'موت دانتون' مسرحية تزيل الأقنعة أمام حتمية الموت المعلن
مجلة الفنون المسرحية
'موت دانتون' مسرحية تزيل الأقنعة أمام حتمية الموت المعلن
ابو بكر العيادي
'موت دانتون' مسرحية تزيل الأقنعة أمام حتمية الموت المعلن
ابو بكر العيادي
بعد “جان المحظوظ” و”بعل” لبريخت، و”شبيبة دون ربّ” لفون هورفات، أقبل المخرج فرنسوا أورسوني على نص للألماني جورج بوشنر الذي تتسم أعماله مثلهما بالبحث عن الحقيقة والكتابة المسرحية المباشرة، هذا النص هو “موت دانتون” وقد ألفه بوشنر ليسلط الضوء على حلقة صاخبة من الثورة الفرنسية، جرت على بعد أمتار من مسرح “الباستيل” حيث تُعرض الآن.
لم يترك الألماني جورج بوشنر (1813-1837) سوى قصة قصيرة ومقالة هجائية وثلاث مسرحيات كانت تنبئ بنبوغه، ولكن الموت لم يمهله كي يتم مشروعه، إذ توفي ولم يتمم بعد عامه الرابع والعشرين، ورغم ذلك استطاع أن ينقش اسمه بأحرف من ذهب في سجل الأدب الكوني، وأن يكون من الأعلام الخالدين في ألمانيا، حتى أن أهم جائزة أدبية هناك تحمل اسمه.
والفضل يعود في جانب منه إلى مسرحيته الأولى “موت دانتون” التي تُعرض حاليا على مسرح “الباستيل” الباريسي، والتي تناولت إحدى الشخصيات الهامة في الثورة الفرنسية، ونعني بها جورج دانتون (1759-1794) الذي اختلف حوله المؤرخون، وإن اتفقوا على ظروف محاكمته وخصومته مع بطل آخر من أبطال الثورة الفرنسية هو روبسبيير، الذي أرسل رفيقه إلى المقصلة في 5 أبريل عن أربع وثلاثين سنة. ومما يروى أن دانتون صاح والعربة التي تقوده إلى المقصلة مارّةٌ أمام بيت خصمه “روبسبيير، أتتبعني! سيُهدم بيتك! وسيرشّ في مكانه الملح!”، وكأنما حدس أن خصمه لاحقٌ به لا محالة، إذ لم يأت يوم 28 يوليو من نفس العام حتى كان روبسبيير يقاد بدوره إلى المقصلة.
مئتان وثلاث وعشرون سنة إذن تفصلنا عن الأيام التراجيدية التي أعدم فيها جورج دانتون وروبسبيير وأصدقاؤهما، بعد أن التهمتهم ثورة قدحوا زنادها ثم صاروا وقودها، ثورة أشعّت على كامل أوروبا، وهزّت طغاتها، وأنارت للشعوب الخاضعة شموع الأمل.
وكشاب تأسف لإجهاض تلك الثورة العارمة وتألم لمصير أبطالها، بنى بوشنر مسرحية “موت دانتون” متخيلا الأبطال، بعد أن جُرّدوا من مناصبهم واقتيدوا إلى السجن، وهم يواصلون الكلام والنقاش والمواجهة، ليكشف دواخل أبناء الأنوار بعيدا عن الكليشيهات البطولية، وهو ما ركّز عليه مخرج المسرحية فرانسوا أورسوني، فما يهمه في المقام الأول، هو كشف الجوانب الحميمة، تلك الاضطرابات الإنسانية العميقة التي تنتاب أولئك الذين سيموتون، ونحس بقربهم منا في تلك اللحظات التي تزول فيها الأقنعة أمام الموت المعلن.
في هذه التراجيديا يُشرّح بوشنر الثورة الفرنسية، ويرسم بدقة الانتشاء الذي استولى على الرجال والنساء، وعنف الصراع على السلطة، وقوة الشعب التي تجعل الثورة ممكنة، وبؤسه الذي يجعلها متغيرة لا تستقر على حال.
بوشنر يخلق في المسرحية شكلا شاعريا وسياسيا يفرض على المتفرج النظر إلى رجال الماضي عبر أسئلة الحاضر
المسرحية كتبها بوشنر على عجل، في خمسة أسابيع، ولم يتخطّ بعد عامه الثاني والعشرين، لأن بوليس إمارة هيسه كان يراقبه، بعد أن أصدر مقالة نارية عدّها غليوم الثاني ثورية.
وفي هذه المسرحية، يتمرد الشاب بوشنر على مثالية شيلر وغوته ليبتكر مسرحا جديدا، تجريبيا، في لغة تتقد إدهاشا وحيوية، إذ يدمر من الداخل ما كان يمكن أن يتحول إلى مجرد مسرح توثيقي، ليخلق شكلا شاعريا وسياسيا يفرض على المتفرج أن ينظر إلى رجال الماضي عبر أسئلة الحاضر.
تبدأ المسرحية لحظة توجيه التهم، ولا ندري هل كان دانتون وقتها يعتقد حقا أن حسن طالعه سينجيه، أم أنه كان مقتنعا بالمآل المحتوم الذي سيقوده إلى المقصلة؟ هناك حيث أُرسِلَ عددٌ من المساجين، وهناك أيضا حيث سينتهي متّهموه، بدءا بروبسبيير، وقد ساقهم جميعا إلى الموت منطقُ تطهيرٍ جنونيٌّ ذو نسق متسارع.
لا يصدر بوشنر أحكاما قاطعة، ولا يقدم دروسا، ولا يقع في الإيجاز المخل، بل يعرض تعقّد الوضعية التاريخية، حيث يلتقي رجال تجرؤوا على رفع أيديهم ضد الملكِ خليفة الله في الأرض، وضدّ قارة أوروبية معادية، وتحملوا تبعات أعمالهم أمام تاريخ لم يقدّم لهم كتيبا في “طريقة الاستعمال”.
ومن ثَمّ يشاهد الجمهور الذي لا يفصله عن الخشبة حاجزٌ الجدلَ الحامي الذي يلي كل المراحل الثورية، حين يصبح صدام الضمائر والاختيارات والترددات والخيانات أمرا واقعا، ولنا أن نتصور كيف طبعت تلك الأحداث، بملمحها الدرامي وتحديها لعظام تلك المرحلة، الذاكرةَ الجمعية، وكيف خلقت هوية وطنية، وخطّت سردية لم يكتب بعدُ على صفحتها أي شيء، حتى وإن أوهمنا بوشنر بأن ماكنة ساحقة كانت قد بدأت تدور وتفرم بلا رحمة.
“موت دانتون” تحوم حول الجدل البلاغي، مع إحالات على الجمهورية الرومانية، وتضع المتفرج مباشرة في حمّى الفعل، حيث باريس موطن رعب يأتي الموت فيه من كل صوب، بسبب كلمة، أو سلوك، أو لباس لا يرضي.
في هذا الجو المتوتر، يلوح دانتون كرجل لا يريد أن يواصل الصراع، لا يني يردد بينه وبين نفسه أنهم “لن يجرؤوا”.
ولكن الآلة الجهنمية كانت قد انطلقت تعمل بلا هوادة، فتجر معها دانتون ورفاقه من الصالون إلى الغرفة، ومن الرواق إلى الزنزانة، ومن الزنزانة إلى المقصلة، والمسرحية أشبه بنشيد غنائي طويل يرافق الشخصيات في انحدارهم، حيث سيواجهون الموت، الذي ابتدعوه هم أنفسهم.
--------------------------------------
المصدر : جريدة العرب
0 التعليقات:
إرسال تعليق