عرض مسرحية "ترى ما رأيت " تشكيل مسرحي تعبيري
عرضت المسرحية في مهرجان المسرح الحر الدورة الثامنة في الأردن، المركز الثقافي الملكي، في المسرح الرئيس يوم الاثنين 6-5-2013، درماتورج نصوص شعرية لكمال بوعجيلة. تمثيل جلال عبيد، مكرم الفورتي، أسماء بن حمزة، حمزة بن عون، نورس بن شعبان، جهاد الفورتي، وليد الخضراوي. فنيون: جمال شندول، عبد الكريم ضيف الله، وسام سيف النصر، فتحي شندول، عبدالله الشلبي. سينوغرافيا وإخراج: أنور الشعافي
وهذا العرض التونسي" ترى ما رأيت"، يتشكل من ثلاث أيقونات: الخطاب الشعري، الكوريغرافيا Choreography، السينوغرافيا Scenography. تشغتل على الخشبة لتشكل رؤية تكاملية حول الموضوع المسرحي. فالشعر بدا كصوت خارجي، ولكنه انبعاج ذاتي من منظور أنه شعر غنائي يمثل الرؤية الفردية التي ستتشكل كرؤية جماعية، لأن ما يعنيك يعنيني، وهذا الخطاب بالتالي هو صورة للروح، والمسرحية تدور حول الروح الإنسانية، فيبدأ بالحديث عن العلاقة الروحية بين الرجل والمرأة، وهي حالة لا بد منها لتصيغ الحياة، وكيف تتشكل الحياة من دون الروح؟ عندئذ وبالابتعاد عن الروح تصبح الحياة مخاضا يقود إلى المجهول، وهذا المخاض هو ما يجعل الإنسان الجمعي كشعور جمعي يتألم، وإن بدا على شكل فردي، لأن كل الأفراد في المجتمع هم الذين يعانون، لتكون الصورة النهائية تعبير عن الشعور الجمعي، والعرض المسرحي ترى ما رأيت يعبر عن الشعور الجمعي.
المسرحية بجزئياتها الثلاث، حيث تبرز ماهية الحب والروح في بداية العرض المسرحي، وما يلاقيه هذا الحب الروحي من معاناة تنعكس على الجسد كصراع ما بين الروح والجسد، ويبقى هذا الصراع يشكل الروح والجسد كحالة ثورية، تعبر عن رؤية جماعية ثم إدانة الحكم، وقبل ذلك تمر الحياة الإنسانية، وكما بدت في العرض بحالة من القهر، لتأتي اللحظة القادمة تعبر عن ثورة وروح تحررية.
االسينوغرافيا: شكلت العرض المسرحي، وهي تشتغل أكثر ما تشتغل على الجسد كرؤية سينوغرافية أيضا.
فالإضاءة، شكلت رؤية انتعاش في حالتين من العرض المسرحي، في المرة الأولى عند النجاة من الغرق، ومهما كانت تلك الحالة قاسية على الإنسان، ويتحمل تلك القسوة الجسد المعترك في خضم بحر متلاطم، والمرة الثانية بعد حالة شبه استقرارية الآن، ولكنها غير مفهومة المعالم، تلك الحالة التي تتحدث عن الثورة التونسية/ الحراك التونسي/ الرؤية التونسية كمجتمع متعدد، وهذا الصراع الحواري، وإن بدا يتشارك في هذا اللون الأحمر، وهنا إشارة إلى التعارك على المستوى الفكري والجسدي مرة أخرى، فالصورة مازالت ضبابية. فالإضاءة تشاركية في العرض المسرحي، فهي لم تكن تلك الإضاءة العادية التي تعطي معنى مجازيا فحسب، لتكون الإضاءة في عرض ترى ما رأيت منتجة للعرض المسرحي كحالة تأويلية.
واللون في العرض المسرحي كمؤثرات ضوئية/ وهو هنا مؤثر جزئي لأنه اشتق من الإضاءة بشكل عام - وبذكر جزئيات المؤثرات، هي ما يجب أن يولي العرض المسرحي اهتمامه بها، لأهميتها في بنية الاشتغال على مستوى العرض كله - واللون يشتغل في العرض كحالة انتعاش للمريض، أو حالة هدنة. واللون اشترك في انتاج المعنى المسرحي التأويلي بعيدا عن اللون العادي أو أحادي الرؤية، ومرة أخرى تمثل برداء الصبي، باللون الأحمر وهو دلالة متعددة، فقد يشير إلى الاندفاع ورعونة الشباب وهذه دلالة بسيطة، ولكنه يشير إلى الثورة، وبرؤى متعددة روحية وجسدية وهي في إطار الثورة أيضا.
السرير يبدو في العرض المسرحي كأيقونة تمثل حالة المرض، وهذه الصفة يشترك فيها كل مكان يعج في المرض والاستشفاء " المستشفى " وهو مكان عام يتواجد في كل المجتمعات، ولكن السرير يشتغل على مستويين أخريين: المستوى الأول الحالة التي تمثلها الحكومة وما آل إليه مصير البلاد والعباد إلى هذه الحالة التي تقود إلى حالة الموات، والمستوى الثاني، إشارة لما يعانية المجتمع " الإنساني " الجمعي بسبب هذا المرض.
في الأول يمثل حالة الترهل، وفي الثاني يمثل حالة القلق والترقب لتنبثق عن القلق رؤية، يسببها المستوى الأول الذي مثل مرض المجتمع في ظل الحكم الفردي والآراء الخاصة بالحكم. فتأتي الثورة التونسية لتخوض التصارع مع الكائن المريض.
الصبي يبدو كأيقونة خطابية مرة من خلال الخطاب الشعري، وتشكل جسدي مرة أخرى من خلال الكوريغرافيا، إنه الحلم الذي تحلم به الثورة، إنه التغيير، وضع له حد منذ زمن بعيد، ثم قرر أن يصرخ مهما كان طغيان اللون الأحمر في النفس الإنسانية، الصبي وهو بالثوب الأحمر يعني الثورة شبابية. إن حلم الصبي الذي بدا على خشبة المسرح كحالة ركحية " صورة " مرتين، المرة الأولى التي تشي بالتحرك والاضطراب، والثانية التي تشي بالثورة والمشاركة الفعلية فيها، وهو المسبب الأول لها وموقد الشمعة التحررية من حكم فردي ينسحب على كل الأمة العربية، حيث يتجاوز المجتمع التونسي، لتصل الثورة إلى مصر وليبيا وربما لن تتوقف! الصبي في المسرحية يمثل الحالة الحلمية، إنها الشتاء، ويبدو هذا الشتاء يتمثل في حالة برد وارتجاف وقلق وارتقاب، ويبدأ يشع الدفء قليلا، فالشتاء يطرق الربيع ويشتغل الربيع على الجانب الروحي والبصري، حياة جديدة تمثل الانتعاش وتملأ العين بالسرور، وبقي الصبي في إطار الشتاء، ومازال الشتاء رابضا، فكأن الربيع أو "الربيع العربي" ومهما قيل حوله قد لا يأتي، ولكن الشتاء يطرقه، وهذه صورة تعبيرية حية ماثلة، فلا مندوحة عن هذا مهما حاولنا إغماض عيوننا عنها.
لابد من الإشارة إلى أن العرض المسرحي يشتغل على مستوى عرض المسرحية على ثلاث جزئيات، في الأولى الروح وعلاقة الروح الثنائية، وهو بالتالي يشكل المجتمع، وفي الحالة الثانية الصراع الذي يدور في المجتمع وهذا الاضطراب وتلك الفوضى، عراك مرير يتمثل بمعانة الجسد بسبب الروح، والحالة الثالثة، حالة الثورة والتحرر وهي تنعكس على الجسد كحلم صغير شبابي يتمثل في الصبي كحلم وأمل.
وتكون المرحلة الثالثة أكثر اعتراكا، لأن التحول هنا بدأ يتشكل بين الذين يريدون صياغة الحلم، فتتوجه الأيدي إلى الجميع، الجميع يتهم الجميع، ويبدأ التصارع مرة أخرى، وهنا تبرز الأبعاد الفكرية المتعددة في المجتمع العربي وفي الثورة التونسية وفي الربيع العربي، ويبقى التصارع قائما تصارع فكري ينعكس على الجسد، فلا بد أن الجسد هو حمّال الأذى كما يقال.
وهنا لا بد من التوضيح أن المسرحية مهما وجهت الأيدي إلى الآخر، فهي تمثل إدانة ذاتية، وهذا ما نلمحه في حالة ركحية حيث تشير الأيدي إلى الجمهور، فالخطاب هنا جماهيري، وإن أشار إلى المجموع العام في المجتمع، فهو يمثل إدانة ذاتية لهذا الصراع، وقد خفت وطأة الاتهام بشكل ما لتنبعج الإدانة إلى الذات، فالكل متورط ولا أحد بريء مما يحدث الآن في تونس أو الرؤية العربية إذا ما صح هذا التعبير، فتوجيه اللوم للآخر يتحول إلى إدانة ذاتية أيضا.
الرقمنة الحاسوبية والفيديو: اشتغلت المسرحية على سينوغرافيا الرقمنة والفيديو كوسيط تقني حديث، يطبل له البعض، ليكون في صلب الوسائطية المسرحية الجديدة، فبدت المستشفى من خلال صورة الفيديو، وهي تمثل حالة المرض وتعكس الصورة الواقعية للمكان، ولكنها في العرض لا تشتغل على هذه الصورة البسيطة بقدر الإشارة إلى حالة مرضية كبرى، وقد تمثلت هذه السينوغرافيا بشاشة توسطت خشبة الركح، واستخدمت بشكل فني، وبقيت الستارة تعمل في العرض بمستويات متعددة، فيبدو ما وراءها تارة شخصيات العرض المسرحي، وتبدو مرة ثانية صورة فيديو، وتبدو مرة ثالثة شاشة سينما، وخاصة فيما يتعلق الأمر بصورة القارب المنعكسة على الشاشة، واضطراب البحر وانقلاب القارب وتصارع الإنسان في البحر، وهنا إشارة إلى حالة المخاض الماضية والتي سينعكس عليها العنوان، عنوان المسرحية " ترى ما رأيت" فهذه الصورة هي " ما رأيت " لم تستمر هذه الصورة كثيرا، حيث تبدو الشخصيات تظهر للعيان بصورة جزئية العنوان " ترى ".
بما يخص هذه الجزئية وأنا لا أخفي أنني لا أحبذ استخدام الشاشات بكل أنواعها في العرض المسرحي الحي خارج إطار السينوغرافيا، ليس لأنها تشتت المتلقي، ولكنها تغيب الممثل أيضا، فالممثل الحي هو حمّال الخطاب والمعنى، والصورة السينمائية، صورة مسجلة ماضوية، فهي لا تكون تحت عنوان المسرح.
وهذا لا يعني أن نتجنب الوسائط الحديثة، شريطة أن تكون سينوغرافيا، وتشتغل، ولكن لا تشتغل على خطف العرض المسرحي الحي، ولا تشتغل على تغييب الممثل، ولا تشتغل على تغييب المسرح في نهاية الأمر، فالخشية من هذه الوسائط أن يصبح المسرح سينما منزلية، عندئذ سيطرح سؤال كبير بألم لماذا أذهب إلى المسرح؟ هذا سؤال مشروع، لأن خشبة المسرح فاضت بالتقنية المسجلة وحتى الدعوة إلى الرقمنة " المسرح الرقمي " وهنا حالة تبدو متردية، قد لا يحسد عليها من يهمه المسرح.
ومرة أخرى سأشير إلى تلك اللقطة السينمائية والتي بدت مقحمة في العرض، صورة الماضي من خلال القارب في البحر، كان بإمكان المخرج أن يشتغل على مجموعة الممثلين " أجساد الممثلين " كسينوغرافيا في العرض بتشكيل هذه الأيقونة ومن وراء الستارة، فتوحي بحالة الماضي، وهنا قد يكون اكتسب خاصيتين، الابتعاد عن الصورة المسجلة السينمائية، والاشتغال على عرض حي يتمثل بأجساد الممثلين، ولا ننس أن هناك سريرا في السينوغرافيا، وممكن أن يشكل منه قارب، هذا الشيء ليس بالصعب، وهو عندئذ ليس تشكلا عاديا، بل تأويليا، وهذا الإقحام في الصورة التقنية على مستوى الفيديو والشاشة، يستطيع المخرج أن يتخلص منه، ليكون العرض المسرحي الحي تعبيري حي بعيدا عن التسجيل.
الكوريغرافيا: لا شك أن عرض ترى ما رأيت عرض كوريغرافي، وتمثل في الرقص التعبيري، والذي يشتغل بالتشابك مع الموضوع المطروح على خشبة المسرح، وهذا الرقص التعبيري، هو الذي يمثل بعدا تأويليا في العرض المسرحي الحي، لأنه تشاركي وينتج العرض المسرحي، ومن خلاله ينتج المعنى، فالجسد حامل للمعنى، وقد حمله في هذا العرض، وبالوقوف على هذه الرؤية الكوريغرافيه ليست حالة اعتباطية، وليست حالة تقسيم ما بين الرقص العادي أو البالية والرقص التعبيري، ولهذا يجب الاشتغال على هذا الرقص مرتين، المرة الأولى على مستوى التدريبات الجسدية العضلية والذهنية، وهذه الجزئية صعبة وبحاجة إلى فنيين متخصصين، والجزئية الثانية هو أن يكون تعبيريا تشاركيا في العرض المسرحي، وهذه الجزئية فنية كرؤية إخراجية ودراماتورجيا. وبذكر الدراماتورج أشير إلى أن العرض بني على خطاب شعري، وهو يبدو بهذه الصورة كدراماتورج، فلم يكن لدينا نص مسرحي، بل خطاب شعري توافق مع الرؤية الإخراجية والكوريغرافيا بإنتاج المعنى من خلال أجساد الممثلين، فالعرض مرة أخرى يمثل مسرح الصورة.
وبما أنني ذكرت الخطاب الشعري، وهنا أشير إلى المخرج، ألم يكن بإمكان الممثلين أن يتقاسموا هذا الخطاب؟ وخاصة أن هناك حالة حوارية في العرض تدور بين الرجل والمرأة، وإن بدت بلغة ثنائية. صحيح قد يكون الأمر صعبا على الممثلين؛ لأنهم اشتغلوا كوريغرافيا من بداية العرض حتى نهايته، لكن اندماج الخطاب اللغوي في الجسد يمثل اندماجية أكثر في العرض المسرحي، وخاصة أننا نتحدث عن رقص تعبيري وليس بالية، الرقص التعبيري اندماجي وباستطاعته حمل الخطابين اللغوي والجسدي، والبالية رقص فردي أو جماعي هو أكيد مجازي، لكنه لا يستطيع حمل أكثر من خطاب الحركة الجسدية المرنة.
العرض المسرحي، يعبر عن حالة تعبيرية " مسرح تعبيري " عن الإنسان وما يتنازعه من قيم روحية تنعكس بالتالي على معاناة جسدية، وهذه التعبيرية وكما أشرت آنفا تدور حول الراهن العربي/ الراهن التونسي.
إن الممثل في عرض " ترى ما رأيت " ومن خلال الخطاب الجسدي، اشتغل بجهد كبير، وهو يحمل الخطاب والمعنى، وما بعد المعنى " التأويل ". العرض المسرحي يتكئ على جسد الممثل ليمثل مسرح الصورة، فهو أكثر بكثير من هذه الرؤية التي تبدو فجة، فعندما نقول مسرح الصورة يبدو للوهلة الأولى حالة مجازية، وقد يشتغل عليه البعض بهذه الصورة، ولكنه في هذا العرض رؤية تعددية.
والتشكيل الجسدي في العرض يتواءم مع الخطاب الشعري، فالشعر إحساس ذاتي وجمالية روحية، تتناغم معه كل الحواس الإنسانية، فالجسد يقدم الموضوع وهو الخطاب النصي في العرض، من خلال الجسد الذي يتمثل بالحركة والإشارة والصوت والموسيقى واللون والضوء وبحالة ذهنية واعية.
وبالوقوف على العنوان " ترى ما رأيت " يوحي إلى حالة المعاناة القديمة الحاضرة، مازال المخاض التونسي يشتغل على مستوى الرؤية الفكرية، وهذه الرؤية ما بين صراع وهدنة. تبحث عن الاستقرار النهائي في إطار رؤية مؤسساتية تحتاجها كل الدول العربية أيضا.
وبالإشارة إلى المسرح التعبيري، فإن الوضع العربي بشكل عام وبشكل خاص لكل بلد عربي هو بحاجة لتصحيح المسار، وهذا العرض جاء إدانة لهذا المسار المعوج على كل الصعد التي تشكل المجتمع العربي: الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، الثقافي " الفكري "، كل المجتمعات العربية بحاجة لاستراتيجية تصحيح مسار، ولكن برؤية تشاركية بعيدا عن النرجسية التي تعني أولا وأخيرا الفساد.
العرض اشتغل بتشابك جزئياته الثلاث، والرؤية الإخراجية عملت جاهدة على تشابك جزئيات العرض كلها من خلال مقولة الحب الروح/ ومعناة الجسد التي بدأت من أول العرض لتنتهي به، بأداء كوريغرافي منسجم مع أطروحة العرض كموضوع، وحضور وسائط تشاركية وتنتج المعنى.
***
منصور العمايرة كاتب وناقد مسرحي أردني
عمّان يوم 7-5-2013
0 التعليقات:
إرسال تعليق