أنتونان أرتو.. أول بذور الحداثة في المسرح الفرنسي
مجلة الفنون المسرحية
جان باروه: أرتو رجل تحول إلى مسرح
أرتو صاحب فلسفة مغايرة في المسرح الحديث
يفجر نظريته عن المسرح في عمله الشهير «منفيستو مسرح القسوة»
فكرة القرين الفلسفية تسيطر على نظرية أرتو حول المسرح
أرتو يصل إلى نتيجة مفادها أن النص عدو الممثل ويجب تفكيكه
يفضل أسلوب العروض الدينية في التطهير ويشير بأهمية مرونة خشبة المسرح في الأحداث
ينادي بالعودة للخدع المسرحية واستخدام المانيكان كبديل للمثل
(أتطلع إليه دائما وأراه كما هو.. واقفا في حلق النافذة ومطرقا رأسه الصغير الى بلاط الطريق وملقيا بوجهه الكثير البروز إلى لحظة صمت... يعرف معنى الحب ومعنى القسوة ويمضي باتجاه أحزان هو يعرفها يلملم ما بقي من الإنسان في سطور تنداح فوق الورق ويرسم دراما صغيرة فوق كوفيته المطرزة بالدموع).
هذا الكلام ليس شعرا ولا قصيدة لكنه بالطبع أقرب إلى الشعر هذه كلمات الأديب والناقد الفرنسي جان لوي باروه في وصف أنتونان أرتو لغز المسرح الفرنسي أنتونان أرتو الذي ربما لم يعرفه غير قلائل في عالمنا العربي على الرغم من أنه يعتبر صاحب بذور التجريد والتجديد أيضا في المسرح المعاصر ولعلني استعير كلمات معاصرة المسرحي الكبير أوديبرتي حينما قال عنه أنه ه
و اللغز الوحيد في المسرح الفرنسي الذي استعصى على الحل بل بالعكس فهو يزداد التباسا كلما أعيد فتح الحديث عن أرتو كقضية فنية قابلة للنقاش حيث تتفجر قضية مسرح أرتو من آن لآخر هنا وهناك بين أوساط المسرح العالمية ففي الرابع من مارس الحالي قامت ولأول مرة الحكومة الفرنسية بالاحتفال بذكرى رحيل أنتونان آرتو حيث أعيد إطلاق اسم (الفريد جاري) على أحد مسارح الجيب في باريس وهو نفس الاسم الذي كان قد أطلقه على فرقته المسرحية التي أسسها في عام 1926 مع روبير أرون وروجيه فتراك وقدم مسرح الشباب ايضا عدة عروض مسرحية له من بينها (آل تشنشي) والتي رحل آرتو من باريس على اثر مهاجمته بعد عرضها.
و اللغز الوحيد في المسرح الفرنسي الذي استعصى على الحل بل بالعكس فهو يزداد التباسا كلما أعيد فتح الحديث عن أرتو كقضية فنية قابلة للنقاش حيث تتفجر قضية مسرح أرتو من آن لآخر هنا وهناك بين أوساط المسرح العالمية ففي الرابع من مارس الحالي قامت ولأول مرة الحكومة الفرنسية بالاحتفال بذكرى رحيل أنتونان آرتو حيث أعيد إطلاق اسم (الفريد جاري) على أحد مسارح الجيب في باريس وهو نفس الاسم الذي كان قد أطلقه على فرقته المسرحية التي أسسها في عام 1926 مع روبير أرون وروجيه فتراك وقدم مسرح الشباب ايضا عدة عروض مسرحية له من بينها (آل تشنشي) والتي رحل آرتو من باريس على اثر مهاجمته بعد عرضها.
الحديث عن أرتو شائك وصعب وربما قد نفقد خطوط التعبير في معرض حديثنا عنه لكن المحور الرئيسي الذي ربما يدور حوله سيناريو عبقرية أرتو هو رؤيته الجديدة للمسرح بل وللفن عامة ونحن نعرف أن في الوقت الذي نضج فيه فكر أرتو كان المسرح الفرنسي مازال يحبو على أبواب الحداثة كما لم تكن أعمالا مسرحية كبيرة وعبثية قد عرضت مثل الآلهة الجهنمية لجان كوكيتو لكن كان هناك أيضا بوادر للتجديد ومحاولات لا بأس بها مثل مسرحية (مرآة نركسيوس) الذي هاجم الجمهور فيها الممثلون في المسرح وكانت من تأليف كاتب مغمور يكتب تحت اسم مستعار (دي شاميلي) لكن على أية حال لم يكن الجمهور مهيئا بما فيه الكفاية لتقبل الشكل الجديد للعرض المسرحي ولا حتى النص على هذه الخلفية أتى أرتو وحاول تقديم معادل مسرحي لفكرة الضمير وفكرة التطهير ربما من خلال منظور حديث لكنه يظل نفس الغرض الذي يستتبعه التطهير القديم او الكاثارسيز.
ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أن أرتو حاول ان يدخل الى المسرح من خلال نفسه فعقدة الصراع عنده تظهر بشيء من الغموض صراعات تدور داخل آرتو نفسه الذي كان يعاني مرضا عصبيا منذ الصغر وأتى الى باريس عام 1920 للعلاج لكن بدون جدوى فلجأ الى المهدئات والمخدرات أحيانا مثله مثل معظم أدباء وفناني فرنسا مثل كوكيتو وبودلير و غيرهم كثير بحثا عن الاتزان والمواءمة التي هي عين القضية التي كان يبحث عنها أرتو في مسرحه.
كان ارتو يطمح لأن تكون نظريته المسرحية حركه تلون المسرح الفرنسي ولقد عبر عن ذلك بكل قوة في عمله الشهير (منفستو مسرح القسوة) لكن بالطبع لم يلق أسلوب أرتو قبولا في بدايته وبعد فشل مسرحيته (آل تشنشي) التي أخذها عن نصوص مسرحية لشيلي وساتندال ورحل بعدها إلى المكسيك حيث قضى فترة كبيرة من حياته كتب فيها أعمالا عظيمة منها عمله الشهير والذي أبرزه كشاعر وفنان وليس ككاتب مسرح فقط وهو (رسائل إلى روديز) والذي نشر عام 1946 واعاد أرتو إلى دائرة الضوء مرة أخرى.
وربما شرح لنا كلام ارتو نفسه فكرته عن مسرح القسوة الذي رمز به الى فكرة تطوير المسرح ودعنا نقتبس منه هذه الفقرة حتى نستطيع تقريب الفكرة أكثر , يقول أرتو في منفستو مسرح القسوة أقترح مسرحا قائما على القسوة لأننا اعتدنا التقليل من قيمة كل شيء لذا عنت كلمة القسوة عندما نطقنا (الدم) في الحال لكني أقصد بمسرح القسوة مسرحا صعبا قاسيا بالنسبة لي أنا أولا ولا يتعلق الأمر على مستوى العرض بتلك القسوة التي يمكن ان يمارسها بعضنا ضد بعض بل يتعلق بتلك القسوة التي تمارسها ضدنا الأشياء ... لسنا أحرارا وقد تسقط السماء على رؤوسنا والمسرح يعلمنا ذلك وقبل كل شيء.
اذن لم يقصد أنتونان أرتو بمسرح القسوة ان يكون مسرحا للدم كما تفجرت بذلك معظم مسرحيات شكسبير لكن قصد تعرفا جديدا للتراجيديا وربما لا نخطئ إذا قلنا ان التراجيديا عند أرتو هي تلك التراجيديا التي تمارسها ضدنا الأشياء وهي تلك الفكرة المأساوية التي تقود أبطال التراجيديا بشكل أو بآخر.
ويمكن أيضا ان تخيل القسوة عند أرتو قسوه خالصة خالية من التمزق الجسماني والدم والعنف الجسدي هي قسوة فلسفية تعبر عن انبثاق الصراع بين الضديات وهي نفس الفكرة التي تدور حولها نصوص عمله الرائع (المسرح وقرينة).
وإذا اردنا ان نسجل رأينا الخاص فإننا نقول ان أرتو ناقدا أكثر منه كاتبا مسرحيا وهذا ليس عيبا فيه أو تقليلا من قيمته كفنان له قيمته الكبيرة ايضا فلعلنا نجد ذلك في العديد من فناني القرن العشرين التي كانت له نظرة مغايرة للتيمات الثقافية لعصرهم فمثلا تي أس اليوت الذي يقرأ شعره عشرات الملايين ليس إلا ناقدا نحريرا ومثقفا شديد التميز وهذا ايضا لا يقلل من قيمة إليوت.
اذن تغلبت حاسة النقد والتنظير القوية عند أرتو على فنه الشديد الحساسية وهذا الذي لم يتفهمه حينما لم تلقى مسرحيته (آل تشنشي) هذا الحس النقدي الذي يجعله يميل الى توضيح مستطرد لمعنى القسوة في مسرحه فيقول في رسالته الثانية عن القسوة.
(استخدم كلمة القسوة بمعنى حب الحياه بمعنى دوامة الحياه التي تلتهم الكلمات بمعنى ذلك الألم الذي لا يمكن ان تكون بدونه ضرورة لحتمية الحياه فالخير ينتج عن الإرادة عن الفعل الحر أما الشر فدائم ومستمر).
وعلى ما يبدو ان فكرة القرين أيضا تأخذ مساحة كبيرة من فلسفة أرتو المسرحية حتى انه يجعل لكل شيء قرين مثل القدماء بل ويجعل للمسرح قرين وهذا ما دفعه أن يطلق عنوان (المسرح وقرينه) على احد أهم مؤلفاته يجب ان نقر بداية أن فكرة القرين هي نابعة من أعماق أرتو تلك الشخصية الفصامية والمدفوعة دائما بقرين خفي يتماهى مع حالته النفسية اذن لماذا لا يكون للمسرح قرين؟ هذا ما عرض به أرتو وتتأتى فكرة قرين المسرح من وجود عالم متواز ومغاير للفن المسرحي من وجهة نظر أرتو وانه ليس تلك العالم المثالي المفارق للواقع عند أفلاطون بل هو نسخة طبق الأصل من عالمنا بكل ما يحمله من سقوط وخطايا لكنه يرتبط معه بخيوط قد يحرك بها كل قرين في عالم القرين قرينه أذن فكرة القرين هي مقابل لفكرة تقييد الارادة الحرة عند أرتو إذن يعترف أرتو ان المسرح مقيدا قرينه كما هو الحال في دنيا البشر والجمادات.
ولعل هذه يحيلنا مباشرة إلى فكرة النص المسرحي عند أنتونان أرتو فعلى ضوء تلك الخلفيات عن قرين المسرح وانعدام الفعل الحر حاول أرتو التحرر بشكل كبير من سلطة الاطار فهو يسير باتجاه تحرير المسرح من اطر نظن انها رئيسيه وأساس في العمل المسرحي وهذه هي مشكلته مع النص ففي البداية كانت كل أفكار أرتو تسير باتجاه تقديس النص واحترامه حيث شكل له النص في هذه المرحلة ركنا رئيسيا في العمل المسرحي لكنه قرر بعد ذلك انه يفضل أن يكون النص مرنا يتحرك فيه الممثل ببعض الحرية على ان يحترم كلا من المخرج والممثل النص لكنه حدثت له انتكاسه خطيرة في علاقته بالنص حيث أقر ان النص هو أحد الأشياء السيئة التي قد تمارس القسوة على الممثل فهو ييده ولقي به في سجن قاسي من حدود تمنعه من اطلاق عنان هزيانه المسرحي الذي قد يخلق حالة من تبرير مواجهة تلك القسوة اذن يجب ان نحد من سيطرة النص ثم نهاية أقر أرتو ان النص عدو مقيت يجب نفسه وانتهى به الحال في بعض الأحيان ان تكون المسرحية لا نصية فيقف الممثل يخاطب نفسه اما حائط او كومة من الأشياء ولعلنا نقول انه على الرغم من انه لم يستطع قهر النص تماما إلا انه نجح بعض الشيء في استلهام صيغه جيديه لعلاقة النص بالعمل المسرحي من كل جوانبه وفتح بذلك الطريق لجيل كامل من المسرحيين لأن يتحرروا من سلطة النص منهم جان باروه ثم بيكيت ويونيسكو فيما بعد.
هناك سؤال قد يطرح نفسه على تلك الحالة المسرحية التي خلقها أرتو في المسرح الحديث أو قل عدة أسئلة أولا هل كان أرتو واضعا لفكرة فوضوية تستلزم بالضرورة أن يعود الفن لبعض أشكاله البدائية ؟ ربما قد نلمح ذلك كثيرا في معظم اعمال أرتو فنجد ان أرتو قد أيد بشكل كبير فكرة أن يخلق العمل نفسه فوق خشبة المسرح فإذا كان الفعل المسرحي هو أبنا للضرورة والقسوة فعليه ان يعبر عن ذلك بكل الأشكال من هنا قد نستجلي في أعمال أرتو توائم كبير واستلهام للفن البدائي والمسرح بمفهومه القديم ولعل هذا أيضا هو ما رمى إليه نيتشة في تعبيره الدائم عن (الردة للبداية) فيرى أرتو أن الفعل التطهيري الذي يستتبع بالضرورة العروض المسرحية البدائية والتي كون هدفها ديني بحت مثل التي مازالت تقام في المعابد في بعض البلاد الآسيوية هناك الفعل المسرحي يقوم بالتطهير وطرد القسوة معا وربما قام بخلق حاله من المس التي تفهم ضمنا على انها حاله سحرية قد تعطي للحدث المسرحي ما يريده له أرتو بالتحديد لكن بالرغم من هذه الرأي يظل أرتو بعيدا عن الهوس الديونيسي الذي هو أساس المسرح ويفرق بين الحالة الهوسية التي تتلبس الممثل الديونيسي والراقص الديثورامبي القديم وبين الأداء الذي يقوم به الممثل في المسرح لأنه يرفض ان يتحكم الحدث أو العقدة في الممثل بل على العكس على الممثل ان يمارس المس (كما وصفه ارتو) دون ان يستغرقه هذا المس بشكل كامل.
أيضا حاول أرتو أن يوضح مدى اهمية أستخدام تقنيات من شأنها تطوير المسرح حيث نادى بأن تكون خشبة المسرح متحركه بقدر ما يستلزم ذلك العرض المسرحي ووضع المشاهد في وسط الأحداث ويشيد بتأثير العروض الدائريه التي يكون المشاهد في وسطها ومدى ما لها من تأثير سحري على المشاهد.
أيضا نصح أرتو بالعوده لبعض الخدع المسرحية واستخدام الأقنعة بل وأثر من ذلك حيث وضع فكرة أستخدام المانيكان او التمثيل الذي يتعدى طوله عدة امتار والذي يحل محل الممثل احيانا وقد يختفي الممثل ويظل المانيكان يعبر عن باقي العرض وهذه هي نظرية الشبحية التي استخدمها في عدة اعمال له.
عانى أرتو من المرض العصبي وفشل معه كل دواء وظل يزوى ويذبل كزهرة في الخريف حتى فارق دنيانا في الرابع من مارس عام 1948 عن عمر يناهز الثانية والخمسين عاما واستحق لقب أبو المسرح الفرنسي الحديث وكما بدأنا بوصف جان لوي باروه له نختم بصفة أطلقها عليه باروه ايضا حيث وصفه بانه (رجل تحول إلى مسرح).
-----------------------------------------
المصدر : باسم توفيق - وكالات خارجية
0 التعليقات:
إرسال تعليق