أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الاثنين، 15 نوفمبر 2010

السينوغرافيا...وأشكالات التعريف والمعنى

مجلة الفنون المسرحية

السينوغرافيا...وأشكالات التعريف والمعنى 


د.فاضل خليل 

اختلف المهتمون في المسرح، حول معنى (السينوغرافيا) وحول تعريفها، فمنهم من اعتقد بأن المعنى فيها يقف عند حدود المنظر (الديكور)، والآخر في الضوء (الإنارة)، وغيرهم اعتبروها الزخرفة وغيرهم في المستلزمات البقية للتكوين الفني للصورة المسرحية وهكذا. ومثلما اختلف المعنى المحدد لها، تعددت التعاريف الكثيرة التي سترد في سياق البحث تباعا. لكني وجدت بعد المرور على أكثر من تعريف، بأن التعريف الأمثل لها هو أن ٍٍ" السينوغرافيا هي فن تنسيق الفضاء ، والتحكم في شكله بغرض تحقيق أهداف العرض المسرحي [.....] الذي يشكل إطاره الذي تجري فيه الأحداث "(1). وهو تعريف واف وشامل ولا يترك الفرصة لأن تنفرد واحدة من مكونات العرض بالمعنى وإنما كل ما يحقق الصورة المسرحية بكاملها أمام المتفرج، وبعكسه ستصبح السينوغرافيا ناقصة بغياب واحدة من مكوناتها. وعليه فأن السينوغرافيا هي "الفن الذي يرسم التصورات من اجل إضفاء معنى على الفضاء"(2) وإضفاء المعنى في وصول الفكرة لن يترك مكونا من المكونات التي تحقق تشكيل الفضاء وتنسيقه إلا استخدمتها. إذن هي العملية الأهم في عمل المخرج على إعداد العرض المسرحي من اجل الوصول إلى التكامل الفني في العرض المسرحي.وبدأ من تحديد المخرج لـنوع المسرح  joiner، الذي يؤهل بالشروع في وضع الخطة الأرضية plan ، وما يتبعها من مناظر وضوء وألوان وحركة وإكسسوارات، وكل ما من شأنه توضيح المعالم النهائية المعبرة عن صورة الشكل والتجسيد في الفضاء المسرحي [ ساحة الأحداث ] المفترضة لحياة المسرحية، أو المكان الذي يتم اختياره في استخداماتها في الفضاءآت المتنوعة: [ المدينة ، الملاعب ، الساحات العامة ، العمارات ، السطوح ، المزارع ، السواحل البحرية أو النهرية أو البحيرات ، الشارع ، المقهى ، المعمل ، السجن ... وغيرها من الأماكن المهيأ للفعاليات وأنواعها ]. ولو أن البعض يرى بأن [السينوغرافيا] فن لا يتجاوز فهمه عن حدود الديكور[المنظر]، منطلقين. مبررين ذلك من أن المصطلح الوارد في الدوريات المسرحية الصادرة باللغة الانجليزية، والمستخدمة غالبا في معاهد المسرح في أمريكا وانكلترا. وان الاستخدام الأقرب للسينوغرافيا يكمن في المصطلح [ scene design ] و[ seenichut ] و[ setting ] و[ scenic setting ] وكلها تصب في [فن المنظر](3). إن هذا الرأي وكل ما دار في فلكه من الآراء، لا يمت بصله لمفهوم السينوغرافيا مدار البحث إذا ما عدنا إلى التعريف السابق [ فن تنسيق الفضاء ]. لسبب هام هو أن {فن المنظر} لا يبتعد عن تصميم وتنفيذ وتركيب المنظر [الديكور]، بعيدا عن خدمته بما يجعل منه مضمونا وشكلا واضحين ومتحركا باللون والممثل وبقية مستلزمات من موسيقى ومؤثرات وغيرها . والذي اثار انتباهي في هذه الآراء هو انه اتكأ على آراء تؤيد سيادة استخدام المصطلح الحرفي في تسيد [ فن المنظر] ، وليس المعنى الآخر الذي يعني كما أسلفنا [ فن تنسيق الفضاء ] وفي الفضاءآت على اختلافها. لكن وعلى الرغم من الاقتراب الكبير بين المعنيين القديم لـ [ السينوغرافيا ]، والمعنى الحالي، وكلاهما يبقى بعيدا عن مفهوم [ الزخرفة] بالمعنى الذي نعرفه، إلا أنها قريبة من معنى [ الديكور] أو انه يشكل جزأ من تكوينها. على أن نعرف من أن العديد من مصممي الديكور يؤكدون من أن السينوغرافيا ، والديكور ، فنان مستقلان عن بعضهما ، وكل واحد منهما فن قائم بذاته، كما أنهما لا يلغي احدهما الآخر ، والذي يمارسهما يلمس الفرق بوضوح ويتأكد من الاختلاف بينهما.  
     [ السينوغرافيا stenographic ] باعتبارها مصطلحا – في البدء كان يونانيا - و" معناه كل مايتعلق بالرسوم المتواجدة على خشبة المسرح "(4). ورغم الاعتقاد السائد بقوة في أن المصطلح اليوناني هذا لم يكن يقتصر على المناظر وحسب، وإنما تعداه إلى حركتها – المناظر - مع بقية العناصر المكونة لشكل العرض المسرحي كاملا، بدءا" من [ المضمون، وما يتبعه من حركة الممثل، ومستلزمات التنسيق لصورة الفضاء المسرحي. والذي ينطبق على سينوغرافيا المسرح ينطبق على غيره من سينوغرافيا الفضاءآت الأخرى، مارة الذكر. صحيح أنها جميعا ولدت من رحم [فن الزخرفة]، وإنها اشتقت من الكلمة اليونانية skenegraphein والتي تعني: تجميل واجهة المسرح skein بألواح مرسومة، عندما كان المسرح [ خيمة ] أو [ كوخا من الخشب ]، ثم [ مبنى ](5). و- أنا – اتفق تماما مع هذا المعنى لسبب غاية في الوضوح، وهو أن التقنيات الحديثة - المستخدمة الآن - لم تكن معروفة بعد في الفترة الرومانية وما تبعها من حقب، وإنما تدرجت في التطور لتصل إلى ما تعارفنا عليه اليوم بـ [ فن الديكور ]. ومن خلاله ما حصل من تطورات لتصل إلى فنون [ السينوغرافيا ] بمفهومها الحالي والذي نعرفه: [ فن تنسيق الفضاء ]، - حسب معماريو عصر النهضة أيضا – أو كما أطلقوا عليه [فن المنظورات](6). وقد برزت موجة في فرنسا، نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، نزعة أخرى ثار أصحابها على كل المعاني القديمة فأطلقوا على حركتهم تسمية [ انفتاح السينوغرافيا ] ، وتعني " تطبيق ما يتصل بخشبة المسرح في مجالات أخرى غير العرض المسرحي. فبشروا بـ[ سينوغرافيا المعارض ] و [ سينوغرافيا الأحداث الهامة ] و[ سينوغرافيا المناسبات والاحتفالات ]"(7). والتي تهدف إلى "عمارة الفضاء. وخلق إطار معين وتحديد فراغ ما، وإضفاء طابع معين على مكان ما، من اجل شخوص معينة وحكاية ما، وصياغة وجهة نظر أو أكثر"(Cool. إن استخدام كل الوسائل والمستلزمات الواجب تحضيرها بما يحقق الصورة المثلى لتنسيق الفضاء في شكله ومضمونه قبل التحضيرات التركيبية لها، كي يعرف العاملون – من مصممين ومنفذين وفريق عمل - كيف يتصرف كل منهم في الحيز المخصص لواجبه وإبداعه ضمن مكانه المخصص له في السينوغرافيا ضمن مكانها المقرر المسرح أو أي مكان آخر كان. على أن نعرف بأن أهم المتحركين في كامل الفضاء المنوي تجسيده هو [ الإنسان ] في الفضاءآت خارج المسرح، أما الإنسان المقرر في فضاء المسرح فهو [الممثل] الممتلك لأدواته والعارف بنوع العلاقة التي تجمعه مع كل واحدة من تلك المستلزمات ومنها العلاقة مع الممثلين، وما يحيط به من الكتل الديكورية ومصادر الضوء وما يرافقها من ألوان تحدد نوع تصرفه في فعله وحركته ، وبضمنها المتفرج الذي يتلقى الخطاب المسرحي يدخل ضمن سينوغرافيا المسرح . بل وكل ما " يشير إلى تنسيق كافة العناصر الداخلة في الإنتاج المسرحي ضمن فراغ محدد هو المسرح "(9) وقاعة العرض وخارجها ، فهي جميعا تدخل ضمن الجو العام الذي يتحكم بالمزاج العام لكل ما يدور في فلك الفنون الدرامية. فلا يقتصر فعل السينوغرافيا على ما فوق خشبة المسرح وحسب ، وإنما يتعداه إلى ما هو خارجها أيضا ، بل وفي الفضاءآت المتعددة ومهما كان حجم فضاءها سواء كان ذلك الفضاء ضيقا حينا أو متسعا في أحايين  أخرى . حيث ينشط في استثمارها [ السينوغراف ]: الرجل الخبير بالرسم والتصوير والنحت والعمارة والمنظور، الذي يبتكر ويصمم وينفذ ما يتاح له من أشكال معمارية فنية وكل أنواع الديكور اللازمة للمسرح"(10) وغيره من الفضاءآت التي مر ذكرها . فهو – السينوغراف – أو – المخرج - الذي يمارس عمله على إيجاد الخطاب المناسب – وفق رؤيته – كي يبثه إلى المتلقي ، من خلال تلك الفضاءآت، ومن خلاله يلعب دوره الذي يريد . وبالتالي السينوغرافيا : كأي فضاء حي دائم التبدل والتنوع ، تماما كما الحياة الواقعية الدائمة الحيوية المتغيرة في تحولاتها المتعددة والمنطقية للأشياء ، بل وحتى اللامنطقية منها أحيانا. والمسرح الذي يخضع للتغير وفق التطورات الحتمية في الحياة ، وفي حركة الممثل المتنقل دوما بين الأجزاء والمحرك الديناميكي لفضاءآت العرض. وهذا لا يمكن له أن يحصل إلا في لحظات ثبات الرؤية الفنية في وحدة فنية وأسلوبية للصورة المكتملة وما يليها من الصور في سياقات التطورات الديناميكية الدراماتيكية للحياة والمسرح ، تماما مثل حركة [المتواليات المنطقية] والمحكومة بقوانين التطور الاجتماعية. وهنا حيث تتدخل ضمن عمليات التكوين ، في الهدم والبناء ، قوانين : [ الكتلة ، والحركة ، والزمن ] مع الاستخدام الأمثل : [ للضوء ، والظلام ، والمؤثرات الصوتية والصامتة ، وما يلحق بها من الملابس على اختلافها ، وما يتخللها من الالون ]، في الفسحة التي تمنحها مكونات فراغ الفضاء من : [ الارتفاع والعمق والعرض ] . وهي المستلزمات التي تساعد الإنسان - الممثل في المسرح ] إلى امتلاك الأجواء في إتقان فعله المسرحي، في تأثيراته العاطفية والنفسية والجمالية، والتي تحقق الإيقاع – نبض الحياة الطبيعية أو المصنوعة، التي توصل الخطاب المطلوب في أحسن صوره. إن في فهم تلك العناصر المكونة للعرض – مجتمعة - كفيلة بخلق صورة السينوغرافيا التي نريد في الحياة أو على خشبة المسرح . وعليه فان الحركة في المسرح وتحريك كامل أجزاء الفضاء ، هي : [ صورة التشكيل الحركي ] أو ما نطلق عليه اصطلاحا [ الميزانسين في حالة الفعل ] . 
    والسينوغرافيا فن مركب – كما أسلفنا - ويمتلك التعددية في المعنى أيضا . فهو الجامع لكل الفنون وهو احد تعريفات المسرح الذي نطلق عليه مصطلحا [ أب الفنون ]. أو هو  نتيجة حتمية لجمع شمل كل الفنون في تركيبة واحدة نطلق عليها [ العرض المسرحي ] ، في وحدة أسلوبية وفنية بقيادة [ السينوغراف ] أو [ المخرج ] – الرجل الأهم في المسرح – فهو المفكر ، والقائد ، والمنظم لكامل العميلية في تنسيق الفضاء ، والذي لن يستغني عن جهود المحرك لكل أجزاء السينوغرافيا ، ومكوناتها [ ألممثل ] ، في وحدة متجانسة ، وكل لا يتجزأ . والذي ينطبق على سينوغرافيا المسرح وتنسيق فضاءه ، ينطبق كذلك على الفضاءآت الأخرى – مارة الذكر - المراد تحريكها في السينوغرافيا. وعليه فإن أي تداخل بين عمل [السينوغراف] - إذا ما أفردنا له عملا في العرض المسرحي – يتعارض تماما مع عمل [ المخرج ] في المسرح وربما في مجالات العمل المرئية كافة – لن نخوض في نقاشها لأنها خارج موضوع بحثنا- . وبالتالي فان من يقترح وضع السينوغرافيا المسرحية هو [المخرج] حتما وليس الـ[ سينوغراف ] ، وذلك بعد دراسة علمية مستفيضة لكامل احتياجات شكل المضمون المراد تجسيده . والتي تعني في الإخراج: [علم المرئيات والمسموعات] للخطاب المبني على دراسة وافية التي تلبي حاجات المتلقي الاجتماعية وما يتبعها من إجابات لتساؤلاته وفي البحث عما يخلصه من مخاوفه في الحياة المحفوفة بالكثير من المخاطر.  ولكي لا ينشأ الخلط بين عمل الاثنين [المخرج والسينوغراف ] لابد لنا من الاستغناء عن واحدة منها وبالتأكيد هي  وظيفة – السينوغراف – للتخلص من التداخل في عمل الاثنين معا في المسرح . على أن نتفق على أن في التفريق بينهما ، لا يعني الاستغناء الكامل عن دور[ السينوغراف] في بقية الفضاءآت التي مر ذكرها حيث ستحقق هناك نجاحها الأكيد غالبا ، لكنها لن تستغني في النهاية عن مكملات المشاهدة بالاستعانة ببقية الفنانين – كما في المسرح - بإضفاء اللون والضوء وحركة الناس – من غير الممثلين - في الفضاءآت الأخرى البعيدة عن المسرح.معزولة عن وظيفة المخرج في المسرح، إذا ماتم الاتفاق عليها وممارستها – كدور معزول – له خصوصيته في صناعة العرض، ستعزز النقاش. 
     تتنوع السينوغرافيا في المسرح بتنوع الفضاء المسرحي الذي تقدم فيه العروض المسرحية من شكل الفضاء ونوعه ، فهناك الفضاءات المستوية والعلبة والمسارح المقوسة والدائرية ، وكذلك سعة الفضاء وضيقه ، كأن يكون ساحة عامة أو معمل أو مقهى .. وغيرها . كما في تجارب بروك واستخداماته لفضاءات بعيدة كل البعد عن مسرح العلبة الايطالية ولنا في تقديمه لأحد عروضه على ساحل البحر مثلا في مشاركته ألمعروفه في مهرجان شيراز في إيران . أو في تجربة ماكس راينهاردت ، حين قدم مسرحية ( حلم منتصف ليلة صيف - شكسبير ) التي قدمها على مسرح دوار. والبطل في اختيار الفضاء هو المخرج حين يقترح المكان الذي يعتقده مناسبا للمضمون الذي يشتغل عليه ، ويقوم بتدريباته فيه. وهي في كل الأحوال ليست من اختيارات الفنان التشكيلي أو المعماري أو [ السينوغراف ]. ولا نستبعد استعانة المخرج بهم لأغراض تحقيق الانسجام harmony في المنظور التشكيلي، وليس ابعد من ذلك. على أن نعرف بان السينوغرافيا لا تقدم أكثر مما يشاهده المتفرج من تلقاء نفسه حين تستهوية لحظة إبداع تتفق مع استقباله والتي تثير دهشته، للجزء المرئي من كامل السينوغرافيا وليس كلها – أحيانا – كما في الكاميرا التي تلتقط الجزء الهام من وجهة نظر الفوتوغرافي -. إذن [المثير] هو الذي يلعب الدور الهام في المشاهدة، سواء في الفضاء الواسع أو الضيق على حد سواء، وقد لا يثيره شيئا من ذلك الفضاء ، وهو ما نطلق عليه بـ [ موت السينوغرافيا ] أو فشلها. والسينوغرافيا المبدعة التي تحقق الدهشة، تأخذ بنظر الاعتبار ماتم عمله من قبل خوفا من السقوط في التكرار أو التقليد . والسينوغرافيا واحدة من ثلاث وسائل للرسم في البناء المعماري – مسرحي وغيره – وهي:
1) التخطيط الأفقي.
2) التخطيط العمودي.
3) السينوغرافيا، في بقية مكوناتها.
وهي هنا " تصوير لوجه من وجوه المبنى، والواجهات المتحركة التي تسمح بالحصول على تصور كامل عن مظهر المبنى النهائي عن طريق الحيل البصرية "(11). والحيل البصرية هنا هي ما يضفي على الواجهة من ضوء ولون ، وعليه فهي تأكيد كبير على إن السينوغرافيا هي ليست [ المنظر ] وحسب. والاختلاف في وجهات النظر حول مفهومها إنما تؤكده الممارسة لوحدها ، وهي الكفيلة التي تحسم الخلاف وفقا لتجربة كل فنان . فما جدوى من تأسيس الشكل المنظري المتكامل في ظلمة دامسة ، خالية من حياة الممثل التي تحركها؟ ومن بقية المستلزمان التي تحقق فيها المشاهدة الفنية ذات المتعة الحسية العالية. 
     وفي المحصلة نستنج بأن [ السينوغرافيا ] بالنسبة إلى المعماري: هي تصور المظهر التشكيلي الخاص بالحيز الذي يقام عليه العرض ساحة أم ملعبا أم واجهة لبناية ..وغيرها . تماما مثل [ خشبة المسرح حين يعمل على تنسيق فضاءها فنيا [ المخرج]. فـ [ السينوغراف ]: هو مقنن المهمات والمواد التقنية التي يحويها المكان. و [ السينوغرافيا ]: يجب أن تستوعب مكانا فيه: حكاية، وشخوصا، وصياغة. أو باختصار شديد هي: [ إضفاء معنى للفضاء الذي نختاره للعمل ]. وهي منذ المخرج الأول في المسرح الحديث [ ساكس ما يننغتن ] في[ ألمانيا - برلين في 1 مايو 1874 ] الذي دعى إلى" إخضاع المناظر والإضاءة والملابس والماكياج والملحقات الأخرى إلى جانب التمثيل والتخطيط الكامل ، وكلها تجتمع في إطار التأثير العام "(11). 

المصادر 
1. مارسيل فريد نون : فن السينوغرافيا ومجالات الخبرة ، كراس [ السينوغرافيا اليوم ]، ترجمة: إبراهيم حمادة وآخرون، وزارة الثقافة، منشورات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 1993 القاهرة ، ج.م.ع. ص8.
2. نفس المصدر السابق، ص8.
3. سامي عبد الحميد: السينوغرافيا وفن المسرح، بحث قدم إلى مهرجان أيام عمان المسرحية، الدورة الثالثة من 27/3/1996 لغاية 8/4/1996.
4. زينو بيوس: السينوغرافيا، ملحق الثقافة الأجنبية، إصدارات وزارة الثقافة والإعلام، دائرة الشؤون الثقافية للطباعة والنشر، بغداد 1980، ص128.
5. مارسيل فريد فون: ص13 .
6. الياس أنطوان الياس: {القاموس العصري} المطبعة العصرية، ط1، ج.ع.م، 1956.
7. مارسيل فريد فون: ص8 .
8. مارسيل فريد فون: ص8 .
9. لوي دي جانيتي : كتاب ( فهم السينما ) ترجمة : جعفر علي ، دار الرشيد للنشر ، بغداد 1981 ، ص75 .
10. مارسيل فريد فون: ص8. 
11. مارسيل فريد فون: ص13.

الاثنين، 1 نوفمبر 2010

خالدة سعيد في كتابها "الحركة المسرحية في لبنان : 1960 - 1975" . مرجع أول يؤرخ نقدياً للمسرح الحديث ويحتفي بالحقبة "الذهبية"

مجلة الفنون المسرحية

خالدة سعيد في كتابها "الحركة المسرحية في لبنان : 1960 - 1975" . مرجع أول يؤرخ نقدياً للمسرح الحديث ويحتفي بالحقبة "الذهبية" 

عبده وازن

لئن شهدت بيروت منذ مطلع الستيّنات حركة مسرحية طليعيّة كانت السبّاقة في ترسيخ الهويّة الاختبارية للمسرح العربي الحديث فأن هذه الحركة لم يواكبها تيار نقدي في حجمها يمهّد لها الطريق نظرياً ويمعن في درسها وتحليل ظواهرها والتحولات التي أحدثتها. ظلّت الحركة المسرحية منذ انطلاقتها تفتقر الى المرافقة النقدية العلمية والمنهجية والى النقاد الأكاديميين الذين كان من المفترض أن يؤرّخوها علمياً ويصنّفوا الاتجاهات التي برزت خلالها ويوثقوا الأعمال التي قدّمت طوال سنوات. فالنقد اقتصر على الصحافة وعلى الصحافيين الذين مهما نجحوا في أداء مهمتهم يظلّ نقدهم نقداً صحافياً أي عاجلاً وانطباعياً وقصير النفس، نظراً الى طبيعة الصنيع الصحافي الذي يجدر به أن "يغطّي" الأعمال أكثر ممّا عليه أن يحلّلها بهدوء ورويّة. غير أنّ وصفاً مماثلاً للعمل الصحافي لا يقلّل من أهمّيته أبداً ولا سيّما في لبنان الذي شهدت صحافته بدءاً من الستينات ازدهاراً لم تعرفه أي صحافة عربية أخرى. وأدّى النقاد - الصحافيون واجبهم كاملاً تجاه الحركة المسرحية ونجحوا في ابداء آرائهم وفي توجيه الجمهور توجيهاً سليماً وفي صنع ذائقته. إلا أنّ المقالات الصحافية ما كانت لتكفي وحدها في تأسيس مرجع علميّ للحركة المسرحية. فالمقال هو وليد اللحظة والأثرِ الذي يتركه العرض في وجدان الصحافيّ تماماً مثلما أنّ العرض المسرحيّ نفسه وليد تلك اللحظات التي يُقدّم فيها للجمهور. ظلّ النقد المسرحي اذن في لبنان مقتصراً على الصحافة وعلى ذائقة الصحافيين وردود فعلهم وعلى ثقافاتهم الخاصّة ونظراتهم، ولم تعرف الحركة المسرحية إلا كتباً قليلة جداً سعت الى قراءتها ولكن قراءة جانبية ومنها مثلاً كتاب غسان سلامة شبه اليتيم عن "المسرح السياسي" وهو كان عبارة عن أطروحة جامعية.

كان لا بدّ إذن من أن تأخذ الناقدة خالدة سعيد على عاتقها مهمّة تأليف أول مرجع علمي للحركة المسرحية اللبنانية. وكان لا بد أن يملأ كتابها "الحركة المسرحية في لبنان: تجارب وأبعاد: 1960 - 1975" الفراغ الذي عرفه النقد المسرحي العلميّ والحركة المسرحية على السواء. ولا تتجلّى فرادة هذا الكتاب الضخم في كونه المرجع الأوّل للمسرح اللبناني فحسب وإنّما في شموليته وعمقه أوّلاً وفي منهجيته العلمية الصارمة تالياً وفي نزاهته وتجرّده وترفعه عن التناقضات التي نشبت في عالم المسرح اللبناني ولا سيّما بعد الحرب. ولا تخفي الناقدة شغفها الكبير ليس فقط بالحركة المسرحية اللبنانية الطليعية التي رافقتها عن قرب وإنّما بمدينة بيروت التي كانت في السنوات الستين والسبعين مختبراً حقيقياً للثقافة والأدب والفنّ عموماً. وعجزت الناقدة عن إطفاء جذوة الحنين المستعرة في قلبها ووجدانها الى تلك المرحلة الفريدة كيلا أقول الذهبية التي شهدتها بيروت وولّت كما لو أنّها حلم باهر أحرقته نار الحرب الأهلية.

والصدفة الجميلة تجلّت في صدور كتاب خالدة سعيد عشية إعلان بيروت عاصمة للثقافة العربية فبدا الكتاب وكأنّه تتويج لهذه العاصمة ولتاريخها الثقافي ولمرحلة الستينات "المرحلة الذهبية" التي شهدت كما تعبّر الناقدة "لحظات حيّة وخلاّقة". إلا أنّ صدفة أخرى ولكن أليمة رافقت اعلان بيروت عاصمة ثقافية وكذلك صدور الكتاب تجلّت في إغلاق "مسرح بيروت" الذي كان موئلاً للحركة المسرحية الطليعية. وبين تاريخ المسرح اللبناني كما كتبته خالدة سعيد وواقعه الراهن هوّة عميقة هي الهوّة التي حفرتها الحرب وما تلاها من أحوال سلمية لا تقلّ قهراً وبشاعة عن الحرب نفسها.

أدركت خالدة سعيد في تأريخها الحركة المسرحية اللبنانية وفي تحليل ظواهرها وتصنيفها أنّ من أولى مهمّاتها أن تبني مرجعاً أو ما يُسمّى نواة تنطلق منهما وتستند اليهما في قراءتها النقدية المنهجيّة. فهي وإن عاصرت الخطوات الأولى والمحاولات والتجارب وشاهدت عروضاً كثيرة في تلك الآونة تحتاج الى مرجع فعليّ، شبه تاريخي وشبه وثائقي. وقد اكتشفت كما تعبّر، أنّ الصورة التي تمجّدها تفلت ملامحها منها ولم يكن من السهل عليها أن تمنحها "مقوّمات حضور موضوعي متكامل". فعالم المسرح شاسع ومتعدد في مداخله ومخارجه وتصعب الإحاطة به من دون الارتكاز الى محطاته التاريخية وبعض وثائقه. وان سعت الناقدة الى وضع كتاب شامل يغطّي الحقبة تلك فهي لم تدّعِ أنّ كتابها ذو طابع موسوعي. ولم تدّعِ كذلك أن عملها "كامل وشامل" بل هو في نظرها يضيء ركائز الحقبة المسرحية ويؤسس مرجعاً أوّلياً حولها. وصفة "الأولية" هنا لن تعني البديهية أو المحاولة الناقصة مقدار ما تعني التمهيد النقديّ الذي قد يُغني بذاته عن سواه ويفتح في الحين عينه الطريق أمام البحث المستفيض والتوثيق والقراءة المختلفة. ويجب الانتباه الى أنّ الناقدة أعادت بنفسها تأريخ المسرح لا لتقف عنده بل لتنطلق منه. فالحركة المسرحية غير مدوّنة وغير مدروسة كما تشير والمصادر والمراجع نادرة جداً. وكان عليها أن تعتمد مصدرين اثنين: عالم المسرح بأهله مبدعين وعاملين فيه وعالم المسرح بجمهوره والمتلقين على اختلاف مشاربهم.

وهكذا كان لا بدّ لها أن ترجع أوّلاً الى "أفكار" المسرحيين والى منطلقاتهم النظرية وسواها وهي ظلّت في معظمها "طيّ الصدور" ووقفاً على "حيّز الذاكرة". فالمسرحيون اللبنانيون ظلّت أعمالهم عبارة عن عروض قُدّمت وانطوت بعد تقديمها، ولم يسعوا الى كتابة التجارب التي خاضوها والأفكار التي تبنّوها و"بشّروا" بها ولم يعمدوا الى تدوين نظرياتهم مثلما فعل بعض الروّاد في العالم. ويمكن استثناء قلّة قليلة جداً ومن ضمنها مثلاً منير أبو دبس الذي حاول على غرار ستانيسلافسكي أن يدوّن آراءه في الممثل وفنّه. غير أنّ بعض الأحاديث والشهادات التي أدلى بها المسرحيون الى الصحافة أو شاركوا عبرها في "الملفات" الصحافية حملت بعض وجهاتهم وآرائهم وعبّرت عن هويّاتهم المسرحية وقضاياهم. وفيما كان من المنتظر أن تنضج الخبرات في نهايات السبعينات حلّت الحرب الأهليّة فأحرقت ودمّرت وأوقعت الخراب في الذاكرة والواقع.

تعترف خالدة سعيد إذاً أنّها انطلقت من "الأفكار" و"الذكريات" منبثقة من منابعها الأولى أي كما سردها أو أعاد سردها المسرحيون أنفسهم وبعض الذين رافقوهم في أعمالهم. وإذ تجاهر أنّ المسرحيين هؤلاء فتحوا "خزائن الذكريات" وتكلّموا فهي سرعان ما توضح منهجها في محاورتهم والطريقة التي اعتمدتها للحصول على الوقائع والمفاهيم. فالفنانون حين يتكلّمون عن أنفسهم قد يقعون في المبالغة وفي مدح الذات مغمطين الآخرين حقهم. وهذا ما حصل حين عمد أحد المسرحيين اللبنانيين الى تأريخ المسرح "مسرحياً" أو مشهدياً فقدّم نفسه على الآخرين وبدا كأنّه هو الذي أسس المسرح اللبناني ورسّخ معالمه. عرفت إذاً خالدة سعيد ماذا تأخذ من الحوارات وماذا تُسقط. وهي أصلاً لم تثبت الحوارات كاملة ولم تعتمد صيغة السؤال والجواب مقدار ما قارنت بين الأحاديث والشهادات وما كتب في الصحافة حينذاك. وكانت موضوعية في محاورتها المسرحيين كي تتمكّن من رصد معالم الحركة المسرحية. فتناولت نواحي عدّة من تجاربهم: بداياتهم وبيئاتهم، مراحل المعرفة المسرحية، مذاهب الإخراج والتقنيات، علاقتهم بالنصوص، علاقتهم بمحيطهم ورؤيتهم الخاصّة الى التيارات السياسية والاجتماعية، علاقتهم كمسرحيين بالحياة الثقافية ككلّ شعراً وفناً... وانطلاقاً من ثمانين حديثاً مع ثمانية وخمسين مسرحياً ومعنياً بالمسرح استطاعت الناقدة أن تستعرض الحركة المسرحية تاريخياً وأن تحلّل معالمها وظواهرها وأن تصنّف اتجاهاتها وتبحث في مبادئها ومنطلقاتها النظرية والعملية. وقد توفّرت لها مئتان وثمانون ساعة مسجّلة من الأحاديث والحوارات فضلاً عن الرسائل التي تلقتها. وحصلت كذلك على بعض النصوص المسرحية المؤلّفة أو المقتبسة أو المعدّة وكانت أشبه بالمرتكزات المهمّة ولا سيّما في تناولها الكتابة الدرامية واللغة والاقتباس.

ورجعت الناقدة الى مصدر ثان هو كما سمّته "جهة المشاهد أو المتلقي" وحدّدته في المقالات النقدية والأخبار والتعليقات التي دوّنتها الصحافة في متابعتها الأعمال والعروض. وقد أفادت من هذه المادة "الحيّة" التي كانت تشهد للحين على المسرحيات والتجارب وغدت بين يديها مرجعاً يضيء بعض الزوايا ووثيقة تؤلّف سجلاً للتيارات الفنّية والنظرات النقدية. وشهدت تلك المقالات على اختلافها ووضاعتها على التطوّر الذي حقّقه النقد المسرحي في مقاربته للأعمال منتقلاً من مهمّة أولى وعابرة كالمدح والوصف والتعليق والتشجيع الى مهمّة أعمق كالتحليل والتوقف عند الأهداف والأساليب والتقنيات.... وأثبتت الناقدة ما استقت من شواهد من النقد والتعليقات في نصّها ولم تكتفِ بتلخيصها كي تكون شواهد فعلية على لغة النقد المسرحي الذي رافق الحركة طوال تلك السنوات.

كتاب لا يختصر

يصعب حقاً اختصار كتاب خالدة سعيد في صفحاته التي تربو على السبع مئة وقد تحتاج بعض فصوله الى قراءة خاصّة نظراً الى شموليّتها. فالناقدة لم تكتفِ بالتأريخ للسنوات الخمس عشرة التي شهدت ولادة المسرح اللبناني الحديث وتحوّلاته الرئيسية بل توقّفت نقدياً أمام بعض المحطّات والظواهر والنظريات. وقدّمت للمرحلة "الذهبية" تلك بمراجعة بانورامية للمراحل السابقة التي مهّدت لها مذكّرة أنّ ولادة المسرح العربي في صيغته "الغربية" تمّت في لبنان على يد الرائد مارون نقّاش 1817 - 1855. ثم تطرّقت لتجربته الطريفة ولما سمّي هجرة المسرحيين اللبنانيين الى مصر ومن أبرزهم جورج أبيض 1880 - 1959. وترسيخاً للتجربة التاريخية توقّفت عند محمد شامل وفيليب عقيقي وسواهما من المسرحيين الذين سبقوا الانطلاقة الحديثة الأولى وقد حققها لقاء منير أبو دبس وأنطوان ملتقى عام 1909 حول مسرحية "ماكبث" ثم رسختها فرقة المسرح الحديث وكانت أسستها مهرجانات بعلبك الدولية في العام 1960. وتوضح الناقدة أن كتابها غير معنيّ بالتأريخ للمسرح في النصف الأوّل من القرن الحالي لكنّ العودة الى الحياة المسرحية التي سبقت "وثبة الستينات" تجيب على أسئلة كثيرة مطروحة.

ترى خالدة سعيد أنّ المسرح اللبناني والعربي عموماً ولد في حقل الأفكار وليس في ميدان الطقوس والاحتفالات الشعبية حتى وإن تأثر بعض المسرحيين بجوّ الطقوس والاحتفالات. والمسرح "المفكّر" هو ابن المدينة الجديدة وجزء من فضائها الحديث، وعرف المسرح اللبناني ذروتين "في خضمّ حركتين واسعتين" حملت الأولى عنواناً هو "النهضة" والثانية عنواناً آخر هو "الحداثة". كان المسرح إذاً في صميم "حركة الأفكار" منذ عصر النهضة حتى عصر الحداثة.

وترصد المؤلّفة المعالم الثقافية التي شهدتها بيروت واحتضنت من خلالها الإنطلاقة المسرحية ومنها: حركة الفنّ التشكيلي وما رافقها من سجال، حركة مجلة "شعر" التي استقطبت بدايات الحداثة الشعرية العربية وكذلك الموسيقى والصحافة وسواهما... وكانت الأوساط المسرحية على علاقة عميقة بهذه الحركات وقد أسهم بعض الرسامين والشعراء في إحياء النشاط المسرحي. وقد طمح المسرحيون الى وضع تصوّرات جديدة والى ترتيب القيم والعلاقات والى اعادة النظر في المنطلقات الأولى والتقنيات والتلقّي. وقد أفاد المسرح اللبناني كثيراً من المناخ السياسي والثقافي في لبنان. فالحياة الثقافية كانت تتمتع "بهامش واسع من الحرية" وهي طبعاً حرية التعبير والاعتراض والتظاهر والانتماء. وكثيراً ما تميّز "الهامش" الثقافي بالتعدد والتنوع والاختلاف. أمّا أبرز ما ميّز تلك المرحلة فهو انفتاحها على اتجاهات المسرح العالمي الحديث. "فما كان يجري في العالم كان مرئياً هنا وله حضوره ولم تكن النوافذ مغلقةً. واستطاع المسرح فعلاً أن يستوعب "الحياة المدينية التي كانت تتمشهد وتتظاهر". وكان على "المظاهرة" أن تصعد الى الخشبة وعلى المسرحية أن تنزل الى الشارع. وفي خلاصة الكلام أنّ المسرحيين الجدد رأوا في المسرح "لغة مؤهلة أو وسطاً فكرياً مؤهلاً لمناقشة الأفكار والاضطلاع بدور فلسفي أو دور سياسي...".

لم تدعْ خالدة سعيد قضية أو تجربة أو فرقة أو نظرية عرفتها السنوات الخمس عشرة إلا وتطرّقت اليها. وتطرّقت كذلك الى المخرجين ومناهجهم وأساليبهم والى الممثلين وتقنياتهم والى معظم العاملين في الحقل المسرحي كالسينوغرافيا وسواها. وإن لم يهدف كتابها الضخم الى التأريخ الصرف للحركة المسرحية فهو وضع تاريخها من دون قصد ووفق منهج علميّ ولكن خالٍ من الجفاف الأكاديمي. وانطلقت من لجنة المسرح العربي التي أسستها لجنة مهرجانات بعلبك وراحت تتعقب حركة المسرح مرحلة تلو مرحلة، وحلقة تلو حلقة.

وفي رصدها معالم "الانطلاق والبحث" توقفت أمام ظاهرة الممثلين معتبرة إياهم "قاعدة الحركة المسرحية" وتوقفت طويلاً كذلك أمام "الكتابة المسرحية" من خلال كاتبين هما: جورج شحادة وعصام محفوظ. ولم تهمل طبعاً "المخرجين المؤلّفين".

وسعياً منها لترسيخ دراستها علمياً ومنهجياً ولقراءة الحركة المسرحية اللبنانية على ضوء التجارب العالمية المعاصرة خصّصت الناقدة فصلاً كاملاً عنوانه "في آفاق البحث المسرحي" تناولت عبره جذور الثورة المسرحية الحديثة في العالم وروّادها ومواقع البحث المسرحيّ والعلاقة بين العرض والجمهور. وقد نمّ هذا الفصل المختلف عن عمق ثقافتها المسرحية وعن إلمامها الشامل بالحركة المسرحية العالمية وبالمناهج النقدية المسرحية الحديثة والمفاهيم الجديدة. وهذا الفصل يحتاج فعلاً الى مراجعة خاصة ومن الممكن أن يفيد منه القرّاء والمسرحيون والنقاد على السواء.

وإن كان من الصعب جداً اختصار كتاب خالدة سعيد شبه "الموسوعي" حتى وإن رفضت هي هذه الصفة فلأنّه يختصر مرحلة رئيسة من تاريخ المسرح اللبناني الحديث ولأنّه حقاً المرجع الأوّل الذي ملأ الفراغ الذي تركه النقد المسرحيّ تاريخياً وتوثيقياً وتحليلياً طبعاً. وقد بذلت الناقدة جهداً كبيراً لتضع هذا الكتاب الشامل والعميق وهو جهد أفراد وليس جهد فرد. وجمعت الى منهجيتها العلمية ودقتها في البحث سلاسة في الأسلوب واللغة. فإذا النصّ النقديّ يقدّم نفسه الى القارىء بسهولة لا تخلو من العمق. وعبر كتابها أسست خالدة سعيد فعلاً لنقد مسرحي علميّ تاريخي وتحليلي وظّفت عبره رؤيتها النقدية الثاقبة وثقافتها ومنهجها وخبرتها الطويلة فلي حقل النقد الأدبيّ والبنيويّ. وإن أسدت خدمة كبيرة للمسرح اللبناني وللمسرحيين والجمهور كذلك في رسمها معالم التجربة المسرحية الحديثة فهي أسدت خدمة أيضاً للنقد المسرحي الذي وجد - وسيجد دوماً - في هذا الكتاب مرجعاً لا بدّ من العودة الدائمة اليه. وربّما لم تؤسس الناقدة فقط بل أسست وانطلقت في مشروعها النقديّ من غير أن تهمل أو تتجاهل ما كتب قبلها سواء في الصحف أم في المنابر الأخرى.

وإذا شاءت خالدة سعيد الابتعاد عن مسرح الحرب وما بعدها مكتفية بحدود التأسيس والتجربة الحديثة فهي تركت المجال مفتوحاً لمن يشاء من النقاد أو الباحثين أن يكمل ما بدأته هي وأنجزته. ترى مَن سيجرؤ على اقتحام مرحلة الحرب في تناقضاتها وفي الأسئلة المريرة التي طرحتها؟ فالحرب التي أصابت "المشروع" الثقافي اللبناني لم ينج من آثارها المسرحيون أنفسهم. وقد خان بعضهم قضاياهم ومواقفهم وتراجع بعضهم عن طليعيّتهم ليقعوا في "شرك" السطحية والإدّعاء والافتعال.

* صدر الكتاب عن لجنة المسرح العربي - مهرجانات بعلبك الدولية بيروت 1999، في 718 صفحة من الحجم الكبير وضمّ مجموعة من الصور والجداول.
-------------------------------------------------------------
المصدر : جريدة الحياة - 31 مارس 1999 / 00:00



الجمعة، 22 أكتوبر 2010

الأضاءة واللون في المسرح

مجلة الفنون المسرحية

الأضاءة واللون في المسرح 

 محسن النصار

بدون الضوء تنعدم الرؤية تماما في الوجود أذ لايمكن رؤية الألوان وتميزها بمعزل عن الضوء ,وهذا يؤكد وجود علاقة نسيجية بين الضوء واللون لايمكن فصلها او تجزئتها من الناحية العلمية والفيزياوية ويمكن القول ان اللون هو الضوء ,والضوء هو اللون اما عملية دراستهما وتحليلهما وفيجب فصلهما عن بعضهما بطريقة تمرير شعاع الضوء على زجاجة تسمى الموشور الزجاجي فيتحلل الشعاع الضوء الى الألوان التالية وحسب تسلسلها وطول الموجة الخاصة بألون كمايلي (بنفسجي , نيلي ,أزرق ,اخضر ,أصفر ,برتقالي , أحمر ) وهنالك فرق بين الأنارة والأضاءة ,فالأنارة يقصد بها أزالة الضلام من مكان ما مثل نور الشمس او القمر أو نور الشوارع واما الأضاءة هي استخدام ضوء خاص على شكل معين وذلك بأستخدام الضوء الصناعي ,والمعروف ان الأضاءة المسرحية تبدا عتدما تنخفض أنارة الصالة قبل بدأ العرض المسرحي , وعندما يبدأ المتلقي بالأحساس بالجو الدرامي للعرض المسرحي . سر الأنسان رؤية الألوان من حوله واصبحت وسيلة لتبادل الأفكار مع غيره وهي محملة بالدلالات الكثيرة ,للون الأضاءة صفات وقيم ودرجات وكذلك وزن وما يخلفه من احساس عند المتلقي ,وأن ألوان الأضاءة المسرحية الأساسية هي (الأحمر , الأزرق ,الأخضر )وخلط ألوان الأضاءة يعطي القيم التالية أحمر + أزرق = أرجواني ,وأحمر + أخضر = اصفر وأزرق + اخضر = ازرق مائل للخضرة ,وعندما نخلط الألوان الأساسية للأضاءة الأحمر+ الأزرق +الأخضر فانها تعطي اللون الأبيض .
تعتبر الإضاءة عنصراً مكملأ لفنيات العرض المسرحى، ويغتنى العرض بوجودها الفاعل، ويؤثر على نجاح المشهد، ويضفى جاذبية خاصة على الصورة المسرحية التي يراها المتفرج، ولا تكتسب الإضاءة أهميتها من تعدد مصادرها ومفاتيحها أو من تطور تقنياتها بل من التعامل الواعي والمدروس مع كل مفتاح حتى لو اكتفى العرض كاملأ بثلاث نقلات أو أكثر أوأقل.

        وهناك فرق بين الإنارة والإضاءة كالفرق بين الواقع والفن، فالإنارة تجعل من رؤية المتفرج للمشهد أمرأ ممكنأ بينما الإضاءة المسرحية هى لغة فنية تصاغ بشكل مدروس ومحدد لإضفاء دلالة أو حالة نفسية محددة ومقصودة بحد ذاتها.
        ومع بدء التعامل الفني في تاريخ المسرح الحديث مع الإضاءة تحولت إلى عملية مشتركة بين الفن والتكنيك (الحرفية) فلا هي فن خالص ولا علم هندسى كهربي خالص، لذلك لا تكفي أحياناً الرؤية الفنية للمخرج إذا لم يرافقها خبرة حرفية علمية لها.

الوظائف الفنية للإضاءة:
        الإضاءة لغة بصرية تهدف إلى خلق جو معين يعيش فيه الممثلون والمتفرجون حالة مسرحية ذات معنى، وذلك يتأتى من خلال تحقيقها لوظائفها العديدة والحيوية والتى نجملها في النقاط التالية     : 
 الرؤية
وهي أبسط وظيفة للإضاءة، لكنها جاءت- تاريخيأ- في المقدمة، وهى إضفاء الرؤية الواضحة والكافية للمتفرج، وتشمل إبراز أجساد الممثلين وتعبيرات وجوههم وفاعلياتهم الحركية، وإنارة الخشبة وما عليها من خلفيات أو ديكورات أو أكسسوارات والرؤية غير الواضحة تعقد عملية التلقى وتجعل المتفرج فى إرهاق شديد. 
التأكيد والتركيز 

        لأن العالم الفنى على الخشبة عالم مصنوع يتحكم المخرج بكل جزئياته ، فقد ينتقي تفصيلأ صغيرأ على الخشبة أو جزءأ محدودأ منها لتدور فيه الأحداث، ويلغي باقي الأجزاء فى أحد المشاهد، أو قد يقسم الخشبة إلى قسمين أو ثلاثة أو أكثر وكل قسم يعبر عن منظر أو مكان محدد للأحداث ويتم إلغاء المنظر الذي لا تدور الأحداث حوله الآن، وذلك يتم عبر تعتيم الإضاءة ويؤكد المخرج عبر الإضاءة على وجه ممثل أو أحد أعضاءه أو على أكسسوار أو قطعة ديكورية بتسليط ضوءآ أكبر فوقه ويترك باقي الأجزاء فى الظل وهكذا... وهذه تعتبر من مهمات الإضاءة الرئيسة التى تنقل المتفرج إلى عوالم وأفكار عدم وهم أمام نفس المنظر.
 التكوين الفني: 
        فللإضاءة جماليات لا تحصى من خلال إستخدامها للون وتمازجه والشكل الهندسى للبقعة الضوئية وتفاعلها مع شكل آخر، والتقنيات الحديثة التي تغلبت على إمكانات المسرح المحدودة، فمن الممكن الآن إيجاد المطر والسحاب والحريق وغيرها من خلال الإضاءة، كما أنها تقوم بهذه المهمة من خلال التأكيد على جماليات أخرى كالحركة و التكوينات البصرية الأخرى. 
 خلق الجو النفسي العام  
        الإضاءة أول ما يُشاهد على خشبة المسرح وهي أول عنصر يعطي إيحاء ما للمتفرج فمن الممكن التعبير عن القلق، الخوف، الاضطراب أو الفرح والسعادة، أو الحزن و الأسى، وذلك من خلال اللون ودرجة الإنارة وتوزيع البقع على الخشبة وهى بهذا تساعد باقي العناصر وتكمل دورها في تكريس هذا الجو الدرامي مع الممثل والمؤثرات.. الخ. 
 الإيهام بالطبيعة
        الإضاءة تقرب الواقع قدر الإمكان للمتفرج، فقد تظهر الشمس أو القمر أو الثلج أو الفضاء إذا دعت الضرورة. 
الدلالة على الزمان والمكان
وهي تعبر بوضوح عن زمن الأحداث (ليل، نهار، فصل الشتاء، فصل الصيف.. الخ) والمكان (قصر، ملعب، مدينة)
ووظائف الأضاءة الملونة على المسرح فأنهاتساهم في ايقاظ المشاعر وتحريك العواطف ,وشد الأنتباه ,وكذلك أبراز الحجم والمساحة ,وتأكيد الحدود الخارجية ,وخلق الأيهام بالحركة

المصادر

1- فرانك م.هوايتنج "كتاب  المدخل الي الفنون المسرحية "القاهرة، دار المعرفة للنشر،1970 .

2-    شكري عبد الوهاب:كتاب "الإضاءة المسرحية " الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 .

الاثنين، 4 أكتوبر 2010

المسرح الإفريقي بين الأصالة والمعاصرة

مجلة الفنون المسرحية


المسرح الإفريقي بين الأصالة والمعاصرة

بشير خلف

" ما يميز الكاتب المسرحي هو امتلاء روحه برسالة إنسانية
سامية ينشرها بين الناس من أجل الارتقاء بحياتهم،وتحريرهم
من كل عوامل القهر والاستغلال وانتهاك الكرامات. "

المَسْرَح شكل من أشكال الفنون يُـؤدّى أمام المشاهدين، يشمل كل أنواع التسلية من السيرك إلى المسرحيات. والتعريف التقليدي للمسرح هو أنه شكل من أشكال الفن يترجم فيه الممثلون نصًّا مكتوبًا إلى عرض تمثيلي على خشبة المسرح. كما يقوم الممثلون، عادة بمساعدة المخرج على ترجمة مواقف النص وشخصياته التي ابتدعها المؤلف إلى تشخيص، وحركات، ومواقف حياتية تشبه ما تكون عليه في الواقع على خشبة المسرح.

عادة ما يكون الحدث المسرحي الناجح عملاً مشوقًا لكل من المشاهد، والممثل والفني، بغض النظر عن مكان عرضه: مسرحًا محترفًا، أو مسرحًا مدرسيًّا، أو مجرد مساحة أقيمت مؤقتا لهذا الغرض. وتندرج العروض من التسلية الخفيفة، مثل العروض الموسيقية والكوميديا، إلى تلك التي تبحث في مواضيع سياسية وفلسفية جادة.

وليس المسرح كالمسرحية بالرغم من أن الكلمتين تُستخدمان عادة وكأنهما تحملان المعنى نفسه، ذلك لأن المسرحية تشير إلى الجانب الأدبي من العرض.. أي النص ذاته. وعلاقة المسرح بالمسرحية علاقة العام بالخاص، أو بمعنى آخر: المسرح شكل فني عام، أحد موضوعاته أو عناصره النص الأدبي (المسرحية). ويعتقد بعض النقاد أن النص لا يصبح مسرحية إلا بعد تقديمه على خشبة المسرح وأمام الجمهور. ويقول آخرون: إن النص ليس سوى مخطط يستخدمه المخرج والفنانون الآخرون كأساس للعرض.[1]

والعرض المسرحي من أكثر الفنون تعقيدًا؛ لأنه يتطلب العديد من الفنانين لأدائه. ومن بين هؤلاء المتخصصين: مؤلف النص المسرحي، والممثلون، والمخرج ومصممو الديكور، والأزياء والإضاءة، ومختلف أنواع الفنيين. كما تتطلب بعض العروض الأخرى مصممي رقصات، وموسيقيين وملحنين. ويُسمى المسرح أحيانًا الفن المختلط؛ لأنه يجمع بين النص، والجو الذي يبتكره مصممو الديكور، والإلقاء، والحركات التي يقوم بها الممثلون.

كان الكاتب المسرحي في عهد المسرح الأول يقوم بجميع الأعمال الفنية مثل كتابة النص، والتمثيل والإخراج، وبالتدريج أصبح هناك مختصون. وبرزت فنون المسرح العديدة، واكتسب كلٌّ من الممثل، وكاتب النص شهرة في البداية بسبب أن الواحد منهما يعتمد على الآخر في إخراج فنهما إلى حيز الوجود.

وفي المسرح الحديث، اعتاد المخرج على مواءمة جميع خصائص العرض من تصميم الديكور إلى تصميم الأزياء، والإضاءة، والمؤثرات الصوتية والموسيقية والرقص. وربما كان أهم عمل للمخرج هو قيادة الممثلين في عملية إبداعهم، ومساعدتهم على أداء أدوارهم.

ارتكزت بداية المسرح الإفريقي على عدة أعمال جريئة، قام بها أشخاص غير متخصصين في هذا المجال الفني. روَّج بعض الناس دعايات وحملات لصالح المسرح، وبعضهم الآخر سانده بدعمه، والتزاماته في كل المحافل واللقاءات العلمية. أفرزت هذه المرحلة أيضاً جماعة من المثقفين، ساهمت في كتابة المسرحيات وإخراج النصوص وبناء قاعات العرض.‏

بدأ تطور المسرح الأفريقي من خلال الوسط العائلي، مما جعله ينتشر في ربوع القارة بأسرها، وينتقل من جيل إلى جيل. شارك في هذا الإنجاز الرجال والنساء والأطفال، حيث أبدعوا فيه إبداعاً بالغاً أثناء الاجتماعات العائلية، والأعياد، والطقوس الدينية المتنوعة.‏ تتركز فترة الاستعداد لهذه المناسبات على مراسيم، وأشكال، وتفاصيل، وتقنيات تمثل أفضل إخراج مسرحي عند الأفارقة.‏

يقرُّ مؤرخو المسرح الأفريقي بأن هذا الفن كان موجوداً بالطريقة المذكورة آنفاً قبل ظهور المسرح الأوروبي. لهذه الأشكال التقليدية للمسرح الإفريقي جذورها الاجتماعية، والدينية والسياسية التي ترى من منظور المجتمعات القبلية، وقد شكل هذا الموروث الأساس للأعمال الفنية لكثير من الكتاب المسرحيين الذين نالت أعمالهم إعجاب الأفارقة، وغير الأفارقة على السواء. وقد ازدهر الفن المسرحي منذ انتهاء الحكم الاستعماري الأوروبي، ومن الأسماء اللامعة في الفن المسرحي في الفترة التي أعقبت الاستعمار: برنارد رايي، و ولي سوينكا، وآما عطا عايدو.

وعلى الرغم من الأثر الذي تركته المسارح الغربية في بناء المسارح الإفريقية، إلا أن معظم المسرحيات الإفريقية تُـؤدى في الهواء الطلق، ولكن مع ذلك توجد بعض المسارح المرنة مثل مسرح الكودزيان (دار القصة) في آتْيوا بجمهورية غانا.

وكثيرًا ما يذهب جمهور المشاهدين إلى المسرح ليس ليشاهدوا العمل المسرحي، بل ليشاركوا فيه، فالمشاركة الجماهيرية تقوم بدور مهم في المساعدة على تحرير المجتمعات فكريًا وتطورها. ويتضح هذا بجلاء في أعمال كل من زاكيس إمدا في اللوزوتو، وبنينا إملاما في تنزانيا، وفي أعمال الكاتب المسرحي والمخرج الجزائري كاتب ياسين والمغربي الطيب الصديقي.

وإذا كان المهتمون بالمسرح يؤرخون لبداية المسرح بعام 490 ق.م الذي عرضت فيه مسرحية " الضارعات " لأبي المسرح الإغريقي " إسخيلوس"، فما ذلك إلا لأن الحضارة الإغريقية عرفت الكتابة، والتدوين في وقت مبكر، على حين غيرها من الحضارات بما في ذلك الثقافات الإفريقية ما عرفت الكتابة والتدوين إلاّ في الشمال الإفريقي، في حين تأخرت الكتابة والتدوين كثيرا في الجنوب، أي جنوب الصحراء الكبرى، وبطبيعة الحال ظل المسرح في تلك المناطق على مدى القرون نشاطا شفويا ومرتجلا شأنه في ذلك شأن الأدب الشعبي، ولا يزال في مناطق عديدة بإفريقيا جنوب الصحراء على نشاطه الشفوي، وإذا كان في القرون السابقة يركز المسرح الإفريقي الشفوي على الأغراض الدينية، أو الشعائرية[2]، والمناسبات الاجتماعية، فإن أغراضه بداية من القرن العشرين، وصار له مؤلفوه، وأضحى أداة للوعي الاجتماعي، والسياسي، ووسيلة مقاومة زمن التحرر من الاستعمار الغربي.
ويؤيد هذا الرأي الباحث السنجالي بكري طراورية في كتابه الموسوم بـ " المسرح الزنجي الإفريقي ووظائفه الاجتماعية" حيث يرى أن المسرح الإفريقي الزنجي التقليدي ذو أصول اجتماعية، وأنه انعكاس لاحتياجات اجتماعية، بحيث أنه كان مسرحا واقعيا في معظمه، كوميدي النزعة، يخدم قضايا اجتماعية، ويتسم بطابع تعليمي، ولا ينكر المتعة والتسلية، كما يتحرر من دقّة البناء الدرامي على غرار المسرح الأوروبي.

بل بعد دراسته المعمّقة للدراما الإفريقية يستخلص هذا الباحث أن موضوعات الدراما الإفريقية أنها ذات مواضيع متعددة تدور في معظمها ول الأساطير، والحكايات الشعبية، والخرافات، والعادات، والبطولات، وأمجاد الأسلاف، والأخلاق، والسلوك..كل ذلك في مشاهد شديدة البساطة في شكلها، قوية التماهي بالغناء والرقص في حوارها، تشرك بتلقائية جمهورها المتلقي في عروضها، ومن ثمة فهي عادة ما تُقدم هذه العروض المسرحية في المناسبات الاجتماعية كالختان، والبلوغ، والزواج، والحصاد، وإعلان الحرب، وغيرها من المناسبات.[3]

إن المسرح الإفريقي التقليدي فضلاً عن أنه مسرح مجاني للعاملين فيه، والمتفرجين، فالديكور فيه طبيعي يوحي يالثقة والبساطة، والاطمئنان، تُلقى فيه حكمة الشيوخ، لتكون عظات سلوكية يتشرّبها الشباب الحاضر، كما أنه مسرح بسيط يخلو من بهرجة الأزياء، ولكن لا يستغني عنها لأنها مرتبطة بالأسلاف، والشعائر؛ مسرح يتحاشى التعقيد في الأحداث والبناء، والصراع فيه ليس صراعا بين الآلهة والبشر، كما هو الحال في المسرح الإغريقي القديم، ولا هو صراعٌ بين العاطفة والواجب كحال المسرح الأوروبي بعد عصر النهضة، إنما هو صراعٌ بين الشر والقيم، بين ما هو مُتاحٌ وواجبٌ، بين ما واقعي ومثالي.

كانت إفريقيا - يضيف الباحث- متعددة الدول والجمهوريات وكذلك اللغات واللهجات والأجناس والأديان، فإن أفرادها وقبائلها كانوا يتنقلون في الماضي في وضع غير مستقر، وكل هذه الأسباب أفرزت نماذج عديدة من أشكال الفن المسرحي مثل (الياييك)، غنائيات (مِفت)، (ساتيريات ( (يوروبا)، (الأوشالة)، (زولى امبونجي )، ولم يقتصر تقديم هذه الأشكال الفنية في العروض الدائرية فقط، بل كانت تعرض كذلك في المهرجانات الفنية الإفريقية..لكن الفن الإفريقي تعرض للغربة..أو للحصار كما يقول الباحث لذلك لا نعثر على إشعاع مسرحي داخل القارة، وبالنظرة العلمية والاجتماعية نعتبر الأفارقة في قارتهم محرومين من هذا الثراء الروحي الثقافي الذي يؤثر بشكل أو بآخر في التنمية وفي إعداد الإنسان الإفريقي بما يشكل تأخراً في ميدان الثقافة.

ويعتبر الباحث أن القرن التاسع عشر هو قرن حصار الفن الإفريقي، ومحاصرة محاولات الإبداع فيه، وما هذه الحالة إلا رافد من روافد الاستعمار للقارة الإفريقية إلا أنه بالاستطاعة القول إن أشكال الاستعمار المختلفة قد شلت تقدم الفنون عامة في إفريقيا، هذا المرض العضال الذي انعكس على تكوين بنية إنسان إفريقيا، وصرفه إلى المعاناة والحروب والقتال والتقوقع، بعيداً عن الفكر والمعرفة والتطور..

نعم لقد استهدفت الثقافة الأوروبية الميدان الإفريقي مساحة جغرافية ومؤثرات نفسية وعادات وتقاليد اجتماعية، بغية اقتلاع الجذور النفسية والاجتماعية ونزعها لتحل محلها ثقافات وعادات أوروبية منقولة من خارج إفريقيا، ومستوردة كالسلع التموينية سواء بسواء،.. لقد أجبر الأوروبيون إفريقيا وشعوبها ( يضيف الباحث) على تقبل الحضارة الأوروبية وتقليدها والنسج على منوالها فعرفت إفريقيا في القرن التاسع عشر أنماط المسرح الأوروبي ومدارس فن التمثيل والمناظر والزخرفة، ولم يكن هذا اللقاء المفاجئ بين إفريقيا وأوروبا في صالح القارة السوداء..ولماذا لم يكن في صالح القارة.. يؤكد الأستاذ كمال الدين:

1 ـ لأن الذين قادوا الثقافة الأوروبية في بلاد إفريقيا كانوا من إرساليات تنتهج نشاطاً تبشيرياً منظماً ومخططاً..

2 ـ كان من نتيجة سيطرتهم على الشؤون الثقافية أن اضطهدوا مظاهر الرقص الإفريقي حتى استطاعوا وقفه وإلغاءه من الظهور على المسرح تماماً كما منعوا ما يشير إلى الاحتفالات الدينية أو عبادات الله سبحانه وتعالى.

3 ـ أدى هذا التغيير في شكل المسرح الإفريقي إلى إهمال الأفارقة للعروض الأوروبية ذات الحوار الكثير والطويل الذي لم يتعودوا عليه، وبقي العرض الجديد غريباً شاذاً لا يشبه تقاليدهم، ولا يمت إلى مجتمعاتهم أو عالمهم..

4 ـ انتهت التلقائية من العروض الإفريقية، وتحدد الدور المسرحي فهمًا وحفظًا وأداءً على غرار المسرح المعاصر، كما ضعف دور الموسيقا، واختفت مواقف الرقص الديني رغم محاولة المبشرين التقدم بمسرحيات دينية (خداعاً) في بداية خططهم المشبوهة..

5 ـ انتشار الموجات المسرحية القادمة من أوروبا بفعل الشباب الإفريقي الذين نهلوا من علوم المسرح وفنونه في أوروبا، الأمر الذي أدخل كثيراً من الأشكال الأوروبية على أصل المحتوى الإفريقي، وهو ما قدم في نهاية الأمر شكلاً ممسوخاً، ومحتوى يطغى فيه الشكل على الأصل، فيترك المتفرج الإفريقي بلا دليل أمين، وكان أساس البلاء يكمن في الشكل المستورد من خارج القارة...

الآن وكما يؤكد الباحث توجد محاولات للتصحيح..أو للعودة للجذور تحديداً..وكان لا بد أن يتغير هذا النهج بعد تقدم الجانبين العلمي والمعرفي بفعل أبناء إفريقيا للتحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار. وهو ما حدث فعلاً في النصف الثاني من القرن العشرين، فعلى طريق المسرح قامت أصوات جديدة تطالب بإعادة تأصيل الثقافة الإفريقية في استعمال للأدوات والوسائل والأشكال الأصيلة تحقيقاً لميلاد مسرح إفريقي حقيقي..لقد بدأت الأنماط القديمة للمسرح الإفريقي في العودة إلى الساحة الآن..[4]
واليوم يستعمل الدرامي الإفريقي لغته، أو لهجته الإفريقية محاولاً بها ترقية مسرحه بما يعبر عن طموحات وآمال القارة الإفريقية السوداء.
ويعتبر مسرح السلوك الاجتماعي الأكثر ازدهاراً بمسمياته المختلفة في البلاد الأفريقية، إذ يطلق عليه في "مالي" "مسرح مفيد"، وفي "بوركينا فاسو" يسمى "مسرح المنبر" أو "مسرح الجدال" ويتميز بأنه يعرض بلهجة محلية على الجمهور في قرى الأرياف وعلى طبقة العمّال في المدن.
ويستهدف مسرح السلوك الاجتماعي أن يغير الاتجاهات في مسائل نوعية مثل بعض القيم السلبية، والاعتقادات البالية، والصحة العامة والقضايا ذات الصلة بالعلاقات الاجتماعية مثل الملكية الجماعية "كالبئر مثلاً".
ويمكن رؤية دلالات هذا التغيير في العدد الكبير والمتزايد من التسهيلات المتاحة لإنتاج مثل هذا النوع من الأعمال الفنية وما وفرت له من الإمكانات؛ لأداء أفضل على مختلف البلاد الأفريقية، إضافة إلى تعميم قوي من جانب الفنانين الأفارقة لإنتاج مسرح يناسب جمهورهم.

وفي حقبة الثمانينيات كانت الحياة السياسية هي المصدر الأول لكتاب المسرح الأفارقة، الذين ركزوا على وصف ما رأوه مثل: فشل النظم السياسية الأفريقية، وهناك عشرات بل مئات من المسرحيات التي تناولت هذا الجانب مثل: مسرحية "أنطوني باع لي مصيره" لسوني لابوتانسي عام (1986م)، ومسرحية "شارع الذباب" (1985م) وكذلك "ستر الآلهة" (1985م) لزادي زاهود برنادي.

ومن هذا القبيل أيضًا مسرحية "السلحفاة المغنية" لسنوقو أجيوتا زنسو، ومسرحيتا "السفانا البهيجة" (1990م) و"المجنون" (1997م) وكلها مسرحيات شعبية رائجة.

وقد حل محل السياسة في إلهام كتاب المسرح الأفارقة مع قدوم التسعينيات ثلاثة مصادر رئيسة أخرى هي: المسرح التقليدي، والطقوس الدينية، والفنون الشعبية "الفولكلوري".

المسرح التقليدي
القوانين التقليدية التي تحكم المجتمع الأفريقي تقيد الفرد لدرجة تجعله يعتقد بأن المجتمع هو وحده الجدير بالاعتبار، ولكن مسرح السلوك الاجتماعي يتيح لحظات من الانطلاق للفرد بأن يخالف تلك القواعد الاجتماعية، مثال ذلك "مسرح كوتيبا" في مالي، وهو نمط من المسرح الشعبي ينظمه الشباب مرة كل سنة، ويعطي لهم فرصة لانتقاد كبارهم، وهذه هي المناسبة الوحيدة في السنة التي يستطيعون فيها أن يفعلوا ذلك دون خطورة؛ فيجهرون برأيهم في المجتمع، ولا يستطيع الكبار أن يعارضوهم، وكل ما يقال في هذا المسرح هو أنه فوق القانون.
وفي بوركينا فاسو تقيم مجتمعات " مُوسي " مرة كل سنة سوقًا ليلية، وفي غضون الليل تسري في الليمبو القواعد المستترة كلها؛ فيستطيع المرء أن يمضي مع الشخص الذي كان يحلم به طوال السنة (من ذكر أوأنثى) وما إن يطلع الفجر إلا وقد عاد كل شيء إلى طبيعته.

وهذان المثالان من أشكال التمثيل المسرحي، وغير المسرحي يدرك أبطالهما أنهم يمثلون وأن القواعد قد تتغير في لحظة معينة، ويستهدف هذا النوع جمهورًا من العامة، أكثرهم أميون، يستميلهم عن طريق التعامل بأشياء تهمهم في حياتهم اليومية.

والهدف من ذلك خلق جو يشجع على الاتصال بين مختلف فئات الجمهور؛ ليقرر ما إذا كان عليه أن يغير سلوكه أم لا؟!

الطقوس الدينية
المسرح بصفته لا يستطيع أن يتجاهل الحركات الدينية من المسيحية والإسلام، لذا فهناك عودة لطقوس دينية في المسرح، ففي كوت ديفوار (ساحل العاج) على سبيل المثال قد ازدهر ما يعرف بالمسرح الشعائري من بين طرائق التجريب الأساسية في المسرح منذ عام 1985م، ومنذ ذلك الحين أصبح وجود الشعيرة في المسرح أمرًا مألوفًا، كما أن الاقتباسات قد امتدت إلى ديانات أخرى مستوردة كما يلاحظ في بعض المسرحيات في "توغو" وغيرها.

ومعظم العروض المسرحية الأفريقية الكبرى في الوقت الحاضر لها نصيب من الطقوس بطريقة أو بأخرى، مثل مسرحية "العاطفة" لكاتب زائيري، ومسرحية "حكاية حقيقية" لكاتب غيني.

الفنون التقليدية
الفنون التقليدية أصبحت موردًا ثريًا يستمد منه معظم كتاب المسرح إلهامهم، وحوالي عشرين مسرحية عرضت في المهرجان الأفريقي للإنتاج المسرحي في وغادوغو العام الماضي كان أكثر من نصفها قائما على أساس الحكايات الشعبية، مثل مسرحية "غضب الأجمة"، و"الولاء المضروب". [5]

ومن خلال استخدام هذه المصادر الشعبية استطاع المسرح الأفريقي أن يعزز هدفه، وهو التعبير عن نفسه فوق كل شيء، مخاطبًا جمهوره الأفريقي عن طريق ترجمة طموحات هذا الجمهور ليحظى بالمصداقية، ويبقى أكثر الوسائل تأثيرًا في الإنسان الأفريقي؛ لأنه يجده في ذاته ومتنفسًا لمشاعره وعواطفه.

مشاكل المسرح الإفريقي
مشاكل وصعوبات عديدة تعترض تطوّر، وانتشار المسرح الإفريقي، وفي مقدمتها إيجاد المتفرج، وحرية التعبير، ووسيلة الإيصال، والتمويل، وإيجاد المرافق العصرية للعرض، والتجهيز بالتكنولوجية العصرية للعرض، وإشكالية اللغة ؛ حيث أن معظم الكتَّاب والمسرحيين الأفارقة يكتبون باللغة الفرنسية، والإنقليزية، وليس باللغات الأم مما يخلق صعوبة في إيجاد جمهور متبع، وكذا في التعبير عن واقع الشعوب الأفريقية ومشاكلها وتطلعاتها.‏
بوسون أناي كليمان، كاتب روائي ومسرحي وشاعر من كوت ديفوار، الذي زار الجزائر أخيرا، وشارك في ملتقى "المسرح الإفريقي بين الأصالة والمعاصرة" في إطار مهرجان الجزائر الدولي للمسرح، تحدث عن خصوصيات المسرح الإيفواري باعتباره نموذجا من المسارح الإفريقية المعاصرة، فاقرّ بأنه
لا يختلف عن المسارح الإفريقية، إلاّ في نقطة استعماله للواقع والتراث الإيفواري، فالمسرح فن الخشبة وهو الذي يعكس الحقائق على نفس هذه الخشبة، ويجب عليه أن يتكيّف حسب طبيعة كلّ بلد حتى يقوم بواجبه ويوصل رسائله إلى الجمهور.

المسرح الإيفواري عرف تطوّرا معتبرا في الستينيات والسبعينيات، ولكنّ تأثّر بالأزمات التي مرّت بها البلاد، ولا يزال يعاني من مشاكل عديد بما في ذلك البقاء في المحلية، ومع ذلك فهو يحيا دائما بفعل إرادة محبيه وصانعيه، أذكر من بينهم إيناس ألومو الذي اقتبس أحد أعماله من أحد كتبي، هناك أيضا زيجري، ماتا وباكابا مدير قصر الثقافة، فكوت ديفوار هي بحق أرض المسرحيين.

ويلحّ يوسون إلى إخراج المسرح من القارة الإفريقية، حتى يتمكن المسرحيون الأفارقة من التعريف بالوجه الحقيقي للمسرح الإفريقي في الخارج، تأكيدا على أنّ لإفريقيا الكثير من الثروات الطبيعية والبشرية وأنّ لها العديد من الأوجه الجميلة.[6]

المسرح الإفريقي ما يزال فنا حديثا وموجها إلى نخبة المجتمع
يعتبر الأكاديمي أحمد شنيقي أحد المهتمين القلائل بالفعل المسرحي في القارة السمراء، حيث أصدر، قبل حوالي ثلاث سنوات، مقاربة هامة حملت عنوان ’’المسرح في إفريقيا السوداء، مسارات وميول’’. ويحاول شنيقي عبر هذا الحوار الكشف عن بعض العناصر التي تشكل خصوصية الفن الرابع في القارة السمراء.لقد كان حذرًا عندما سُئل عمّا إنْ كانت هناك حركة مسرحية إفريقية حاليًا:

ـ هل يمكننا حقا أن نتحدث اليوم عن ’’حركة مسرحية’’ إفريقية؟
ـ هو سؤال حرج نوعا ما يحيلنا إلى الفضاءات الوجودية والمعرفية، ويدعونا إلى استحضار مفكرين من طراز فرانز فانون، كينياتا، نكروما وأمياتيبا. باعتقادي إنه انطلاقا من التساؤل عن مفهوم القارة الإفريقية وعن حدودها وعن تطورها، يمكن التحدث عن وجود ’’حركة مسرحية’’ إفريقية. مما لا شك فيه أن الاستعمار شكل الخاصية المشتركة بين مختلف بقاع القارة السمراء. ولم يكتشف الفرد الإفريقي الآخر سوى من خلال التواصل التراجيدي مع الاستعمار. وعلى غرار كثير من الفنون التمثيلية، يعتبر المسرح فنا مستوردا ساهم في الحد من انتشار فنون الأهالي الأصلية. هذا المعطى الذي يحيلنا إلى صعوبة الإجابة عن السؤال. نلاحظ اليوم عرض العديد من المسرحيات التي تقدم رؤية متناقضة تجمع بين الإيحاء المحلي والبناء المسرحي، مع التأكيد على اللب الأوروبي. ذلك ما نلمسه على كثير من أشكال التعبير الفنية والثقافية والسياسية.

وعلى غرار تجربة الكتابة الأدبية، يظل المسرح الإفريقي مهووسا بالواقع السياسي، فإشكالية التأثـر بالراهن السياسي قضية تميز الجزء الأهم من الأدب ومن المسرح أيضا، سواء بدول المغرب وبالدول الإفريقية المختلفة. مع ذلك، وجبت الإشارة إلى حقيقة تفيد أن أولى النصوص الدرامية والأدبية التي برزت في إفريقيا اشتغلت بمعالجة قضايا اجتماعية، محاولة قدر الإمكان إخفاء القضايا السياسية. من هنا نبعت ردة الفعل القاسية من طرف فرانز فانون، عبر كتابي ’’المعذبون في الأرض’’ و’’بشرة بيضاء، قناع أسود’’. قبل بروز موجة الاستقلال السياسي في القرة السمراء، لم نكن نلمس كثيرا من النصوص التي تعالج الراهن السياسي. أما بعد تلك الحقبة، فقد حاول الكاميروني مونغو بيتيه والسينغالي عصمان سيمبان، في الرواية، وخصوصا الغيني كايتا فوديبا، في المسرح، التنديد بشدة بالحقيقة الاستعمارية. كما شكلت الكتابة الشعرية أيضا أهم مجالات معالجة تحول الوعي السياسي. في مرحلة موالية، بعد تجاوز هموم البحث عن الاستقلال، أبان كثير من المؤلفين، على غرار نديبيكا، كوما ندومبي، أو سوني لابو تونسي، عن قلق مرفق بخيبة إزاء راهنهم المعيش الصعب، وعدم رضا بسياسة الحكم الأحادية.

اليوم، نلاحظ جيلا جديدا من المؤلفين منخرطا في دائرة معالجة الواقع السياسي على غرار نغادندو نكاشاما. موضوع ’’الخيبة’’ صار يشغل بال كثير من المؤلفين الأفارقة اليوم. إلى جانب ذلك هنالك أيضا مواضيع أخرى تطرقوا إليها، على غرار التاريخ، المجتمع والمسائل الفلسفية. كما تجب الإشارة إلى أن أهم الأعمال الأدبية والدرامية التي عالجت الواقع السياسي، وحالة اتساع دائرة ’’الخيبة’’ صدرت في الدول الأوروبية المستعمِـرة سابقا.

يجب أن ندرك بداية أن كثيرا من الفرق المسرحية الإفريقية تتلقى مساعدات من طرف هيئات أوروبية. ثم وجب أن ندرك أن القارة السمراء تتوفر على عدد كبير من اللغات واللهجات مما يشكل عقبة على مستوى التلقي. كما أن غياب الديمقراطية والحريات الشخصية يقود العديد من المسرحيين الأفارقة إلى البحث عن ملجإ في دول أوروبية، وهناك يطرح السؤال عن طبيعة الجمهور الذي وجب مخاطبته.
بالتالي، يبقى المسرح الإفريقي بعيدا عن الاستجابة لأفق انتظار المتلقي، إضافة إلى أهم عقبة تواجه المسرح الإفريقي تتمثل في العقبة اللسانية حيث باءت كثير من المحاولات لإنجاز أعمال مسرحية باللغات المحلية بالفشل. كما أن أداء العمل المسرحي باللغتين الفرنسية، أوالإنجليزية يتطلب جمهورا متعلما. كما تجب الإشارة إلى أن المسرح ما يزال فنا حديثا، وموجها إلى فئة، أو نخبة معينة من المجتمع الإفريقي. [7]

’’لانزال هوّاة والاحترافية حلم يراودنا’’
أماطت المخرجة المسرحية فردوزة موسى، اللثام عن جملة النقائص التي تعترض سبيل المسرح في جيبوتي، خصوصا ما يتعلق بالتمويل والتكوين، وكذا غياب المختصين. وذلك على هامش مشاركتها في فعاليات المهرجان الثقافي الإفريقي بالجزائر.

ردت فردوزة موسى عن سؤال بخصوص واقع المسرح في جيبوتي، قائلة: إن المسرح في بلادها ما يزال يفتقر إلى العديد من الآليات والتقنيات الحديثة. الأمر الذي جعل ركحه يتخبط في نقائص لا تعد ولا تحصى؛ ’’فالمسرح عندنا يشهد انعداما شبه كلي للمختصين في السينوغرافيا، والكوريغرافيا وغيرها من المجالات الفنية الأخرى.

وهو ما يضطر المخرج إلى احتواء كل هذه الأمور بمفرده، بدءا بانتقاء النص، والبحث عن الممثلين، والاشتغال على شخصية كل واحد منهم، وصولا إلى التحكم في الديكور، والإضاءة والصوت، وغيرها من الأدوات المسرحية التي يجب مراقبتها عن كثب، حتى يكون العمل ناجحا وفي مستوى آمال وتطلعات المشاهدين’’.

وعن الصعوبة المتأتية من اعتماد العروض المسرحية في جيبوتي على الفضاءات العمومية، قالت المتحدثة: إن ثمة جملة من العقبات والعراقيل التي تعترض سبيلهم خلال تقديم العروض المسرحية في الهواء الطلق، وكذا الفضاءات العمومية، خصوصا ما يعنى بمسألة التحكم في الصوت والإضاءة ’’فهما تقنيتان أساسيتان لإنجاح أي عمل مسرحي مبني على الاحتكاك المباشر بالجمهور الواسع، هذا الأخير الذي يتابع الأعمال المسرحية بشغف وينتظرها على أحر من الجمر’’.
وقد عرجت فردوزة موسى، في سياق حديثها، على أزمة التكوين التي تطرح نفسها بقوة في جيبوتي، موضحة: ’’معظم المسرحيين عندنا ما يزالون هواة، كما أننا لسنا محترفين.

ولكن لا يجب أن نتغاضى عن الدور الفعال الذي يلعبه المركز الثقافي الفرنسي بجيبوتي، خصوصا تلك الدورات التكوينية التي نتلقاها هناك على يد المخرج المسرحي موسى حسن موسى، الذي يعد واحدا من كبار المخرجين المسرحيين في جيبوتي.[8]

تمسّكٌ بالأصالة
المخرج والممثل الليبي مفتاح إبراهيم الفقيه في مقابلة معه خلال مشاركته في الملتقى العلمي إشكالية "واقع المسرح الإفريقي بين الأصالة والمعاصرة " بالجزائر أخيرًا يرى بأن البعض من الدول الإفريقية لا تزال متمسكة بأصالتها، ومازال عندها عشق، وحُـبٌّ، وإضافة رقصات في المسرح.. الشيء الذي نفتقده في الدول المغاربية، والعالم العربي للأسف.. ومن الضروري الاهتمام بهذه الأشياء..الحداثة مفيدة عندما نسخّرها للأشياء المهمّة التي تبرز أصالتنا، نأخذ منها ما نريد وليس ما يريده الغرب..يعني المسرح بمقاسنا نحن على ضوء ما يمكن أن نستهلكه من التقنيات الحديثة والمفيدة.. العالم قرية واحدة ولزوم عليك الاستفادة من تقنيات العمل، ومفردات المسرح الليزرية للديكور، الإضاءة، المكمّلات، ومسهّلات العمل المسرحي.. كلّ هذا يجب الاهتمام به.. ومن جهة موازية وبنفس شدّة الاهتمام نوجّهه نحو أصالتنا بالعودة إلى إرثنا والاستقاء منه لإنتاج مسرح يشبهنا.

 [1]
[1] [1] ـ أ. فرحان بلبل/ النص المسرحي..الكلمة والفعل ص: 121 منشورات اتحاد الكُتاب العرب 2003 سوريا
[2]ـ د. علي شلش/ الأدب الإفريقي..سلسلة عالم المعرفة العدد 171 ص: 86
[3]ـ أ.بكري طراوريه./ المسرح الزنجي الإفريقي ووظائفه الاجتماعية.
[4]ـ د. كمال الدين عيد/ المسرح الإفريقي..موقع الزحف الأخضر/ ليبيا
[5]ـ الخضر عبد الباقي/ المسرح الأفريقي.. لحظات من الانطلاق..موقع فنون عربية
[6]ـ جريدة المساء ليوم السبت 11/ 07/ 2009
[7]ـ جريدة الخبر ليوم الإثنين 13/ 07/ 2009
(8)ـ جريدة الخبر ليوم الإثنين 13/ 07/ 2009

الثلاثاء، 8 يونيو 2010

الموسيقى في المسرح ... بين التأليف والاختيار

مجلة الفنون المسرحية
د.فاضل خليل 

الموسيقى في المسرح ... بين التأليف والاختيار


د. فاضل خليل

رغم أن الموسيقى دائما تدخل في صلب الدراما ، إلا أنها أحيانا تأتي غير منسجمة معها . وفي أحيان اخرى تكون منسجمة مع بقية عناصر العرض المسرحي ، وتتفق مع روح العرض شكلا ومضمونا إذا صادف وان كانت مصنوعة لأجله . أما عندما لا تتفق الموسيقى مع العرض فأنها تقترب من الاعتيادية ، خصوصا إذا كان الهم من استخدامها مرافقة الممثل لأسباب الوضوح وتلافي التقصير . عندها سوف لن تكون مؤدية لأغراضها كواحدة من أهم عناصر العرض . حين يكون اختيارها لملء الفراغ وفقا للإحساس الانطباعي الخاص بالقائم على اختيارها ، فأنها سوف تجانب أغراضها . أن البعض من المخرجين يحمل الموسيقى واجبات خارجة عن مهامها عندما يعتبرها المنقذ السهل لإخفاقاته واخفاق فريقه متناسيا أو جاهلا لدور الموسيقى في المسرح في كونها " تساعد المخرج في دعم الصورة الإيقاعية للعرض التي ستعطي فيما بعد قدرة المحاكاة الحقيقية أو الصدى الحقيقي للموسيقى الداخلية للعرض المسرحي "(1) . أنها الجو الذي يعتنق ذلك النضوج الداخلي ، كفكر غير منظور يسري كالعدوى ليستقر في الروح فيستمر لينمو ويولد المعرفة في القلب .
الموسيقى في المسرح تبدأ في الكلام ، وتستمر في الحركة وفي الإيقاع وفي ميلودي الصوت .مثلها في ذلك مثل نشأتها ، وتعامل الانسان معها ، وبالأخص الفنان الاول والانسان الاول الذي حاكى الطبيعة وتعلم منها ، واراد التعامل معها بمختلف الوسائل الصوتيو والحركية والتشكيلية . فاستثمر جمالها بالرسم والنحت والشعر والغناء والموسيقى ، وحاكى تضاريسها من جبال ووديان وانهار وحيوانات واصوات الذي ذكرناه جميعا . ومنها وبها شكلت الموسيقى المحتوى الحقيقي للرؤيا المسرحية و"العرض المسرحي لا يمكن أن يكون عرضا إيقاعيا إذا لم يكن موسيقيا "(2) . من خلال الكلام ، الحركة ، الإيقاع ، ميلودي الصوت ، اللون ، الصمت ، السكون ، الظلام .. إلى غير ذلك . لأن العرض بدونها سيكون سيئا .
فن الموسيقى يعلمنا كيف أن تغيرا طفيفا في الإيقاع سينتج زيفا . ان الشكل في الموسيقى يعلمنا الحرفة ، والمضمون فيها يعلمنا الإحساس والشعور بها روحيا . ومن كلاهما نسمع ذلك اليومي الذي نطلق عليه {الجو العام} أو {المواطنة في الفن} كما يسميها توفستونوكوف الذي يقول "إذا تصورنا أن الفن المسرحي هو أوركسترا سمفونية ، فأن الموسيقى هي آلة من الآلات العرض المسرحي "(3) . وعليه يجب ان ترتبط الموسيقى مع جميع الأدوات المعروفة للعرض من اجل التكامل الفني في العرض المسرحي . وهو يعني أيضا ، أن الموسيقى في المسرح هي جزء من الكل لا يمكن أن تجلب الاستحسان بمعزل عن بقية العناصر المسرحية ، وان انسجام الأداء مع الموسيقى أمر ضروري . وعندما يتوجب وجود الموسيقى في المسرحية فعلينا أن نجد لها المكان الملائم كما يرى ذلك مايرخولد . مما تقدم يتأكد أن الموسيقى واحدة من الوسائل المهمة في المسرح هذا الفن متعدد الجوانب .
إننا نعيش في الطبيعة ونحن محاطون بالأصوات المختلفة ، القبيح منها والجميل وبما أن المسرح هو محاكاة الطبيعة ، إذن لابد لتلك الأصوات أن تصاحب أحداثه ، وترافق حواراته ، وحسه الموسيقي " تساعد الممثل على إظهار المعنى الباطني الاجتماعي ، والأساس تجمل علاقات الحدث المسرحي "(4) . إذن هل يعني ذلك أن للموسيقى تأثيرا أخلاقيا وروحيا على حياتنا ؟ وهل تجعل من مشاعرنا اكثر نبلا ؟؟؟ . يقول ألن دانيلو :"أن الموسيقى تعد وسيلة لفهم عمل أفكارنا إضافة إلى إحساساتنا العاطفية . كنوع من الترابط بين الرقم والفكر (5) وهذا التأثير الأخلاقي يجعل المشاعر الإنسانية أكثر نبلاً . وفي المسرح تساعد الموسيقى على إيصال الأفكار إلى المتفرجين . بمساعدة اللغة التعبيرية والفعل الفيزيقي . وما تنتجهُ هذه العملية من تأثيرات حسية ونفسية في إضفاء الجو الروحي العام للعرض المسرحي وهما معاً "الموسيقى واللغة التعبيرية للجسد" يحددان إيقاع المشهد . وبالتالي من إيقاعات المشهد يتحدد إيقاع المسرحية ككل (6) وما أكد أيضاً يوري زافادسكي هو تحديد مكانة المؤلف الموسيقي ضمن المجموعة المسرحية بكونه يساعد المخرج في دعم الصورة الإيقاعية للعرض مما يتيح إمكان المحاكاة الحقيقية للموسيقى الداخلية . ذلك لأن الموسيقى تعلمنا الشعور بما هو يومي وحياتي في مسرحنا . وهو ما نسميه الجو العام للعرض المسرحي . لأنها – كما قلنا تمتلك الأهمية الأساسية في خلق الجو المطلوب للعرض المسرحي . والذي من خلالهُ تصبح التجربة الروحية واقعاً ملموساً . وكما إن الأفكار والأهداف العامة والرئيسة محددة في المسرحية . كذلك فإن التأليف الموسيقي يجب أن يتم في ضوء تلك الأهداف والأفكار ويجب أن يكون التأليف الموسيقي متماسكاً مع مكونات العرض المسرحي وصولاً إلى التكامل الفني المطلوب للعرض المسرحي ككل . إلى الذي نستطيع معه أن نميز تلك الموسيقى المؤلفة خصيصاً للمسرحية حتى إن تم سماعها بمعزل عن مشاهدة العرض ، وانطلاقاً من ذلك التحديد نستطيع القول إن الموسيقى التي يتم تأليفها لمسرحية ما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصلح لمسرحية أخرى حتى لو إتفقت معها في النوع ، وتقاربت في الأهداف العامة ، وفي الأفكار . وإنه في حالة إستخدامها سنشعر بالفارق ولو كان بسيطاً . وعليه فإن الشكل الموسيقي للعرض المسرحي يأخذ الحيز الكبير الأخير في عمل عدد من المخرجين حين يحددا الوحدة الأسلوبية والفنية للعرض .
***الموسيقى في المسرح العربي
عندما بدأ المخرج العربي يهتم بالموسيقى المسرحية بوصفها عنصراً هاماً من عناصر العرض ، سعى في البداية إلى إستخدام الموسيقى العالمية لشعوره ، أولاً : إنها ليست مسموعة حد الألفة . وثانياً : لأنها أكثر ملائمة للدراما من الموسيقى العربية ذات الإيقاعات العاطفية المنسابة التي تثير كوامن الإنسان فتجمعهُ يطرب ، فيبتعد عن الجو المسرحي ويمتنع عن التواصل عن المسرحية .
هذا بإستثناء الموسيقى التي تم تأليفها خصيصاً للمسرحية وهي قليلة . وقد ظل المسرح العربي يعاني من هذا النقص الخطير فيه لعدم توفر المؤلف الموسيقي المتخصص الأمر الذي جعلهم – المخرجون - يعتمدون على أنفسهم في حل هذه المشكلة فكانوا يختارون من الموسيقى العالمية التي كانت في أغلب الأحيان مع المسرحي ولكن لا تسايره . ومثلما لا يصح أن تتكلم لغة غير العربية – إلا في حالات نادرة جداً – على خشبة المسرح العربي كذلك فإنك لن تستطيع إستخدام موسيقى غير في عرض مسرحي عربي ذو أجواء عربية – أي – كما من غير إستخدام ( المقام العراقي) موسيقى لمسرحية ( النورس – أنطوان تشيخوف) ذات الأجواء والأصول الروسية .
إن المسرحيات التي استفادت من الموسيقى العالمية شكلت غالبية عظمى في عروض المسرح العربي ، فسقط أكثرها من سوء الإختيار حيث جاءت الموسيقى غير مطابقة للأداء ، وهو ما يؤيد ما ذهب إليه ( مايرخولد) (7) في معالجته للإختيارات الموسيقية الجاهزة غير المؤلفة خصيصاً للعروض والتي إستدعت مخرجيها أن يستعيروا بقصدية لأعمالهم من (ليست) و(شوبان) . بيد أنه مع مرور الزمن وجب أن يظهر مؤلفون موسيقيون متخصصون يكتبوا موسيقاهم للعمل المسرحي المعين بسبب إختياراتهم العشوائية التي جاءت عكس متطلبات عروضهم غيرُ منسجمة مع ذوق المتفرج العربي . وبالرغم من أن الموسيقى حالة إنسانية عالمية تصغي إليها كل الشعوب بنفس الأهمية فتستمع بها وتفهمها حسياً لكن من الصعب أن تكون عالمية لعدد كبير من تلك الشعوب في العالم لا يدركها بسبب دونية الثقافة الموسيقية لديه .
من المسرحيات العربية التي تعاملت مع الموسيقى بالشكل العلمي المدروس ، وكانت ملبية للطموح هي مسرحية ( المفتاح) للكاتب يوسف العاني ، التي ألّف موسيقاها د.طارق حسون فريد(8) ؛ الذي يرى في الموسيقى التصويرية في المسرح العربي قاصدة عن الوصول إلى الحد الأدنى من الحالة التشكيلية واللغوية والنفسية المطلوبة . لذلك انطلق (فريد) في وضعه لموسيقى مسرحية (المفتاح)(9) من واقعيتها الخيالية (وحدودتها) الحكاية الشعبية الفلكلورية المعروفة التي إستخدمها مؤلفها يوسف العاني أصولها من التراث العربي البغدادي ، وهي حكاية تكتمل بالأشعار المألوفة لدى السامع والمتفرج مثل الأهزوجة الشعبية – ذائعة الصيت :- يا خشيبة(1)نودي نودي(2)
وديني (3) على جدودي (4)
جدودي بطرف (5) مكة
جابولي(6)ثوب(7) وكعكة(8) ……الخ (*)
ولهذا جاءت موسيقاها منسجمة مع أغانيها الأمر الذي قربها أكثر إلى المتفرجين إضافة إلى الشكل الشعبي للعرض ذو الإيحاءات الواضحة في أشكاله التي حققها كاظم حيدر .
مسرحيات أخرى استفادت بسبب أجواءها البغدادية القديمة من الموسيقى التراثية مع التأليف الموسيقي المستنبط من تلك الموروثات الغنائية التي جاءت منسجمة مع الأجواء الشعبية التراثية كما في مسرحية ( النخلة والجيران – للكاتب غائب طعمة فرمان(10)) من إخراج : قاسم محمد اختار الأغاني لها وألّف موسيقاها (حسين قدوري)(11) ، وكان هذا الإختيار سبباً مهماً في إصابتها النجاح الكبير على المسرح . وهناك الكثير من المسرحيات قلدت تجربة (النخلة والجيران) موسيقياً الا أنها أخفقت بسبب التقليد ذاك ولذلك فهي لم تترك أثراً يذكر وكانت الموسيقى فيها سبباً مهماً من أسباب الضعف فيها .
ومن المسرحيات الأجنبية التي نجحت في الاستفادة من الموسيقى مسرحية "فيت روك" (12) للكاتب الأمريكي التقدمي( ميكان تيري) وذلك لمعرفة مخرجها جعفر علي(13) الموسيقى مما جعلهُ يؤلف لها موسيقاها .
وقد تكللت المسرحية بالنجاح لترافق الرؤية الإخراجية وبقية العناصر المسرحية ومنها الموسيقى ومما ساعد المخرج في ذلك أغانيها القصيرة الجميلة مع تفسيره الجميل في المعالجة المسرحية ، المتفق مع المعالجة الموسيقية ، إذ انطلق في ذلك من الإيقاع الصاخب لموسيقى الروك آندرول المنسجم مع الإيقاع الصاخب لأصوات "إطلاق الرصاص" من مختلف الأسلحة التي إستخدمها الأمريكان في حربهم ضد فيتنام . ومن الترافق الحركي المقارن بين سقوط (الفيتنامي) متلوياً برصاص أمريكا مع تلوي الأمريكي راقصاً على أنغام (الروك آندرول) وكانت تجربة متميزة تركت أثرها على مجمل المسيرة المسرحية هذه الأمثلة الثلاثة تعرفنا على التعامل المعاصر مع الموسيقى في المسرح العربي ، على أن هذا الإهتمام نسبي من مخرج لآخر ، فبعض المخرجين يولي الموسيقى أهمية كبيرة . بينما يضعها البعض الآخر في مرتبة ثانوية .
وعلى العموم فأن الموسيقى التي يتم وضعها للدراما المسرحية لا تتم إعتباطاً ، لسد نقص في الإخراج ، أي للإفراغ في المسرحية بل على العكس من ذلك أن الموسيقى تشكل جزء اً هاماً وأكيداً وفاعلاً تماماً في أهميتها كالممثل والإضاءة والديكور . وغيرها من المستلزمات الهامة في تكوين العرض المسرحي .
أن الموسيقى تعني خللاً كبيراً يؤثر على العرض المسرحي إذا أسيء استعمالها في العرض والعكس صحيح الموسيقى تعني كياناً كاملاً من الأحاسيس والمعاني تساعد في توصيل الأفكار والمعاني إلى المشاهد أو أنها تفك رموز ما كان غامضاً من تلك المعاني و الأفكار فأن كل آلة فيها يمكن أن تمثل شخصية من شخصيات المسرحية فالموسيقى بالأساس وجهة نظر مهمة . لشخصية في المسرحية ومجموعة أشخاص تعبر عن ما في داخلهم من وجهت نظر أي أنها تفكير الشخصية بصوت مرتفع ، يمكن للجمهور إدراكه وفهمه .
عندما يدرك (عُطيل) في نهاية المسرحية جريمته التي إرتكبها بحق (دزدمونة) من خلال الحقائق التي توردها (إميليا) لحظة الإدراك تلك ، تحتاج إلى توصيلها (موسيقى) من نوع خاص توضح كيف أن (عُطيل) كان مخدوعاً ، متسرعاً ، إستطاع ( ياجو) أن يوصلهُ إلى ما وصل إليه . هنا لابد أن يضع المخرج موسيقى مؤلفة أو مختارة ، لكن السؤال هو أي نوع من الموسيقى تلك التي يختارها المخرج ؟
من المؤكد أنها تعبر عن شخصية (عُطيل) عندما (يدرك) ، كيف يدرك عُطيل موسيقياً ؟ أن شخصية مثل (عُطيل) بأبعادها المعروفة تحتاج إلى (موسيقى) مزيج من الحيرة – كيف يمكنهُ الإنتقام ثم يعيد الحياة إلى دزدمونة ؟ - و – كيف يمكنه الإنتقام من ياجو ؟ - و – كيف يستطيع أن يعاقب نفسه على تسرعها ؟ وأفكار أخرى كثيرة . إذن هو ارتطام الأفكار هل هي سمفونية (القدر) ( لبتهوفن) ؟ أم مزيج من (الترامبيت) و(الجلو) و(الطبول) بأنواعها موزعة بدقة معبرة عن الوضع الذي يعاني من عُطيل ووصل إليه؟ ثم (مغربي) ليكون (الصولو) المعبر عن عُطيل في وضعهِ هذا .
إذن نخلص إلى القول ، أن الموسيقى في أهميتها تكمل العرض المسرحي ، وعليه يجب أن ترتبط الموسيقى مع جميع الأدوات المعروفة للعرض من أجل التكامل الفني في العرض المسرحي .
الهوامش
1) يوري زافادسكي : حديث أمام المؤتمر الاتحادي العام للمخرجين . نشر في مجلة الفن السوفيتي عام 1940 ، ص276 .
2) يوري زافادسكي : نفس المصدر السابق .
3) جورجي توفستونوكوف : حول مهنة المخرج ، سلسلة علم وفن ، بلغاريا – صوفيا 1970 ص287 .
4) برتولد بريخت : نظرية المسرح الملحمي ، ت: جميل نصيف ، منشورات دار الحرية ، بغداد1970 ، ص260 .
5) ألن دنيور : القيم الروحية والأخلاقية في الموسيقى ، ت:محمد جواد داود ، مجلة القيثارة ، وزارة الإعلام 1989، ص32 .
6) يوري زافادسكي : حديث أمام المؤتمر الاتحادي العام للمخرجين ، ص277 .
7) فيسفولد ماييرخولد : Vesvold Emilievich Mayerhold 9/2/1874 – 2/2/1940 ) واحد من أهم طلاب ستانسلافسكي ودانجنكو ، وواحد من أهم رجالات المسرح الروسي فيما بعد كتب واخرج العديد من المسرحيات لكبار الكتاب ، عمل مخرجا في مسرح ( كوميسارجيفاسكايا ) ، وبعدها مخرجا في مسرح ( أوبرا مارينسكي ) . أسس مسرحه الخاص وقاده من العام 1920 وحتى العام 1938 . هو وفاختانجوف رافقا جوردن كريج عند إخراجه لمسرحية (هاملت) في مسرح موسكو الفني ، بدعوة من ستانسلافسكي . أضاف لعمل المخرج في المسرح (ممثل المستقبل) و(البايو ميكانيكا) 0
8) طارق حسون فريد : أستاذ الموسيقى في معهد الدراسات النغمية و معهد وكلية الفنون الجميلة . مؤلف موسيقي . ألف واختار موسيقى العديد من المسرحيات ومنها مسرحية (المفتاح) . له بحوث ودراسات مهمة ، أشرف ويشرف على العديد من مراكز التوثيق الموسيقي في العراق وبعض الدول العربية . لا يزال يدرس الموسيقى في قسم الموسيقى في كلية الفنون الجميلة – بغداد .
9) مسرحية المفتاح تأليف : يوسف العاني وإخراج : سامي عبد الحميد .
1] خشيبه : تصغير لكلمة خشبه . 2] نودي : ميلي يمينا ويسارا ، أو ، ميلي أمام وخلف
3] وديني : بمعنى خذيني 4] جدودي : أجدادي ، مفردها (جد) أي والد ألأم أو الأب
4] بطرف : أي بأطراف 5] جابولي : قدمولي هدية 6] ثوب : جلابية 7] كعكة: حلوى
10) غائب طعمة فرمان : هو واحد من أهم الروائيين العراقيين ، ولد ببغداد عام 1926م ، ومن أهم رواياته : النخلة والجيران ، المخاض ، الآلام السيد معروف ، خمسة أصوات ، القربان ، ظلال على النافذة ، المرتجى والمؤجل ، حصيد الرحى ، مولود آخر وغيرها . ترجم عن الروسية العديد من الكتب والروايات من إصدارات دار التقدم (رادوغا) ، أهمها المجموعة القصصية والروائية لكل من : تولستوي و تورغنيف ، وآخرين . عاش اغلب سني حياته في موسكو حتى مات فيها عام 1990م ، في بدايات القرن الواحد والعشرين .
11) حسين قدوري : أحد كبار المؤلفين الموسيقيين ، ولد بقضاء المسّيب في مدينة الحلة عام 1929م ، له بحوث في الموروثات الموسيقية الشعبية ، باحث متخصص في مجال الأغاني ولعب الأطفال العراقية والعربية وله أكثر من عشر مؤلفات في هذا المجال ، عمل على جمع أغاني الأطفال ، مع نوتاتها . عمل أستاذا للموسيقى في معهد الفنون الجميلة ومعهد الدراسات الموسيقية . أحد أعضاء فرقة الرباعي الوتري الموسيقية : مع غانم حداد ، سالم حسين ، حسين عبد الله . ألف واختار الموسيقى لعدد من المسرحيات منها مسرحية( النخلة والجيران ) لقاسم محمد 1969م .
12) فييت روك : عنوان مركب من [ فييت : وهي الجزء الأول من أسم (فيتنام) ] [ روك : وهي الجزء الأول من اسم الرقصة الأمريكية الشهيرة (روك – أند رول) ] . أما المعنى المطلوب فيراد به المقارنة بين سقوط (الفيتنامي) متلوياً برصاص الأمريكان ، شبيه بتلوي الأمريكي راقصاً على أنغام (الروك آندرول) .
13) جعفر علي : ولد في بغداد عام1933م ، ودرس السينما في أميركا في جامعة ايوا ، أخرج أفلاما تسجيليه وأربعة أفلام روائية هي : (الجابي 1968 ) و(المنعطف 1975) و(سنوات العمر1976) و( نرجس عروس كردستان 1991) ، أسس فرقة [ مسرح اليوم ] عام 1969م مع قاسم حول ونور الدين فارس وأحمد فياض المفرجي ونجيب عربو عمل أستاذاً و رئيساً لقسم السينما في الأكاديمية . اخرج عددا من المسرحيات منها : (فييت روك) و (أين تقف؟) . وأخرج عدة تمثيليات للتلفزيون . ألف وترجم العديد من الدراسات والمسرحيات والسيناريوهات والسينمائية منها كتاب (فهم السينما) الذي ألفهُ لوي دي جانيتي وترجمه جعفر علي . كان فنان متعدد المواهب فهو موسيقي بارع ومترجم وممثل أيضا . توفي عام 1997م ببغداد .

الجمعة، 26 فبراير 2010

آثار دينامية الواقع على مسار التجريب المسرحي في أوروبا

مجلة الفنون المسرحية


آثار دينامية الواقع على مسار التجريب المسرحي في أوروبا

*حميد تشيش

يقول الدكتور عبد الرحمان بن زيدان: "إن المسرح في العالم أجمع ما كان له أن يتطور ويزدهر ويقدم دهشته المدهشة وغرابته الجميلة في العرض المسرحي لولا التجريب الذي يمارس فعل

 الحرية ويرفض قيود السلطة الظاهرة منها والخفية"(1)

فتطور المسرح وتقدمه كما يبدو من خلال هذه الفقرة مستند إلى التجريب ومرتكز عليه باعتبار أن هذا الأخير يروم تجاوز الثبات والجمود ويعانق الجديد والتجديد إن على مستوى القيم الفكرية والأخلاقية أو على مستوى القواعد التقنية والفنية والرؤى الجمالية أملا في تكريس قيم جديدة تتطلع إليها فئات عريضة من المجتمع وخلخلة كل ما هو جامد وثابت وإحداث رجات في كل نزعة محافظة تتغيا تحصين المكتسبات والمصالح الفئوية .

ولم يكن للبدائل التي اقترحها رواد التجريب ودافعوا عنها باستماتة بما تتضمنه من قواعد فنية وتقنية مؤطرة بأرضية فكرية وإيديولوجية، أن تكتسب مصداقيتها وتحقق الانتشار وتحظى بالتقدير من طرف الجمهور والدارسين لولا الرغبة الجامحة في معانقة الحرية والحداثة وكل القيم التي تسعى إلى تمجيد الإنسان وإعادة الاعتبار إليه .

فرغم اختلال موازين القوى في المجتمع ورجحانها لصالح القوى المحافظة المدعمة والمؤازرة من طرف السلطات السائدة التي كانت تعتقد أنها تمتلك من الوسائل ما يحقق لقيمها المناعة ويضمن لها الاستمرارية والصمود،تمكن رواد التجريب من تقويض بنية القيم السائدة وخلخلتها وإسماع صوتهم من خلال كتاباتهم النظرية وعروضهم المسرحية التي كانت تعتبر المسارح حيث الالتقاء بالجمهور بمثابة مختبرات لتصريف نزوعاتهم التجريبية واختبار مدى مصداقيتها وتقبلها من قبل الجمهور وبالتالي تحقيق الغايات المرجوة منها مستفيدين من شروط المرحلة التاريخية بكل تناقضاتها التي وسمت منتصف القرن التاسع عشر الأوروبي وما بعده،" حيث كان الجمهور يزداد اتساع،ا تتنوع مشاربه الثقافية وانتماءاته الفكرية ويوجه متطلباته المسرحية وعي تاريخي يؤطر الإبداع المسرحي، وما عروض " أنطوان " التي كتب جلها " إميل زولا " أواخر القرن التاسع عشر وما كانت تثيره من نقاشات ومظاهرات إلا دليلا على ذلك "(2)، نفس الشيء بالنسبة لعروض " بيرتولد بريشت " الذي كان يؤمن بقدرة ودور المسرح على تأطير وتوعية وتثقيف وتهذيب الذوق الفني للجمهور خاصة وأننا نعلم أن " بريشت " كان يراهن دوما على دور المسرح في التغيير من خلال قولته المشهورة :" إن المهم ليس تفسير العالم بل تغييره ".

وما كان لرؤى وتصورات هؤلاء أن تلقى الاحتضان ويحصل التجاوب لولا صمودهم وغيرهم في وجه الكوابح والمثبطات والضغوطات الممنهجة والمتابعات التي استهدفتهم من طرف الأنظمة السائدة سواء في صيغتها الرأسمالية الاحتكارية التي ستفضي إلى التوسع العسكري بقوة الحديد والنار خارج أوروبا وما رافق هذا التوسع من تضارب لمصالح القوى الاستعمارية مما عجل بالمواجهة العسكرية فيما بينها من خلال حربين عالميتين تفصلهما أزمة اقتصادية عالمية، أو في شكلها الديكتاتوري الذي أفرز جوا من الإرهاب الفاشستي وتسييج المجتمع بجدارات أمنية ومخابراتية أصبحت تطال المفكرين والفنانين المنتمين لقوى التقدم والحداثة .

وعليه، يمكن اعتبار الصراع الاجتماعي أو الطبقي خلال هذه المرحلة الموسومة بالسمات سالفة الذكر والتقدم التكنولوجي من العوامل الرئيسية التي أثرت في التجريب المسرحي وحرضت عليه .

فالصراع الطبقي الناتج عن تضارب مصالح الطبقة البورجوازية - التي تسعى إلى الحفاظ على امتيازاتها ووضعها الاعتباري بكل ما أوتيت من وسائل وإمكانيات بتأبيد الاستغلال وتكريسه كواقع لا بديل عنه وخنق للحريات الفردية والجماعية وكبت لها،- والطبقة المحرومة المتسعة القاعدة التي تسعى إلى التعبير عن مطالبها وآمالها إما بواسطة الاحتجاجات و الإضرابات والمظاهرات التي غالبا ما كانت تواجه بوحشية ودموية من طرف الأجهزة الأمنية خاصة إبان تنامي الوعي الطبقي والفعل الثوري لدى الفئات المحرومة المؤطرة من قبل المثقفين الذين اختاروا الاصطفاف في صفوف هؤلاء على إثر التمايز الذي حصل في صفوف المثقفين العاملين في مجال الفنون كما هو حال " فولف " و " بيشر " و "بريشت " أو أولائك الذين اختاروا الارتماء في أحضان البورجوازية والدفاع عن مصالحها وتبرير وجودها كما فعل " برونين " و " بوست "في ألمانيا " (3)،الذين اتجهوا بمعية البورجوازية إلى تطويق وتحجيم الدور الريادي للحركة الثورية التي مثلها الأوائل على المستوى الثقافي والفني" بإحكام السيطرة على المؤسسات الثقافية والفنية وإغلاق المسارح في وجه المسرحيين الثوريين وحرمانهم من أي اتصال بالجماهير بواسطة الضغط المادي واستخدام القوانين لصالحها مما ولد حالة كبيرة من الذعر والهلع زاد من حدتها كثرة الأحكام القاسية في حق المثقفين والمسرحيين التي بلغت ما بين 1927 و1931 ستة آلاف حكم في ألمانيا وحدها "(4)،إلا أن عزيمة هؤلاء لم تزدهم إلا صمودا وإصرارا على تحقيق مشروعهم الفكري والفني وتجدير مواقفهم النقدية في صفوف الجماهير بإعطاء المسرح وظيفة ومضمونا اجتماعيين وشكلا فنيا وجماليا متقدما في مواجهة المسرح البورجوازي الذي أصبح يعيش أزمة حادة لتميزه بالتسطيح الشكلي وخلو المضمون من القيم الفكرية والإنسانية رغم محاولات " ماكس راينهارت "الإخراجية المتميزة .

أما دور التقدم العلمي والتكنولوجي وأثرهما على التجريب المسرحي فيتجلى في الاستفادة من مختلف الاختراعات والابتكارات التي ظهرت منذ النهضة الأوروبية وعززتها الثورة الصناعية سواء على مستوى المناهج العلمية والاتجاهات الأدبية والفنية أو على مستوى الاختراعات التكنولوجية التي نقلها رواد التجريب للمسرح بعد أن مدوها بالوظيفة الدرامية الملائمة، كالإنارة والسينما وبعض الآليات التي استعملت لتغيير الديكور بين المشاهد والبساط المتحرك الذي استعمله " بيسكاتور "أول مرة سنة 1928" (5)، وغيرها من التقنيات .

كانت هذه إذن بعض الشروط الموضوعية الناظمة لعملية التجريب التي تحكمت في مساره وسيرورته يضا ف إليها شرط ذاتي لا يقل أهمية عن الشروط الأولى هو الجرأة التي تحلى بها رواد التجريب والتحرر من الرقابة الذاتية وتحدي الجدارات الأمنية التي تروم تحجيم الفكر والإبداع والحد من قدرات الابتكار لدى المبدعين وقدرة هؤلاء على مقاومة الاحتواء والمساومات والإغراءات ومن تم الانتصار للأخلاق والقيم الإنسانية الراقية المستمدة من المرجعيات الفلسفية والفكرية والفنية المتمثلة للواقع بكل تعقيداته وإعادة صياغته وفق تصور جمالي وفني حداثي يروم الصدمة والاستفزاز لدى المتلقي" ((6)، على أن يتوفر شرط الإقناع على مستوى مصداقية الخطاب الفكري والتصور الجمالي والفني باعتبار الجمهور هو المستهدف الأول والأخير من عملية التجريب، فكل المحاولات الرائدة في التجريب المسرحي جعلت من الجمهور محورا لها وابتكرت قواعد فنية وتقنية استهدفت النفاذ إلى عقله ووجدانه بهدف تحقيق المتعة الفكرية والفنية لديه، وحتى عندما أدرك رواد التجريب أن قاعات العروض الإيطالية بمواصفاتها التقليدية تحول في أحيان كثيرة دون بلوغ خطاباتهم للمتلقي،" بادروا إلى تغيير قوانين الخشبة الإيطالية كما فعل "بيسكاتور "، "بريشت " "كوبو "وآخرين أو إلى تفجيرها وتجاوزها إلى فضاءات أرحب كما هو الحال عند "ماكس راينهارت" الذي اختار السيرك فضاء لعروضه المسرحية الذي يتيح بناء ديكور ضخم مع توظيف الرقص والغناء..."(7).

ولقد تساوقت هذه الابتكارات التي همت الفضاء المسرحي مع التجديد الذي عرفته الكتابة المسرحية، الإخراج، السينوغرافيا، التشخيص إلخ .....حيث ابتدع كل اتجاه مسرحي قواعده وقوانينه الخاصة بفنون العرض والتلقي مما أكسب حركة التجريب غنى وثراء متميزين بالاستفادة من تراكمات مرحلة القرن الثامن عشر على المستوى المعرفي والعلمي فيما يسمى بعصر التنوير الذي شهد ظهور العقلانية والفكر التحليلي مع " ديكارت "في فرنسا والنزعة التجريبية مع " جون لوك "في إنجلترا وغيرهم فظهرت الطبيعية أواخر القرن التاسع عشر التي اتخذت من بيئة الإنسان ونشأته الاجتماعية موضوعا لها والتأثر بشكل كبير بمناهج العلوم الطبيعية على المستوى الفني، ومع توالي السنين بدأت الحركة الطبيعية تفقد مصداقيتها وقدرتها على الإقناع بمغالاتها في محاكاة الطبيعة فظهرت التعبيرية كإفراز طبيعي لشروط مرحلتها المتسمة باستفحال أزمة البورجوازية وفشل المشروع الثوري الذي قاده الاشتراكيون فيما يسمى بثورات ربيع الشعوب خاصة في ألمانيا سنة 1848 فسادت موجة من الشك في العلم والتقنية وخيم جو من الإحباط لم يسلم منه الفنانون الذين جاءت إنتاجاتهم تعبيرا حيا عن هذه الأزمة وهذا ما عكسته مسرحية " بريشت " "بعل "حيث جسد بطلها كل سمات الرفض والتمرد والهدم التي ميزت العالم الغربي في هذه الفترة.

وبعد التعبيرية ظهر" مسرح الإصلاح الاجتماعي" وهو اتجاه يجمع بين المدرسة الطبيعية والتعبيرية نشأ في روسيا وتطور مع مسرح "بريشت "الملحمي إذ ينظر إلى المجتمع نظرة الطبيعيين ويعبر عنه ويسعى إلى تغييره بوسائل أقرب إلى المدرسة التعبيرية "(8)، ويعتبر "ستانليسلافسكي"، "مايرهولد " "وبريشت "أهم رواد هذا الاتجاه .

كما كان لوقع الحربين العالميتين الأولى والثانية أثرا كبيرا على الحركة الفنية والفكرية في أوروبا حيث ظهر مسرح العبث في الخمسينات من هذا القرن الذي مهدت له حركات أخرى سابقة عنه" كالدادية "و"السريالية" اللتان تعتبران الكون أساسا غير معقول وتسعيان إلى التعبير عن الواقع بوسائل فنية باعتماد الكتابة أو الكلام وإعطاء الأهمية للفكر الباطن والتحرر من العقل الواعي مع عدم الاهتمام بالقيم الأخلاقية السائدة، أما" مسرح العبث" فيعتمد منهجا دراميا يختلف عما سبقه من اتجاهات يختفي فيه المكان والزمان أما الشخصيات فهي غالبا بدون أسماء أو حتى مواصفات فردية،،" وقد اشترك كتاب هذا الاتجاه وعلى رأسهم " يونيسكو "، " بيكيت "و "أداموف"في تصويرهم لعبث الوجود سواء كان هذا العبث يتمثل في جدوى الجهد البشري أو استحالة الاتصال بين الناس أو أن الإنسان قدر له أن يعيش في عزلة عن غيره من الناس" (9) معبرين بذلك عن اهتزاز القيم الإنسانية وعدم قدرة الإنسان على التحكم العقلاني في التيكنولوجيا والتقدم العلمي وتسخير هما لخدمة الإنسان ورفاهيته إذ انتشرت أسلحة الدمار واستعملت على نطاق واسع في الإبادة الجماعية خلال الحرب العالمية الثانية بالخصوص فجاءت مسرحيات العبثيين مليئة بالصور المعبرة عن مدى التمزق والجراح النفسية التي سيطرت على النفس البشرية كنتيجة منطقية لمخلفات الحرب التي أفضت إلى اتساع قاعدة المتشككين في جدوى الحضارة الغربية وقيمها ومن ثم إعلان إفلاسها مما شجع الكثير من المفكرين والفنانين على تغيير أوطانهم هربا من بطش أنظمة الحكم الاستبدادية في اتجاه فضاءات أرحب إما بفرنسا أو بعض الدول الاسكندنافية أو باتجاه آسيا أو بعض دول أمريكا اللاتينية كما فعل " بريشت "الذي بلور نظرية المسرح الملحمي بالاستفادة من المسرح الصيني أو " آرطو "الذي استقى مبادئ مسرح القسوة من المكسيك وغيرهم، فتدفق التجريب

المسرحي بفعل ذلك في حركية انسيابية تناسلت منها تجارب فردية وجماعية ما زال بعضها آخذا في الظهور والتبلور لحد الآن عبر خطابات فكرية وفنية تدعو لإنسانية يسودها العدل والسلام ونبذ الظلم والحرب والعنف والاضطهاد.

 *مخرج مسرحي من المغرب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

- 1) عبد الرحمان بن زيدان: التجريب في النقد والدراما منشورات الزمن ص:22

- 2) سعيد الناجي: التجريب في المسرح، دار النشر المغربية ص:10-11

- 3) قيس الزبيدي : مسرح التغيير، مقالات في منهج بريشت الفني ص:18 - 4) المرج السابق ص:17

- 5) سعيد الناجي: المرجع السابق ص:31

- 6) عبد الرحمان بن زيدان : المرجع السابق ص:21

- 7) سعيد الناجي: المرجع السابق ص: 41

- 8) رشاد رشدي: نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن ص:144 –145

- 9) رشاد رشدي: نفسه ص:176

 

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2008

مسرحية " بغداد تحترق "تجربة جديرة بالتأمل

مجلة الفنون المسرحية


مسرحية " بغداد تحترق "تجربة جديرة بالتأمل


 ستوكهولم  - محمد الكحط

 شهدت صالة مسرح “سوديرتياتر” في وسط ستوكهولم يوم الثامن من تشرين الأول 2008، عرض مسرحية “بغداد تحترق”، للمخرج كوستاف دينوف، وتمثيل كل من الفنانة أمينة الفقير بيرمان وهي من أصل فلسطيني والمسؤولة عن موسيقى المسرحية كذلك، والفنان العراقي المقيم في السويد نضال فارس، والفنانة تونه إسحاق وهي من أصل عراقي أيضاً، النص المسرحي من أعداد ماريا بيرشون هيدنسون، والصور المسرحية من إعداد الصحفي اوربان حميد وهو من اصل عراقي.
نالت المسرحية قبل عرضها الرئيسي الأول رسميا العديد من النقاشات بين القائمين عليها والجمهور المهتم بالشأن العراقي، وقد كان لتلك النقاشات تأثير في التغيير الذي طرأ على طبيعة الطرح، ولكون المسرحية تتناول مسألة سياسية حساسة بالدرجة الأولى فكان لابد أن تثير النقاش وحتى الاختلاف في وجهات النظر. في العرض الرسمي الأول اكتظت صالة المسرح، وبعد انتهاء العرض وقف الجمهور ليصفق كثيرا للممثلين وللقائمين على هذه المسرحية، مما يعكس اهتمام الجمهور السويدي بالشأن العراقي وكذلك كون المسرحية قدمت لهم ما يطمحون إليه، رغم وجود ملاحظات جدية عن المسرحية، بتقديمها رؤيا توثيقية وخطاب سياسي مباشر، وحوار طويل تحملت معظم أعبائه الفنانة المبدعة أمينة بيرمان والتي أجادت كثيرا، بل وأُرهقت كثيرا حتى كادت أن تتقطع أنفاسها.
تداخل الحوار المباشر والشاشات التي استخدمت في عرض المواد الوثائقية، والقراءة من على الورق والأصوات المسجلة لاستكمال العرض، في أسلوب مسرحي جديد. علينا أن نقر بأن المسرحية مجازفة بحد ذاتها، رغم أنها أكدت على كونها توثيقا للأحداث، لكن ذلك لا يعفيها من ابتعادها عن كونها عملا فنيا أسمه “مسرح” عليها أن تلتزم به، فالمسرحية ليست ندوة سياسية ولا مجلسا خطابيا أو برنامجا تلفزيونيا يقدم وثائق لموضوعة معينة.
المسرحية عرضت المشكلة العراقية وتداعياتها، حملت أطرافاً عديدة مسؤوليتها، أول تلك الأطراف سياسات النظام الدكتاتوري السابق وحروبه المدمرة، ومن ثم الاحتلال الذي جاء بعده وما رافق ذلك من مشاكل كبيرة لا زال الشعب العراقي يواجهها. والسؤال الكبير المطروح، هل هنالك أمل بعودة العراق صاحب الحضارات والتاريخ الزاهي إلى وضعه الطبيعي ويتعافى من كل ذلك، هذا السؤال الذي لم تجب عنه المسرحية و لربما أرادت من الجمهور الإجابة عليه..!!
تحية للمخرج وللممثلين وجميع الذين ساهموا بهذا العمل، آملين مزيدا من الأعمال التي تتناول قضايانا بروح فنية معاصرة.
تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption