مسرحية "انتيجوني " لسوفوكليس ومسألة التمرد على نظام الحكم المستبد
مجلة الفنون المسرحية
مسرحية "انتيجوني " لسوفوكليس ومسألة التمرد على نظام الحكم المستبد
مسرحية "انتيجوني " لسوفوكليس ومسألة التمرد على نظام الحكم المستبد
الفن رسالة إنسانية تهدف إلى السمو بالانسان والرقي باحاسيسه تجاه الحب والخير والجمال. والاعمال الفنية الصادقة هي التي تدعو إلى ضرورة الكشف عن المجرمين أعداء الإنسان والحض على التصدي لشرورهم ومقاومتها، وكراهية الشر والدعوة إلي محاربته. هكذا تكون رسالة الفن وهكذا تكون وظيفة الوعي السياسي، المنبه على المخاطر المحدقة بالإنسان والداعي إلى محاربة قوى البغي والعدوان، التي قد تتمثل في محتل يغتصب حقوق الغير ويبسط عليه هيمنته، أو في حاكم طاغية ينتهك كل الحرمات.
وضمن الاعمال الفنية التي تطرقت لهذا الشأن منذ قرون طويلة مسرحية ((Αντιγόνη "أنتيجوني" للمسرحي اليوناني (سوفوكليس) الذي يصور بها الصراع بين القانون الديني والقانون الوضعي.
تعالج مسرحية (انتيجوني) مسألة التمرد على نظام الحكم المستبد من خلال صراع بين (انتيجوني) المرأة التي ترفض قرار الملك (كريون) بعدم دفن أخيها لانه بحسب الملك لا يستحق أن يعامل بكرامة ويدفن لأنه يمثل الشر فيما يسمح بدفن اخيه الاخر الذي قتل معه لانه يمثل الخير. كما تتطرق المسرحية لعلاقة الحب التي جمعت بين أنتيجوني وابن الملك.
تطرح هذه المسرحية قضية من أهم القضايا في تاريخ الإنسان ألا وهي : أين ينتهي حق الحاكم ومن أين يبدأ حق الشعب؟
أو بعبارة أخرى : عند أية نقطة يكون عصيان أمر الحاكم ـ أو القوة المهيمنة ـ شيئا لا مفر منه حتى إن كان العقاب عليه الدفن حيا في قبر صخري بين الأموات؟ كما فعلت أنتيجوني التي تموت شهيدة الدفاع عن القانون الديني الذي يقره الشعب والذي يأمر بدفن الموتى، فتتحدى الملك "كريون" الذي سن قانونا مغايرا يمنع دفن الموتى ويهدد كل من يتحدى قانونه ذاك بالموت. تقول "أنتيجوني" للملك "كريون": "حكمك علي بالموت لا يهم"!.
تقول الأسطورة اليونانية القديمة أن أوديب الذي قتل أباه لايوس وتزوج أمه جوكاستا أنجب من أمه أربعة أبناء : إيتيوكليس وأخاه الأصغر بولينيس وبطلتنا أنتيجوني وأختها إسمين. عندما اكتشف أوديب جريمة قتله لأبيه وزواجه من أمه، تلك الجريمة التي اقترفها من دون أن يدري، فقأ عينيه وسار هائما على وجهه لكنه قبل أن يترك مدينته لعن إبنيه ودعا عليهما بأن يقتل أحدهما الآخر. وتتشكل الأقدار بحيث يختلف الإبنان على الحكم، الذي كان من المفترض أن يتولياه مشاركة بالتناوب، إلا أن الأخ الأكبر إيتيوكليس يتفق مع خاله كريون على طرد أخيه الأصغر بولينيس مما يدفع بولينيس إلى تكوين جيش من الخارج ويحاصر مدينته محاربا أخاه وخاله ويقتتل الأخوان ويقتل كل منهما الآخر، ويقول سوفوكليس على لسان الكورس في نص المسرحية... هذان الأخوان في الدم، من أب واحد وأم واحدة، متشابهان في الغضب... تصادما وفازا بجائزة الموت المشتركة !
وبناء على هذه النتيجة يصبح الخال كريون هو الملك الحاكم والقوة المهيمنة، ويقرر لحظة تملكه السلطة أن يشيع جثمان حليفه إيتوكليس في احتفال يليق ببطل عظيم ويوسد جثمانه القبر بيديه، إجلالا وتشريفا للميت، بينما يأمر بعدم دفن جثة بولينيس لتنهشه الوحوش المفترسة والطيور الجارحة عقوبة لخيانته ـ من وجهة نظره ـ ويتوعد من يدفن الجثة ويخالف أمره، أيا من كان، بالموت الرهيب.
ونعرف أن عدم دفن الموتى خطيئة تحرمها العقيدة اليونانية القديمة التي تنص على ضرورة دفن الموتى ولو كانوا من جيش الأعداء. لكن الملك المتغطرس كريون، في حقده البالغ، يتعدى حدوده فيكسر عقيدة الشعب ويجور على الناس. ورغم هذا الجور البالغ يعقد الخوف ألسنة الجميع ولا يجرؤ أحد على مواجهة الظالم، وهنا تبدأ حكاية أنتيجوني حين تتقدم وحدها لتقاوم الملك الجائر وتقرر تحدي الأوامر الملكية تلبية للأوامر الإلهية التي تحث على دفن الموتى، وتقوم بدفن جثة أخيها رغم تحذير شقيقتها التي تتهمها بـ «حب المستحيل» لكن أنتيجوني لا ترى طاعة دينها محبة للمستحيل، بل هي واجب وأمانة في عنقها، فإذا كان كريون الظالم لا يخشى، وهو بشر، الأمر الإلهي فكيف تخشى هي أمر بشر طاغية ؟ وبشجاعة، مستمدة من إيمان مطلق بصحة موقفها تستعجل تنفيذ قراره الجائر بقتلها وتقول : اعطني المجد ! وأي مجد يمكنني أن أفوز به أكثر من أن أعطي أخي دفنا لائقا ؟ وهؤلاء الناس يوافقونني جميعا، ولولا أن شفاههم يغلقها الخوف، لمدحوني كذلك. يا لحظ الطغاة، إنهم يملكون امتيازات القوة، القوة الفاسدة، وهي أن يرغموا الناس على قول وفعل كل ما يرضيهم!
وحين يقتاد الحراس أنتيجوني إلى حيث ينفذ فيها الحكم القاسي بالدفن حية في قبر صخري بين الأموات تقول أنتيجون لا بد أن أموت، لقد عرفت ذلك كل عمري، وكيف أمنع نفسي عن هذه المعرفة... إذا كان علي أن أموت مبكرا، فإنني أعتبر ذلك مكسبا ً: فمن على الأرض يعيش وسط حزن كحزني ويخفق في أن يرى موته جائزة غالية؟
يحاول هيمون ابن كريون وخطيب أنتيجوني أن يعيد لوالده البصيرة بعد أن أعماه الغضب والكبرياء وجنون القوة، يقول له أحسن الكلام، لكن كلماته ليست لها أية قيمة إذا ما صاحبها الجور والعسف والبغي والطغيان، يقول هيمون : إن رجل الشارع يخشى طلعتك، إنه لا يقول أبدا في وجهك شيئا لا يرضيك، ولكن مهمتي أن أصيد لك الهمسات في الظلام، فأرى ; كيف تبكي المدينة هذه الفتاة الصغيرة.
هل يقولون أن هذا الموت الوحشي هو من اجل عمل عظيم؟... أم يقولون إنها تستحق تاجا لامعا من الذهب.
تأخذ كريون العزة بالإثم ويقول : وهل طيبة على وشك أن تعلمني كيف أحكم؟ فيضع الإبن المحب كلمته الأخيرة أمام الحاكم الذي استشرى فيه داء البغي فلا حيلة في شفائه : ليست هناك مدينة على الإطلاق يحكمها رجل واحد بمفرده !
مع خروج هيمون محتجا يدخل العراف الحكيم الأعمى ترسياس، فنرى كيف يكون بصيرا من فقد عينيه ويكون الأعمى هو من فقد بصيرته، يقول ترسياس : على الأعمى أن يسير مع دليل يرشده.
ولا يرى كريون، فاقد البصيرة، هذه الحكمة البدهية، ومع الغرور والعناد والتخبط الناتج عن الانفراد بالرأي والقرار الخاطئ، ينتهي بيت الطاغية كريون بالدمار، فيقتل الإبن نفسه وتتبعه أمه حزنا وهي تلعن زوجها كريون الذي خرب الديار على مذبح شهوة التسلط والإنفراد بالرأي وسطوة القوة الغاشمة.
منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي أصبحت مسرحية " أنتيغون " واحدة من بين أكثر المسرحيات الكلاسيكية التي يقبل كثيرون علي قراءتها أو ترجمتها أو عرضها علي خشبة المسرح . و تناولتها آلاف الأقلام بالنقاش ، و تميزت بأنها لفتت أنظار المفكرين و الأدباء و المشاهير رغم اختلاف أفكارهم و اتجاهاتهم و عقائدهم ، فردريك هولديرلين ( F.Holderlin )و جان كوكتو ( J.Cocteau ) و جان أنوي ( J.Anouilh ) و برتولد بريخت( B.Brecht) و هيجل ( G.W.F Hegel ) و كيركيجارد ( Kierkegaard ) و هيدجر ( Heidegger ) . لقد تمكنت هذه المسرحية بما تحويه من صراع متعدد الزوايا أن تضرب علي الوتر الحساس فس نفسية المشاهدين بمختلف العصور .
------------------------------------
المصدر : الموسوعة الحرة
0 التعليقات:
إرسال تعليق