المسرح سبيلاً لوعي الذات: إبداع الفريد فرج نموذجاً
مدونة مجلة الفنون المسرحية
ينتمي
الفريد فرج إلى كوكبة من المسرحيين العرب في مصر ممن انعطفوا بالكتابة المسرحية
انعطافة هامة صارت إلى تحول واضح في الإبداع المسرحي مختلف عن المسرح الذهني الذي
مثّله منذ عشرينيات القرن العشرين توفيق الحكيم (1902-1987) وأقرانه أمثال محمود
تيمور (1894-1968) وعزيز أباظة (1898-1973) وعلي أحمد باكثير (1910-1969)، ومختلف
أيضاً عن المسرح التجاري أو المتغرب عند نجيب الريحاني (1891-1949) ويوسف وهبي.
وقد شكلت هذه الكوكبة حساسية فكرية وفنية مغايرة نهضت بالمسرح العربي نهضة شاملة
في فهم المسرح وفي ممارسته، ومن أعلامها البارزين، على تباين اتجاهاتهم وطرائقهم،
الفريد فرج ونعمان عاشور ويوسف إدريس (1927-199) وصلاح عبدالصبور (1931-1981)
وعبدالرحمن الشرقاوي (1920-1987) وسعدالدين وهبة ومحمود دياب وميخائيل رومان.
1ـ
التفكير الأدبي والمسرحي:
برز
الفريد فرج أديباً ومسرحياً واعياً بشؤون إبداعه نظرياً وتطبيقياً، ولعله من
الكتاب القليلين الذين يصدرون عن رؤية إبداعهم وفهمه في مصادره وطبيعته ووظائفه،
فرافق الإبداع اشتغال يقظ على ترشيد الممارسة الأدبية والمسرحية في زمنها وفي
تطلعاتها الفكرية والفنية، بل إن فرج طمح إلى ترسيخ المسرح جنساً أدبياً حديثاً
ليصير مثل الشعر والرواية ديوان العصر، وقد حرص على أن يؤصل هذا الجنس الأدبي في
الثقافة العربية بوعي التقاليد الحكائية والمسرحية في فنون العرض والفرجة والأداء
الصوتي والحركي مما ميز الظاهرة المسرحية العربية طقساً أو شعيرة ما لبثت أن
انغمرت بالأعراف والتقاليد الاجتماعية، محتفظة غالباً بمنشئها الديني ونزوعها
الاتصالي شفاهاً أو كتابة. ونتلمس في هذا البحث عناصر التفكير الأدبي والمسرحي عند
فرج للتعرف إلى طوابع التأصيل في تجربته العريضة والعميقة والثرية.
بدأ
فرج مسرحياً معنياً بتجسيد نصوصه على خشبة المسرح، وقضى قرابة عقدين من الزمن
مخلصاً لإبداعه المسرحي، تأليفاً وبحثاً وإدارة ومخاطبة للراشدين والناشئة في آن
واحد، ثم لتأليفه في أجناس أدبية أخرى راسخة في الحياة الثقافية العربية مثل
الرواية والقصة القصيرة والمقالة، على أن فعالية الأديب أو الكاتب أو الفنان لا
تقتصر على خطاب جنس أدبي بعينه، وعلى أنّ الأجناس الأدبية متعددة أساليب البلاغة
والإبلاغ.
أما
أبرز شواغل التأصيل عند فرج فهي:
1ـ1ـ
فهم الأصالة من خلال التقليد القومي:
أدرك
فرج مبكراً وهم التليد الغربي والانهماك فيه، على أن أهمية الأدب والفن تنبع من
طوابعه القومية، ولاسيما جماع الخصائص المعبرة عن هويته، فرأى أننا نختلف عن
أوربا:
«لذلك
كله، فإن التطلع إلى أن يكون لنا مسرح يزدهر على النمط الأوربي هو من أوهام
الواهمين» (م12 ص38).
وثمة
من يناهض الدعوة إلى الهوية في الأدب والفنّ من منطلق أن المسرح ظاهرة أوربية
ونتاج عمليات التحديث، وعلى الرغم من مجاوزته لمثل هذا النقاش، إذ ربما كان صحيحاً
بتقديره، إلا أنه يعمل النظر والمحاججة في استمرار التقليد العربي للأدب والفن وفي
تطوره الكبير مع النهضة القومية:
«فقد
كان المسرح العربي يتكون في منتصف القرن التاسع عشر في جو من الفنون الشعبية
الجماهيرية في المقهى وفي السوق.. فنون الأراجوز والمحبظين والشاعر والحكواتي
وحفلات الطرب والرقص وطقوس الاحتفالات ومغاني الأفراح والأعياد» (م12 ص43).
لقد
تكون المسرح العربي عند فرج من تقاليده في مناخ التأثير الأوربي، واستنكر المغالاة
في قول القائلين إن المسرح العربي «مبادرة من مبادرات التحديث الاجتماعي على النسق
الغربي» (م12 ص33)، مثلما رفض مقايسة المسرح العربي على ما يجري فوق منصات المسارح
الأوربية: «لهذا ينبغي دحض هذا المعيار والكشف عن عيوبه، مهما كان ذلك محفوفاً
بالمزالق، أو خارجاً عن المألوف» (م12 ص35).
وأورد
فرج اختلافات بينة بين المسرح الأوربي المستقر والمسرح العربي الناهض، وأولها نزوع
الأول إلى العالمية ومخاطبة الإنسانية الشاملة ومجاوزة الفوارق المحلية، بينما
ينزع الثاني إلى تكريس القومية وتوكيد عناصر الشخصية الوطنية بمعناها الضيق الذي
يصل في أقصى تطرفه إلى الطائفية المحدودة، لأنه يتحرك بدواعي الهوية:
«وإن
تأكيد الهوية الوطنية في حياتنا الفكرية والاجتماعية، حياتنا الفردية والجمعية،
قوة نافذة لا تدع لجماهيرنا مجالاً كما في أوربا لأولوية الشعور بالعالمية أو
أولوية الإحساس بالشمولية الإنسانية» (م12 ص37).
وأوضح
فرج أن أولى المحاولات المسرحية في القرن التاسع عشر كان تأطيرها العربي على أيدي
الرواد أمثال القباني والنقاش، وهو ما كان في صلب ازدهار المسرح في ستينيات القرن
العشرين باكتشاف الصلة بين المسرح العربي والفنون الشعبية العربية تذكر جهود
التأصيل النظرية مثل كتاب توفيق الحكيم «قالبنا السمرحي» ودراسة يوسف إدريس في
مقدمة مسرحية «الفرافير» عن مسرح السامر الريفي والمسرح الشعبي عموماً، وكتب علي
الراعي المتعددة، ولاسيما كتابة «الكوميديا المرتجلة» .ورهن فرج تطور المسرح
العربي بجمهوره ضمن التنمية الثقافية الأعم وجماهيرية الثقافة التي تستند، فيما
تستند إليه، إلى الخصوصيات الثقافية وتأصيلها:
«المسرح
العربي يجب أن يقوم بالرحلة إلى جماهيره، ليكتسب أسلوبه الأمثل وشرعيته القومية،
ولينطلق في مسار تطوره الطبيعي، ويصبح الشكل والمضمون واللغة موضوعاً اختياراً
جماهيرياً واستفتاءً شعبياً واسعاً وانتخاباً طبيعياً حقيقياً» (م12 ص46).
1ـ1ـ1ـ
الأدب قومي:
عزز
فرج فهمه للظاهرة الأدبية والفنية بأنها قومية واجتماعية في الوقت نفسه، فقد دلت
الدراسة النظرية والجمالية على أن «اكتشاف الشكل الفولكلوري البدائي للمسرح هو
الشكل الضروري للمسرح الطليعي في بلادنا» (م12 ص21).
ثم
ربط فرج جماليات الأدب والفن بمثل هذاالاندغام بين بعدي المسرح الاجتماعي والقومي،
ودعا إلى تأصيل فن المسرح اجتماعياً، «أي إلى مداومة البحث من أجل تحقيق هذه
العلاقة بين المسرح والجمهور ـ أوسع ما تكون، وأوثق ما تكون ـ فهي الأساس لكل نهضة
مسرحية حقيقية، وهي حجر الزاوية في جماليات فن المسرح» (م12 ص31).
وجعل
فرج البعد القومي للظاهرة الأدبية والفنية محك النظر في التجربة الغربية، وهو
منطلق كتابة «شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك» الذي يرهن فيه على أن وعي الآخر مرتهن
بوعي الذات حين أعاد إلى الذاكرة حقيقة أن العلوم العربية هي التي أضاءت ظلمات
أوربا، مما يستدعي دوام التفاعل الثقافي: «وأفكارنا التي أنارت أفكارهم، فلا محل
للتحوط أو النكوص عن استردادها وأن ننعم بثمارها وبتطوراتها. إن ذلك ليس تغريباً
أو اغتراباً، فقد نبعت العلوم من أصالتنا، وأصالتنا قديرة على استيعابها
واستقبالها بقلب مفتوح» (م12 ص220).
إن
وعي الآخر مرتهن بوعي الذات، ولعل كتابه «دائرة الضوء» تعبير عن محاولات هذا الوعي
من خلال شخصيات ثقافية مؤثرة أسهمت، العربية منها، في تأصيل الأدب والفن في الحياة
العربية مثل الحديث عن أول وزير للثقافة (فتحي رضوان) وأول أوبرا عربية (جهود كامل
الرمالي) والموقف من الفولكلور (يحيى حقي) ومسيرة الواقعية بوصفها مسيرة الصدق
(نعمان عاشور) والتماس قيمة الفنان من جمهوره (يوسف وهبي) وأهمية ترسيخ دور الخواص
في التنمية الثقافية (الموقف الرائد لمحمد محمود خليل وحرمه) والتوكيد على أن
تقدير الفن نابع بالدرجة الأولى من بعده القومي والمحلي (نوبل نجيب محفوظ)..الخ.
وثمة موقف أو حالة شديدة الدلالة في التعبير القومي للفن فيما انتاب صلاح جاهين من
اكتئاب بتأثير الهزيمة العربية في عام 1967 حين قال: «كانت هزيمة 67 قد ألقت بي في
هاوية من الحزن لا قرار لها»، ولقد أمعن مرض الاكتئاب في تعطيل إبداع هذا الفنان
المتألق:
«إنني
أشعر بالحزن والأسف مضاعفاً، لأننا نحن أصدقاءه لم نستطع أن نواسيه، ونخفف عنه
بقدر ما أسعدنا وواسانا» (م10 ص167).
ويؤيد
نظرة فرج لقومية الأدب والفن حفاوته البالغة بتجربة شيخ البنائين حسن فتحي الذي
خصص له أول فصل من كتابه «دائرة الضوء»، لأنه انطلق في العمارة، وهي مجموعة طوابع
ثقافية وفنية، من التزام الخصائص القومية والمحلية فيما سماه «المعمار التقليدي»،
ورآه معبراً عن اشتغال عام بالهوية القومية في الأدب والفن:
«وهكذا
مثلت العمارة بصورة فصيحة حوار الفكر المصري في فترة النهضة الوطنية واختلاف
تياراته حول الأصول والانتماء. وفي دراما هذا الحوار كانت إضافة المهندس حسن فتحي
رائدة إذ أنه توجه إلى الفولكلور، واعتبره خلاصة الطابع العربي للتاريخ المصري بكل
مراحله. وبذلك التحق حسن فتحي فكرياً، وكان رائداً للمدرسة التي ضمت سيد درويش في
الموسيقى، وكمال سليم في السينما، وبيرم التونسي في الشعر، ويحيى حقي في القصة،
ورشدي صالح في الدراسات الأدبية، وعلي الراعي في الدراسات الفنية» (م10 ص26).
1ـ1ـ2ـ
مواجهة الأجنبي:
ندد
فرج بالأجنبي، على أنه مناقض للوجود، فخص مسرحيات كثيرة لفعل مقاومته وتحرير الذات
القومية، كما في «سقوط فرعون» و«صوت مصر» و«سليمان الحلبي» و«النار والزيتون»
و«عودة الأرض» و«وألحان على أوتار عربية»، ولم يقف تنديده بالأجنبي عند الاستعمار
أو احتلال الأرض أو العدوان السملح، بل نبه إلى مخاطر الغزو الثقافي مبكراً وما
يشيعه من مشاعر الاستلاب والاغتراب، ولم يصدر في تنديده عن تعصب قومي، فالعربي،
كما تؤشر ملاحمه الشعبية، يميز بين الأجنبي والقومية الأخرى:
«والقاريء
يلحظ أن القصص تنتظمها مسحة سخرية ظاهرة بالعجم والترك والروم، بينما لا تتجه
القصص إلى التنديد بالقوميات الأخرى كالهنود أو الصينيين، فالعجم والترك والروم
كانوا هم التحدي التاريخي في ذلك الوقت للقومية العربي» (م12 ص57).
وأعمل
فرج مبضع النقد في التغريب الذي أثر طويلاً على تطور المسرح العربي في مصر:
«وبدلاً من أن يكون المسرح مرآة تعكس حياة الناس، أصبح مرآة تعكس نزوع قياداته إلى
التغريب والانبهار بالنموذج الفني الأوربي» (م12 ص79).
وقد
فهم فرج الأصالة على أنها نبذ للتبعية، فحكايتنا مع العالم هي حكايتنا مع النفس
ومع الماضي الحي بصراع الأصالة مع معوقاتها الاستعمارية الخارجية والداخلية:
«إن
الغاية والمطلب هما اكتشاف الذات، وتحرير القدرة الذاتية القومية والاجتماعية مع
كافة الظروف المقيدة والمعوقة ـ تحرير الروح.. من الواقع الذي نعيش فيه ضعفاء
متخلفين ـ من رواسب الانقياد لثقافة قوية جعلها الاستعمار في مركز عالمي قوي ومؤثر
بالضرورة، ومن رواسب ماضٍ ضعيف ومظلم مع ذلك» (م8 ص302-303).
وآلت
مواجهة الأجنبي وكشف مخاطر الغزو الثقافي من خلال الاستلاب والتغريب والتبعية
وسواها إلى ضرورة التعريب والتفكير باللغة العربية:
«فالتعريب
ليس مجرد عملية تهدف إلى تسهيل التعليم. إنه حجر الزاوية في انطلاق هذه الأمة إلى
آفاق العصر. اللغة أداة تفكير. يستحيل التفكير بغير اللغة» (م8 ص326).
1ـ2ـ
استلهام التراث:
عدّ
فرج استلهام التراث حجر الأساس في تحقيق الهوية القومية في الأدب والفن، ووجد ذلك
في سحر القصّ الشهرزادي أو سّرد الليالي معبراً إلى وعي الخصوصيات الثقافية في
الممارسة الأدبية والفنية، فاستلهم الليالي في عدة مسرحيات، هي «حلاق بغداد» و«بقبق
الكسلان» و«علي جناح التبريزي وتابعه قفه» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب والشرير
والجميلة»، ثم مدّ مجال استلهام الليالي إلى الرواية «أيام وليالي السندباد»
والقصة «ليالي عربية»، على أنه استلهم التراث العربي في المقامة والسرد الأدبي
الجاحظي والملاحم والسير الشعبية، ونفى في هذا المجال التأثر بالتقليد الغربي
عندما اتجه المسرح العربي إلى الملحمية بتأثير التراث، ولاسيما الليالي، «فهو أقرب
إلى سرد الحكايات منه إلى تركيز الموقف، وتأثرنا في هذا المجال كان بالقصة العربية
وليس ببريخت. وإذا تشابه توجهنا مع نظرية بريخت، فليس معناه أننا استلهمنا أسلوبنا
من بريخت، ولكن توجهنا جاء من باب ألف ليلة» (م12 ص67).
وحدد
فرج بدقة خصائص استلهام التراث الملتصق بالبعد القومي للأدب والفن، «فالرجوع إلى
التراث العربي العام كان هو التوجه القومي العربي. حيث أن الفنان لم يقنع بالتراث
القطري، وإنما امتد نظره إلى التراث القومي الذي يجمع الأمة العربية، لا التراث
الذي يجزؤها. ومن ثم كان استلهام التراث مرتبطاً باللغة العربية الفصحى» (م12
ص66).
لا
يتوقف استلهام التراث لدى فرج عند الشكل وحده، بل يجعل المحتوى الفكري بما هو
منظومة قيمية تتصدرها قيم الجوهر العربي الأساس، لأن الطرح الفكري الواقعي والعصري
شديد الالتصاق بإطاره الجمالي، «فحين نتحدث عن فكرة الحرية والعدالة الاجتماعية،
أو نطرح رأياً عصرياً ومستقبلياً في إطار من ألف ليلة وليلة إنما نوحي للجمهور
بأصالة فكرة الحرية والعدالة في تاريخنا وأصولنا الثقافية، ونضفي على الفكرة
مصداقية تاريخية وتراثية» (م12 ص69).
ورأى
فرج في استلهام التراث سبيلاً تربوياً للتلقي الثقافي مما يعين على شؤون التأصيل،
وقد ثمّر هذا السبيل في مسرحياته، وفي روايته وقصصه التي تستلهم الليالي، من مفهوم
الكتاب القصصي الذي ينوع الأشكال السردية إلى مزايا التشكيل وجماليات اللغة
وتعبيرها عن الجوهر العربي والمنظومة القيمية وفي مقدمتها مواجهة الأجنبي:
«وألف
ليلة حافلة بهذا المعنى الكبير، وهو معنى المواجهة بين العربي وغير العربي سواء في
السندباد أو في غيرها من القصص تجد دائماً ذلك اللقاء مع الروم والهند والزنج وأهل
الصين العجم» (م12 ص73).
ويفيد
تثمير هذا البعد القومي رشاد الموقف من التراث، لا إعادته أو الانتقاء منه، بل
استعادته بروح نقدية مؤمنة بالمستقبل:
«إن
استخدام التراث كإطار مسرحي أو انتهاج الأسلوب الشعبي القديم في ضرب الأمثولة ينطوي
على قصد واضح لإعادة صياغة الحاضر عن طريق إعادة صياغة التراث. وهو بذلك موقف نقدي
وجدلي من التراث، كما أنه موقف نقدي وجدلي من الواقع. هو موقف للواقع ناقد للماضي،
وموقف للماضي ناقد للحاضر.. هو موقف نقدي وحر من الواقع ومن الماضي معاً. ولعل هذه
هي حكاية الأدب التقدمي مع الماضي ـ المسرح والقصة والشعر... إنه، كان في فنّ
الأقنعة الزنجي استخدام لقناع الماضي بفرض التطهر من سطوة الماضي ومن سلطة
الماضي». (م8 ص221).
واللافت
للنظر أن فرج واع لمعاني الاستلهام ووظائفه من مستوى الحكاية في المسرحية وأصلها
الروائي أو الشفاهي إلى مستوى الخطاب، وقد قال في نهاية سبعينيات القرن العشرين عن
زياراته الأربع آنذاك لليالي:
«حلاق
بغداد» مسرحية في حكايتين الأولى يوسف وياسمينة من ألف ليلة. والثانية زينة النساء
من المحاسن والأضداد للجاحظ؟
شخصية
أبو الفضول التي تربط بين المسرحيتين هي إحدى شخصيات ألف ليلة وليلة، وهي شخصية
مزين بغداد (في الجزء الأول من ألف ليلة).
المسرحية
الأخرى من فصل واحد (بقبق الكسلان) وهي مسرحية للأطفال وهي أيضاً مستوحاة من ألف
ليلة وليلة.
«على
جناح التبريزي وتابعه قفه» مسرحية مستوحاة من ثلاث حكايات، وفيها طابع تركيبيي من
الحكايات الثلاث وليست استحياء مباشراً من قصة واحدة. الحكاية الأولى هي المائدة
الوهمية وهي قصة مزاح بين صاحب قصر وطفيلي فقير. وصاحبي الجراب التي أوردتها بين
الفصلين في إطار مستقل لتؤكد المغزى العام للمسرحية على منوال الكوميديا (ديلارتي)
التي تتصف بفاصل بين الفصلين، وهذا الفصل هو لحظة تنوير بالنسبة للمسرحية.
الحكاية
الثالثة هي معروف الإسكافي، وهي قصة رجل فقير في بلد غريب ادعى الغنى لكي يحظى
بكرم أهل المدينة. وهذا جزء من قصة معروف الإسكافي. وقد عملت على تركيب هذه القصص
الثلاث في قصة واحدة ذات مغزى جديد تتعلق، أو تصور حدود الوهم وحدود الحقيقة أو
الواقع، وهي قصة نقدية للعقل البشري.
المسرحية
الرابعة التي استلهمتها من ألف ليلة هي مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، وتتضمن ثلاث
حكايات مستوحاة من ألف ليلة وليلة وليس لها علاقة مباشرة بألف ليلة، وهي قصص
مبتدعة ومتأثرة جمالياً وشكلياً بألف ليلة. وهذا أسلوب مختلف وحالة متقدمة متدرجة
في مسيرة الاستلهام من التراث (حيث أن التأثر والاستيحاء قد أخذ شكلاً تدريجياً من
التأثر المباشر ونقل القصة كما هي مع إضافة الرؤيا أو فكرة فلسفية، إلى استغلال
قصص عديدة ومزجها في تركيبة واحدة مكونة مسرحية واحدة، إلى التأثر بالأسلوب فقط من
الناحية الشكلية والجمالية في الليالي.» (م12 ص62-64).
ثم
رهن فرج خلاص المسرح من أزمته ومواصلته لازدهاره ولفاعليته في الثقافة الجماهيرية
باستمرار وعيه لهويته، ولاسيما استلهامه للتراث، بوصفه ينبوع التقاليد وحصن
الأصالة في اللغة والسرد المفتوح على التجربة القومية جمالياً ومعرفياً:
«التغيير
في الفكر السائد أيضاً كان بذاته سبباً في ظهور التناقضات.. في مجال المسرح
مثلاً.. «الصفقة» مسرحية الحكيم كانت بشرى بظهور اللغة الثالثة التي ستحافظ على
مقومات اللغة القومية الفصحى مع الالتزام بلغة الناس الواقعية، حلاً لمشكلة
الازدواج اللغوي في المسرح والحياة. و«فرافير» يوسف إدريس كانت علامة كبرى في طريق
الأصالة المسرحية القومية والشعبية لإبداع مسرح عصري قومي يستند إلى تقاليد السامر
الريفي والمسرح الشعبي» (م8 ص345).
1ـ3ـ
التحديث:
انطلق
فرج في تحديثه من التقاليد القومية لأن «اكتشاف الذات هو اكتشاف علاقة الذات
بالآخرين، اكتشاف الذات القومية هو تحديد موقفها من العالم وموقعها في الزمن» (م8
ص283)، وهذا ما دعاه لوضع كتب برمتها عن فهم الحداثة والتحديث داخل التجربة
الذاتية، فكان كتابه الأول «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» وقد استهدف فيه
القاريء من أجل يحب المسرح، وليضيف إلى خبرة المتفرج وعياً بفن أصيل وحديث هو
المسرح، فحوى شروحاً تعريفية موجزة لأهم عناصر العمل المسرحي: فنّ المسرح،
الديكور، الخلفية التشكيلية، الممثل، أدواته، تيارات فن التمثيل، فن اللعب، فن
الضحك، أنواع الملهاة، المحلية والإنسانية، الملهاة الواقعية الحديثة المأساة،
المسرحية، عناصر التأليف المسرحي، الحوار، لغة الحوار، الفصحى في المسرح، النجوى،
الحائط الرابع، المسرح من زاوية نظر حديثة، العقل المحض، شكل المنصة، المخرج،
العنصر الفكري للمسرحية. ومن الملحوظ أن كتابة فرج عن هذه العناصر الحديثة في
تكوينها الناجز اقترنت بأمثلة واقعية من التجربة المسرحية العربية (ص23- ص41 - ص54
- ص57 - ص75 - ص101 - ص105- ص126 - ص127 - ص176 - ص177 - ص193 - ص200 - ص225 -
ص227)، مثلما خصص فصولاً برمتها عن التجربة المسرحية العربية (ص76 - ص93 - ص109 -
ص119 - ص151)، وختم رؤيته بحوار مع الحكيم حول مسرحه وفكره وفنه.
لقد
بات جلياً أن فرج ينظر إلى الحداثة والتحديث من واقع التجربة المسرحية العربية،
كما في افتتاحيته عن الخلفية التشكيلية:
«إذا
كان الحديث قد ساقنا لمقارنة عابرة بين مزاج وفن كل من نبيل الألفى وحمدي غيث، فلا
بأس من أن نسترسل في هذه المقارنة بعض لاسترسال بقصد التفريق بين اتجاهات طليعة
مخرجينا المسرحيين في صدد تكوين الخلفية التشكيلية المسرحية.
الديكور
يصممه رسام بالطبع. ولكن عمل الرسام محدد بعدة اعتبارات:
أولها:
أسلوب المسرحية، سواء أكانت رمزية أو سيريالية أو واقعية أو طبيعية أو خيالية
«فانتازيا». إلى آخر هذه الألوان..» (م8 ص22).
ولطالما
استغرق فرج في التطبيق العربي على فهمه للمسرح، كما هو الحال مع تأملاته حول أصل
الملهاة وأصولها:
«إن
القدرات الخلاقة لممثلينا في مجال الكوميديا قد دفعت مسرحنا خطوات إلى الأمام.
ونجومنا الساطعة: عبدالمنعم ابراهيم في «حلاق بغداد» وشفيق نور الدين في «القضية»
و«السبنسة» وحسين رياض في «تاجر البندقية» وسعيد أبوبكر في «مسمار جحا» وفؤاد شفيق
في «مضحك الخليفة» وتوفيق الدقن وعبدالسلام محمد في «الفرافير» وفؤاد المهندس في
«السكرتير الفني» وصلاح منصور ومحمد توفيق في «الزلزال».. وغيرهم من الأبطال
الموموقين دعموا فن الكوميديا في بلادنا وأتاحوا له بجدارة إمكانيات وآفاقاً لا
حدود لها.
إن
فن الكوميديا قد سبق الفنون المسرحية الأخرى في بلادنا، من حيث الرواج، فنحن شعب
يحب النكتة، ولا جديد في ذلك. ولكن الجديد هو ما يقرره الفيلسوف الفرنسي برجسون من
أن الشعب المولع بالنكتة شعب مولع بالمسرح..
إن
الصلة بين الاثنين ظاهرة وهي صلة ـ كما هي جديرة بالتأمل ـ فهي مثيرة للأمل جداً..
أما
الأمل فهو في قلوبنا. أما التأمل فهو يشحذنا لمزيد من البحث في أصول الكوميديا في
بلادنا..» (م8 ص75).
ثم
تتبع في فصل آخر تحديث الكتابة المسرحية الواقعية الملهاوية في ممارسة جيل
المؤلفين المسرحيين الذي ينتمي إليه فرج نفسه:
«بعد
أن أشرنا إلى المنحى الخاص الذي تتميز به مسرحية الفرافير، لابد أن نصل إلى وصف
تيار فن التأليف المسرحي المصري الحديث، ذلك التيار الذي أثر طابعه على ذوق
الجمهور وعلى الحركة الثقافية بوجه عام في السنين الأخيرة. ومع أن كلا من مؤلفينا
يتميز بطابعه الخاص، فإننا نستطيع أن لمس في مسرح نعمان عاشور وسعدالدين وهبة
ولطفي الخولي بشكل خاص تلك الصفات الخاصة التي تميز تيار الكوميديا الواقعية
الحديثة..
إننا
نريد هنا فقط أن نطل على هذا التيار الجديد الممتع، أن نتقصى خطوطه العامة، أن
نكشف مزاياه الشعبية والفنية، ليكون هذا الفصل دليلاً للمتفرج إلى العالم المسحور
الذي يصفه معظم الكتّاب الجدد في المسرح.. ومعيناً على الاستمتاع والفهم لفنهما
الذي لاقى ويلاقي رواجاً عظيماً من الجمهور..» (م8 ص101).
وعندما
تكلم عن المسرح من زاوية نظر حديثة، فإنه احتكم إلى تجربة المسرح العربي وتجربته
بالذات:
«رأينا
اتجاهاً للمدارس الحديثة يعمد إلى اختزال الحوائط والأبواب والإكسسوار والاقتصاد
في زخرفة تفاصيل الأشياء والملابس فوق المنصة، والاستغناء عن تفاصيل التفاصيل بقصد
تخفيف ثقل التركيبات في بناء الديكور، وضمان أن يكون الممثل البشر ركيزة التكوين
التشكيلي كله فوق المنصة.
ورأينا
أن هذا الاتجاه في الوقت الذي يضمن التوازن التشكيلي بين الممثل وبين الأشياء
الجامدة فوق المنصة، إنما يصدر عن فهم عميق دقيق لحقيقة جلية: هي أنه لا يمكن خداع
المتفرج عن مكانه (في مسرح الأزبكية مثلاً) وزمانه (في الساعة العاشرة مساء)
وإيهامه إيهاماً كاملاً بأنه في عاصمة الدانمرك حيث سقط هاملت مطعوناً بسيف مسموم.
ورأينا
أن الإيهام والتوهم في المسرح ليس إلا عقد اتفاق غريب بين الفنان والمتفرج تكلفه
الإشارة المقتصدة من الديكورست إلى المكان والزمان المفترضين واستعداد طيب من
المتفرج للتصديق بالإشارة المقتصدة والاندماج في الموضوع.» (م8 ص193).
لقد
وضع فرج عدة مؤلفات عن متابعته الدؤوبة للمسرح الحديث والتفاعل الثقافي العربي مع
اتجاهاته وتياراته المتعددة، مثل «أضواء على المسرح الغربي» و«شرق وغرب: خواطر من
هنا وهناك».
1ـ4ـ
اللغة:
شغل
فرج باللغة في المسرح منذ بداءة تجربته فدعا إلى توافر شروط جمالية وتعبيرية للغة
الحوار تنفع في تحقق الوظيفة الاتصالية والإبلاغية، ويستلزم لذلك أن تكون اللغة
فصيحة أو مفصحة:
«ولغة
المسرح لها غير هذه الشروط الأدبية العامة، شروط خاصة أخرى كلغة لفن من نوع خاص.
يذهب
بعض الباحثين إلى أن الشعر أوفق للمسرح من النثر. وبغض النظر عن صحة هذه الدعوى،
فإنها تصدر عن نفس المفهوم القائل أن المسرح يقتضي لغة فنية من نوع خاص ـ سواء في
اللهجة العامية أم الفصحى.
إن
المسرح يقتضي لغة ذات طابع مركز ومعبر تعبيراً مباشراً بلا تعقيد أو لف أو دوران..
بلا استطراد أو تطويل، لغة تنأى عن التراكيب المتداخلة المعقدة.. فالمتفرج لا يملك
الفرصة ليلاحق المعاني في مثل هذا اللون من التعبير..» (م8 ص163-194).
2ـ
التأليف المسرحي:
وضع
الفريد فرج سبعاً وعشرين مسرحية متفاوتة الطول، ومتباينة الموضوعات والاهتمامات
والأشكال والتقانات، هي:
صوت
مصر (فصل واحد) 1956
سقوط
فرعون 1957
حلاق
بغداد 1964
سليمان
الحلبي 1965
الفخ
(فصل واحد) 1965
بقبق
الكسلان (فصل واحد) 1966
عسكر
وحرامية 1966
الزير
سالم 1967
علي
جناح التبريزي وتابعه قفه 1969
النار
والزيتون 1970
الزيارة
(فصل واحد) 1970
زواج
على ورقة طلاق 1973
الحب
لعبة 1975
أغنياء
فقراء ظرفاء 1977
رسائل
قاضي إشبيلية 1975
رحمة
وأمير الغابة المسحورة (للأطفال) 1975
الغريب
(فصل واحد) 1993
العين
السحرية (فصل واحد) 1978
دائرة
التبن المصرية (فصل واحد) 1979
ألحان
على أوتار عربية 1988
هردبيس
الزمار (للأطفال) 1989
الشخص
(فصل واحد) 1989
عودة
الأرض 1989
مي
زيادة (تمثيلية تلفزيونية) 1986
غرابيات
عطوة أبو مطوة 1993
اثنين
في قفة 1993
الطيب
والشرير والجميلة 1994
ولعلنا
نتلمس علامات هذا التفاوت وهذا التباين في الملاحظات التالية:
2ـ1ـ
الاستجابة للواقع:
شغل
الفريد فرج، مثل أبناء جيله من المسرحيين الآخرين، بالمتغيرات السياسية والاجتماعية،
فصارت مسرحياتهم، في الغالب الأعم حتى مطالع سبعينيات القرن العشرين، وهي المرحلة
الناصرية وامتدادداتها في مدّ وجزر على وجه التقريب، استجابة مباشرة أو غير مباشرة
للأحداث والتبدلات التاريخية القومية والوطنية السياسية والاجتماعية العاصفة
والغامرة حركة الواقع وشروط التاريخ، فكتب «صوت مصر» احتفاء بفعل المقاومة في
بورسعيد (حازت ميدالية الفنّ في المعركة)، وضع مسرحيته التاريخية «سقوط فرعون»
لمعالجة فكرة الحياد الإيجابي والسلام المسلح، وهي إحدى أطروحات النظام آنذاك
تساوقاً مع مؤتمر باندونغ، وكتب «حلاق بغداد» في مناخ فانتازي يستلهم الموروث
السردي وبعض المؤثرات التعبيرية والانطباعية والملهاوية لمعالجة سياسة الحكم، ووضع
«سليمان الحلبي» في فترة انتشار قيم الشعبية وتصاعد المدّ الثوري العالمي والعربي
إشاعة للفكر الثوري القومي في مصر عبدالناصر وانطلاقة رصاصة المقاومة الفلسطينية
واشتداد عود الإرادة العربية على أن المسرحية بتعبير الفريد فرج نفسه «إجابة شافية
على أول تحديات الاستعمار الأوربي للشرق في عصرنا الحديث» (م2 ص18)، كتب «عسكر
وحرامية» عن تحالف قوى الشعب العاملة والنضال من داخل «الاتحاد الاشتراكي»، تنظيم
السلطة الحاكمة، لمواجهة الفساد والإفساد، وكانت مسرحية «الزير سالم» دعوة لمجاوزة
الخلافات القومية والجراح العربية النازفة في أكثر من بقعة والانخراط في ائتلاف
قومي ينفع في مواجهة التحديات، ووضع مسرحية «علي جناح التبريزي وتابعه قفه» عن
حتمية الحل الاشتراكي وانتصار الأفكار الاشتراكية وأفكار العدل الاجتماعي وإشاعة
حلم التغيير، بالعدل المادي، وألف «النار والزيتون» إيماناً بانتصار المقاومة
الفلسطينية وبالحل النضالي المقاوم سبيلاً لهذا الانتصار، ووضع مسرحية «زواج على
ورقة طلاق» استتباعاً لمعالجة الحل الاشتراكي والتلاقي بين الطبقات المتصارعة.
وتميزت
كتابة الفريد فرج بالاستجابة غير المباشرة، بينما كانت الاستجابة لدى مسرحيين
آخرين مباشرة يظهر فيها صوت الأحداث والوقائع والأطروحات والشعارات مما يستعصي على
التجلي الفكري والفني أحياناً، وقد تعاضدت صيغ التعبير عن الاستجابة المباشرة
بعناصر الصوغ المسرحي، ولاسيما التحقق الفني لأفكاره ورؤاه بين التاريخي والراهن،
بين المطلق والمتغير، بين الجوهري والعرضي...الخ.
2ـ2ـ
الأفكار والموضوعات:
عني
فرج في مسرحياته بأفكار تاريخية لطالما تناقضت مع أفكار وجودية، إذ عاين في
مسرحيات كثيرة أفكاراً سياسية واجتماعية شديدة الارتباط بالتاريخ العربي في مصر
وفلسطين وبقاع أخرى.
شغل
على الدوام بأفكار العدل الاجتماعي والمقاومة والتحرير والاشتراكية على إطلاقها ثم
ما لبث هذا المطلق إن انتابته أو تناوشته وطأة المتغير، وهذا واضح في مسرحياته
«علي جناح التبريزي» و«سليمان الحلبي» و«الزير سالم»، ثم دخلت هذه الأفكار
اشتراطات أو استحقاقات هذا المتغير مثل أن يكون السلام مسلحاً في «سقوط فرعون»، أو
أن يمايز بين حلم العدالة ووهمها أو توهمها في «علي جناح التبريزي»، أو أن يتداخل
الزمان والتاريخ في فهم العدالة المستحيلة في مسرحية «الزير سالم»، أو أن يتوارى
الخلاص الفردي الممكن وراء الخلاص الجماعي المفترض في مسرحية «عسكر وحرامية»، أو
أن يُغطى اللقاء الطبقي بشعاره في مسرحية «زواج على ورقة طلاق»، أو أن تربط
الديمقراطية بتطبيقها وبظرفها تمييزاً بين الزمن المطلق والزمن المتصل أو الراهن
في مسرحية «حلاق بغداد»، أو أن يربط الصراع بين الخير والشّر بالمواضعات
الاجتماعية والوضع البشري في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة».
وقد
اختار فرج لأفكاره موضوعات متعددة قومية واجتماعية من منظورات سياسية وأخلاقية
وإنسانية صريحة. وقد بدأ كتابته المسرحية بالموضوع القومي الذي عولج بأشكال متعددة
وبرؤى ثرية عن الوجود العربي الكريم في مراحل حاسمة للتأزم الذاتي القومي ومعضلات
مجاوزته وتحققه، كما في مسرحياته: «صوت مصر» و«سقوط فرعون» و«عسكر وحرامية»
و«النار والزيتون» و«سليمان الحلبي» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض».
وثمة
مسرحيات ذات طابع احتفالي يستجيب للموضوع القومي مثل «صوت مصر» المكتوبة تحية لفعل
المقاومة ضد العدوان الثلاثي على مصر، و«عودة الأرض» المكتوبة حفاوة بالوفاق
الوطني حول النصر في حرب تشرين الأول عام 1973.
وغالباً
ما اندغم الموضوع القومي بالاجتماعي، عندما تُرى القضية الاجتماعية في بعدها العام
كما في رؤية التطبيق الاشتراكي للأفكار المطلقة كالعدل والديمقراطية في بناء
المجتمع وإنتاجه.
2ـ3ـ
استلهام التراث:
نظر
فرج إلى استلهام التراث مجالاً رحيباً للأصالة ووعي الذات القومية، فاستعمل السرد
الشهرزادي في عدة مسرحيات، إذ زاوج لأول مرة في مسرحية «حلاق بغداد» بين حكايات من
«ألف ليلة وليلة» وإحدى قصص الجاحظ في كتابه «المحاسن والأضداد»، ثم استوحى مسرحية
«علي جناح التبريزي» من حكايات ثلاث من الليالي، هي حكاية المائدة الوهمية وحكاية
الجراب وحكاية معروف الإسكافي، وبنى مسرحيته القصيرة «بقبق الكسلان» من فضاء
حكائية الليالي، وتأثر في مسرحيته «رسائل قاضي إشبيلية» بحكائية الليالي وحوافزها
السردية الواقعية الممتزجة بالفنتازيا. وكانت آخر مسرحياته «الطيب والشرير
والجميلة» مستوحاة من إحدى حكايات الليالي أيضاً.
ويلاحظ
أن اشتغال فرج على التراث موصوف بالطوابع التالية:
ـ
التصرف في البنية الحكائية على سبيل التأثر النفسي والذهني، فلا يعاد المتن
الحكائي في الحكايات المستلهمة، بل يستعاد نسقها في الفضاء السردي وعلاقاته
الجمالية والدلالية، وتبدو مسرحيتا «حلاق بغداد» و«علي جناح التبريزي» مثالاً لهذا
التصرف الذي يوائم في الأولى بين حكايات من الليالي ومن السرد الأدبي الجاحظي.
ـ
النزوع النقدي والتعليمي في استعادة التراث السردي، فتصبح المسرحية مداراً للنقد
والتأمل النقدي لأفكار الأرض والعقاب والسوق في مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»،
بينما تلح المسرحية على التعليم وتقدير العمل والعطاء، وهو ما توجزه نبرة الختام
في مسرحية «بقبق الكسلان»، وكأنه صوت الجوقة:
«الجميع:
(يتقدمون ناحية الجمهور) رأيتم بأنفسكم أيها السادة هذه الصورة التي صاغها المؤلف
الشعبي العظيم في ألف ليلة وليلة منذ ألف سنة. ومغزاها أن أحلام اليقظة تحطم النفس
كما حطمت الأباريق. وأن الكسلان يعوض فشله وقلة الحيلة، وأن الحياة والرخاء
والسعادة أبناء العمل لا الأحلام. ونشكركم» (م1 ص216).
ـ
الصوغ على نسق حكائية الليالي دون الالتزام بالبنية السردية تثميراً لقابليات
حكايات الليالي الثرة، ولاسيما الدوران في شكل التحفيز الحكائي وخصائصه التخييلية
مثل منطقها الخاص وتداخله المدهش بين الواقع والفنطزة، فلا تخفي الغرائبية أو
العجائبية معقوليتها الخاصة، كما في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة» التي تمتح من
معين حكائية الليالي سيرورة تقليدية لمعاينة فكرة الصراع الرئيسة في المسرحية بين
الخير والشّر، وقد كشف فرج عن أسلوبية مثل هذا الاستلهام في افتتاحية المغني في
الشهد الأول من الفصل الأول الذي يحمل عنوان «دكان الحلاق» بقوله:
«المغني:
كل جيل كتب حكايات ألف ليلة وليلة على هواه.. ألف ليلة هي هذه وتلك من الحكايات..
ألف ليلة هي صيغة تروى بها الحكايات.. كل جيل روى بهذه الصيغة حكايات جيله على
مقتضى احتياجاته الأخلاقية والروحية، واستخلص منها الحكمة التي يريدها ويطلبها..
ألف ليلة سفينة أحلام ركبها الناس من كل الأجيال.. وكل من ركب فيها حملته إلى ما
يريد من البلدان.. فقد ذهبت بالراكبين إلى كل زمان ومكان وعلى كل المقامات
الموسيقية وبكل الألحان (موسيقى مصاحبة)، ولو كان الأجداد يكتبون النوتة
الموسيقية، ويدونون الموسيقى بالنقط كما نفعل اليوم.. لكانوا قد كتبوا حكايات ألف
ليلة وليلة على أوراق الموسيقى المسطرة بالخطوط الخمسة كل سطر، كما تكتب
الأوبريتات والمسرحيات الغنائية، فحكايات ألف ليلة مزينة دائماً بالصور والأشعار
والأغاني والرقصات التي غناها وخيّلها الراوي دائماً لمستمعيه، ليجذبهم للدخول من
أبواب الخيال والتصور إلى العالم الجميل الساحر لألف ليلة وليلة.. وسنبدأ حكايتنا
كما كانت تبدأ القصيدة العربية في الزمن الخالي بالإنشاد للحب والغزل.. فنقول: هذه
هي الليلة السابعة والعشرون بعد التسعمائة.. فاضرب الوتر» (الطيب... ص22).
وثمة
تجربة فريدة في استلهام التراث الشعبي في مسرحية «الزير سالم» تتبدى في إعمال
المخيلة إنطلاقاً من الوقائع المتداولة عن الراوي الشعبي المجهول، فتُبنى المسرحية
على هدي نسق تنضيد جديد للحوافز تضيئه عملية الاشتغال على تفسير خاص، لتلتحم بعد
ذلك جمالية التكوين المسرحي بمضاء الدلالية أو ما نسميه وحدة الأغراض أو فاعلية
القصد، لأن المعول دائماً هو «الفكر في المسرح» بتعبير فرج نفسه (م2 ص166)،
فاستبعدت التفاصيل أو الوقائع غير الدالة أو الوظيفية، وأُمعن ملياً في تركيب شبكة
العلاقات السردية نفوراً من الاستطراد أو الحشو، مما يسعف ضبط البنية وإحكام
نسيجها بالأغراض المتعددة من الإضمار إلى التصريح، ولعل هذا الولع بتمتين المنظور
السردي هو مسوغ اختيار البناء الدائري حين تبدأ المسرحية بمشهد هجرس وتردده في
الاقتراب من كرسي العرش بعد مخاض الدم والانتقام والكراهية الطويل، فيوجز هجرس القصد
في المشهد الأخير الذي كانت المسرحية مسوغ البنية برمتها انتظاماً في تعليل
الحوافز وإشباعها بدلالات التجربة:
«هجرس:
وهكذا تدور اللعبة فتشملني أنا أيضاً في إعصارها الدوار. أين الفكاك من الدم؟
هاأنذا أتقدم إلى العرش برئياً من كلّ ذنب. صافي النفس نظيف اليد، بدافع الشرف،
ورغم تحذيرات الشرف، لأجلس فوق المستنقع مزمعاً أن أتجنب التلوث جهد طاقتي، وأنا
غير متأكد أني أستطيع. وقاني الله ارتداد بصركم أن يدفعني. أن يزجني في أيام
مقبلة.. اللهم اجعلني رحمة ولا تجعلني لعنة على قومي» (م2 ص282).
2ـ4ـ
التاريخ:
عمد
فرج إلى الاشتغال المسرحي على التاريخ في بعض مسرحياته على سبيل المسرحية
التاريخية في مسرحيتيه «سقوط فرعون» و«سليمان الحلبي»، وعلى سبيل التخييل للوقائع
التاريخية في تمثيلية «مي زيادة»، وعلى سبيل الاستخدام التسجيلي المطلق في
المسرحيته «النار والزيتون»، والاستخدام التسجيلي المحدود في مسرحيتيه «ألحان على
أوتار عربية» و«عودة الأرض».
استند
في المنحى الأول على التاريخ الفرعوني القديم استناداً رئيساً إلى كتاب سليم حسن
«الأدب المصري القديم» قاصداً إلى معالجة أفكاره الفلسفية عن الصمود في وجه الغزاة
والأعداء والمتآمرين خلال مرحلة أخناتون التي صارت إلى رحابة الأسطورة في رؤية
التنازع بين الطبائع المتعارضة أو المتناقضة داخل الذات الواحدة.
يتركز
الاشتغال التاريخي في المسرحية على فهم الحساسية السياسية واتبعات الرفق المروع
بالمصائر المأساوية لشخوصه في ظل عنتهم الصارخ لمراودة الفعالية العامة بوصفها محط
رهان الرؤية كقوله:
«وفرعون
مصر يأبى أن يشنّ الحرب، والصلوات في معابدك، تترنم بكلمة السلام» (م6 ص320).
تستند
فكرة المسرح عند فرج إلى تحويل الواقعة التاريخية إلى مدار طقس هو تخييله لمتتالية
الحوافز في عملية الصراع نشداناً للقصد النهائي: بطولة سليمان الحلبي في مواجهة
الأجنبي المحتل باعثاً في هذه البطولة المرامي البعيدة والعميقة لتكوينه العربي
الأزهري (اندغام العروبة بنسق ثقافي تقليدي) فرداً من جماعة معبراً عن تطلعها
مدركاً لخياراتها ضمن لحظة تاريخية حاسمة، محكماً وعيه حين يغوص في تشابك مكوناته
الأصلية ومؤثراته الراهنة والضاغطة انطباقاً لمدى العقل على الخنجر، فليس فعل
البطولة طارئاً يندرج في المصادفة، بل هو نتاج تصميم العارف «بمصيره طول الوقت،
يخوضه بعيون مفتوحة وذهن حاضر ممتليء بالتوقعات» (م2 ص18)، ولعل الكناية الدالة عن
أفق البطولة في إمكانية مقاومة العين لمخرز هي التعليل الأقرب للدوران في مدار
الطقس، ونسيجه تلك الحوافز التاريخية التي يُعاد تنضيدها وكأن التاريخ مؤطر
لاستعارة فعل الفداء عن سابق تصميم، أي أن المسرحية تغدو وعياً بالتاريخ في اشتغال
عقلاني ووجداني داخل ذوات خاصة ما تلبث أن تصير إلى وعي الذات القومية العامة.
ويمضي
فرج عميقاً في تخييل الوقائع التاريخية في تمثيليته التلفزيونية «مذكرات لم تكتبها
مي زيادة»، فقد مازج بين ما كتبته وما توميء إليه هذه الكتابات استبطاناً لسيرة
مناضلة مؤثرة في مجتمعها نداء متواصلاً لحربة الفكر وشجاعة الرأي، وقد وازى فرج
بين الوقائع التاريخية وتعليقه عليها بصوت الكاتب الذي يستنطق هذه الوقائع
الدلالات الأعمق للمعنى الوجودي الغامر لهذه الأديبة المبدعة الشجاعة، كمثل تثميره
لحديثها عن رسالة الأديب في المشهد ما قبل الأخير الذي أفلح فرج في ألا يكون
مقحماً على السياق، ونقتطف منه هذا المقطع:
«رسالة
الأديب تعلمنا أن العالم العربي على تعدد أقطاره من المحيط إلى الخليج وحدة واحدة.
رسالة الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات. رسالة
الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. فكل زمن خطير في التاريخ كان زمن
اضطراب وكوارث. وأعظم فوائد الإنسانية تجمعت عن عصور العذاب والخطر. العاصفة لا
تقتلع إلا ضعيف الأغراس أما الأشجار ذات الحيوية العصية فالأعاصير لا تزيدها إلا
قوة ومناعة» (م11 ص296).
ولجأ
فرج إلى الاستخدام التسجيلي المطلق في مسرحية «النار والزيتون»، على أن تسجيل
وقائع حياة فرد لا تكفي لتسجيل حياة شعب، فعاد إلى الوثائق التاريخية لبعث نضال
الشعب الفلسطيني من خلال التفاصيل الدالة في مجرى الصراع العربي ـ الصهيوني:
«العنف الصهيوني، العذاب الفلسطيني، المقاومة الصلبة، التآمر البارد للقوى
الإمبريالية العالمية» (م6 ص149).
وقد
جمع فرج مادة المسرحية من مصادر متعددة ودعمها بالمشاهدة من خلال زيارة مواقع
العمل الفدائي والاتصال عن قرب بأبطال المقاومة الفلسطينية وضحايا العدوان
الصهيوني، على أن فرج حوّل هذه المادة إلى غناء شعبي للقضية الفلسطينية استخداماً
أوفر وأوسع لمعطيات المسرح الشامل من أشعار وأغان وحركات إيقاعية وتشكيلية
ومعروضات وسواها، ليقل بعد ذلك استعمال الوثائق التاريخية كالأقوال والإحصاءات
والنصوص والمذكرات وسواها، وثمة ملاحظة هو العناية بوثائق شائعة ومتداولة
والاشتغال الغنائي عليها بأقل من الاشتغال الدرامي بالاعتماد على وثائق من الشعر
الفلسطيني أو الغناء الشعبي الفلسطيني، كمثل استقبال جثمان الشهيد حيث نجوى الأم المفجوعة
وصوت الجميع يردد الأغنية الشعبية:
«الأم:
لا تقولوا لي ولدي مات. ولدي حي.. اتبرع بنفسه. الله يرضى عليه. الله يجعله فدو عن
فلسطين. الله يجعله فدو عن كل فدائي. أنا غاب عني ولد واحد، وربنا أعطاني كل فدائي
ولد لي. كلكم أولادي. الله يرضى عليه. الله اختاره من بيننا لها الموتة الشريفة.
وأخواته يتزفه. (تزغرد وهي تمسح دموعها)
(يلتف
الفدائيون حولها والقائد يسلم لها وسام أم الشهيد والأغنية يرددها الجميع)
الجميع:
هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه، وأبوه
أنا أمه يا فرحة أمه
يا عرسه في ليلة دمه
يا تراب الحرية ضمه
يا أخواته للثورة
انضموا
زغروته ياللا حييوا
هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه وأبوه.»
(م6 ص138-139)
وستخدم
فرج بعض تقانات المسرح التسجيلي على نحو جزئي، مستحضراً وقائع من التاريخ القريب
مثل موكب اللورد البني غداة اقتحام القدس ودمشق سنة 1917، وخريطة الوطن العربي
وبجانبها سايكس وبيكو يؤشران إلى الاتفاقية السرية لتقاسم الأرض العربية
واحتلالها، ومائدة اجتماعات الأمم المتحدة وقائمة قرارات الحقوق الفلسطينية،
واستعراض القوة بشخص كيسنجر، واستعادة صورة زنوبيا التي تأبت على الاحتلال
الروماني وقاومته، واستعراض أطراف المؤامرة الاستعمارية المستمرة بحق العرب،
وإسناد نبوءة النصر إلى إحياء ذكرى صلاح الدين، لتكون هذه الوقائع التاريخية
جميعها تعضيداً لموقف المقاومة الباسلة لزنوبيا ذلك المثل الحي للبطولة العربية:
«أصوات
العامة: زنوبيا ملكة العرب.. الساحرة. ارجموها. اخفضي رأسك يا امرأة، انظري تحت
قدميك يا أسيرة الرومان واذرفي الدموع في موكب النصر للأمبراطور أورليان..
الفتاة:
بل انظر في الشمس وفي ضياء السماء. وأرى بالعين واللب والفؤاد ما ينتظر موكب
الأمبراطور من خسران. فمن زرع الجريمة لا يحصد إلا الثأر، ومن بدأنا بالعدوان لا
يجني غير الهوان في آخر المطاف، ومن رمى الناس بظلامه أعماه نور النهار.. انظر في
عين الشمس أنا وأرى ملء عيوني ضياء عربياً آتيا من المشرق، أرى شمساً ساخنة تنبت
الرجال في رحم الرمال.. وأرى روما! ويلاه.. تضج تحت أقواس نصرها تطلب من أعدائها
رحمة هي بددتها! ويلاه أرى بدراً في الشمال وبدراً في اليمين يحملان سياط عذابهم
فوق رؤوس ومعذبيهم. أرى دماً يجري على سلم الكابيتول يكتب على بلاطة بألسنة ساخنة:
ويلك روما فقد زرعت الرياح ولا تحصدين غير العواصف.. زرعت النار لا تحصدين غير
الطوفان.. أرى رجالاً فوق التلال وعلى ضفاف الأنهار.. أخوتي وأبنائيوآبائي حياة
وعمراناً عربياً من قبلي ومن بعدي، فيا عرب.. هاأنذا أنتظر. أتعذب على أبواب
بيوتكم، وفي بيوتكم وفي جلودكم أتعذب، وأنتظركم. امنحوني قدرتي وقدري وأيامي
وشمساً في سمائي تبدد الظلمات امنحوني وحدة أمتي وحرية القرار وشرف الانتصار..
هاأنذا أصيح ليصلكم صوتي في كل البقاع: واعروبتاه!..» (ألحان على ص60).
وقد
استعاد فرج طريقته الجزئية في استخدام المسرح التسجيلي وتقانات تطويع الوثيقة
التاريخية لمعطيات المسرح الاستعراضي الشامل في مسرحية «عودة الأرض» مثلما فعل في
«ألحان على أوتار عربية»، بل إنه أعاد بعض مشاهد بنصها مثل مشهد سايكس وبيكو
واتفاقية تقسيم الوطن العربي بين المستعمرين، ومشهد صلاح الدين محاوراً العزيمة
العربية للاستنهاض والمقاومة إشارة إلى دروس التاريخ العربي ذاته:
«صلاح
الدين: ويزعزع ثقتكم في قدرتكم وفي عزائمكم، ويقعد بكم عن استفار رجال زمنكم.
الفتاة:
لقد تصورناك كما أحببناك.
صلاح
الدين: حب الضعيف وهيام العاجز وتعلقه بالتعاويذ والخرافات. وكان أولى بكم أن يكون
حبكم للحياة والأحياء. وأن تكون نجدتكم لهم وأن يكون صمودكم بهم. ومن ثم تصنعون
التاريخ.
الفتاة:
علمني مولاي. كيف نصنع التاريخ؟
صلاح
الدين: وهل تصنعون التاريخ إلا بالرجال المعاصرين؟ اطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم.
اصنعوا أيامكم برجالكم. لن تصنعوها برجالي. التاريخ قد يكون فيه لكم حكمة أو
تجربة. ولكن ليس فيه لكم فرسانكم وجندكم. فاطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اطلبوا
رجال زمانكم واحتشدوا حولهم.» (م11 ص33).
وأضاف
إلى الوثائق التاريخية المستخدمة مسرحة وصية الملك الصالح أيوب الداعية إلى النصر
أو الموت، ثم مزج ذلك كله ببناء مسرحي يبعث فيه الأمل بالنصر الذي تحقق في حرب
تشرين الأول 1973 والمقدرة على تحققه محدداً فيما سماه «عودة الذاكرة».
«المصور:
عودة الأرض. عودة الروح. عودة الذاكرة. عودة العزة والكبرياء الوطني يرجع الفضل
فيه إلى حكمة القيادة وشجاعة الجند وصلابة الشعب المصري العريق.. هم صنعوا النصر
وأحنا صورنا الصورة» (م11 ص79).
2ـ5ـ
التنوع والتجريب:
لا
يكاد نص مسرحي عند فرج يشابه نصاً آخر في بنيته وشكله، فهناك المآسي مثل «سليمان
الحبي» و«الزير سالم» و«سقوط فرعون»، وهناك الملاهي مثل «حلاق بغداد» و«على جناح
التبريزي وتابعه قفه» و«عسكر وحرامية»
و«أغنياء.. فقراء.. ظرفاء» و«الحب لعبة»، وثمة الدراما الحديثة مثل «زواج
على ورقة طلاق» و«الطيب والشرير والجميلة» أو المصاغة بروح التراث مثل «رسائل قاضي
إشبيلية»، وثمة المسرح التسجيلي والسياسي القائم على تقانات المسرح الشامل
والوثائق المختلفة، مثل «النار والزيتون» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض»،
مما تتوسع فيه المسرحية لستارة الضوء والموسيقى والأغاني والحركة الإيقاعية
التشكيلية والمعروضات المساعدة.
وهناك
المسرحية الطويلة وعددها خمس عشرة مسرحية أولها «سقوط فرعون» وآخرها «الطيب
والشرير والجميلة»، وثمة مسرحيات قصيرة من ذوات الفصل الواحد هي: «صوت مصر»
و؛الفخ» و«الغريب» و«العين السحرية» و«دائرة التبن المصرية» و«الشخص»، وثمة ثلاث
مسرحيات للأطفال هي «بقبق الكسلان» و«رحمة وأمير الغابة المسحورة» و«هردبيس
الزمار»، وهناك تمثيلية تلفزيونية واحدة يتوازى فيها السرد الروائي والسرد
الدرامي.
ومثلما
استلهم التراث العربي في مسرحيات كثيرة، استوحى بعض مسرحياته من تراث الإنسانية،
فصيغت «أغنياء فقراء ظرفاء» على غرار فكرة المسرح الشعبي كما هو الحال في صياغة
الإسباني «بينا فنتي»، ومثلها مسرحية «الحب لعبة» التي تستند إلى قصة شعبية أيضاً،
وكان سبق إلى صياغتها الفرنسي ماريفو في مسرحيته «لعبة الحب والمصادفة».
وبلغ
التجريب شأواً عالياً في مسرحية «الشخص» المبنية على تقانات مسرح اللامعقول
ولاسيما لعبة الوقت تعبيراً عن ضيعة الأحلام وخناق الوحشة، كمثل قول الشخص في لوحة
«الساعة اتناشر»، وهي المشهد الأخير:
«الشخص:
أنا تهت. وقبل ما أتوه نسيت. وقبل ما أنسى ماكنتش عارف.. الساعة كام الميعاد.
الإنسان منا دايماً أحلامه في ناحية ودنيته في الناحية التانية. إن مشى في سكة
الأحلام مش ممكن يوصل للدنيا، وإن مشلا في دنيته مهما طال بيه الطريق مش ممكن
يحصّل أحلامه. لكن أقسى شيء ممكن يبتلي بيه هو الوحدة.. العزلة. الانقطاع.. وعلشان
كده اللي بيوصل خير من اللي بيقطع، لكن يعمل إيه بني آدم في انقطاع دنيته عن
أحلامه، وانقطاع سكته عن غرضه، وانقطاع اللغة عن التعبير، وانقطاع الذاكرة،
وانقطاع المعرفة عن الفهم، وانقطاع الذكاء عن المصلحة، وانقطاع الوالد عن ولده.»
(م11 ص178-179).
وتستفيد
على العموم مسرحيات الفصل الواحد وبعض المسرحيات الاستعراضية والموسيقية والسياسية
من تقانات المسرح التعبيري مثل تجريد الوقائع والتسمية بالصفة أو بالدلالة، لا
بالاسم، فلا تحمل أي شخصية في مسرحية «الشخص» أي اسم، لتقتصر التسمية على «الشخص»،
و«الشبية»، و«الطبيب»، و«الشابين مفتولي العضلات»، و«الممرضة» و«الثري» و«الراقصة»
و«البواب» و«البوسطجي» و«الشرطي».
أما
شخصيات مشرحية «الغريب» فهي «الغريب» والسيدة وضابط الشرطة والممرضان، ولا تفترق
التسمية في مسرحية «العين السحرية» عن عدم تسميته وكأن التسمية هنا علامة أو رمز،
مثل «حسن» و«حسنين» «وشلضم»، لأن التسمية لا تعيّن صاحبه بعلامات فارقة كالنسب
والماضي والهيئة والتكوين الخاص..الخ، لتنتهي المسرحية إلى تأمل بعض الشروط
الإنسانية القاهرة، في مآل المسرحية:
«حسين:
أنا حسين حسين المحامي، أثريت من حسن الدفاع عن جرائم شخصية، أعلم أسبابها
الاجتماعية وأسخط عليها، ويلح على شرفي وكبريائي بفكرة الدفاع عن الإصلاح وحل
التناقضات الاجتماعية.. أنفي الفكرة المفزعة التي تلاحقني من أيام الصبا
والدراسة.. الفكرة تقتحمني.. فتسخر منها نفسي وتقول: أنت كالبكتريا لا تحيا ولا تسمن
إلا في الجروح فكيف تداوى أنت الجروح؟! أحس بغربة قاسية وهذا جنوني..
حسن:
أنا حسن حسن، الممثل، النجم السينمائي.. في صباي تدربت على أداء الأدوار التمثيلية
المجيدة، وأطلقت أسراباً من الكلمات الشريفة.. اليوم ألهث وراءة الكلمات المزيفة.
أنافق التفاهة والغباء والثراء. ألفق للجمهور في كل يوم قصة، بينما لا أعبأ
بالاستماع إلى قصة كومبارس حقيقية وأليمة، وأنكرها. الناس في الشارع وجوههم ناطقة
تقول وتحكي، ولكني أحيا حياتي بوجه يلفقه الماكياج.. أعمى وأبكم وأصم.. وأحس بقلق
يدمرني. وهذا جنوني.» (م11 ص140-141).
2ـ6ـ
اللغة:
شكلت
اللغة إحدى معضلات التأليف المسرحي لدى جيل فرج، غير أنه حسم خياره باتجاه الكتابة
بالفصحى أو بلغة مفصحة، وعدّ هذا الخيار علامة تأصيل ينفع في تعضيد الهوية القومية
في الأدب؛ ثم جاوز هذا الانشغال إلى تثمير الفصحى أو المفصحة في مسعاه الإبداعي،
فاللغة حاجة فكرية وفنية، وليست مجرد زينة أو التزام خارجي، فعني فرج بمواءمة
اللغة لطبيعة المسرحية في نوعيتها، تاريخية أم سياسية أم تسجيلية أم مأساوية أم
تجريبية..الخ، وفي خطاب شخوصها وبيئاتهم...الخ، ولعله صدر في ذلك الخيار أو
الاحتياج الفكري والفني عن فهم اللغة في العمل المسرحي تواضعاً متفقاً عليه، لا
نقلاً عن واقع، لأننا في الفن محاكاة صريحة ومباشرة للواقع أو استغراقاً في
اتجاهات حداثية وسواها لا نصف الواقع أو ننقل عنه، بل نعيد إنتاج علائقه، نصوغ
مجتمعاً خاصاً هو مجتمع المسرحية، فاستفادت اللغة من نصوص الأدب المصري القديم في
مسرحية «سقوط فرعون»، وهي لغة تقارب الشعر في مواقع كثيرة، وتألقت اللغة الأدبية
التي تستفيد من فخامة التراث الأدبي العربي القديم في مسرحيات متعددة مثل «علي
جناح التبريزي» و«الزير سالم» و«سليمان الحلبي» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب
والشرير والجميلة»، فطاعت اللغة الفصحى لحاجات المسرح.
[مجلة
«الكاتب العربي» (دمشق)، ع53، 2001]
المصدر:
كتاب المسرح
العربي المعاصر
قضايا
ورؤى وتجارب
د.عبدالله أبو هيف
منشورات اتحاد الكتاب
العرب
دمشق
ـ 2002