أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأربعاء، 9 نوفمبر 2022

العلامات والأنساق الدالة في العرض المسرحي " كونيكسيون " لفرقة المسرح الطلائعي

مجلة الفنون المسرحية
مفتتح:
المسرح الطلائعي:
من اسم الفرقة (المسرح الطلائعي) يتضح اختيارها الفني، ونوعية المسرح الذي تراهن على تقديمه للمتلقي. فالطلائعية كما ورد تعريفها في موسوعة ويكيبيديا: "هي مصطلح أدبي يشير إلى الأشخاص أو الأعمال التجريبية أو المجددة، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالفن والثقافة والسياسة والفلسفة والأدب." وتضيف: "تمثل الطلائعية الخروج عن حدود المعيار الاجتماعي أو الوضع الراهن وخاصة فيما يتعلق بالوسط الثقافي". من هنا فالمسرح الذي يدخل نفسه ضمن خانة المسرح الطلائعي، لا يركن إلى ما هو قائم، بل يعمل على تعرية الواقع، وكشف اختلالاته، وإظهار زيفه... إنه مسرح لا يهادن أو يداهن، إنما هو مسرح يشاكس ويناور من أجل وضع المجتمع وجها لوجه أمام نواقصه وأعطابه، ويجعل المتفرج/ المتلقي يرى حقيقة نفسه عاريا من كل المسوح التي يوهم ذاته بقدرتها على ستر عوراته، وإخفاء سقوطه...
مسرحية (كونيكسيون) طلائعية بكل ما في الكلمة من معنى، تستمد مشروعيتها من رواد المسرح الطلائعيين الذين تركوا بصماتهم على المسرح الحديث والمعاصر. إنها صورة لواقع مهزوز، ظاهره الانسجام في حضور الربط بشبكة الأنترنيت، باعتبارها وسيلة للاستلاب الذي يعاني منه الإنسان المعاصر، وأداة لقهره والتحكم فيه، ومساحيق وأصباغ لتعمية الوضع المزري الذي آل إليه.. وفي غياب الكونيكسيون تظهر حقيقة الإنسان التي تكرس التيه والتمزق والتشظي والتشيئ... إنها مأساة الإنسان المعاصر. 
خصوصية المسرح ومنهج دراسته:
المسرح ظاهرة ثقافية، و(هو آلية تواصلية كذلك، ومن خلال اشتراط بنيته الإشارية على وجود المرسل\ الممثل، والمرسل إليه\ المتفرج. غير أن العرض المسرحي كنسق سيميائي، غير خاضع للاعتباطية، لأن شبكة علاقات المسرحية متلازمة بين دلالاته ومدلولاته. عندها؛ تكون خاضعة لآلية اشتغال، وهي الآلية الخاضعة –أيضا- لمشروطية تموضعها ضمن سياق العرض المسرحي) 
إن العرض المسرحي المعنون ب (كونيكسيون) وحدة سميائية، أي علامة كبرى، تتضافر في بنائها مجموعة من العلامات، مشَكِّلة بذلك منظومة علاماتية، تُكوِّنُ كلُّ زمرة من العلامات المترابطة بينها بشبكة من الوشائج في سياق نص العرض نسقا سواء على مستوى التيمات التي يقدمها العرض كتيمات السفر والانتظار والرجولة... أو على مستوى مكونات العرض العلاماتية غير اللغوية كاللون والضوء، والمكان والممثل باعتباره علامة وحاملا للعلامات...
إن الممارسة الحديثة أو الطلائعية للمسرح ترفض الاعتماد على النص كعنصر مركزي وحيد في العملية المسرحية، بل تعتبره مجرد عنصر من عناصرها، وقد يكون أقلها شأنا. بيد أن المسرح الحقيقي هو ما يتجسد أمام المتلقين، أو وسطهم، من أفعال الممثلين وأقوالهم وباقي مكونات العرض المسرحي. وبالرغم مما قيل  يبقى النص الدرامي ركيزة أساسية  في العمل المسرحي، فهو الذي يقربه كثيرا من الأنواع السردية، لأن منطلقه ومعتمده الأساس نص سردي، بغض النظر عن ذلك النص ومكانته ضمن باقي المكونات المسرحية الأخرى. 
تتميز الظاهرة المسرحية بثنائية (نص- عرض)، فالنص هو العمل المكتوب أو المنطوق الذي يقرب المسرح من الأنواع السردية كالقصة والرواية، والعرض هو الإنجاز الفعلي للعمل المسرحي بمكوناته المختلفة (ممثلون، حركة، ضوء، موسيقى...) هذا المعطى (العرض) يُدخل المسرح ضمن الأشكال الفرجوية.
2) العرض المسرحي علامات متنوعة وأنساق دالة:
إن خاصية (نص – عرض) تميز المسرح عن غيره من الأعمال الفنية، ف ( العرض المسرحي يتكون من مجموعة أنساق لغوية وبصرية، تدخل بسيرورة اشتغال محطتها الأولى النص الدرامي، والثانية العرض.)  ومن هنا فالعمل المسرحي في كليته هو نسق من العلامات اللغوية وغير اللغوية، تندرج تحت مجموعة من الأنساق غير المتجانسة، بيد أنها تكتسب فوق خشبة المسرح صفات الترابط والتجانس والتتابع. وبذلك يصبح العرض المسرحي وحدة سيميائية أي علامة كبرى (تضم كل الأنساق العلاماتية الأخرى). 
تتجاور في العرض المسرحي العلامات السمعية والبصرية، وهذا ما يمنحه خصوصيته. وفي إطار هذا التصور فالنص ليس هو العلامة الكبرى، إنما هو نسق ضمن غيره من الأنساق الأخرى. وهذا يعني أن العلامة الكبرى هي العرض المسرحي، والنص نسق من أنساقه. يقدم العرض المسرحي على الخشبة للمتفرج الذي يتلقاه على أساس أنه شبكة علاماتية متعددة أنساقها ومختلفة (خطاب لغوي، نص، مخرج، ممثل، ديكور، أكسيسوار، إضاءة، ماكياج، أزياء، موسيقى...) . وهذه العناصر تشتغل في سياق العرض المسرحي، وتكتسب العلامات في سياقها المسرحي الجديد مقومات لا تملكها في الحياة الواقعية...
هذا الوضع المميز للمسرح (نص-عرض)، يجعله مبنيا على مجموعة من العلامات اللغوية وغير اللغوية، وهذا ما فرض على المهتمين بشؤون المسرح إيجاد منهج علمي خاص يدرسه انطلاقا من خصوصيته تلك، (فكانت السيمياء، ذلك العلم اللساني الذي يهتم بالبحث في العلامات، وأنظمتها، والعلاقات القائمة فيما بينها، هي العلم الذي يصلح منهجه في التحليل لدراسة فن المسرح، ويلائم طبيعته المزدوجة. لا سيما وأن المسرح ذاته مجموعة من العلامات اللغوية وغير اللغوية.)  
إن العلامات المتنوعة والأنساق المختلفة التي يحبل بها النص الدرامي والعرض المسرحي تدرسها السيمياء/ السيميولوجيا التي تطورت في إطار مدارس واتجاهات مختلفة على أيدي طائفة من النقاد، كل واحد منهم أسهم بلبنة في بناء ما بات يعرف بسيميولوجيا المسرح، وقد عرفها باتريس بافيس بأنها ( منهج  لتحليل النص\ العرض يركز على الترتيب الشكلي للنص، أو العرض ككل على أساس الترتيب الداخلي لهذه المنظومات الدلالية التي تصنع كلا منهما، على أساس ديناميات عمليات المعنى، وتوطيد الشعور خلال مشاركة فناني المسرح والجمهور). وهي لا تهتم بالكشف عن المعنى، ولكن دورها يكمن في بيان كيفية بنائه وإنتاجه. فالمعنى يبنى من خلال تتبع العلامات المختلفة، لغوية أو غير لغوية، وتجميعها في زمر متجانسة أو غير متجانسة، تشكل أنساقا دالة (والنسق جسر نحو صوغ المعنى).  فالأنساق الدالة تسهم في بناء المعنى وتشييد الدلالة عن طريق عملية التأويل، ارتباطا بالعلامة لغوية أو غير لغوية وبنيتها الخاصة وأبعادها دون إغفال عنصري المقصدية والسياق...
3) سيرورة التأويل، نحو مقاربة سيميائية :
إن الفرق واضح بين تحليل نص مسرحي مكتوب، وتحليل عرض مسرحي منجز فوق خشبة أمام المتفرجين. الأول (النص المكتوب) مكون من علامات لغوية، وحتى العلامات غير اللغوية فإنها تقدم من خلال علامات لغوية تدرك بصريا على شكل حروف... أما الثاني (العرض المنجز) فهو مكون من علامات لغوية وأخرى غير لغوية تدرك بالسمع (مختلف الأصوات)، وبالبصر (الممثلون، والحركات، والأشياء...). ( وبهذا تكون سيميولوجيا المسرح منهجا لتحليل النص الدرامي والعرض، ولا تبحث عن المعنى بحد ذاته(...) وكذلك {تركز} اهتمامها في المرحلة الأولى على البناء الدرامي الشكلي، أما في المرحلة الثانية {تخصص} لتنظيم الأنساق اللغوية والبصرية التي يشكلانهما معا، أي كل ما هو لغوي وبصري، الأول ينتجه النص الدرامي، والثاني ينتجه نص العرض).  
سنبدأ هذه المقاربة بتتبع حدث النص الدرامي الذي هو جزء من العرض المسرحي
3-1-) تتبع الحدث:
3-1-1)  المتن الحكائي:
تروي المسرحية حكاية شخصين غريبين يلتقيان في محطة للقطار ينتظران وصوله. نراهما في البداية في وضعية واحدة مبتسمين فرحين، كل واحد منهما يحمل حقيبته، غارق في عالمه الخاص، منعزل عن محيطه، يضع سماعتين في أذنيه، منهمك في الشات عبر هاتفه مع فتاة من العالم الافتراضي، يسعى جاهدا إلى نقلها من الافتراضي إلى الواقعي، حيث يطلب منها رؤية صورتها الواقعية\ الحقيقية، وإطْلاعه على أعضاء حساسة من جسمها. 
من خلال حواريهما المتشابهين/ المتداخلين (كأنه حوار واحد) نتعرف عليهما، واحد اسمه علال في الثلاثين من عمره، ينتظر وصول القطار ليحمله إلى (الثكنة العسكرية) للانخراط في صف الجنود. والآخر اسمه العربي في الثلاثين من عمره، هو أيضا ينتظر وصول القطار، ولكن لم يحدد وجهته بالضبط، كل ما صرح به هو أن سفره من أجل تغيير وضعه، والتعبير عن تدمره من الأوضاع التي يعيشها.
فجأة ينقطع الربط بشبكة الأنترنيت (الكونيكسيون)، وتنقلب الأمور رأسا على عقب، فتتحول الابتسامة إلى عبوس، والفرح إلى قرح. يكتشف كل منهما الآخر، فيصبح التواصل بينهما أمرا ضروريا، إلا أنه بدأ عسيرا فيه عنف (لفظي) بسبب الفوارق الثقافية، والنظرة إلى الحياة. لذلك امتد (الصراع) بينهما من خلال الحوار الذي يحتدم أحيانا فيرفع كل واحد منهما صوته في وجه الآخر. وبين الفينة والأخرى يحاول كل واحد منهما النظر إلى هاتفه ليتأكد من عودة الكونيكسيون، ليعود إلى عالمه الأثير. 
ولما تيقنا من أن الربط بشبكة الأنترنيت متعذر، اقترح العربي على علال الشات الواقعي مع إنسان من لحم ودم. بعد بداية عسيرة، ينطلق الحوار بينهما ليُظْهر كل واحد منهما السبب الذي جاء به إلى محطة القطار. فعلال ابن البتول بائعة الحساء (بائعة الهوى) للبحارة، أتي إلى هذا العالم من نزوة، أو بتعبير أدق (حسب مواضعات المجتمع) علاقة غير شرعية مع بحار اسمه (الغانجو)، لكنه رفض الاعتراف بابنه علال. فظلت وصمة لقيط ملتصقة به. لذلك فهو في رحلة\ هروب إلى (الثكنة العسكرية) لإثبات رجولته لأمه وللآخرين...
ويصل دور العربي ليكشف عن سبب وجوده في محطة القطار، فهو بدوره ينحدر من بيئة اجتماعية فقيرة، فأبوه (كراب) سقاء يبيع الماء، كافح من أجل تعليم ابنه، لكن هذا الأخير لم يعد قادرا على المزاوجة بين وضعه الافتراضي في وسائل التواصل الاجتماعي الذي يتقمص فيه أدوارا (تمويهية) مخالفة لوضعه الواقعي (كراب مثل أبيه). فرحلته\ هروبه من وضع اجتماعي لا يتناسب ووضعه الاعتباري\ مثقف (من حاملي الشهادات المعطلين)، فهو مستعد للنضال من أجل تحقيق أحلامه التي يصبو من خلالها إلى تغيير وضعه الاجتماعي.
ويستمر الحوار بين علال والعربي ليكشف كل واحد منهما عن دواخله وعقده وتطلعاته وهواجسه، إلا أنه ظل حوارا متشنجا يصل إلى درجة من الاحتدام، يتهم فيه كل منهما الآخر بنبرة تهكمية استفزازية متحدية بأنه (ماشي راجل). ويبلغ التحدي مداه عندما يحرض العربي (المثقف المناضل) علالا (الجندي المدجن) على العصيان واعتراض سبيل القطار (إغلاق المحطة). بعد أخذ ورد يقتنع علال بدعوة العربي لاعتراض سبيل القطار وإغلاق المحطة. بعد إغلاقها يشكك علال في جدوى هذه العملية. وفي لحظة مكاشفة يتقدمان معا إلى مقدمة الخشبة ويجلسان على حقيبتيهما جنبا إلى جنب. فيعترف العربي بأنه لا يقدر على العودة إلى الوراء (عند الكراب)، لكن ناقوس (جرس) الكراب لا يفارق طنينه رأسه، فيسأله علال (ياك ما ناقوس الخطر؟) فيجيبه العربي (اييه هو). فيعبر لعلال عن خوفه على أبنائه( المستقبل) وعلى نفسه (الحاضر) وعلى البلاد. يربت علال على كتف العربي ويطمئنه بأن (البلاد فيها الرجال وحتى النساء، فيها الكراب والبتول)، وينتهي الحوار باعتراف العربي بفضل الكراب عليه وشرف مهنته رغم قساوة ظروفه، وكذلك يُقِرُّ علال بفضل البتول عليه، وبكونها شريفة بغض النظر عن حياتها وسط البحارة " الموسخين".  
كل شخصية تحمل معها ما يذكرها بانتمائها الاجتماعي، وهذا دليل على افتخارها بذلك الانتماء. فالعربي يحمل طنين جرس السقاء في رأسه، وعلال يحمل في حقيبته قميصا للبتول... وتنتهي المسرحية بقول العربي لعلال: أنت راجل أنت راجل ... 
فيسأله علال : والتران (القطار)؟ 
فيجيبه العربي: هو اللي ما صدق راجل !! 
ينتهي العرض وهما جالسان فوق حقيبتيهما يتكئ أحدهما على الآخر ظهرا لظهر.
وقد تخللت المسرحية تدخلات المذيعة الداخلية لمحطة القطار تنبه فيها المسافرين إلى أن وقت القطار القادم من هناك والمتوجه إلى هناك قد حان، فيتحركان باتجاه الرصيف رقم 20 ينتظران قدومه، لكن المذيعة في كل مرة تعتذر لهما لأن القطار لم يحضر في موعده.
3-1- 2)   الحبكة: 
والمقصود بالحبكة هو رصد أحداث العرض المسرحي من خلال وضعية بدئية، والعناصر المتحكمة في نمو تلك الأحداث وتطورها وتحولها في إطار صراع درامي يصل إلى عقدته وذروته، ليبدأ في الانحلال والخفوت، لينتهي بوضعية ختامية.
والملاحظ أن أحداث هذا العرض المسرحي تتحكم في تناميها وتطورها عدة عوامل: منها ما هو خارجي (كالكونيكسيون)، وصوت المذيعة الداخلية للمحطة... وعوامل أخرى داخلية كالاسترجاع (الفلاش باك)، والأحلام والاستيهامات... والأحداث ترتبط فيما بينها بروابط منطقية تؤدي إلى تسلسلها، وأخرى سببية من خلال ربط النتائج بمسبباتها. وإن كان هذا الترابط والتسلسل يختل أحيانا كما هو الحال في عملية (الفلاش باك)، فإن ذلك (القطع) لانسيابية الحكاية يلقي الضوء على الأحداث ويبرر وقوعها... 
يمكن تقسيم المسرحية إلى عدة  ثلاثة مقاطع إجرائية لبيان كيفية تنامي الأحداث وتطورها وتحولها: 
المقطع الأول: 
وضعية البداية\ الانسجام \قبل التحول
- من بداية العرض إلى انقطاع الربط بشبكة الانترنيت(الكونيكسيون):
تبدو الشخصيتان منسجمتين مع عالمهما الافتراضي من خلال علامات الفرح والانشراح 
الظاهرة عليهما، لكن انقطاع الكونيكسيون شكل بداية التحول والتوتر في العرض المسرحي...
         (يمكن عنونته ب: انسجام زائف)
 المقطع الثاني:
وضعية الصراع\ العقدة\عملية التحول
- من انقطاع الكونيكسيون إلى استيلائهما على محطة القطار، وإغلاقها في وجه حركة القطارات. 
شهد هذا المقطع الطويل عدة تحولات في مواقف الشخصيتين تجاه بعضهما البعض وفي نظرتهما لنفسيهما وللواقع...
     (يمكن عنونته ب: صدمة الواقع)
المقطع الثالث:
الوضعية الختامية بعد التحول\ الانسجام والتوافق
- من إغلاق محطة القطار إلى نهاية العرض
بعد التحولات التي حدثت في المقطع الثاني، سيحصل التقارب والتواصل بين الشخصيتين وستتحولان من الصراع والرفض إلى الانسجام والوئام.
     (يمكن عنونته ب: تواصل وانسجام) 
التحول كمفصل  سيميائي:
التحول مؤشر له دور بارز في بناء العرض المسرحي، يسهم في حركية الأحداث وتطور مواقف الشخصيات، ويؤدي إلى ظهور علامات وأنساق جديدة على مدى العرض، ويمفصل بنياته،  كما أنه يساعد المتلقي\ المتفرج على إدراكها والتفاعل الإيجابي معها، وييسر سبيله لبناء المعنى وتشييد الدلالة.
إن التحول علامة فارقة في مسار هذا العرض المسرحي، فانقطاع الربط بشبكة الإنترنيت هو الذي سمح للشخصيتين بالانتباه إلى بعضهما ودخولهما في حوار كشف عن تعارض واضح بين شخصيتهما مما أدى إلى بروز خلافات حادة بينهما، ينتهي كل خلاف بتحول وهكذا دواليك. وكان صوت مذيعة المحطة يفتح باب الأمل في وجهيهما حين يذكرهما بموعد وصول القطار، لكن سرعان ما يخيب أملهما ويصطدمان بصخرة الواقع الكأداء عندما تعتذر عن إخلاف القطار لموعده. كل تلك التحولات جاءت  منسجمة مع سيرورة العرض ودينامية أحداثه. فبعد رفض كل منهما للآخر في البداية وتعذر التواصل بينهما، سيَقْبَلان بالانخراط في محاورة يكشف فيها كل واحد منهما عن دواخله وأسباب أزمته، وهذا التحول كان له دور كبير في تجسير الهوة بينهما ليصلا في ذروة التحول إلى الاتفاق حول عمل نضالي وهو إغلاق محطة القطار. ثم الوصول إلى عدم جدوى ما قاما به ليركنا إلى انتظار الذي يأتي ولا يأتي.     
رهانات العرض المسرحي كرؤية  فنية:
كل عمل فني ينشئه مؤلفه ويضع نصب عينيه رهانات يسعى من خلال عمله الفني إلى تحقيقها... فهذا العرض المسرحي يسعى فيه إلى تحقيق رهانات عدة فنية وموضوعاتية تفهم من سياقات العرض ومقصدية منتجيه... وسأكتفي هنا بذكر بعض تلك الرهانات:
* رهان فني: إنتاج عرض مسرحي طليعي يحمل خصائص هذا النوع من المسرح.
* رهانات الموضوع : تعرية الواقع المزيف، وذلك بإسقاط الأقنعة التي يختفي وراءها. الإنسان في وسائل التواصل الاجتماعي، وربطه بواقعه ليكتشف عبثية حياته وخواءها.
* نقد ممارسات اجتماعية متعددة يعاني منها المجتمع.  
*نقد السلطة التي أخطأت قطار التنمية الذي ينتظر المواطن البسيط وصوله لكنه لم يأت.
   3-2)  الأنساق الدالة  ومسارات التأويل:
       3-2-1)   الموضوعات المهيمنة وأنساقها الدالة 
        تهيمن في العرض المسرحي كونيكسيون تيمتان مترابطتان كل واحدة لها علامات لغوية وغير لغوية تعبر عنها في العرض وتشكل نسقا دالا، يسهم بيان آلية اشتغاله، في علاقته بمكوناته الداخلية، وتفاعله مع أنساق أخرى  تتضافر معه بشكل من الأشكال في بناء المعنى وتشييد الدلالة.
      =) نسق السفر:
العلامات الدالة عليه في نص العرض المنجز على الخشبة هي: {محطة القطار- الحقيبتان- قاعة الانتظار- المسافران- التصريح بوجهة السفر (الثكنة العسكرية)... المذيعة الداخلية للمحطة...} بالإضافة إلى زمرة العلامات السابقة، هناك علامات لغوية دالة على السفر وردت في الحوار بين شخصيتي العرض ... ، كونيكسيون (سفر افتراضي)...
السفر هو حركة الإنسان بين الأمكنة، تحقيقا لرغبة ذاتية، أو مُكرَهًا، استجابة لظرف قد يكون قاهرا أحيانا. والظعن والارتحال هو قدر الإنسان على وجه الأرض، بحثا عما يوفر له استمراره على قيد الحياة، أو طلبا للأمن حفاظا على حياته أو معتقده. وقد يضرب في الأرض طامحا في عيش أفضل، أو رغبة في مغامرة تعطي لحياة، يحس بها فارغة من المعنى، معنى ما. كان هذا قبل رسم الحدود وفرض القيود للحد من حرية التنقل. بيد أن مُوجِبات الظعن والارتحال ظل الإنسان يحملها في جيناته، مثل معظم الكائنات الحية. فهو كالنهر يعود لمجراه بالرغم من طول العهد... 
يبقى الظعن والارتحال حاضرا في ذاكرة الإنسان يهتدي بسناها ليقطع السبل والفجاج والصحاري والبحار التي سلكها أجداده من قبله. قد يقضي نحبه في الطريق قبل الوصول إلى منتهى ظعنه، وإن بلغ غايته فلن يهدأ له بال حتى يعود إلى سيرته الأولى؛ الظعن والارتحال مرة أخرى,
علال والعربي، ككائنات هذا الزمان محرومة من كل ما هو أصيل، وعُوِّضت عنه بجنيسه أو صورته المموهة، هكذا حلت الحياة الافتراضية محل الحياة الواقعية، والكائن الافتراضي عوض الإنسان الواقعي بلحمه ودمه. والظعن والارتحال في مناكب الأرض حل محلهما الضرب في متاهات عالم عنكبوتي يحكم قبضته على مستعمليه... يتخذ العربي وعلال وغيرهما من العالم العنكبوتي الهلامي حياة وهمية يختفون وراء أسوارها المموهة، ويعيشون فيها بهويات مزيفة، يحيون حيوات ليست لها علاقة بحياة الواقع، يقطعون فيها آلاف الأميال، ويحطون رحالهم في مناطق شتى من عالم لم يعد سوى قرية صغيرة، سقطت حدودها الافتراضية، وسمح فيها بحرية الظعن والارتحال افتراضيا، في الوقت الذي غُلِّقَت فيه الحدود الواقعية، ووضعت قوانين صارمة للحيلولة دون حركة أشخاص ينتمون لمناطق معينة من العالم...
لما انقطع الربط بشبكة الأنترنيت (الكونيكسيون) سيكتشف العربي ومعه علال حقيقة الاستلاب الذي كانا تحت نيره. بل سيصدمهما الواقع بصلابته، وسيجدان صعوبة في التواصل الحقيقي\الواقعي بينهما، إذ سرعان ما يتحول الحوار بينهما إلى عنف لفظي، بل سيستحيل الحوار بينهما، لأن الكائن الافتراضي فقد البوصلة ولم يعد يسمع إلا صوته. فأضحى العربي وعلال يتكلمان معا في الوقت نفسه بصوت مرتفع، فيتعذر معه على الواحد منهما سماع ما يقوله الثاني (كأنه حوار طرش). ومع مرور الوقت سيقتنعان (العربي خاصة) أن السفر\ الظعن والارتحال في الواقع غير ممكن (لأن القطار لن يحضر). والرحيل الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدوره غير ممكن (انقطاع الكونيكسيون). أمام هذا الوضع سيطرح العربي بديلا للسفرين الواقعي والافتراضي، هو السفر في دواخلهما، وكأن كل واحد منهما أرض بكر تنتظر من يكتشف أدغالها، ويستغور فيافيها، ويرتاد مجاهلها. نحن أمام دعوة لإعادة الاعتبار للذات واستكشافها من جديد، بعدما غَيَّبتها العولمة المتوحشة التي تختصر الإنسان في كونه أداة مستهلكة لمنتجاتها، وتجريده من كل القيم النبيلة التي تعلي من شأنه باعتباره كائنا حر الإرادة والتفكير والتعبير والاختيار. هذا التحول في موقف العربي ومعه علال هو ما سيفضي إلى النهاية التي آلا إليها معا، وهي التواصل الإيجابي والحميمي بينهما.
ونحن المتفرجين، حملنا العرض المسرحي، بتواطؤ بين كل المسهمين في إنتاجه، في رحلة خيالية، بالتوازي مع رحلة الشخصيتين الرئيستين المنتجتين لأغلب رسائل العرض المسرحي، رحلة نرى فيها حقيقة ذواتنا، ونكتشف الاستلاب الذي تمارسه علينا وسائل التواصل الاجتماعي، وسطوة العولمة المتوحشة علينا، وهو ما أفرغ حياتنا من بعدها الواقعي الأصيل، ومن نفحاتها الإنسانية النبيلة، وتحولت إلى حياة افتراضية زائفة ومزيفة، قوامها الخداع والاحتيال... 
= )نسق الانتظار:
العلامات الدالة على هذا النسق المهيمن في العرض المسرحي، بالإضافة إلى العلامات اللغوية الواردة في الحوار، هي العلامات الآتية: {انتظار القطار- قاعة الانتظار- عدم حضور القطار في موعده - تكرار صوت المذيعة الداخلية للمحطة المعتذر عن تأخر القطار (طول أمد الانتظار)- انتظار عودة الربط بشبكة الأنترنيت الكونيكسيون)- انتظار علال إثبات رجولته)- انتظار البتول اعتراف الغانجو بابنه – انتظار العربي تحسن وضعه الاجتماعي- انتظار السقاء عودة ابنه...}
تهيمن على النص الروح الانتظارية، انتظار عودة الربط بالشبكة العنكبوتية التي وقع الجميع ضحية لها، انتظار القطار الذي يأتي ولا يأتي، انتظار المتفرجين لمجريات العرض المسرحي ورسائله الموجهة إليهم... 
لقد نجح مؤلف النص الدرامي في تشفير النص بما يوحي إلينا بنفَس انتظاري طاغ في مفاصل العرض، كما استطاع المخرج أن يفك شفرات نص المؤلف ليدخلنا بدوره في أجواء الانتظار. كما أن السينوغراف، والمسؤول عن الإنارة، والباث للموسيقى والمؤثرات الصوتية، كلهم وُفِّقوا في خلق أجواء الانتظار. فكان "بكيت" حاضرا بيننا يتابع باهتمام مصائر شخصيات تظللها روح فلاديمير واسترجون، وقطار تلبَّسَته روح جودو... إلا أن الانتظارية التي لفنا فيها العرض سرعان ما ستنحت لنفسها طريقا يَبَسا في بحر مشاكلنا الاجتماعية المحلية. وسنتذكر أن البلاد كانت، إلى عهد قريب وربما ما تزال، قاعة انتظار كبيرة توشك بين لحظة وأخرى على سكتة قلبية.
3-2-2) العرض المسرحي: علاماته غير اللغوية وأنساقه الدالة
إن النسق الجمالي للعرض المسرحي يدخلنا إلى عالمه الخاص، وهو ما حتم علينا التطرق إلى أهم مكوناته المتجسدة على شكل علامات غير لغوية فوق الخشبة. من خلال تتبعنا لها لاحظنا أن معظمها تشكل أنساقا دالة، تسهم في تشييد الدلالة العامة، انطلاقا من اشتغالها في صورة ثنائيات تربط  بينها علاقات تكاملية\ ترابطية، أو علاقات تقابلية، أو علاقات ضدية. فالمكان مثلا نسق يتكون من علامات غير لغوية دالة عليه، يبنى فيه المعنى من تفاعل ثنائيات مرتبطة به كثنائية (الانغلاق#  الانفتاح) وغيرها... وسنعمل في ما سيأتي على كشف هذه الأنساق، والثنائيات المندرجة تحت كل نسق، وتأويل حضورها بالشكل الذي وجدت به في سياقها الداخلي، وسياقاتها الخارجية، آخذين بعين الاعتبار المقصدية التي تؤطر هذا العرض المسرحي. وفي الختام سنصوغ ما تم التوصل إليه في تصور تجريدي يتيحه النموذج العاملي لكريماس في محاولة للوصول إلى البنية العميقة التي تتحكم في المسار التأويلي لهذا العرض المسرحي. 
 3-2-2-1) الفضاء (المكان والزمان): 
يعد الفضاء عنصرا ضروريا لأنه يحتضن الفاعلين في العرض المسرحي (الممثلين) الذين هم صلة الوصل بين منتجي العرض (المؤلف- المخرج وغيرهما...) ومستقبليه (المتفرجين). فالفضاء يشهد تفاعل الممثلين في حركتهم وسكونهم، وفيه يتحاورون... كما يسهم في إبراز بعض عناصر الصراع الدرامي. من هنا تأتي أهمية تحليله والبحث عن تأويلاته الممكنة.
  =) نسق المكان: 
من خلال العلامات التالية نتعرف نسق المكان الذي تجري فيه أحداث العرض المسرحي:( الشكل الهندسي، باب الدخول، الكرسيان، سكة القطار، صوت المذيعة الداخلية، مسافران بحقيبتين...) = قاعة انتظار.
ليس المقصود العلامة اللغوية (قاعة الانتظار)، إنما المقصود هي العلامة المكانية الموجودة في الواقع\المرجع، والعلاقة بين العلامة المشكلة على الخشبة التي تحتضن العرض المسرحي ليست علاقة اعتباطية، إنما هي علاقة تلازمية بين الدال ومدلوله.
    - ثنائية الانغلاق والانفتاح:
قاعة الانتظار هي مكان مغلق على مستوى محور الاستبدال يحضر ضده وهو المكان المفتوح. المكان المغلق في سياق العرض المسرحي هو مكان برزخ بين واقعين: واقع كائن مرفوض # واقع ممكن مأمول... الخروج من ضيق قاعة الانتظار إلى انفتاح وشساعة العالم الذي تحلم به الشخصية، هذا الأمر يؤكد بحث الإنسان الدائم عن الحرية والانطلاق بعيدا عن كل القيود التي تكبله وتشل حركته.
 
       - ثنائية الحركة والسكون:
المكان المغلق المحدد المعالم، حيز ضيق لذلك حَدَّ من حرية الممثلَيْن، فهما، على مدار العرض المسرحي، يتحركان وفق شكلين يتكرران بطريقة مثيرة، مما يجعل المتلقي /المتفرج يبحث عن تأويل ذلك في سياق العرض. 
 
الشكل الأول مع استبدالاته: (حركة أفقية)
 
 
الشكل الأول: يعكس حركة الممثلين على شكل خط مستقيم نقطته الأولى الممثل1 ونقطته الثانية الممثل2
يطول الخط المستقيم حسب تباعد الممثلين/ حركة أفقية (جلوس كل ممثل على الكرسي ومكان جلوسه) ويقصر حسب تقارب الممثلين (يصل إلى التقارب الشديد دون الالتحام، الذي سيحصل في نهاية العرض)
 
الشكل الثاني: (حركة عمودية)
 
 
 
 
 
 
 
 
 يتحرك الممثلان على شكل مثلث قاعدته ممتدة تشمل الكرسيين والفراغ بينهما ورأسه هو الممثلان، ويتشكل المثلث من خلال حركتين:
الحركة الأولى باتجاه سكة القطار، ويكون الممثلان متقاربين مع وجود حيز فارغ بينهما، وفي الانتظار الأخير للقطار سيتحرك جهة السكة ممثل واحد (الجندي) بينما الآخر ظل جالسا في مكانه (الجندي \ الأمل# المثقف \ اليأس)
الحركة الثانية: باتجاه مقدمة الخشبة، كأن المثلث الأول أصبح مقلوبا، وبقيت قاعدته ثابتة، في حين تغير رأسه باتجاه مقدمة الخشبة. هذا التحول ينبئ بالتغيير الذي حصل على مستوى العلاقة بين الشخصيتين، فقدان الأمل في وصول القطار وبداية التفكير في البديل (إغلاق المحطة) ثم الاقتناع بعدم جدوى هذا الاختيار. وفي الأخير الجلوس وانتظار الذي يأتي ولا يأتي.
هكذا تظهر لنا اتجاهات حركة الممثلين على الخشبة بشكل مقنن ومتحكم فيه، وهذا يعود بنا إلى ما طرحناه أعلاه في نسقي السفر والانتظار: {الحد من حرية الظعن والارتحال= محدودية الحركة}.
{هيمنة الانتظارية= السكون والثبات = السكتة القلبية}.
لاحظنا في العرض المسرحي بعض الحركات ذات الدلالة الرمزية، كالتلميح إلى العملية الجنسية غير الشرعية بين البتول والبحري الغانجو بشكل ذكي (حين تعلقت برتاج الباب وهو يمسك برجليها)، ثم ألقاها كما يلقى سقط المتاع بعد انتهاء صلاحيته، وقال لها: (بقيتي كاطرطاي... حتى جبتها فقاعك)... في العبارة التي تفوه بها الغانجو إدانة للمرأة وتحميلها مسؤولية ما وقع...
   =) نسق الزمان:
        - ثنائية الزمن الخاص والزمن العام:
نقصد الزمن الخاص المحدد بالساعة وتداول الليل والنهار والأسبوع... والزمن العام أي الممتد في ما يطلق عليه العصر، مثل: الجاهلي، الإسلامي، الحديث، المعاصر... 
ما هو الزمن الخاص الذي يدور فيه حدث العرض المسرحي؟ لا أذكر أن هناك علامات تدل عليه، ساعة مثلا أو ذكر الليل أو النهار... لكن نحس بانسيابه ومروره. وأبرز مؤشر على حركة الزمن تدخل المذيعة...
نسق الزمن العام، هناك علامات غير زمنية دالة عليه وهي: {كونيكسيون- الهاتف النقال- الملابس- محطة القطار – القطار...}  
إن الأحداث تجري في الزمن المعاصر، في أيامنا الراهنة، في قلب ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة، انهارت فيها منظومات القيم التي بناها الإنسان في العصور الماضية، لتظهر قيم جديدة أساسها القيم المادية والمصلحة الضيقة التي أعلت من أسهم الميكيافيلية المتوحشة في كل القطاعات، والتنميط...المستفيد الأكبر الشركات الكبرى/ العولمة.
     3-2-2-2)  اللون والضوء:
      - ثنائية النور # العتمة:
هذه الثنائية لها بعد واقعي، وهي تحيل إلى الزمن الكامن في تداول نور النهار وعتمة الليل... وتواصل تعاقبهما دليل حركة الزمن واستمرار الحياة باتجاه واحد هو الفناء والتلاشي... وهكذا سنتمكن من ربط غياب إشارة بينة وواضحة للزمن المتحرك بفعل حركية الأرض والنظام الشمسي في العرض المسرحي، وكأن الحياة قد توقفت، أو بالأحرى عدم إحساس الشخصيتين بالزمن الواقعي، وانخراطهما في زمن افتراضي واحد ليس فيه تداول لليل والنهار، بل زمن مستمر على وتيرة واحدة تبدأ بكبسة زر، وتنتهي بكبسة زر أخرى. والخروج من الزمن الافتراضي متحكم فيه من الخارج بفعل انقطاع الكنيكسيون أو (إن رصيدكم لا يسمح لكم...)
    - ثنائية ضوء #  ظلام (لا ضوء):
هاتان علامتان غير لغويتين في يد "صناع" العرض المسرحي (المؤلف- المخرج- المكلف بالإنارة...)، تستعملان كأداة للتبئير، فاستعمال كل واحد منهما  له دلالات يدركها المتفرج بصريا ويؤولها في سياق العرض.
{الضوء: وجود وظهور وحضور.. } فالشخصية أو الشيء المسلطة عليه بقعة الضوء: موجود، ظاهر، حاضر...
{الظلام: عدم واختفاء وغياب...} والذي سحب منه الضوء ووقع تحت اللاضوء (الظلام):معدوم، مختف، غائب.
       - ثنائية الأبيض # الأسود:
يمكن اعتبار هذه الثنائية من جهة امتدادا للثنائيتين السابقتين، ومن جهة أخرى هي ثنائية مستقلة بدلالتها. اللون الأسود حاضر بشكل مكثف وجلي في أقصى الخلفية التي تَحُدُّ الخشبة من الجوف، عندها تنتهي نظرة الشخصيتين عندما تتوجهان لانتظار القطار، لا بارقة أمل في الأفق!! وعند هذا الأفق المسدود تتكسر نظرة المتفرج عندما يتوغل في عمق الخشبة. عندما تستظهر الشخصيتان السكة الحديدية وتنظران إلى المتفرجين، تمتد الرؤية باتجاه افق منفتح على البياض ... 
يمكن اختزال ثنائيات اللون والضوء في ما يلي :
النور=الضوء= البياض= الخير 
العتمة=الظلام=السواد= الشر
الصراع الأبدي في بعده الديني والأخلاقي والحضاري على شكل ثنائيات بين (الخير والشر) (الإنسان والشيطان) (المقدس والمدنس) (العالم العلوي والعالم السفلي...)
3-2-3) الممثل، الشخصية والدور:
نميز بين ثلاثة مصطلحات: الممثل والشخصية والدور.
- عرف المعجم المسرحي الممثل بأنه هو (الإنسان الذي يجسد شخصية غير شخصيته الحقيقية أمام جمهور ما. ويقوم بذلك عن قصد.) وأضاف بأنه هو (الوسيط بين العرض والمتفرج)
- الشخصية: هي (كائن من ابتكار الخيال ويكون له دور أو فعل ما في كل الأنواع الأدبية والفنية...)، وهي التي يعبر عنها مؤلف النص الدرامي بواسطة علامات لغوية. و(الشخصية تشكل علامة وتحيل إلى شخص بعينه)
- الدور: هو الأفعال التي يجسدها الممثل على خشبة المسرح... ، وهكذا (يلعب الممثل دور الوسيط بين النص والمتفرج عبر الشخصية.) إن العناصر الثلاثة تتكامل بينها لإيصال رسالة العرض المسرحي إلى المتفرج.
3-2-3-1) علال والعربي:
 -علال: لغويا من علَّ ( كثير الشرب...)، ارتباطا بالماء، فقد انحدر علال من ماء خارج من بين الصلب والترائب خارج مؤسسة الزواج لذلك فهو ابن غير شرعي (لا يتوفر على الأوراق الثبوتية). يسعى إلى إثبات رجولته\شرعية وجوده بالانخراط في الجندية. الانتقال من وضع المدنس الى وضع المقدس...
-العربي : لغويا من عرب وأعرب، أي أبان ووضح وفصح... رجل عرِبٌ: فصيح. لسان عربي: بَيِّنٌ وواضح وفصيح... العربي: البين، الواضح، الفصيح...
إن اسم الشخصية التي يجسدها الممثل ويؤدي دورها (العربي)، متعلم مثقف له القدرة على البيان والفصاحة والوضوح... بعكس غير المتعلم ليست له القدرة ذاتها على البيان والفصاحة...
ثنائية العربي \ علال:
  صفات شخصية العربي التي يجسد دورها الممثل مستمدة من علامات لغوية وغير لغوية:
{30 سنة- شاب- فقير ( ابن سقاء)- متعلم – مثقف(الكتاب)- عاطل عن العمل- لباسه + قصة شعره ( هي مؤشر زمني تحدد انتماءه إلى فئة لها نظرة خاصة للحياة\ شبابية)- مناضل يدعو إلى التغيير بمواجهة السلطة (إغلاق محطة القطار)- حالم (يحلم أن يكون مثل الحاج له حسابات بنكية كبيرة وأربع زوجات)- مدمن وسائل التواصل الاجتماعي (يمثل مساوئ العالم الافتراضي)}
 صفات شخصية علال التي يجسد دورها الممثل مستمدة من علامات لغوية وغير لغوية:
{ 30 سنة- شاب- فقير (ابن بائعة الهوى)- ابن غير شرعي- غير متعلم- جندي( لباسه + قصة الشعر)- (آلة إيديولوجية في يد السلطة) حالم (يحلم بإثبات رجولته) – يستعمل وسائل التواصل الاجتماعي (العالم الافتراضي-(مستلب – متردد)- المشاركة في إغلاق محطة القطار)}.
هناك أوجه تشابه بين الشخصيتين: 
- ينحدران من وسط اجتماعي يعيش الفقر والتهميش، ينتظران حصول تحول يغير حياتيهما، لهما نشاط في العالم الافتراضي/ وسائل التواصل الاجتماعي... لم يصلا إلى الهدف لغياب القطار
هناك أوجه اختلاف بين الشخصيتين: 
العربي متعلم (مثقف)/ علال غير متعلم. العربي عبر عن رغبة في النضال/ علال الانتماء للجندية (قمع النضال). العربي يسعى إلى التغيير(مفهوم فضفاض)/ علال الانتماء للجندية لإثبات رجولته. علال شاب سقف طموحه محدود/ العربي شاب سقف طموحه غير محدود 
 يمكن اختزال كل شخصية في ما يلي:
- العربي: مثقف ظاهريا يقترب من مفهوم المثقف العضوي، لكن بتتبع أحلامه وتعاطيه مع العالم الافتراضي والمصير الذي آل إليه في نهاية العرض المسرحي، هو مثقف تقليدي ذو تطلعات بورجوازي صغير...
- علال: إنسان بسيط غير متعلم، تحول إلى آلة إيديولوجية في يد السلطة، يغير موقعه بسهولة (التبعية) المساهمة في إغلاق محطة القطار.
3-2-3-2) النموذج العاملي:
 
 =) شخصية علال 

 
العامل الذات علال ترغب في الاتصال بموضوعها (إثبات الرجولة) المرسل المحرك للرغبة هو المجتمع الذي يدينه على فعل ليس له يد فيه (ابن غير شرعي) لذلك فرحلته من أجل تحقيق رغبته. لكن هناك من يقف معارضا هذه الرغبة (المجتمع وعدم حضور القطار)، بالمقابل هناك المساعد (الجندية). لم تحقق الذات رغبتها لكثرة المعارضين ولعدم وصول القطار. النتيجة الفشل والانتظار.
=)شخصية العربي:
 

 
العامل الذات (العربي) ترغب في الاتصال بموضوعها وهو التغيير (مفهوم فضفاض غير واضح، إغلاق محطة القطار) الباعث على التغيير ذاتي (الهروب من الفقر)، المستقبِل للتغيير والمستفيد منه العربي نفسه. هناك معارضون منهم العربي (ضبابية الرؤية وغياب مشروع أصيل وواضح). ليس هناك مساعد، لم يحقق المثقف طموحه الذاتي. 
4-) مخرجات المسارات التأويلية:
العربي نموذج للمثقف(العربي) الذي يفرض عليه وضعه الاعتباري قيادة المجتمع نحو التغيير لتحقيق التنمية، على المستوى التاريخي فشلت كل المحاولات التي قامت بها (الأنتلجنسيا) العربية في قيادة المجتمع من خلال مشاريعها واختياراتها الفكرية والإيديولوجية المختلفة، سواء ذات المنزع الرأسمالي المنقاد للغرب، أو ذات التوجه اليساري والراديكالي التابع للشرق. والفشل نابع من طبيعة المشروع الذي تتبناه الفئة المثقفة التي تراجعت معظم قياداتها عن توجهاتها وانقادت لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الفئات الاجتماعية التي وضعت ثقتها فيها. 
ولتقريب الصورة أختم بتناص مرجعي/ تاريخي ورد في العرض المسرحي. العربي ابن السقاء يذكرنا بشخصية شاعر العرب الأسطوري أبي الطيب المتنبي المثقف العربي النموذجي في عصره، فهو ابن سقاء اسْتَعَرَّ من أبيه وركب صهوة الشعر للارتقاء بوضعه الاجتماعي الذاتي إلى المجد والعوالي على صعيدين الأول شعري/ ثقافي وقد تحقق له. والثاني سياسي/ امتلاك السلطة لم يتحقق. لذلك فشل مشروعه المنطلق من الثقافي للوصول إلى السياسي. ومن هنا يمكن النظر إلى العربي المثقف باعتباره امتدادا لنموذج المثقف القديم.
هكذا كشف العرض المسرحي واقعا صادما لمجتمع تعتريه النواقص على شتى الأصعدة، فكان نتيجة ذلك عدم وصول قطار التنمية الشاملة المنتظر. وقد أَشَّرَ غيابه على فشل القيادات المثقفة بسبب تبنيها لمشاريع غير أصيلة ذات أصول دخيلة على الذات، تستمد مرتكزاتها من فلسفات عدمية وعبثية ووجودية أفضت بمعتنقيها إلى التيه وضبابية الرؤية والانزواء في أبراج عاجية، أو الارتماء في أحضان السلطة التي كان المثقف يحاربها ويرى فيها سبب التخلف. وقد نقل العرض المسرحي هذه الرؤية بأدوات فنية واختيارات جمالية متظافرة في ما بينها، نجحت إلى حد بعيد في تحقيق رهاناته المختلفة.
5-) على سبيل الختم:
لقد أسعفنا المنهج الذي اعتمدناه في مقاربة هذا العرض المسرحي في بيان كيفية بناء معانيه وتشييد دلالاته، مُتَرَسِّمين خطوات منهجية واضحة تنطلق من العلامات اللغوية وغير اللغوية وتظافرها مع غيرها لتشكل زمرا كل زمرة تكون نسقا، وكل نسق يشتغل وفق إواليات خاصة، يسهم بها في إعطاء جزء من المعنى، وبتفاعل كل نسق مع غيره يسير في اتجاه بناء معنى للعرض، وتعاضد الأنساق الدالة في ما بينها وفق سيرورة تأويلية متوازنة تحتكم إلى العلاقات التي تربط  بين المكونات التحليلية التي يفصح عنها العرض المسرحي ذاته (علامات وأنساق)، وتسندها الحجة والاستدلال. وكل ذلك لا يبتعد عن السياقات المحيطة بإنتاج العرض داخلية وخارجية، مع استحضار مقصديته ورهاناته المختلفة. 
إن المسار الذي انتهجناه في كل مراحل هذه المقاربة وفق إواليات الاشتغال التي حددناها من خلال المحطات المختلفة الساعية لإظهار كيفية تمظهر المعاني وتشكل الدلالة. هذا لا يعني أن النتائج التي وصلنا إليها من خلال هذه المقاربة نهائية ولا مجال معها لزيادة مستزيد، أو لاجتهاد مجتهد. فالباب مفتوح، بشرط الاستناد إلى منهج أثبت بعض النجاعة في مقاربته للأعمال الفنية والأدبية، لأن الدلالة ليست معطى واحدا ثابتا، بل مناطها خبرة المتلقي وذكاؤه وحسن توظيفه للأدوات الإجرائية التي يستند إليها في مقاربته.
  
   الهوامش :

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption