حتى يحترمها الآخرون ولا تجعلى غيرك يتعامل معها بقسوة فيؤذيكِ هذا نفسيا، ومن حينها وأنا أتعامل مع نصوصى بشيء من الحزم مع إننى أحيانا أضبط نفسى وأنا متلبسة وواقعة فى إغراء مقطع فى قصيدة أو حوار لأحد شخوص مسرحياتى بما لا يجعلنى أستطيع الفكاك منه. استفدت من رؤيتى الخاصة للإبداع المسرحى فى كتابة النقد التطبيقى للعروض التى كنت أراها وأخرج فى معظم الوقت وأنا حانقة على مؤلفيها ومخرجيها وممثليها فدفعنى ذلك لكتابة سلسلة مقالات نقدية عن العروض المسرحية فى عام 2004م نشرت فى جريدة القاهرة التى تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، ثم قدمت فى جريدة المحيط الثقافى التى كانت تصدر عن وزارة الثقافة باباً شهريا تحت عنوان: "مسرح المحيط" كنت أقدم من خلاله قراءة لبعض العروض وبعض الشخصيات والأماكن والمصطلحات المسرحية. كذلك قدمت عدة مقالات وحوارات مسرحية فى مجلة الثقافة الجديدة، حيث كان يرأس تحريرها الناقد الأستاذ سامى خشبة رحمه الله، وكتبت مقالات كثيرة فى جريدة مسرحنا عن عروض مصرية وعربية عبر المهرجانات العربية التى شاركت فيها كناقدة وإعلامية مصرية. قدريون أم أغبياء؟! فى كتاباتى أؤمن بمقولة أكررها دائما ومازلت مصرة عليها فى مقدمة نصوصى وهي: هل نحن قدريون أم أغبياء؟ ذلك لأن التاريخ العربى والإسلامى بخاصة.. مليء بالمواقف المشابهة والمتكررة لمواقف نعيشها ونحياها الآن وبالرغم من ذلك لا نستفيد منها كماضٍ عاشه الأجداد والآباء، ولا ننظر بعين الفاهم الناقد لنتائجها، فنفهمها ونعيها، بل دائما نتجاهلها أو نتلقاها بشيء من التهاون فنقع فى نفس أخطاء الماضى دون أن نتعلم منه شيئا.. أى شيء!!
(9)
معاناة جيل من المسرحيين؛ حينما أتحدث عن تجربتى المسرحية لا يمكننى أن أزعم بقيمتها العظيمة ولكننى موقنة على أقل تقدير بأنها على قدر من الجدة والالتزام بقواعد الفن الإنسانى الراقى الذى يحترم عقلية القارئ أولاً والمشاهد إن قدر الله وتم عرض هذه الأعمال يومًا على خشبة المسرح!! وحينما أتحدث عن معاناتى ومعاناة جيلى من المسرحيين فى مصر، أخشى أن يأتى كلامى تقليديًا وربمًا يستشعر فيه من يقرأه السخط أو الشكوى نظرًا للحالة المتردية لأجنحة التلقى الأخرى.. وأقصد بها: النقد والإخراج.. النقد الذى يتجاهل أصحاب الكتابات الجدد ـ بالرغم من أننا لم نعد جددًا فأحدثنا تجربة تجاوز العشر سنوات، ومنا من زاد على العشرين وهى عمر معظمنا فى الكتابة. كما إن المخرجين لا ينفذون إلا الأعمال القديمة أو المشهور أصحابها لأسباب عديدة لا أريد ذكرها لأن المخرجين الأعزاء أنفسهم يعرفونها والمعنى هنا .. فى بطن المخرج!! وذلك لأن نصوصى المسرحية لا تزال كسيحة حبيسة دفتى الكتب، شخوصها ميتة بين السطور وأحداثها متوقفة .. كل هذا بسبب المخرجين الشهماء الذين يملأون الجو صراخًا لعدم وجود نصوص جيدة ترتقى لعبقريتهم السمحة وقدراتهم الإخراجية العظيمة فتراهم إما يلجئون لنصوص أجنبية أو يؤلفون هم نصوصًا كما يتراءى لهم ثم يقومون بإخراجها والتمثيل فيها أحيانًا فينالون الحسنيين وأحيانًا الثلاث حسنيات!! والمؤلفون الشباب وغير الشباب من الذين حصدوا الجوائز .. فليذهبوا إلى حيث يشاءون!! يتعجب البعض حينما يعرفون أننى حصلت على أكثر من أحد عشر جائزة فى المسرح غير الشعر والدراسات الأدبية! وما يثير دهشتهم عدم تجسيد أى من مسرحياتى على خشبة المسرح.. والغريب أننى كدت أدمن تقديم أعمالى للمسابقات من كثرة يأسى من النقاد ولربما قام أحدهم بتقديم أحد أعمالي، ولكى يشرع فى تنفيذها يطلب منى أن أذهب لمدير المسرح أو رئيس الهيئة حتى يتمكن من تنفيذها .. وفى نهاية الأمر.. يصمتون كأنما انقطعت ألسنتهم التى كانت تصدح بالمديح والثناء فأشعر بالغصة تملأ قلبى وأوقن باللاجدوى!! كما لا يمكننى ـ حفاظًا على ماء وجهى الإبداعى ـ أن أمضى طارقة أبواب النقاد وأنتظر من يفتح لى بابه ويبتسم فى زيف وهو يأخذ منى النصوص ثم يلقى بها فى أدراجه حتى يأكل عليها الدهر ويشرب أومن لا يقابلنى من الأساس أو يقول لى إن الصحف لا تنشر نقدًا إلا عن المشهورين وكأننى مدعية إبداع!! الحق أقول: لقد أورثنى هؤلاء النقاد كثيرًا من الزهد فيما بين أيديهم وكثيرًا من الحزن! هذا الزهد كما قلت فيما فى أيدى النقاد علاوة على ما فى أيدى مخرجى مسارح الدولة الذين ينفرون من تقديم النوعية التى أكتبها والذين يحرضون الكتاب على الكتابة بالعامية حتى يقدموا أعمالهم!
المصريون